ريمه الخاني
07-05-2009, 06:08 PM
قراءة في الانزياح الشعري عند المتنبي للدكتور أحمد مبارك الخطيب
(منقول من منتدى فرسان الثقافة)
25-5-2009
تؤكد الدراسات والأبحاث أن الباعث على الاهتمام بمفهوم / الانزياح / البحث على خصائص مميزة للغة الأدبية , مما كان له أثره البالغ على مسار البحث البلاغي الحديث , حيث كاد أن يتجه في مجموعه , وجهة مغايرة لروح البلاغة القديمة , هي بالأساس بلاغة الشعر , أو بالأحرى: بلاغة النص الأدبي .
بيد أن هذا المفهوم , قد اعترضته مشوشات نظرية وتطبيقية من قبيل صعوبة بناء المعيار , وكيفية تقليص الانزياح وتأويله , ناهيك كما يؤكد / اسماعيل شكري / عن معضلة التوفيق بين وظيفته والوظيفة التواصلية. فمفهوم الانزياح يعتبر إطاراً نظرياً أساسياً لمعرفة التصورات البنيوية الشعرية المتعلقة بالأوجه البلاغية وقد تراءى هذا المفهوم في أدبيات الشعرية الحديثة بشكل بؤري / جون كوهن / ومضمر وراء مفاهيم موازية مثل الوظيفة الشعرية / باكبسون / , والشفافية / تودروف / . وقد أكدت الدراسات النقدية الحديثة أن اللغة الشعرية ذات بنية خاصة تميزها من بنية الكلام العام العادي أو النثر , ويؤكد الدكتور /أحمد مبارك الخطيب / في “ الانزياح الشعري عند المتنبي “ إن استبعاد المقولات القديمة الثابتة حاجة ملحة عند ما تواجه شعر ( أبي الطيب المتنبي ) الذي خلق لغة شعرية تجاري الطموح ، أو التجاوز المستمر الذي كان يتطلّع إليه , وتقوم الدراسة في الكتاب “ الانزياح الشعري عند المتنبي “ على ثلاثة أسئلة : أ- الانزياح الشعري في التراث النقدي العربي . ب- الانزياح في شعر المتنبي. ت- علاقة هذين الموضوعين بنظرية الانزياح الجديدة . ث- ويوضح أنه إذا ما أردنا التعرف إلى نظرية الانزياح الشعري التي يعرضها كتاب “ بنية اللغة الشعرية “ / لجان كوهن / , وجدنا أن هذه النظرية تؤكد أن اللغة الشعرية مخالفة للغة المألوفة تنطوي على انحرافات عديدة في الصورة الفنية , وفي التشكيل الصوتي , وفي التراكيب الشعرية. ويقدم الكتاب تعريفاً للانزياح مفاده : / الانزياح هو خروج التعبير عن المألوفة في التراكيب ،وفي الصياغة الصورة الفنية , ولكنه خروج إبداعي جمالي يهدم لكي يبني , بطريقة يصعب ضبطها , طريقة هاربة دوماً . ويبين الدكتور / الخطيب /أن الانزياح واحد أيضاً من جملة منظومة الأزمة المصطلحية التي تصاحب كل مفهوم ومعلم جديدين يفدان إلينا من الغرب الذي ندخل معه بمثاقفة غير متكافئة , إضافة إلى هيمنة الثقافة الغربية على آلية عمل المصطلحات الحديثة , ودليل ذلك لمفهوم الانزياح تأثر في تسميته تبعاً للثقافة التي انحدر منها حيث كان شائعاً في الثقافتين الفرنسية و الإنكليزية . ويستند المؤلف في تعريفه للانزياح على كتاب “ بنية الشعر “ / لجان كوهن / في عرضه للمفهوم إذ يقول : يقوم أساساً على التفريق بين لغة الشعر ولغة النثر , فليس في لغة النثر العلمي الخالص أية انزياحات في الصور الفنية , أو في التركيب , أو القاعدة النحوية , على خلاف لغة الشعر في درجة انزياحها , ويقدم انموذجاً على مدى دقة المفهوم لدى شعراء ونقاد ولغويين ونحاة من مخزون التراث ليبرز عمق حساسية التذوق الشعرية , إذ يدلون على مواطن القبح أو النقص في شعرية ما يلقى أمامهم ومثال ذلك ما انشده : / الراعي / أمام الخليفة الاموي “عبد الملك بن مروان “ وردّ الخليفة عليه قائلاً : ليس هذا