مسالك الخطاب وغايات التخاطب
د محمد محمد يونس علي
1- مقدمة
يرمي البحث إلى رسم الخطوط العريضة لمقاربة تخاطبية تربط غايات التخاطب بمسالكه الشائعة في الاستعمال، ويشدد على السمة الغائية في الخطاب التي تقتضي النزوع نحو ضرب من التهميش للمكانة التي اعترشها "المعنى" عبر العصور في مقابل الإعلاء من شأن مفهوم آخر مرتبط به، ولكنه ذو طبيعة سياقية تجعله أجدى منه تخاطبيا، وهو مفهوم "المراد"، ونظرا إلى السمة التركيبية الفضفاضة التي يتسم بها هذا المفهوم –فضلا عن افتقاره إلى الصبغة الاصطلاحية- فقد آثرنا تحليله إلى ثلاثة مفاهيم متمايزة نسبيّا إلى الحد الذي يسمح بالتفريق بينها مفهوميا ووظيفيا، ألا وهي المقصد والغرض والغاية، وسنشرح المقصود بكل من هذه المصطلحات فيما سيأتي، غير أننا سنبدأ بالحديث عن مصطلح "المسالك" كما هو مستعمل في هذا البحث.
2- المسالك
المقصود بالمسالك في هذا البحث يشبه إلى حد كبير ما يقصده بعض الباحثين في مجالات التخاطب وتحليل الخطاب بالإستراتيجيات، غير أننا آثرنا استخدام مصطلح المسالك لعدد من الأسباب، من بينها أن مصطلح "إستراتيجية" يتضمن معنى التخطيط الدقيق بعيد المدى وما يتطلبه ذلك من طول الزمن والتأني، وهو وإن وجد في بعض الخطابات، ولاسيما النصوص المكتوبة فإنه يكاد يغيب عن معظمها، وقد ارتبط مصطلح "الإستراتيجية" أساسا بالمجال العسكري، ثم نقل إلى مجال إدارة الأعمال business administration، وفي كلا المجالين تعد الإستراتيجية نقطة وصل بين السياسات المقترحة policies والتكتيكات tactics، التي هي آليات عملية لتنفيذ الإستراتيجيات المتسمة بالعموم، وعادة ما تحتاج الإستراتيجيات والتكتيكات إلى وسائل مادية لتحقيق الغايات المنشودة والتمكين من إتمام المهمة.
وممن اشتهروا باستخدامهم الإستراتيجية في الخطاب جون ج قمبرز John J. Gumperz في كتابه المشهور إستراتيجيات الخطاب. كان هدفه من هذا الكتاب وضع مقاربات حملية interpretive لعمليات المحادثة التي يلتقي فيها المتحدثان وجها لوجه في إطار اللسانيات الاجتماعية، وقد كانت إستراتيجياته إستراتيجيات تلقي الخطاب وليس استعماله من لدن المتكلم أو الكاتب كما هو الحال في هذا البحث. ومما توصل إليه أن المحادثة غالبا ما تحتوي على أدلة داخلية تبين إن كانت قد نجحت في بلوغ غاياتها التخاطبية أم لا. وأن النظرية اللسانية الاجتماعية التي سعى إلى صوغها ينبغي أن تفسر كيف أن التفاعل بين المتخاطبين يستلزم بعض المشاركة.
ومن بين الذين درسوا إستراتيجيات الخطاب تيون أدريانوس فان ديجك Teun Adrianus van Dijk وولتر كينتش Walter Kintsch في كتابهما إستراتيجيات فهم الخطاب، وقد قارنا بين إستراتيجيات اللعب وإستراتيجيات فهم الخطاب فوجدا فرقا بينهما يقلل من أهمية القياس بينهما، ولكنهما أقرا بالتشابه بينهما في حاجة مستعمل اللغة إلى القيام بعدد من الخطوات لأداء مهمة معقدة مثلما هو الأمر في أداء اللعبة، وهذه الخطوات لا تحكمها قواعد ولكنها تختلف باختلاف التحليل. وقد صرحا بأن الإستراتيجيات غير محدودة، بل "هي مجموعة مفتوحة"، وهي تكتسب اكتسابا، وتختلف المراحل التي تكتسب فيها باختلاف طبيعتها.
