اللسانيات..
بين النقد العربي القديم
ومأزق المناهج الحديثة .
بقلم
عماد الدين وهبى
اللسانيات: عنوان عريض تندرج تحته عناوين تفصيلية تأخذ تسميات متعددة، تتفاوت في نظرتها إلى لغة النص الأدبي بوصفها المرتكز الأول لتلك الدراسات والمناهج والمذاهب النقدية.
وهي تتراوح بين الاعتدال المسؤول المنتج البنّاء، الذي يؤدي فائدة حقيقية، ويقدم الخدمة الجليلة للعملية النقدية، وبين التطرّف والمبالغة اللذين يحوّلان النص إلى كائن مبعثر، تنفصل أجزاؤه بعضها عن بعض، ولا يعود كل جزء من هذه الأجزاء"دالاً" على غير نفسه، بمعزل عن تجاوره وتناغمه مع المجموع، ذلك التجاور الذي يشكل أساس الكمال الفني، ويتوج النص الإبداعي. وتبدو الألسنيات في بعض إيقاعاتها التي تشيع في أوساطنا النقدية، أشبه ما تكون بعملية التشريح التعليمي، الذي يبدأ أولاً من مسَلّمة تتعامل مع النص الإبداعي كما لو كان جسداً ميتاً لا حسّ فيه، وبمقدور النطاسي أن يفصل الأجزاء بعضها عن بعض، ويلقي على تلامذته دروساً تتعلق بعمل ووظائف تلك الأعضاء كل على حدة.. وما توفّرتُ على محاولة لسانية فجّة تقتحم النص الإبداعي بلا هوادة وتشتبك معه بروح ثأرية ضارية، مستندة إلى الثقة المطلقة بأدواتها، والحس بالتفرّد والفروسية وقصديّة الفتح، إلاّ وتذكرت قول شاعر الهند العظيم(طاغور): "لا تفتت الزهرة لتدرك أسرار جمالها. ولا تبعثر أجزاءها في سبيل ذلك. فإن جمالها يتأتى من تضافر تلك الأجزاء، وتجاورها وتناغمها بنسبٍ حددتها الطبيعة المبدعة.. أنت أدنى من الوصول إليها".. هذا القول لشاعر إنساني كبير ذي تجربة ودراية معمقة بحجم معاناة المبدع وهو يقع تحت وطأة معاناة الولادة الصعبة للعمل الإبداعي.. وكأننا به يخاطب ضمائر نقاد معاصرين، من متطرفين ألسنيين، ومتطرفين من مشارب شتّى، ممن عوّدونا على مداهمة النص الإبداعي على طريقة النطّاسي المشرح، الذي يمارس حرفته بكل برود وتعليمية، دون أن تأخذهم بالنص رأفة، ودون أن يتذكروا الجهود البشرية المضنية التي يبذلها منتج النص الإبداعي في سبيل تحقيق نصه الذي يولده ولادة كاملة، وليس ولادة تركيبية على طريقة ألعاب(الليّغو).
ولئن كان قول"طاغور" صالحاً لأن يُشهَر في مواجهة المتطرفين القساة من الألسنيين -الذين تصرفهم العناية باللغة وحدها عن أية مهمات أخرى- فإنه يتراجع ليصبح كلام شاعر حساس. ولا يصلح في مواجهة المدارس اللسانية الجادة التي تلجأ إلى اللغة بمسؤولية ووعي عاليين، بقصد فكّ طلاسم النص.. ذلك الكائن السحري الجموح المعلق في الهواء، وجذبه نحو الأرض، ومداعبته وملاطفته ومراوغته بقصد فتح مغاليقه تمهيداً للدخول إلى العالم العظيم للإبداع، والتمتع بمشاهدة مواطن النبض الرائع للمشهد الإبداعي، وتربية المتذوق الأدبي وتدريب ذائقته، على طريق تحويل النقد إلى مادة شعبية مباركة، لا تشكل كارثة على القارئ ولا تعود عبئاً على روحه، بل تدفع به للمضيّ قدماً لملاحقة ذلك العالم الإنساني، ومتابعته.