شعراً , هذا شرح إسلام وقراءة آية في معرض إنشاد الراعي : أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرةً و أصيلا عرب نرى لله في أموالنا حق الزكاة منزلاً تنزيلا ويستخلص الدكتور الخطيب إنّ نقادنا القدامى اهتدوا إلى عماد نظرية الانزياح الشعري عندما أدركوا اللغة الشعرية , وأقاموا الفارق بين الفصيح وغيره , والخطابة والشعر , وبحثوا في الضرورة الشعرية ... ثم استفاض بالحديث عن صور الانزياح وأشكاله من خلال ثلاثة الجوانب : أ- اللغة الأدبية ب- اللغة الأصلية،واللغة الطارئة ت- لغة القاعدة، واللغة المنحرفة عنها فيؤكد أنّ اللغة الفنية انزياح عن اللغة العادية، هي اللغة الاصطلاحية , أي اللغة التي تواضع عليها الناس على خلاف اللغة الفنية المبدعة الغنية والرفيعة بما تحمل من طريقة في صناعة العبارة , أو استخدام المجاز , مثلما أشار إلى تفرقة/المعري/ بين النظم والشعر الحقيقي تدل بوضوح على أن العرب كانوا يرون أن الجانب الصوتي في شعر ما , لا يسبق عليه شاعرية , ولا سيما أنّ الانزياحات العروضية كانت قليلة , وقد جرى التركيز على الإنتاج الفني الجميل في الشعر ومدى تحقق الانزياحات الدلالية التي تتجاوز الاستفهام من المعنى المباشر الحقيقي وخروجه إلى الإنكار أو التوبيخ أو التقديم والتأخير , كل ذلك يدفع إلى جملة طارئة في ذلك كله تكون طارئة على الأصل وتالية له . فالنقاد العرب الذين فرقوا بين اللغة الأصل ،أو الحقيقة واللغة التي تأتي تالية لها , هو شكل من أشكال الانزياح , كما هو الحال في جانب النحو الحركات الإعرابية النابعة من الإعراب الذي به يُعرف الخبر الذي هو أصل الكلام , ولولاه ما ميز فاعل من مفعول , خضعت لانزياحات عديدة راح النحاة يعللونها بالإتيان بمثلها , في الوقت الذي نحا فيه البلاغيون منحى آخر فوجدوا في انحرافاتها أساليب بلاغية ذات مغزى ليخلص الدكتور الخطيب إلى أنّ النقاد العرب القدامى , ومنهم البلاغيون أدركوا أنّ أهم خصائص اللغة الأدبية هو انزياحها عن الأصل أوالأنموذج وحيث إن الدراسة في أس منهجها تعتمد الانزياح الشعري عند المتنبي فإنّ الدكتور الخطيب يشير إلى جانب خاص في ذات المتنبي ، وموضوعي في واقع الحقيقة ، لكنه لا يبتعد عن واقع إسقاط ذات الدارس في وعي جماليات الحياة الواعية في صيرورة كينونتها الحقة , فما أجمل أن يكون المعيار في التقويم / ما قد حصل / , وما هو أشمل في تماهي الذات الفردية في نسيج الأمة ذات الأمجاد العظيمة عبر تعاقب الزمن لذلك يؤكد المتنبي انتماءه إلى أمة عظيمة , وقد عجز الدارسون عن أن يعطوه انتماء مذهبياً أو فكرياً , لأنه كان فوق هذه الانتماءات , ومنح بإجماعهم هوية الانتماء إلى العروبة , وهو الشاعر الذي أدرك فضاء عصره , وتضاريس واقع ذاك العصر في جوانبه شتى . وقد اتسع له دهر ناسه ناس صغار .... هذا الشاعر الذي ولد في قلب القلق والخوف والحرمان والتشرد , والذي تراءى ذلك كله في الابتعاد عن الاستقرار، و مجانبة الفرح , وهو الذي قيل فيه “ إنه لم يضحك سوى مرة واحدة “ والذي نأى بنفسه عن ملذات الحياة ليغمس يراعه في مداد لحظات حضارية مجرداً سيفه وقلمه ليتصدى للانهيار الحضاري , وكان هاجسه تمجيد البطولة والسيف , والمعارك , والفروسية متخذاً من / سيف الدولة / مثله وأحلامه وطموحه , ومحرضاً على استنهاض الهمم بصوت جهير طال ليله على أمة / طمى الخطب فيها حتى غاصت الركب / فجاء