وعلى الرغم من أن كتابهما يركز على إستراتيجيات الفهم، فقد ناقشا في أحد الفصول إستراتيجيات إنتاج النص. وإن كانا يقران بأن المعرفة المتوفرة عن إستراتيجيات إنتاج النص حتى تاريخ تأليف الكتاب قليلة جدا. وفيما يتعلق بنوع الإستراتيجيات فقد اتسم تصنيفهما بربطها ببعض فروع اللسانيات فتحدثا عن إستراتيجيات دلالية وأخرى براغماتية وأخرى بلاغية وأخرى أسلوبية فضلا عن إستراتيجات أخرى كإستراتيجيات المحادثة conversational strategies وإستراتيجات الخطاب discourse strategies والإستراتيجيات التفاعليةinteractional strategies .
وفي اللغة العربية أنجز عبد الهادي الشهري رسالة ماجستير تناولت إستراتيجيات الخطاب، ذكر فيها وظيفتين للخطاب: هما الوظيفة التعامليّة والوظيفة التفاعليّة، وتحدّث عن الإستراتيجية التضامنية والإستراتيجية التوجيهيّة المرتبطتين بالعلاقة بين المتخاطبين، والإستراتيجية التلميحيّة المرتبطة بما يسميه "دلالة الشكل اللغوي"، وإسترتيجيّة الإقناع المرتبطة بالهدف من الخطاب، وقد ضمّن الباحث رسالته مادة جيّدة في الموضوع، ولكنه لم يأت بتصنيف منطقي واضح للإستراتيجيات.
أما "المسالك" فهي كلمة -وإن لم تستعمل بالمعنى الاصطلاحي المراد في هذا البحث- فقد شاع استخدامها في كتب التراث، وفي بعض الكتابات المعاصرة في معناها العام، واستخدمها علماء أصول الفقه في معنى اصطلاحي، ارتبط بمفهوم العلة حيث أشاروا إلى الطرق التي تستنبط بها العلل، وذلك كالمناسبة، والشبه، والطرد، والدوران، والسبر والتقسيم، بـ "مسالك العلة"، وقد سميت بذلك "لِأَنَّ الْمَسَالِكَ تُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ"، وهَذِهِ القَضَايَا أعني المناسبة ونحوها "يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى عِلِّيَّةِ الشَّيْءِ".
أما في معاجم اللغة، فيعرّف المسلك وضعا بأنه الطريق، وهو في الأصل اسم مكان مشتق من "سلك الطريق إذا ذهب فيه"، ومصدر الفعل "سلوك"، ومن مصادره أيضا السَّلْكُ بفتح السّين، وهو إدخال الشيء في الشيء، جاء في لسان العرب: " يقال سَلَكْتُ الخَيْطَ في المِخْيَطِ أَي أَدخلته فيه"، وهو يوحي بالدقة، وجاء في مقاييس اللغة أن "السين واللام والكاف أصلٌ يدلُّ على نفوذ شيءٍ في شيء"، وعلى ذلك يكون المسلك هو المنفذ، وذكر الخليل في كتاب العين أن "السُّلْكَى : الأَمْر المُسْتَقيم"، وجاء في أساس البلاغة للزمخشري: "ومن المجاز: ذهب في مسلك خفيّ، وخذ في مسالك الحق، وهذا كلام دقيق السلك خفي المسلك". ولعله من حسن الاستطراد أن نذكر أن السيوطي يسمي الطريقة التي يتعلم بها الطفل اللغة مسلكا.
