السّلامُ عليكُم ورحمةُ الله وبركاته
**** نبَّهنا اللهُ - سبحانه - في كتابه الكريم إلى أنَّ هذا الكتابَ الكريم لم يترك شيئاً من لطائف الفكر ولا من دقائق الفعل الإنسانيَّين إلاَّ أحصاها ... وأنَّ هذا الكتاب الكريمَ هو الوثيقةُ الوحيدة - لو جاز التعبير - الصّادقة الدقيقة الموضوعية في رصدها كلّ ما يصدر عن عباد الله من فعلٍ وقولٍ ... ؟! بل من فعلٍ وقولٍ ، وفكرٍ ونزوعٍ إلى الفعل ، ومن حلمٍ ورؤى وإرادة وتمنٍ و... وكل ما يصدر عن القدرة أو ال... عجز ...
***هذا الكتابُ الكريم سجلٌ للنفس الإنسانية ... وهو السجل الموضوعي الوحيد لهذه النفس ؛ فهو يصف ما يصدر عنها دون محاباة ... أو عداء لها ... دون تربّص ونيّة إيقاعٍ وتخطئة ... ودون مجاملة ومداراة ...
*** أكدَّ اللهُ - سبحانه - انشغال الإنسان بزينة الحياة الدنيا واستغراقه فيها فيما يشبه الغيبوبة حتى يدركهُ الموتُ فيكون الموتُ هو الإفاقة والصّحوة الحقيقية ... ترك اللهُ لنا هذه القاعدة اليقينية في كتابه الكريم في آيتين قصيرتين تلخِّصان - رغم قصرهما - كلَّ التاريخ الإنساني ... يقولُ - سبحانه - سورة التّكاثر - :
" أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ 1) حتَّى زُرتُمُ المقابرَ 2 ) ... وهكذا ترك لنا - سبحانه - مجال التدبّر والتأمل واسعا لنقرأ تاريخنا المُحتجز بين هذه الثنائيّات المتضادّة :
التّكاثر / المقابر ...
الحياة / الموت ...
الوهم / الحقيقة ...
البداية / النهاية ...
الفتوّة / الفناء ...
؟؟؟؟ / ؟؟؟؟؟
** وصف - سبحانه - سبب نزوع النفس الإنسانية إلى إنكار يوم القيامة و- من ثم - إنكار البعث والحساب بزيغ هذه النفس وضلالها ورغبتها في الانفلات من المحاسبة والعقاب ... يقول المولى - سورة القيامة -
" أيحسبُ الإنسانُ أَلَّنْ نجمعَ عظامَه 3) بلى قادرينَ على أنْ نُسوِّيَ بنانَه 4) بلْ يريدُ الإنسانُ لِيفْجُرَ أمامَه 5) يسألُ أيَّانَ يومُ القيامة 6) ...
لقد حدّد المولى - في هذه الآيات - الدافع النفسي لإنكار البعث : إنّه الرغبة في الانطلاق اللامحدود وراء غرائز هذه النفس وشهواتها ، ومن ثم الرغبة الباطنيّة الدفينة في إلغاء وإنكار كل ما منْ شأنه أنْ يُوقف هذا الانطلاق الظالم ...!
كذلك وصف سبحانه - في السورة ذاتها - وقوع الإنسان في الأسر الدنيوي إلى درجة إيثار الدنيا على الآخرة ... يقول تعالى : " كلاَّ بلْ تحبُّون العاجلةَ 20) وتَذرُونَ الآخرة 21)
** هذا الأسرُ الدنيوي وصفه - سبحانه - في سورة " الإنسان " في قوله :
" إنَّ هؤلاء يحبُّونَ العاجلةَ ويذرُونَ وراءهُم يوماً ثقيلا 27) نحنُ خلقناهُم وشدَدنَا أسْرَهُم وإذا شئنا بدَّلنا أمثَالهم تبديلا 28)
ويقولُ في سورة " الأعلى " :
" بلْ تُؤثِرونَ الحياةَ الدُّنيا 16) والآخرةُ خيرٌ وأبقى 17 ) ...