شعره أنشودة قيم نبيلة , وفسحة معالجة لقضايا سياسية , واقتران ذلك بحكمة خالدة متخذاً من الزمان عدواً له لأنه عاجز عن تحقيق طموحاته , وعلّة لجميع إحباطاته , لذلك لا نراه متكيفاً معه , يمجّ زمانه وأهله , ولكم تمنى لو جسد الزمان بشخص لخضّب رأس مفرقه حسام المتنبي . فهذا الحقد الدفين على الزمان يعكس طموحاً على قدر ذكاء المتنبي , أو ذكاء على قدر طموحه , وإدراكاً لمدى اغتراف ذوي الحظوظ من نعم الزمان أمام تعثر الزمان عن إنصاف ذوي القامات المديدة في واحات الجد والمثابرة والكد والكدح , و إلا ما هذا الزمان الذي سوّد كافوراً أن يحظى باحترام أمام موضوعية عمل يقابلها مزاجية ظرف لكافور , هذا الشاعر الذي سما إلى مكابده الراسيات من الأرزاء والخطوب بما يتفق وتطلعاته لا تراه يقف عند المرأة رغم حضورها في ثنائية المكانة امرأةً وعقلاً , وأنثى وجسداً ومشاعر , بل ليست عنده سوى لقاء عابر , وغاية في جمال الدلالة هذا البيت , وفي عمق إيحاءاته : أرى العراق طويل الليل منذ نعيت فكيف ليل فتى الفتيان في حلب رغم أن أبيات رائعة في خصوصية فهمه لطبيعة المرأة في صدّها ووصالها ... كما الروعة حاصلة في نغمة الحزن عنده وارتعاشها على قيثارة وجدانه الملتهب , إذ يرى وهجه في سعف حروف الكلمات ليشير ذلك إلى جانب آخر نفسي في تمثّل الانزياح في هذا تعبيراً عن شكوى من الناس والحياة والزمان ، وهو المفعم رجولة واعتزازاً بالذات حتى ثمالة النرجسية التي يضرب بها المثل , والهازئ بالموت, بل كان يراه أمنيته كما نلحظ في سيرة حياته , وشعره فهو واحد في كليهما وما تمثله لمصداقية دواخله وشدو شعره في لحظة ارتباط القول بالفعل إلا ما كان بالفعل حقيقة عندما سطا عليه سفلة القوم في الصحراء التي تعلق بها المتنبي وأحبها , دون أن ينتدب أحد نفسه للقصاص من قتلته فيثأر له , لكن كم من ساعٍ إلى ثراء ما : مادي أو معنوي انتدب نفسه ليتحدث عن انبهار المتنبي بنفسه , لكأن أن تعرف قدر ذاتك أمر غير مستحب ولو كنت طريد لحظات المثابرة , وغيرك في واحات غنائم الحياة على جسر من حظ أين منه جسر من التعب ؟! ويفرد الدكتور / أحمد مبارك الخطيب / في فصله الثالث للحديث عن الانزياح الصوتي بما يحمل من إشارة إلى الوزن وعلاقته بالمعنى والعروض والإيقاعيين الشعري والموسيقي , إضافة إلى الجناس والتضاد والتناقص والوقفات الدلالية والعروضية والقافية . يتقدم ذلك ما أشار إليه الشاعر / محمود درويش / في مدى براعة المتنبي في حدس مسبق لمعنى الحداثة الشعرية عندما قال المتنبي : / على قلق كأن الريح تحتي / فالمتنبي في استخدامه وتناوله للإيقاع و الانزياح الصوتي لفت انتباه النقاد إلى ما أحدثه من انزياحات صوتية لشعره دور في إثارة مشكلات عديدة تتصل بها ليوسع بعدئذٍ الباحث الحديث عن الانزياح الدلالي في شعر المتنبي من خلال : الحقيقة والمجاز , والاستعارة والكناية فتساؤل الشّراح هل في استخدام المتنبي “ عذارى “ يقصد الفتيات اللواتي لم يتزوجن ،أم الخطوب والهموم استناداً إلى روحية شعر المتنبي ؟! حيث يقول : عذيري من عذارى من أمور سكن جوانحي بدل الخدور ولا غرابة أن يكون الانزياح حاضراً في شعره وهو الغني بالاستناد إلى مسوغات لغوية وبلاغية من القرآن الكريم والشعر الجاهلي , وهو ما تولى توضيحه / القاضي الجرجاني / في كتابه / الوساطة بين المتنبي وخصومه / لذلك ترانا ندرك أن أبا الطيب