صحيح قد نوفق في العثور على كلمات تصلح لاداء معان جديدة، لكن غالب المصطلحات الأجنبية قد يعْسر ايجاد أصل تراثي لها، خاصة وان طريقة الاقتباس من التراث لا تتيسر لكل الباحثين، بل للمتعاملين منهم معه بالدرجة الاولى، وهو تراث لم يخضع بعد لعملية تحقيق دقيقة.
(٥) النقل الاعتباطي للمختصرات
ويشار في الأخير الى شاهد بارز لأزمة الترجمة العربية مع متن العولمة، ويتصل بترجمة الترميزات والمختصرات التي تشيع في اللغات الاوروبية، حين يتم نقلها الى العربية نقلا اعتباطيا، قوامه الاجتهاد الفردي.
فهناك من المترجمين العرب من يميل الى الرسم الصوتي، بمحاكاة أصوات المختصر الأجنبي ومقاربتها بأصوات عربية، وآخرون يفضلون الرسم الهجائي، فينقلون الحروف الاجنبية الى العربية، مع اختلاف في طرق النقل واختيار الأصوات او الحروف العربية المقابلة.
يزيد من هذا النقل الاعتباطي للمختصرات، صعوبات التعامل مع تطبيقات الحاسب الالي، بسبب تباطؤ تنسيق الحروف العربية المستخدمة من خلاله، وعدم تطوير دمج شق معالجة الصوتيات مع النظم الذكية لمعالجة اللغة آلياً، وعدم تحسين طرائق معالجة لوحة المفاتيح الخاصة بالحروف العربية.
وفي المجمل، يمكن القول ان بعضا من وجوه أزمة الترجمة لدينا، يتّسق مع ثقافة عربية ما زالت تعتمد على المستورد الأجنبي في كافة نواصيها من علم وتكنولوجيا، وعلى لغة لم يتسنّ لتعبيرها مجاراة هذه النواحي بعد.
ومع ذلك ورغمه، فان خارطة التحديث الحضاري في العالم العربي، وعلى مدى مراحل تاريخية متتابعة، صاغت من المعطيات ما يكفي لاستنتاج حقائق اربع، يقيم تواتر ملاحظتها الدليل عليها، ونرى على ضوئها ان مسالة الترجمة، وبخاصة مع تصاعد نذر العولمة، تعدّ في مقدمة مشكلات التحديث والتكوين الثقافي القومي، المستقل والمنفتح في آن:
الحقيقة الأولى، صحة الواقعة التاريخية التي أثبتت أن الدخول الفاعل، أو التفاعل، في تجربة تحديث حضاري عربي، واعية لشروطها الذاتية ولحظتها الحضارية وسياقها الكوني الجديد، لا يتوقف على الترجمة وحدها، بل، وبالدرجة الأولى، على كون أهل اللغة العربية أنفسهم من المشاركين عمليا في صناعة الحضارة.
والحقيقة الثانية، نجاعة المقولة التربوية القائلة بأنه يكاد يكون من المتعذر استيعاب الثقافات استيعابا حقيقيا تكوينيا، أي مكوّنا للشخصية الثقافية المنتجة المبدعة، ما لم تكن اللغة القومية، المعبّرة عن روح الأمة، هي الأداة الموصلة لمضمون هذه الثقافات.
والحقيقة الثالثة، وجاهة التصور الانثروبولوجي الذي يرى أن الترجمة ليست مسألة لغوية، بل قضية حضارية في العمق، لأن اللغة ليست ألفاظاً أو مجرد أداة للتعبير، بل رؤية للعالم، وبعداً فاعلاً يفرض على الفكر جملة من القيم.
أما الحقيقة الرابعة، فتبدو من صواب المبدأ القائل ان الترجمة في ظروف علاقة السيادة، تستهدف تنمية الشخصية القومية، على حين تهدد، في حالات التبعية، الذاتية الحضارية، وتحافظ على تحقيق وتكريس هذه التبعية.
ويظل السؤال حاضرا: كيف يمكن أن نحقق، في اطار التواصل مع العولمة، وضمنه الترجمة، حرية التعبير عن الذات، وحرية التعرف على الآخر؟
نضع السؤال محوراً للتأمل، باعتباره مداومة لهموم قديمة ومستعادة.