من هذا الموقع ومن تلك المسؤولية، يجب أن تنطلق الدراسات اللسانية التي تتكاثر في أوساطنا النقدية المحلية اليوم، وأن تكف عن البهلوانيات واستغفال المبدعين بتلك الاكتشافات التي يدّعونها ويبهرون الساحة الأدبية بها. هنا-بالتحديد- وفي موقع المسؤولية الأدبية، تأتي مشروعية الدراسات اللسانية المنتجة وينفتح المجال أمامها رحباً وفسيحاً لخدمة الأدب عبر العملية النقدية.. ليتـأكد لنا صحة مقولة(بارت) "لقد كانت العلاقة بين العلوم البحتة والعلوم الإنسانية منقطعة إلى أن ظهرت اللسانيات، ففتحت مجالاً لا متناهياً لاستفادة العلوم الإنسانية من تلك العلوم التطبيقية بشكل غير مسبوق".
وعموماً فإن الدراسات اللسانية المعاصرة في العالم-نستثني العالم الثالث في العديد من الممارسات النقدية المستهجنة الشائعة فيه بما في ذلك المغرب العربي- قد شرعت في تقديم خدمات واضحة للأدب منذ أن نادت بالتوجه نحو النص، وهجرة القراءات الخارجية التي تمر من فوق النص، أو القراءات التفسيرية التي تسعى لاستبدال عبارة بآخرى، وما إلى ذلك من ممارسات لا تختلف عن جهود مدرسيّ اللغة العربية في ضوء المناهج التي عهدناها.
ولقد ثار"الشكليون" الروس منذ عام 1914 على تلك الطريقة، وضجوا من رتابتها، ورأوا فيها خنقاً حقيقياً لمواطن نبض النص الإبداعي، وهم يرون النقاد الشارحين يطالبون بمعرفة كل شيء عن صاحب النص، ومولده، ونشأته، وميوله وحتى"نيّته"، حتى قال نقادهم ما مفاده: لقد أصبحت الدراسات النقدية تواريخ وأسماء لكتاب بلا نصوص.
ومن المعروف أن الدراسات اللسانية قد توالدت في بواكيرها على أيدي اللغويين في الآداب العالمية. تماماً كما هي الحال في أدبنا العربي القديم، الذي سجلت دراسات اللغويين وفقهاء اللغة أولى المحاولات اللسانية فيه.. من أمثال دراسات"ابن جني"، و"ابن فارس"، و"حازم القرطاجني" وغيرهم.
وتبدو محاولات"الشكليين" الروس في هذا الاتجاه من المحاولات المعاصرة المبكرة، حين قرر أتباع المدرسة الموسكوبية أن الجوهر في اللغة، وسرعان ما أسسوا منبرهم اللغوي النقدي بقيادة"جاكوبسون" و"دوبرفسكي" عام 1914، غير أنهم هُزِموا أمام زحف مفاهيم الواقعية الاشتراكية، والهجوم الأيديولوجي الذي كرّس مفاهيم وظائفية الأدب والفن.
ولقد واجه الشكليون الروس ضغطاً شديداً من منظري النظرية السياسية المنتصرة، حتى تحول بعض رموزهم إلى خدمة الواقعية الاشتراكية بطروحاتها الصارمة المبكرة ممالئين أو مقتنعين بسبب زخم الانتصار الثوري للقوى الاشتراكية.
لقد جنّد فرسان الفلسفة الماركسية أقلامهم ضد هذا التيار بوصفه مخالفة مرورية لنظام السير لروسيا الثورية. وكان كتاب المنظّر(ليون تروتسكي) "الأدب والثورة" بخطابه القوي والواثق تحدّياً جدياً لصحة أفكار نقاد تلك المدرسة ولمصداقية ثباتهم على مبادئهم النقدية.
هزمت المحاولة إذن في موطن تفجرها غير أنها انطلقت في مواقع متعددة من العالم وتطورت طروحاتها على أيدي اللغويين الذين راحوا يهتمون"بالدلالة" بما يعطي اللسانيات-فعلاً- علّة وجودها كمحاولة للمعرفة. ويبدو أن شكل تعامل هذا الفريق أو ذاك بمسألة"الدلالة"، هو الذي يحدّد مدى فاعلية هذا التيار أو ذلك من تيارات الألسنة في العملية النقدية.