المتنبي لم يكن يرغب أن يقول بطريقة مباشرة , ولا أن يسمي الأشياء بأسمائها فحين قال : وفي أكفهم النار التي عبدت قيل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم سارع / ابن جني / إلى فهم “ النار “ إنها السيوف التي تبرق . لقد حفل شعر المتنبي بالتعبير الكنائي لتغدو عنده متنفساً تحرره من المعايير والقيود , ومن خلال ذلك أغنى الطاقة الدلالية للعبارة , ففي بيته : أرى العراق طويل الليل قد نعيت فكيف ليل فتى الفتيان في حلب فإذا ما تم تجاوز القوة الشعرية للبيت , وما وراء الرؤية الفكرية الوجدانية وانتبه المرء الحصيف إلى ما يرقد تحت الكلمات من تشكيل لغوي وإيقاعي سرعان ما يدرك أن الانزياح متحقق في الحزن والتشاؤم , وذلك بطريق الاستدلال العقلي . إن ارتحال الانزياح على مدارج شعر المتنبي ليس أمر سهلاً من حيث غناهُ في حيثيات تحقيق الشرط الأساسي والضروري لحدوث الشعرية المتعلقة بالأوجه البلاغية الناتجة بدورها عن كثافة بلاغية , إضافة إلى واقع العلاقات المربكة في الخصوصية الشعرية لتجربة الشاعر حيث تلاقي المنطق بالمحتوى , والدلالة بالشكل بما يخدم ثنائية الانزياح اللغوي والمنطقي لهدف اختراق مبدأ عدم التناقض المنطقي بما يفضي إلى نتائج في مدّها أو جذرها هي رؤى لانزياح داخلي وخارجي , أو ربما يكون معنى آخر باعتباره إسقاطاً تخيلياً , لكنه مسلك وعر حيث المفهوم واغترابه عن القاموس النقدي , والثقافي العربي من حيث هو منتج نشأ في غير تربة وعينا النقدي العربي , إضافة إلى تشابك مواصفاته في الدراسات والاجتهاد المتواصل من قبل النقاد والباحثين , لكن مما هو بيّن أن الدراسة قدمت أنموذجاً تطبيقياً مباشراً جمع بين النظري حيث المفهوم ومداراته , والتطبيقي حيث الشاعر و إبداعاته , وما وراء انزياحاته من جمر يتقد في مواقد اللهفة والنزوع نحو حياة تبصرها المتنبي , دون أن تبصره ...... هي وعي يشكل صوىً بارزة في معالم الحداثة الشعرية , واستنباط إبداع التراث عبر رائد من رواده ( المتنبي ) على شفة بوح نقدي جديد يطيب لك الإصغاء إليه , والاستفادة منه . * نزار بدُّور
http://ouruba.alwehda.gov.sy/_View_news2.asp?FileName=9756859020090524231440
ريمه الخاني
07-05-2009, 06:11 PM
الانزياح واللغة الشعرية.
إن الحديث عن خصوصية اللغة الشعرية ألفاظاً وتراكيب وصيغاً وأساليب قد يستدعي حديثاً آخر عن اللغة والشعر والأسلوبية والانزياح وشعرية اللغة، إضافة إلى بعض الظواهر التي تسهم في منح التركيب الشعري خصوصيته الجمالية، مثل الحذف والاعتراض والتقديم والتأخير والمحسنات المعنوية واللفظية والتكرار والازدواج والتنسيق وغير ذلك من الظواهر التي يتميز بها الخطاب الإبداعي.
لقد صار من نافلة القول تأكيد خصوصية التركيب الشعري، هذه الخصوصية التي تساهم في زيادة أسهمه الشعرية، وبهذه الخصوصية يختلف عن الخطاب العادي، الذي يهتم أول ما يهتم بالهدف الإبلاغي عكس الخطاب الإبداعي الذي تتعانق فيه الوظيفة الجمالية الشعرية مع الوظيفة الإبداعية، وبذلك وبغيره يكون التعبير الإبداعي أكثر أثراً في النفس وأداة للتطهير عبر ما يستعمله من أساليب يخص بنى النسيج اللغوي صورة وإيقاعاً ومفردات، وقد انطلقت معظم المناهج الحديثة من لغة النص، وتعطي اللغة الشعرية النص قدرة على الوصول إلى القارئ، وقد تبدأ من استفادة الشاعر من الرصيد الدلالي الذي تمتاز به اللغة.