*** وصف - سبحانه - طغيان الإنسان وفجوره انطلاقا من تضخّم النعم ... فجوره الذي يصل إلى العماء عن خالق النعم ... الفجور الذي يخيِّلُ إلى هذا الإنسان أنّه في خفاء عن خالقة وأنّه ناجٍ من حَوْله وطَوْله لأنّه ... لأنّه يملك أسطولا من النّعم ...! يقول تعالى - سورة البلد - :
" لقدْ خلَقْنا الإنسانَ في كبد 4) أيحسبُ أنْ لنْ يقدرَ عليه أحدٌ 5) يقولُ أهلكتُ مالاً لُبَدا 6) أيحسبُ أنْ لم يرهُ أحدٌ 7) ألم نجعل لهُ عينين 8) ولساناً وشفتين 9) وهديناهُ النَّجدين 10)
*** سجَّل اللهُ على الإنسان إسراعه إلى الطغيان لاستغناء الله عنه وعن عبادته له ، وعمّا يصدر عنه من خيرٍ أو شر ... إنَّ اتَّصافَ الله بالعزّة والغنى والاستغناء والكبرياء أطمع النفوسَ الخَرِبة الصَّدِئة فأشرعت بسفنها جهة الطغيان والجحود ... يقول تعالى - سورة العَلَق - :
" كلاَّ إنَّ الإنسانَ لَيطْغَى 6 ) أنْ رآهُ استغنَى 7 ) ...
هذا الجحود يصفهُ المولى في موضعٍ آخر من كتابه الكريم - في سورة العاديات - يقولُ :
" إنَّ الإنسانَ لِربِّه لكنودٌ 6 ) وإنَّه على ذلك لشهيدٌ 7) وإنَّهُ لِحبِّ الخير لشديدٌ 8 )
*** وصف اللهُ سبحانه سطحيّة الإنسان وتسرّعه وأخذه بظواهر الأمور ، وإكباره نفسه ، وتيهه بهذه النفس وتحسسّه ممّا يصيبها حتّى لو كان ما يصيبها من أقضية الله ؛ فهذا الإنسان يفرح بكل النعم التي تأتيه من ربّه ويظنها رسول رضا وقبولٍ ... ويغتمُّ بالابتلاء ويظنّه دليل إهانة ونيلٍ منه وغضبٍ عليه ... يقولُ تعالى - سورة الفجر - :
" فأمَّا الإنسانُ إذا ما ابتلاهُ ربُّهُ فأكرَمهُ ونعَّمهُ فيقولُ ربِّي أكرمنِ 15) وأمَّا إذا ماابتلاهُ فقَدَرَ عليه رزقَهُ فيقولُ ربِّي أهانني 16كلاَّ بلْ لا تُكرِمونَ اليتيمَ 17) ولا تَحاضُّونَ على طعامِ المسكينِ 18 ) وتأكُلون التُّراثَ أكلاً لمَّا 19) وتحبُّونَ المالَ حبَّا جمَّا 20) ...
***لم يقف تتبّع القرآن لدقائق خطرات النفس الإنسانيّة عند حدّ هذه الأمثلة ... بل إنّ تتبعنا نحنُ هو الذي توقّف لاهثا عاجزا عن الرّصد والإحصاء ... ، فما بالنا بتدبّر الآيات وتحليلها دلاليا وجماليّا ومحاولة ذوق إعجازها ...؟!
لقد رصد القرآنُ الكريم خلجات النفس الإنسانية في زهوها وانكسارها ... في شُحِّها بالخير وطمعها واكتنازها النّعم ... ، وصف الأثرة في الدنيا وفي الآخرة يوم يفدي الإنسانُ نفسه ببنيه وصاحبته وأخيه ... رصد النفس الإنسانية في اغترارها بالحياة الدّنيا وانظلاقها العنفواني إلى أمواج الفتوة والصبا ... ووصف أوبتها الباكية إليه - سبحانه - حين تنحسر هذه الأمواجُ ويتكدّس المُحار الأجوفُ فوق سنوات العمر مليئا بهزائم الأفراح ومرارات العجز وخيبات ارتداد الدنيا على أعقابها بعيدا عنّا ... باحثة عن غيرنا من الطّرائد الغِرّة الساذجة التي سوف تعيد سيرتنا مع الحياة وتنظم عقدا سبق نظمُه ملايين ... بل ملايين ملايين المرات ... وهو منفرطٌ لابد ... وسيعادُ نظمهُ لابدّ ... إنّه الاغترار بمتاع الغرور ...
وصف هذا الكتاب الكريم تكاسلنا عن العبادة وإشفاقنا من الإنفاق خشية الإملاقِ ... ، وهربنا من يوم الزّحف ضنّا بالحياة ... وإيثارا لها على الشهادة ... وصف جرأتنا على الكبائر والظلم : ظلم النفس وظلم الأنفس الأخرى ... وصف ظلماتنا وعجزنا عن تلمّس الضياء والنور الماثل في وجهه ودربه وصراطه المستقيم ... فترك لنا العلامات الإرشادية ... والأدّلاء والمصابيح ... والأصوات الواضحة المُنادية ... والطريق الممهّد للنجاة ... ووضع رحمته ورضاه جائزة في آخر الطريق .... فتجاهل الكثيرُ منا هذا السخاءُ الإلهي واستبدله بحياة معذبة شوهاء فانية .........؟!