ولقد تراوحت عناية الألسنيين"بالدلالة" ما بين دراسة النص الإبداعي بوصفه كُلاً متكاملاً، وبين أصغر مكونات لغة النص الأدبي"الصوتيم"، كما يسميه << د. عبد الرحمن أيوب" وهو أصغر جزء في الكلمة بينما تتسع دراسة"الدلالة" عند(د. عبد الله الغذامي)، لتشمل"الجملة الأدبية" -هكذا أسماها في"الخطيئة والتفكير"- وهي جملة لا علاقة لها بالجملة العربية بالمفهوم النحوي"مبتدأ وخبر، وفعل وفاعل"، وإنما في الجملة التي تشكل قولاً شعرياً بمقهوم(الفارابي) و(القرطاجني). وفيما تتركز جهود"القرطاجني" في دراسة الدلالة على"المرسِل" و"المرسَل" و"الرسالة" و"السياق"، فإن(الغزالي) يراقب تلك العلاقة القائمة بين ما يسميه"الدّال" و"المدلول" فيؤكد أنها علاقة اعتباطية تماماً كما هي رؤية(سوسير) المعاصر. أما "بارت"، فينظر إلى هذا الأمر بحذر، ويميل إلى الاعتقاد بأن العلاقة بين"الدّال" و"المدلول" تنشأ"بتواطؤ" يُكتَسَب بالتعلم. تماماً كما يتعلم المرء الفرنسية، بدليل أن كلمة"رجل" تدل على الكائن البشري بالعربية وفي الإنجليزية"مان" والأمر مختلف في اللغات الأخرى، رغم أن المدلول واحد.
ولقد راقب اللغويون العرب الدلالة.. راقبوها بذاتها، كما راقبوها في السياق ولاحظوا الفرق الشاسع بين المدلول المطلق للكلمة لذاتها، ومدلولها في السياق. واعتمدت الكثير من كتب الفقه والتفسير والاجتهاد على هذا الجانب.. لاحظ كلمة"كتاب" والفرق بين مدلولها المطلق بمفردها، ومدلولاتها في السياقات التالية: "كتاب أنزلناه ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور"، "حضرت حفل كَتْب الكتاب"، و"كتابه بيمينه".
وربما جاءت الدراسات العربية القديمة في سبيل خدمة الدراسات القرآنية أو اللغة العربية، ولكنها في النهاية أفضت باللغوي العربي إلى ما هو أوسع من ذلك. لقد أسّسوا للدراسات اللسانية بشكل مبكر وذكي إلى أبعد الحدود، رغم ذلك البريق الخاطف الذي يُشار إليه اليوم في الدراسات الألسنية الأوروبية الحديثة! ودرسوا أدق التفاصيل في اللغة ومدلولاتها في النص الأدبي.
لقد درس"ابن جني" الفعل الرباعي الذي قرر أنه يتكون من مقطعين وستة"صوتيمات"، سقط صوتيم واحد من كل مقطع، بسبب اندغام المقطعين، فالفعل"دحرج"، يتكون من فعلين عند"ابن جني" وهما "دحر" و"رجّ -رجج" والأول يعني دفع الشيء إلى الوراء والثاني يعني تحريكه! ولدى اجتماع المقطعين أفاد معنى"دحرج" الذي يعني "رجّ الشيء في مكانه ليسهل دفعه إلى الوراء، وهكذا أعطى اندغام المقطعين قيمة معنوية"مدلولاً" مركّباً..
ولدى اجتماع المقطعين في الرباعي"دحرج" أصبح للفعل"رجّ" مدلول آخر، وهو الدفع إلى الوراء بعد رج المدفوع! وذلك هو الفرق بين مدلول المقطعين كلاّ على حدة، ومدلولهما بعد الاندغام بدليل وجود الفعل"دحل" في اللغة، والذي يعني دفع الشيء إلى الوراء بسهولة اكتسبها الفعل من مدلول"صوتيم اللاّم"، الذي يفيد"التسهيل" حيثما وقع غالباً. ويبدو للسياق دوره في إعطاء"المدلول" إذا ما نظرنا إلى العبارتين "رجل وامرأة رجراجة" إذ تفيد المفردة في السياق الأول معنى المنقصة مع الرجل وهو"المترهل" أو الذي لا ثبات في مواقفه، أما مع المرأة فالرجراجة هي المرأة الناهدة المتوثبة النهد.