الاحالات
١ Traduire, Paris, Publiction de la Sorbonne. 1994. p19. D. et M. Lederer (eds : Interperter pour Seleskonitch, . –
٢L. Lotringer.. Paris. Albin Michel. 1978 p437. Steiner . G: Apres . Babed. Traduction Francaise. Paris -
٣ Calvet. L. : La Guerre des Langues .. Paris. -
Payot . 1987. p63.
٤ - فائز بن علي الشهري: «الترجمة والعولمة»، مجلة (علامات)، المجلد (١٢)، يونيو 2003، جدة، ص٨٢٢.
٥ - يعمل لورنس فينوتي مترجما واستاذا للأدب الايطالي بجامعة تمبل، في ولاية فيلادلفيا الامريكية. وتعتبر ترجمته لكتاب (حكايات خيالية) للأديب الايطالي تارشيتي الى الانجليزية، نموذجا عالي القيمة.
وفي كتاب (فضائح الترجمة)، يورد شواهد لهذه الفضائح، بدءا من ترجمة الكتاب المقدس، مروراً بترجمات الشعر والفلسفة من اللغتين اليونانية القديمة والالمانية، حتى الترجمات المعاصرة للرواية اليابانية والكتب الرائجة والصحافة التجارية، لمزيد من التفصيل يراجع:
Ethics of Difference .. London Routledge and Kegan Poul.. 1999 Venuti.. L: The Scandals of Translation- Towards an
٦ - رشيد برهون: «الترجمة ورهانات العولمة والمثاقفة»، مجلة (عالم الفكر)، المجلد (٣١) ، يوليو- سبتمبر ٢٠٠٢، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص١٧٧- 178.
٧ - حنفي بن عيسى: «واقع الترجمة في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، في (المجلة العربية للثقافة) ، سبتمبر 1982، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، ص٣٣-٣٤.
٨ - نشر ولكوكس مقطوعات من روايات شكسبير، مترجمة الى العامية، في مجلة (الأزهر) عام 1893، وكان يرأس تحريرها، لمزيد من التفصيل، يراجع:
نفّوسة: زكريا سعيد، تاريخ الدعوة الى العامية وآثارها في مصر، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1980 ، ص٠٣-٦٦.
٩ - محمد حسنين هيكل: بين الصحافة والسياسة، بيروت، 1987، ص٦١.
١٠ - يعتبر يوجين نايدا اول المهتمين بالدراسة العلمية للترجمة، ساعده على ذلك تخصصه في علم اللغة الانثروبولوجي، وينطلق في ذلك من فكرة ان جميع الثقافات العالمية هي أدوار مختلفة لثقافة انسانية واحدة، وهو ما يتناسب مع توجهات بعض رجال الكنيسة، ممن يسعون لنشر كلمة الرب للناس سواسية.
ويتفق كذلك مع نعوم تشومسكي، في افتراض وجود قواعد لسانية كلية تنطبق على كافة اللغات.
اقام نايدا نظريته على ترجمة الانجيل، وقدّم كعضو في (جماعة ترجمة الانجيل) طرحا لاهوتيا لعملية الترجمة، يراجع:
Leiden. Brill 1974.. p33-34. Nida.E: The Theory and Practice of Translation
١١ - منى بيكر: «ترجمات السرديات وسرديات الترجمة- هل حقا الترجمة جسر بين الشعوب والثقافات؟. مجلة (فصول)، العدد (٦٦)، ربيع 2005، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص٢٦. نقلا عن :
Studies 1998.. p680. (eds.). Literary Criticism- Literary and Cultural Leenhardt.s Evangelism in R. Davis and R. Scleifer Clifford.. J.: The Translation of Cultures - Maurice
١٢ - عبدالحليم نورالدين: «ترجمة مصطلحات التاريخ المصري القديم». من اعمال (مؤتمر منظمة المتاحف العالمية)، الاسكندرية، سبتمبر 2005.
١٣ - سبق للكاتبة المصرية قوت القلوب الدمرداشية ان نشرت روايتها الاولى بالفرنسية وعنوان (الحرملك) عام 1937، وعرضت خلالها مواقف وعادت سالبة للمرأة، وتساءل يومها طه حسين عن جدوى تعريف الاجانب بهناتنا، يراجع: طه حسين: «فصول في الأدب والنقد» في (المجموعة الكاملة لاعمال الدكتور طه حسين)، الجزء الخامس، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1974، ص395- 397.
١٤ - شريف حتاتة: العولمة والاسلام السياسي، القاهرة، كتاب الاهالي، 1002، ص٧٣.