ويستنتج من كل ما سبق أن المسلك يدل على الطريق والطريقة والمذهب، ويوحي بالمعاني الآتية: الدقة والاستقامة والإتقان والإدخال والمنفذ والوسيلة والاختيار والسلوك والتصرّف، وجلّها معان مقصودة في ما أردناه من هذا المصطلح، فهو شبيه بالمقاربة approach التي تعني الاقتراب من موضوع ما من اتجاه معيّن، لكونه المدخل إلى موضوع التخاطب، وهو المنفذ إلى عقل المخاطب وفؤاده، وهو الطريق إلى مقصد المتكلم وغرضه من كلامه، وهو الوسيلة لتحقيق غاية التخاطب، وإذا كان استعمال الألفاظ للدلالة على المعاني فعلا من الأفعال –كما يراه أنصار نظريّة أفعال الكلام- فمن المناسب أن يكون المسلك سلوكا باعتباره مصدرا ميميا للفعل سلك، والسلوك فعل كما هو معلوم، كما أنه الطريقة المختارة لتحقيق مقاصد التخاطب وأغراضه وغاياته، وهو اختيار يحتاج إلى تدبير ودقة وإتقان إذا ما راعينا أنه مشتق من " سَلَكْتُ الخَيْطَ في المِخْيَطِ أَي أَدخلته فيه"، ومن ثمّ فهو في حاجة إلى "إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول لتتأثر بمقتضاه" بحسب عبارة حازم القرطاجنّي عند حديثه عن الغرض في الشعر والخطابة.
يمكن أن نعرف مقصودنا الاصطلاحي بالمسلك التخاطبي إذن بأنه طريقة في التعبير ترتبط بخطة ذهنية بسيطة أو مركبة ترمي إلى استثمار بعض المعطيات الوضعية أو السياقية أو القدرات المنطقية أو الأصول التخاطبية أو الوسائل الخطابية المتاحة أو أكثر من نوع منها لتحقيق غاية أو أكثر من غايات التخاطب. وفيما يبدو أنه تقريب لفكرة الإستراتيجية من فكرة المسلك كما شرحت هنا، يذكر فان ديجك وولتر كينتش أن الإستراتيجية في علم النفس تحيل على "سلوك إدراكي من نوع ما"، ويذكرا أيضا أن الإستراتيجيات تنتمي إلى طرق السلوك الفعال في مقام معين لتحقيق هدف ما. وبينما تحدد القواعد الخطوات الممكنة تحدد الإستراتيجيات أي خطوة من الخطوات الممكنة يمكن اختيارها لتحقيق أهداف المتكلم على أفضل وجه.
تتسم المسالك في الخطاب المكتوب بطبيعتها المركّبة، وينعكس هذا التركيب على بنية الخطاب ووظيفته، كما أنّها تصطبغ بطابع الثبات النسبي؛ إذ ليس ثمة ما يعكر انسيابياتها واطرادها؛ ولاسيما إذا راعى الكاتب الأسئلة والاعتراضات والاستدراكات المتوقع أن يثيرها القارئ، أما في الخطاب الشفوي فليس هناك مسلك ثابت دائما، بل إن الغالب هو أن المقام التخاطبي يفرض تغييرات عارضة قد تحمل المتكلم إلى تحويل خطواته التخاطبية إلى ردود أفعال آنية على مشاركات المخاطَب، بيد أن التخاطب الناجح يفرض أن تتسم هذه الردود الآنية بالتماسك البنيوي والوظيفي ووحدة الهدف، وبذلك يكون المسلك في خطاب المشافهة ذا سمة تراكمية زمانية متوالية محكومة بعوامل الزمن والمكان والمحيط واستجابات المخاطبَ.
وعندما يترسّخ المسلك في طرائق التعبير التي ينزع إليها المتكلم، ويصبح عادته المطردة يتحوّل إلى "منزع"، بحسب تعريف حازم القرطاجنّي للمصطلح مع شيء من التوسيع حتى لا يقتصر على الشعراء وحدهم، وقد عرّفه حازم بقوله: "المنازع هي الهيئات الحاصلة عن كيفيّات مآخذ الشعراء في أغراضهم، وأنحاء اعتماداتهم فيها، وما يميلون بالكلام نحوه أبدا، ويذهبون به إليه...".