ولقد لاحظ اللغويون العرب القدماء"الألسنيون" قبل أن يعرفوا ذلك عن أنفسهم أن للحرف الواحد"الصوتيم" مدلولاً بمفرده وأن ذلك المدلول غير ثابت تماماً عندما يدخل في الكلمة التي تصبح هي بحد ذاتها سياقاً جديداً قد يعطي الحرف"الصوتيم" الواحد، مدلولاً جديداً جزئياً يدخل في مجموع المدلول الكليّ للكلمة.
فعلى سبيل المثال يلاحظ"ابن جنيّ" في كتابه"الخصائص" و"ابن فارس" في"الاشتقاق" مثل ذلك. فحرف"القاف" يفيد معنى الاصطدام في أغلب وقوعاته.. فإذا اجتمع مع"الطاء" أفاد معنى القطع المطلق"قط- قطط"، ثم يأتي الحرف الثالث للفعل وهو"صوتيم" التنويع ليعطي للقطع معنى تفريعياً. "قطع"، "قطز"، "قطم"، "قطل"، "قطش"، "قطف".. إلخ.. وكلها تفيد القطع، لكن القطع غير القطش غير القطم غير القطف وهكذا..
أما حرف"الراء" فيفيد التكرار في أغلب وقوعاته: مرّ، جرّ، خرير، كما تفيد"الغين" معنى الغيبوبة إذا اجتمعت مع"الألف": "غاب"، "غاض"، "غادر" إلخ..
فإذا اجتمعت"الغين" و"الراء" "القاف" في الفعل"غرق"، تشكل سياق جديد مركب من اجتماع الحروف الثلاثة، وأعطى كل حرف منها"مدلولاً" أسهم في تشكيل المدلول العام الناتج عن اجتماع الأصوات الثلاثة في المركب الجديد"غرق".
"فالغين" تفيد الغيبوبة والاختفاء، و"الراء" تفيد التكرار والاستمرارية، و"القاف" تفيد"الاصطدام"! ومجموع المعاني الجزئية"للصوتيمات" الثلاثة تساوي"الغرق"، بحركاته الثلاث التي أسهم في"الدلالة" عليها كل صوتيم..
ولكن الألسنيين العرب القدماء، لاحظوا أن مثل تلك النتائج التي توصلوا إليها غير مطلقة، وليست ثابتة، وهكذا فشلت محاولة"جورجي زيدان" في تأليف قاموس لمعاني الحروف"الصوتيمات" والمقاطع لأن الغة خانته في تحقيق غايته، ولأن في العربية من الغنى والقدرة على التوظيف البلاغي، ما يحول دون تحقيق تلك الغاية.
وقد يتوصل العالم إلى آليات، وربما مبتكرات علمية فيزيائية، أو كمبيوترات تمتحن الصوت، وترصد النتائج التعبيرية"المدلولات" لكل صوت. كما تدرس النتائج المتحصلة من تجاوز"الصوتيمات" إلى جانب بعضها بعضاً، ولكن اللغة تظل أغنى من كل المحاولات الإنسانية أو التكنولوجية.
إن"السياق" هو الذي يحددّ المدلول، ابتداءً بالصوتيم، وانتهاءً بالنص الأدبي بمجموعه، ومروراً بمدلولات المقاطع والمفردات والعبارات والجمل والفقرات، ولهذا تبدو الدراسات النقدية الألسنية التي تعتمد على التشريح والتجزئة والتعامل مع الأجزاء كلاً عى انفراد، عرجاء تقفز على رجل واحدة.. وتبدو مهمة الناقد الألسني أكثر إضحاكاً كلما أوغل وتطرّف في هذا الاتجاه، لأنه يريد القفز عن حقيقة كبرى، وهي أن النص الإبداعي نتاج موحد لصاحبه، غير قابل للتجزئة إلا لغرض المزيد من التفحّص والتعمق والتثبّت.
تلك هي التوجهات الألسنية التي يبهرنا بها العديد من نقادنا، والتي ينبغي أن يكفّوا عنها، ويوظفوا مهارتهم الألسنية في سبيل المزيد من الخدمة للنص الإبداعي.
arabbeat.com