إلام تطاردني عيناك اللتان ما رأيتهما قط في منطقة منزوعة السلاح مذ أول لحظة وقعت في لجهما الصاخب، وأنا لا أعرف فن العوم.. إلى اليوم.. رغم أن أكثر من واحدة منحتني شهادة اعتراف بإتقان السباحة في جميع البحار.. إلى اليوم.. كلما فاجأتاني.. وحتى دون أن تفاجآني.. أكتشف اكتشافا يربكني أنني لا أزال مبتدئا جدا.. مبتدئا يثير الضحك والشفقة، والسخرية.. ويثير غضب وحنق من أنشأت لي مسبحا خاصا تخفيه أشجار الورد في قلب حديقة المنزل، ومنعت عني بحق شرعي، وقلبي.. السباحة في غيره.
تلك النظرة وما تغرسه من سفافيد في جانحي.. عينا طفل توقفتا فجأة، لعارض مؤقت، عند منعطف مثير من أحداث حكاية كنا نرويها له.. ثم.. تلك اللحظات.. لحظات الصمت غير المبرر في عيني الطفل، والتي تسبق مواصلة الحكاية.. ذلك الصمت القاتل.. ذلك الصمت الذي يخفي قطعتين أو ثلاثا من بناء تركيبي بذل فيه الطفل كل ما استطاع من حضور ليركض إلى أمه يصرخ فرحا ليريها ما استطاع إنجازه.. وليرسم بعدها مشاريع المباهاة في خياله أمام إخوته وأخواته ووالده مساء، وخاصة أمام ابن خالته المغرور.. ومشروع القصة التي سيرويها لأترابه في المدرسة.. لكن ثلاث قطع تنقص.. ويُبقي الصمت كل شيء معلقا على مشجب المرارة المرة..
كانت تنقصني قطعتان أخفاهما الصمت ابن الغرور الأجوف المقرف، وجفاف مشاعر الرجولة الحقة، والذي أنجباه وربياه في سجن العادات المظلم المتعفن البغيض.. ويبقى الصمت الصاخب سيد الكلام.. الصمت الذي يقول كل.. المشاريع الجميلة المعلقة.. قصر مات صاحبه دون أن يتم بناءه، وحوّله تنازع الورثة إلى مزرعة هادئة لتربية الدعارة والقذارة أسفل الهامش.. في صمت !..
وأبقى ممزقا بين الحضور والغياب.. الحضور الذي يمزقني بقسوة سادية بين الحضور والغياب.. والغياب الذي يمزقني بقسوة القسوة السادية بين الغياب والحضور..
ما عدت أتوق توقا قاتلا إلا إلى شيء واحد: أن تتوقف الحرب.. مع أنني أخشى ألا تستطيع عيناي احتضان وجه السلام الفيروزي .. أن تمزق موسيقاه المنسابة الرقراقة طبلتي أذني.. أن تجرح أوراق وروده أصابعي ، وأن يسد عطرها أنفي بالزكام!.. عيناي تعودتا بشكل هستيري على مناظر الموت والدماء الرقراقة المنسابة، وأطلال البناءات المسواة بالأرض.. انكسر الزر بعد أن ضبط جهاز الاستقبال في أذني على نغمات الثكالى، والأيتام، والانفجارات، وأغاني أبواق سيارات الإسعاف ، وعلى ألحان الرصاصات المخترقة العيون والقلوب.. روائح البارود، والغبار، والجثث المتفحمة، والدواء، هي كل ما تقبله حاسة شمي..
ولأنني كانت.. ولا زالت تنقصني قطعتان.. بقيت قطعتين: تذكر ونسيان.. اثنان في واحد.. تماما كغسول هذا العصر المجنون الخادع، الذي يغسل عنا كل شيء جميل!!
وهكذا أنا.. مجموعة من المشاريع الجميلة غير المكتملة.. ودورة الزمن والحياة تجعلني كمقاولي هذا الزمن الجزائري/العربي، المستفرد بجميع براءات اختراع آخر موديلات اللامعقول اللاموصوف، ينسى أحدهم عدد ونوع الآمال المتشبثة برقبته من خلف المشاريع التي لا يستطيع أن يمسك نفسه عن الاستزادة منها، ويعرف، يقينا، أنه لا يستطيع أن يزيد فيها، وإن فعل وأكمل واحدا، كان لوحة قد تفوق "الموناليزا" في قدرتها الغريبة على التعبير الفني المبدع عن المتناقضات المجتمعة في وجه واحد صامت.. جامد!!
كل مشاريعي التي كُلّفت بها، جاءتني بأمر مباشر من أعضاء مجلس إدارة شركتي الخاصة: الأخلاق، والواجب، والعقل.. فالكل يشجعني على الاستمرار فيها، والبعض يعينني بالمخططات ووسائل العمل، والبعض (الآخر ) يشجعني بالحسد على التخلي عنها!.. لذلك لا ينازعنيها الصمت، ولا الغياب.. وأنا، في النهاية، بسبب من لوحة الجنة التي لا تفارق خيالي، لا أستطيع أن أكون كمقاولي هذا الزمن الجزائري/العربي!!..
أما مشروع عينيك.. فإن مجلس الإدارة كان قد ألغى تكليفي به منذ زمن ( مرغما )، بسبب من ضغوط مافيا العلم الجاهل، والانتفاخ الورمي، والتحضر البدوي المسجون في علب العادات المنتهية الصلاحية.. غير أني لا أزال، إلى اليوم، أتسلل، في غفلة منهم ومن جميع الناس.. وحتى في غفلة من عينيك.. أو بسببهما!..، إلى موقع العمل، لكنهم سرعان ما يكشفونني متلبسا بجرم العمل غير المشروع.. فأدعي بأنني مررت مصادفة، فتوقفت، من باب الفضول، لأرى هل تسلم غيري المشروع، وهل ينجزه بصورة أفضل مما كنت أنوي فعله!..
أنا الآن، في هذه اللحظة التي تمزق فيها عيناك رحم القلم؛ لتخرج منه هذه الكلمات التي لم يثبت جهاز الكشف وجودها، لا زلت ــ في غباء منقطع النظير ــ تاركا مشاريع التجلي يتسلل إليها التحلل والتعفن تحت أشعة شمس الإهمال الأحمق؛ ليفسح الطريق أمام حمض التأجيل ليأكل ما تستعد حركة الحياة لتكليفي به من مشاريع جديدة..
يبدو أنني سأحضّر، قريبا، ملفا قوي الإقناع لطلب اللجوء السياسي في دولة العقول المستقيلة!.. رغم أني بإمكاني الحصول على تأشيرة لدخول دولة العقول المستقيمة لفترة مفتوحة، شرط أن أرفق طلبي بوثيقة واحدة: عيناك في بئر الغياب التي بلا قعر، ثم أردمها وأسد فتحتها إلى الأبد!.. هل أستطيع؟!.. مجلس الإدارة يلحّ علي بذلك.. و...؟!