وربما حُق لنا أن ندعي أن هذه النظرة الغائية للخطاب ليست بدعا في الدراسات اللغوية العربية، بل هي امتداد للمدرسة البلاغية والأصولية والتفسيرية التي كثيرا ما تتحدث عن الأغراض البلاغية، وعن مراعاة مقتضى الحال، ويشيع عندهم قولهم: إن المتكلم ينصب قرينة للدلالة على مراده.
وانسجاما مع هذه المدارس التراثية الثلاث ومع منجزات البحوث اللسانية الحديثة، ولاسيما ما ارتبط منها بالمقاربات البراغماتية وتحليل الخطاب، لابد من التشديد على أننا ننظر إلى الخطاب على أنه عملية إرادية قصدية. أما كونه عملية فلتمييزه عن نظرة بعض اللغويين إليه بأنه مجرد نتاج جامد، وأما كونه إراديا فتعبير عن حرية المتكلم في أدائه، وأنه سلوك إيجابي يهيمن عليه المتخاطبون، وأما كونه قصديا فلكونه موجَّها؛ وذلك لارتباطه بالمقاصد والأغراض والغايات. وإذا كان الأمر كذلك فإن للخطاب تأثيرا اجتماعيا بيّنا؛ وذلك لكونه ليس مجرد قول، بل هو فعل غائي، مرتبط أشد الارتباط بمرجعياته الاجتماعية المتعددة المصادر والأنواع. وهذا يتطلب تجاوز قصر البحث في استعمال اللغة على الجانب القواعدي أو الدلالي للعناصر اللغوية، بل أضحى من المهم النظر إلى عملية التخاطب على أنها عملية بناء مسالك مبنية على المعطيات السياقية؛ لتحقيق غايات المتخاطبين، ولاسيما أن "الهدف من الخطاب يحدّد كل شيء آخر في عملية الخطاب" كما يذكر كينيفي Kinneavy. ويمكن أن نستشهد على ذلك بقصة الرجل الذي ضاق ذرعا بسوء طبخ زوجته، فأراد أن ينبهها على تقصيرها ويحثها على تحسين الأداء، فلجأ إلى مسلك الاقتباس؛ لإقناعها بذلك: حيث علّق لوحة كبيرة في جدار المطبخ مكتوبا عليها الأثر المشهور "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" مستنجدا بالسلطة الدينية للنص المقتبس لتحقيق غرضه.
3- الغايات والأغراض والمقاصد
الغاية لغة هي مدَى الشيء، وهي أقْصى الشيء ومنتهاه، وتعرّف في الفلسفة وعلم الكلام بأنها "ما لأجله وجود الشيء"، ويذكر ابن سينا "أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية"، وينقل التهانوي أن "كل مصلحة وحكمة تترتب على فعل الفاعل تسمى غاية من حيث إنها على طرف الفعل ونهايته، وتسمى فائدة أيضا من حيث ترتبها عليه".
وكل ما ذكر هنا ينطبق إلى حد كبير على ما نقصده بالغايات الخطابية، ومن أهم هذه الغايات الإبلاغ والطلب، والتعلّم، والإفصاح، والتفسير، والتأثير، والإقناع، والإمتاع، والتواصل، وذلك لأن مستعمل اللغة إما أن يبلغ مخاطبه بمضمون قضية ما على سبيل الإعلام، ويستخدم لذلك أسلوب الإخبار عادة، أو أنه يطلب شيئا على سبيل الأمر أو النهي، أو يستعلم عن شيء على سبيل الاستفهام، أو أنه يفصح عن انطباعاته ومشاعره ورغباته كما في التعجب والتمني والترجي والتحسر والمدح والذم، أو أنه يفسّر شيئا ما كشرح معادلة، أو توضيح ما غمض من المسائل، ويندرج في هذا الكثير من الاستعمالات اللغوية في قاعات الدراسة، وقد تكون الغاية من الخطاب التأثير في مخاطبه بتغيير سلوكه عن طريق الوعظ أو النصيحة، أو إقناعه بفكرة ما، أو إمتاعه بعمل إبداعي، أو ربما مجرد الشروع في التواصل معه أو الحرص على استمرار هذا التواصل. ونظرا إلى الطبيعة الاجتماعية المتأصلة في عمليات التخاطب، فإنه من الممكن تصنيف الغايات الكلّية للتخاطب التي لا تكاد تخلو من سمة اجتماعية بأنها نفسية أو إعلامية، أو دينيّة، أو أيديولوجيّة، أو أخلاقيّة، أو فنيّة. وقد صنّف فاندرفينكن Vanderveken أهداف اللغة إلى أهداف إفصاحية expressive تنجلي بها المواقف، ووصفيّة descriptive تصف العالم الخارجي، وتوجيهيّة deliberative تملي ما ينبغي فعله، وتشريعيّة declaratory تغير العالم الخارجي بإصدار تشريعات. إن فكرة الغايات الخطابية ترتبط مباشرة بالأسباب التي من أجلها نستخدم اللغة، وبذلك يؤول الحديث عن الغايات إلى بحث في وظائف اللغة، والبواعث التي من أجلها وجدت اللغة.