إن للغة الشعر دوراً هاماً في بناء القصيدة في الآداب الإنسانية، ولم يبتعد كولوريدج عن الحقيقة عندما قال عن لغة الشعر (إنها أعظم عنصر في بنائية القصيدة في الآداب جميعها، ففي أرضها تتجلى عبقرية الأداء الشعري، ومن لبناتها تبنى المعمارات الفنية التي تتآزر على إبداعها مجموعة عناصر متعاضدة متلائمة). (1).
إن الألفاظ موجودة قبل الشعر (كمواد أولية)، لكن الشعر ينسقها وينظمها بطريقة ما بحيث يخرجها عن عاديتها ليجعلها بالتواشج مع سواها شعرية متميزة، وذلك بطريقة التركيب وبالمساق الذي تردد فيه وذلك: (بوساطة الخلق التصويري الذي يكون معادلاً لانفعال الشاعر، هذا الانفعال الذي يحث الخيال على إعادة تحليل وتركيب البناء اللغوي، وذلك ببث حيوية مخصبة في الحياة الجميلة الهادئة الزاهية في أعراق تلك العلاقات التي يزيل عنها رتابتها وينفض نمطيتها بعد أن فقدت اللغة مجازها اللصيق بها في نشأتها الأولى) (2).
إن عدداً من العناصر تسهم في تحفيز ذاكرات الكلمات من أهمها طبيعة تركيب الجملة و(الاستخدام الشعري للغة كطاقات وقوى توجه مسير العبارة وتؤثر بفضل تسلسل أنغامها غير العادية تأثيراً سحرياً غير عادي وهذا التأثير يساهم بالمقدار نفسه في خلق الإحساس بالموقف الشعري أو التجربة الشعرية) (3). كما أن للغة الشعر القدرة على الإيحاء بما لا تستطيع اللغة العادية أن تقوله: (فالأدب يوجد بقدر ما ينجح في قول ما لا تستطيع اللغة العادية أن تقوله، ولو كان يعني ما تعنيه اللغة العادية لم يكن مبرر لوجوده) (4) وقد أوليت اللغة الشعرية بفضل الفتوحات الألسنية وانطلاقاً من (دي سوسير) أهمية كبيرة وانطلقت معظم المناهج النقدية الحديثة من بنى النص اللغوية حيث فرق (سوسير) بين اللغة والكلام وأوضح أن الكلام هو استعمال خاص للغة، إذ اللغة اجتماعية والكلام فردي وخاص.
في الشعر إذن الكلام بلاغي إبلاغي إذ يسعى إلى وظيفة جمالية تتواشج مع الوظيفة الإبلاغية ولغة الخطاب العادي لا انزياح فيها في حين إن شعرية الأدب تقوم من جملة ما تقوم على الانزياح لأن الأدب والشعر خاصة في استعماله للغة يحاول استغلال كل طاقاتها المعجمية والصوتية والتركيبية والدلالية ومن تواشج هذه العناصر تنبعث الوظيفة الجمالية.
ولكن خصوصية استعمال الشعر للغة والدعوة للانزياح وتميز لغة كل مبدع من سواه لا يعني أنه يهدمها لأن (ما يتغير هو معجم اللغة نظراً لارتباط اللغة بنشاط الإنسان الإنتاجي في كل مجالات عمله دون استثناء، أما نظام القواعد فلا يتغير إلا ببطء شديد نحو تحسين القواعد وأحكامها مجدداً. من هنا فإن كل عمل أدبي هو مجرد انتقاء من لغة معينة على أن لا يفهم الانتقاء أنه انتقاء من أشياء جاهزة بل هو خلق خاص). (5).
لذا فإن (مداليل= مدلولات/ الكلمات) في الشعر ليست بالضرورة ذات المداليل المعجمية، إذ إن دلالة الكلمة في الشعر محكومة بمعطيات التركيب والسياق: (إن للانحراف والازورار عن استعمال العادي غرضه الجمالي) (6).