١٥ - بيير بورديو: اسئلة علم الاجتماع- حول الثقافة والسلطة والعنف ص139- 149.
١٦ Holborow. M.: The Politice of English. London -
Sage Publications.. 1999. p61.
١٧ - مصطفى عبدالغني: الجات والتبعية الثقافية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة ١٩٩٩، ص٤٥- ٤٦.
١٨ - برانيسلاف جوزوفيتش: «بين الهيمنة الفكرية على مستوى الكوكب وخطة التنمية على المستوى الدولي»، في (المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية)، العدد (١٦٦) ديسمبر ٢٠٠٠، مركز مطبوعات اليونسكو، القاهرة، ص١٧.
١٩ - كمثال مشهور لهذا الانتماء، يورد محمد مردموك بكتال ما تعرضت له ترجمة لفظ الجلالة (الله) الى اللغة الانجليزية، والذي يترجم الى God، ليلاحظ ان الكلمة الانجليزية هنا لا تثير في ذهن القارئ الانجليزي ما تثيره كلمة (الله) لدى القارئ العربي، فكلمة doG في الانجليزية تؤنث بـGodness وتجمع على Gods، بينما الله، هو واحد لا شريك له، كلمة ليس لها مثنى، ولا جمع، ولا مؤنث، ذلك ان التصور الذي تشير اليه كلمة (الله)، هو تصور يقضي على الشرك، عكس الكلمة الانجليزية، ولم يجد بكتال في الانجليزية كلمة تقابل كلمة (الله) في العربية، ما حدا به ان يحتفظ بها في الانجليزية كما هي (Allah) لمزيد من التفصيل يراجع:
An Ex[lanatory Translation . New Yourk 1993. p61-65. Pckthall. M.M: The Meaning of the Glorious Koran
٢٠ - محمد ناصر الشوكافي: «الترجمة الثقافية»، مجلة (علامات)، المجلد (٤٨) يونيو 2003، جدة ، ص٣٣١.
٢١ Traduit par E.Guillot . Paris. Albin Miched 1998. p40. Klemperer. V.: La Langue du Troisieme Reich -
٢٢ - آن روبول وجاك موشلار: التداولية اليوم- علم جديد في التواصل، ترجمة سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2003، ص٢٧٢.
٢٣ - صاغ ماكلوهان مصطلح القرية الكونية أواخر الخمسينيات، وظهر لأول مرة في كتابه:
Explorations in Communication. Baston. Beacon press.1960.
ثم طوره بعد ذلك في كتاب تال:
Man. London. Routledge and Kegan poul 1962. The Gutenburg Galaxy- The Making of Typograplic
ليرسي قواعده النظرية في كتابه المشهور:
London Routledge and kegan Poul. 1964. Understanding Media- The Extensions of Man.
٢٤ - على حسين شبكشي: العولمة نظرية بلا منظر، القاهرة، بدون دار نشر، 2001، ص169.
٢٥ - noitarolpxE .sisehT -noitazidlanodcaM ehT :.G .reztiR
And Exension. London. Sage Pubications.. 1998. p17-19 .
٢٦ - ماثيوفويدر: «ماهية الترجمة الليبرالية» ، ترجمة أمل الصبان، القاهرة، كلية الالسن، مجلة الألسن للترجمة، العددد الثالث يوليو ٢٠٠٢، ص١٠-١١.
٢٧ - المرجع السابق، ص١١.
٢٨-Foreign Affairs).. March - April 1996. p6. Nye.J.S. and W.A. Owen: America Information Edge in )
٢9 - نبيل علي ونادية حجازي: الفجوة الرقمية - رؤية عربية لمجتمع المعرفة، سلسلة (عالم المعرفة)، رقم (٨١٣)، اغسطس 2005، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص١١٣.
٣٠ - نادر فرجاني (محرر رئيسي): تقرير التنمية الانسانية العربية للعام ٢٠٠٢، برنامج الامم المتحدة الانمائي، الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي، عمّان (الأردن)، ٢٠٠٢، ص٧٦.
٣١ - جلال الدين عبدالرحمن السيوطي: الاتقان في علوم القرآن، بيروت، المكتبة الثقافية، 1973، ص١٢١- 148.
٣٢ - نبيل علي ونادية حجازي، مرجع سابق، ص352.
منقول من موقع انسانيات