أما الأغراض فمفردها غرض، وقد جاء في الصحاح للجوهري أن الغرض هو "الهدف الذي يرمى فيه، وفهمتُ غَرَضَكَ، أي قصدك"، وورد في لسان العرب أن الغرض هو "شدّة النِّزاعِ نحو الشيء والشوْقِ إِليه"، وهو "الهدَفُ الذي يُنْصَبُ فيرمى فيه، والجمع أَغْراضٌ". وقد عرف حازم القرطاجنّي الأغراض بأنها الهيئات النّفسية التي يُنْحى بالمعاني المُنتسبة إلى تلك الجِهات نحوها، ويُمال بها إلى صوغها".
وفي الفلسفة وعلم الكلام يعرف الغرض - ويسمّى علة غائية- بأنه "ما لأجله إقدام الفاعل على الفعل، وهي ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار"، وقد عرّفه ابن حزم الظاهري بأنه "الأمر الذي يجري إليه الفاعل ويقصده ويفعله".
ومن الواضح التركيز في هذا التعريفين على العلية والقصديّة في مفهوم الغرض، وإذا كانت الغايات مرتبطة بوجود اللغة نفسها، فإن الأغراض هي علل قصديّة للمخاطبة، وهو ما يجعله مناسبا لما سنسميه "أغراض التخاطب" تمييزا لها من الغايات والمقاصد، ولعل أهم أوجه الافتراق بينها وبين الغايات أن الغايات تتسم بالعموم والتجريد والكلّيّة، أما الأغراض فهي متوسطة في ذلك بين الغايات والمقاصد التي تتسم بالجزئية والحسية والآنية. ومن هنا فإن مرادات المتكلم تتدرج من حيث التجريد من الغايات إلى الأغراض إلى المقاصد. وسنستخدم مصطلحات الغاية والغرض والمقصد في معانيها الاصطلاحية ونترك كلمتي "هدف" و"مراد" لاستخدامها في معناهما اللغوي العام.
ومن الأغراض الشائعة في التخاطب الإعلام، والمدح، والذم، والهجاء، والرثاء، والغزل، والفخر، والاعتذار، والعتاب، والوعظ، والتوجيه، والإرشاد، والنصيحة، والتعليم، والتبليغ، والحكاية، والمناظرة، والجدل، والمخاصمة، والردع، والزجر، والتخويف، والإرهاب، والتخوين، والترغيب، والترهيب، والتحذير، والتنفير، والتحقير، والإهانة، والسخريّة، والإرضاء، والتحيّة، والتهنئة، والتعزية والمواساة، والتحسّر، والندم، والإنجاز الاجتماعي أو الاقتصادي (كما في صيغ عقود النكاح، والطلاق، والبيع)، وكل غرض من هذه الأغراض يندرج تحت غاية أو أكثر من الغايات الخطابية الكلية السابقة.