علم اللهُ في أنفسنا - أيضا - ما سيكون منّا من هذا التجاهل وإيثار الحياة الدنيا فوعد بالرحمة والمغفرة لمن يُنيب ويعود عودا حميدا ... ومع ذلك فإنّ الطريق إلى الله ليس مزدحما بعباده ... بل ترى عليه قلةً من المخلصين الذين هداهم الله ورزقهم الحكمة والفطنة فأدركوا موضع الربح وميّزوا موضع الخسران ... ورغم أنهم قلة - بالقياس إلى ما يجب أن يكون عليه الأمر - إلاَّ أنهم منيرون وضّاءون ... مؤنسون ومؤتنسون بمصابيح هذا الطريق ... لا يشتكون - مثل عشاق الحياة - هجرا ولا لوعة ولا صدّا ولا هجيرا ، ولا ينكرون ممّن يحبّون تبدُّلا في الإحساس ولا نفورا ...
يصف - سبحانه - موقف الكافرين يوم القيامة وقد امتلكهم الذُعر يتساءلونَ عن كتابهم بين أيديهم ما لهُ ... ما لهُ لقد رصد ... ولم يدعْ ... يقول تعالى - سورة الكهف :
" ووُضِع الكتابُ فتَرى المُجرِمينَ مشفِقينَ ممَّا فيه ويقولون ما لِهذا الكتابِ لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ووجدوا ما عَملوا حاضرا ولا يظلمُ ربُّك أحدا " الآية 49 )
إنّ الكتاب الذي يتلقاه الإنسانُ يوم القيامة - شاهدا على مصيره لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها ورصدها على صاحب هذا الكتاب ...
وإنّ كتاب الله - القرآن العظيم - لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من أسرار النفس الإنسانية وأحوالها وصراعها مع الوجود إلاَّ أحصاها ووصفها وحللّها وأرجعها إلى أسبابها وحذّر منها ... و.... و
*** هذا الكتاب ... كتابُ الله - سبحانه وتعالى ؛ ولذلك فهو منزّه كلَّ التنزيه عن مقارنته -في جانب تناوله للنفس الإنسانية - بالمعالجات والنظريات الإنسانية المتتابعة التي تجتهد في هذا المجال مثل حقل علم النفس الحديث وحقل التنمية البشرية وإدارة الذَّات ... وغير ذلك ممّأ هو معروف ...
لكنَّ تنزيه القرآن الكريم عن مقارنته بالجهود البشرية في تحليل النفس الإنسانية ليس السبب الوحيد لامتناع المقارنة بينه وبين هذه الجهود ... بل هناك أسبابٌ أخرى - نابعة من التنزيه أيضا - عظيمة مانعة للمقارنة ... مبطلة لها ... وهي : انعدام التكافؤ بين الكتلتين - التناول القرآني والتناول البشري - في دقّة الطرح ، والموضوعية ، والاستمرارية ... استمرار الصلاحية على مدار التاريخ الإنساني إلى أن يقبض اللهُ الأرضَ ومنْ - وما - عليها ... ؛ ولذلك يصفُ المولى - سبحانه - كتابه الكريم بصقاٍ بعينها تكرّسُ هذا التحدي وتثبته ... من هذه الصفات أنّه كتابٌ كريم ، وحكيمٌ ، وعزيزٌ ، ومُبينٌ ، وناطقٌ بالحقّ ، لا يأتيه الباطل ... ، ولا يعزبُ عليه شئٌ في الأرض ولا في السماء ولا ما بينهما ...
إنّ هذا الكتاب نورٌ ورحمةٌ ورشدٌ وشفاءٌ ... لأنّه يهدي إلينا الحكمة والرشاد ... لأنّه يبسط إلينا الحقيقة ... يوقظ الوعي والبصيرة ، ويهدي للتي هي أقومُ ... لأنّه يصوّرنا أمام أعيننا فنرانا ... في هيئة صادقة حقيقية دقيقة مفصّلة ... آنية ومستقبلية ... في غير إدِعاء ... بعيدا عن الكبر وال... معاذير ... وهوس النّجاة والتبرئة ... والتّذرّع بالغفلة ...
بقلم : جاميليا حفني
مدوّنة " أدركتُ جلالَ القرآن "
http://greatestqoran.blogspot.com/2012/10/blog-post_31.html