فطريقة استعمال كل مبدع للألفاظ هي التي تخلق له أسلوبه الخاص، من هنا فقد قال الناقد (بوفون) مقولته الشهيرة (الأسلوب هو الرجل نفسه)، بمعنى أن الأسلوب الخاص بهذا المبدع أو ذاك هو حصيلة مجموعة من العمليات الذهنية والفكرية والثقافية وطريقة التناول والمقدرة على التعرف إلى التشابه للوصول إلى التميز، فلغة الأدب تقوم باستغلال بُنى اللغة بكثير من التعمد والتنظيم.
وأي عدم توازن أو خلل بين العناصر اللغوية والتصويرية والإيقاعية سيخفف من شعرية الخطاب وتفرده، إذ شعريته تنبع من تعانق التراكيب المميزة مع العناصر الأخرى، والمبدع الحاذق هو الذي يسخر إمكانات اللغة ويتلاعب بتراكيبها مما يمنح نصه خصوصية شعرية تجعله يتميز من غيره من النصوص.
فمفردات اللغة وتراكيبها وموادها الصوتية والمعجمية هي المادة الأولية ومن الممكن للمبدع أن يضع نصاً متفرداً أو سواه، وإننا ننطلق ها هنا من التخفيف من دور المكانة الإلهامية، وإن كنا لا نلغي دورها لأنها المفتاح. لكن التهذيب والتشذيب والثقافة والوعي هي التي تساهم في تميز هذا النص من سواه.
فالباث في اللغة الشعرية يحرص على أن يتميز أسلوبه بميزات خاصة به، إذ إن اللغة الشعرية غير اللغة العادية، تكشف بالاستعمال الشعري عن درجة من التصوير والقوة والتنظيم يجعلها متفردة عن سواها.
ويحرص الباث على نقاط ارتكاز في نصوصه تشكل محاور لنسيج الخطاب، وهذه المحاور مرتبطة داخلياً بعلاقات متنوعة ثم ترتبط مكونات كل محور من هذه المحاور ضمن سياق الخطاب الشعري، ويتجلى الجمال اللغوي من خلال ارتباط مكونات السياق في نطاق الارتكاز ومحاورها وما يدور فيها.
وللانزياح إضافة إلى كونه عامل تميز للخطاب الأدبي، دور جمالي كبير يسهم في لفت انتباه المتلقي، ومن ثمة التأثير فيه وتوصيل الرسالة التي يريدها الخطاب، فالتفاعل ضروري وهام بين العناصر المنزاحة والعادية لأن هذه العناصر دون تفاعلها لا أهمية لها بل قد تكون عوامل معيقة لشعرية الخطاب. صحيح أن الجزء مهم لكن هذا الجزء يستمد أهميته من تفاعله مع الأجزاء الأخرى في كون عام اسمه الخطاب الشعري والتفاعل ينتج تغيراً في طبيعة المواد المتفاعلة والإطار الذي تنتمي إليه، مما يخلق لها سمات جديدة ووظائف جديدة تكون مميِّزة للخطاب الشعري فيكون الانزياح ها هنا عاملاً سلبياً بدلاً من أن يكون عاملاً إيجابياً.
إن الشيء الثابت هو النظام النحوي، أما المتغير فهو المفردات التي تشمل وظائف هذا النظام مما يخلق لكل نص خصائصه الشعرية والتركيبية، هذه الخصائص التي تتواشج مع النصوص الأخرى بحيث تصير عوامل مميزة لخطاب هذا الباث أو ذاك.
أخيراً يمكن القول: إن الانزياح خاصية هامة من خصائص اللغة الشعرية في كل الآداب العالمية، لقد آن الأوان لإلغاء النظرة التي تقوم على اعتبار الظواهر البلاغية زينة ووشياً والتعامل معها على أنها عناصر هامة في بناء النص الأدبي.
الهوامش:
(1) قاسم، عدنان، 1981 ـ لغة الشعر العربي، ليبيا، ص 6.
(2) عيد، رجاء، 1985 ـ لغة الشعر، منشأة المعارف الإسكندرية، ص 114.
(3) ا لورقي، سعيد، 1984 ـ لغة الشعر العربي الحديث، دار النهضة العربية، ص 670.
(4) فضل، صلاح، 1978 ، نظرية البنائية في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة، ص 316.
(5) الأسعد، محمد، 1980 ـ مقالة في اللغة الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص 40.
(6) ديلك رينيه وأوستن دارين: نظرية الأدب، ص 179.
ويمكن زيارة هذا الرابط أيضا
الانزياح واللغة الشعرية