ولكي تتحقق غايات التخاطب وأغراضه يلجأ المتكلم عادة إلى مسالك الخطاب التي تمكنه عند اقترانها بوسائل نظمية وخطابية جزئية من الكشف عن المقاصد الآنية المباشرة للقولات اللغوية المجسّدة لتلك الأغراض والغايات العامة، ولعلّ قصة إبراهيم –عليه السلام- مع قومه توضّح لنا بجلاء كيف يمكن استثمار السياق الاجتماعي والثقافي والمقامي لبناء مسلك حجاجي متعدد المقاصد والأغراض والغايات؛ إذ بالتأمل في قوله تعالى: "قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)" [الأنبياء: 62-63]، فسنجد أنه يشتمل في الأقل على خمسة مستويات من المقاصد مرتبة من أسفل إلى أعلى، على النحو الآتي:
المقصد الأول: هو إشارة سيدنا إبراهيم –عليه السلام- إلى أنّه لم يكسر الأصنام، بل الذي كسرها هو كبير الأصنام
المقصد الثاني: تنبيههم على أن الأصنام التي يعبدونها لا تفعل شيئا، ولا تنطق، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، ومن ثم لا يمكنها أن تنفعهم ولا تضرهم.
المقصد الثالث: التعريض بهم، لكونهم يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر.
المقصد الرابع: إقامة الحجة عليهم، وتبكيتهم.
المقصد الخامس: دعوتهم إلى عبادة الواحد القهّار.
وقد استعمل –عليه السلام- عددا من الوسائل النظمية والحجاجية لتنفيذ مسلكه الخطابي وإبلاغهم مراداته، فاستخدم الخبر المقترن بـ "بل" التي للإبطال لقصد الإنكار، وتنبيه مخاطبيه عبدة الأصنام على عجز آلهتهم، ثم استعمل الأمر "فاسألوهم" المعلق بشرط النطق "إن كانوا ينطقون"؛ لتذكيرهم بأن من يعجز عن النطق لا يستحق العبادة، واستخدم مسلك التلميح للتعريض بهم وتبكيتهم، ولجأ إلى وسيلة المجاراة في الباطل لغرض إلزامهم بالحجة.
ولعلّ من أهم ما يمكن استنتاجه من الاستشهاد السابق –فضلا عن بيان الترابط بين المسالك التخاطبية وغايات المتكلمين- أن المقاصد قد تتعدد وقد تكون مرتبة ترتيبا تدرجيًّا طبقيّا على النحو المذكور. ولعل مثال جون سيرل Searle John المشهور "هل بإمكانك أن تلحق الملح" (إذا قيلت لمن يجلس بجانب المتكلم على منضدة الطعام) يوضّح لنا إمكان هذا التعدد المقصدي، حيث تدل على الاستفهام وعلى الطلب معا، وكلاهما مقصود.
وقد كشف سيدنا إبراهيم عليه السلام في الآيتين السابقتين عن عدد من المقاصد الكلامية، مثل إنكار كسره للأصنام، وتنبيه قومه على عجز الأصنام، والتعريض بسفاهتهم، وتبكيتهم، ودعوتهم إلى عبادة العليّ القدير، لتحقيق أغراضه التخاطبية وهي الوعظ والتوجيه والإرشاد والنصيحة والتعليم والتبليغ والجدل، ليصل بذلك إلى تحقيق غايتين من غايات التخاطب هما الإقناع والتأثير، وقد تحقق له كل ذلك باستعمال جملة من المسالك كالتلميح والتصريح والاستدلال.
ويفهم من مراجعة ما كتب المفسرون عن هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام كان مجدا في إظهار الحق الذي هو التوحيد، وقد استخدم لتحقيق ذلك -كما يذكر الرازي في مفاتيح الغيب- طريقتين: الطريقة القوليّة في قوله: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56]، والطريقة الفعلية وهي "المكيدة" المشار إليها بقوله: {تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، وقد كانت الخطوة الأولى من هذه المكيدة هي تحطيم الأصنام ووضع القادوم في يد كبيرها، ولكنه لم يقف عند هذا الحد، بل دخل معهم في محاجّة تبيّن منها –كما ذكر الزمخشري في الكشّاف- أنّ "قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم". وهكذا نرى أن الزمخشري والرازي كانا يحومان حول فكرة "المسلك"، وقد سماها الرازي طريقة، وسماها الزمخشريّ أسلوبا، وربطها بصريح العبارة بالقصد والغرض كما مر في الاقتباس السابق.
ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن الاستشهاد بها للدلالة على الفرق بين الغايات والأغراض والمقاصد المثل المشهور الذي يقول: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، فمعنى المثل هو أن جوع المرأة الشريفة أفضل من استعمالها ثدييها وسيلة للحصول على أكلها، وقد شحن المثل بعدد من المقاصد الكلامية منها
1- أنّ تحمّل آلام الجوع أهون من أن تتنازل المرأة عن كبريائها، وتقبل بأجرة مقابل إرضاع أطفال الآخرين، وهذا المقصد يقود إلى مقصد كلي أعم، وهو
2- أن الحرمان من الحاجات الجسديّة أهون من انتهاك قيم الشرف، ثم نستنبط من هذا المعنى الكلي معنى جزئي آخر، وهو
3- أن جوع المرأة أفضل من بيعها شرفها بالزنا ونحوه لتطعم نفسها.
أما الغرض التخاطبي فهو استهجان ظاهرة امتهان الإرضاع بأجر، وذم المرأة التي تفعل ذلك، وأما الغاية من التخاطب هنا فهي التأثير.
وعلى الرغم من أن ّالخلط بين الأهداف والأغراض والمقاصد شائع عند المهتمين بعملية الإدراك كما استنتجت نانسي بليلر Nancy Blyler، وعند البراغماتيين وفلاسفة اللغة، فإنه من الممكن التأكد من مصداقية التفريق بين المقصد والغرض والغاية، بأن نتخيل مقاما تخاطبيا ينصح فيه صديق صديقه -بعد أن علم بعدم قيامه لصلاة الفجر- بأن ينام مبكرا ليستيقظ مبكرا، ولنتصور أنه من الممكن أن يسرد لنا الناصح ما حدث له مع المنصوح على النحو الآتي: "لقد نصحته بأن ينام مبكرا ليستيقظ مبكرا، وقد أدرك قصدي، ولكنه لم يستجب". ومما يمكن استنتاجه من هذا المثال أن الصديق أدرك مقصد الناصح وهو أنه يريد منه أن يؤدي صلاة الفجر في وقتها، وأن الناصح حقق غرضه من كلامه وهو النصح، ولكنه أخفق في تحقيق غاية التخاطب وهي التأثير في المخاطب، وهو ما يعني صحة التمييز بين المقصد والغرض والغاية، كما يعني أيضا أن النجاح الحقيقي لعملية التخاطب إنما يتم بتحقيق الغاية، أما إنجاز الغرض فهو نجاح نسبي فقط.
4- المعنى والمقصد
لعل من الأسئلة المتبادرة إلى الذهن بعد الحديث عن المقاصد الكلامية والأغراض التخاطبية وغايات الخطاب السؤالين الآتيين: أين يقع المعنى من كل ما سبق؟ وما الفرق بين المعنى والمقصد؟ والجواب هو أن المعنى هو مدلول الألفاظ على مستوى التجريد، وهو مدلول افتراضي؛ لأن تصوّره يقتضي عزله عن سياق التخاطب والعودة إلى مرجعيته الوضعية لتحديد مضمونه. وهذا يَؤول إلى القول بأن الفرق الجوهري بين المعاني والمقاصد أن المعاني تفهم من المواضعات اللغوية، في حين أنه لابد لاستنباط المقاصد من الوقوف على القرائن اللفظية والمعنوية والاستعانة بالقدرات الاستنتاجية والتأمل في الأصول التخاطبية.
لم يعد المعنى إذن وفقا للمقاربة التخاطبية هدفا أساسيا لعملية التخاطب، بل أضحى مرحلة مؤقتة للوصول إلى المقصد، وهو خطوة إجرائية وأداة تواصلية لبلوغ مراد المتكلم، إنه المرحلة الأولى في الانتقال بالمدلول نحو تحقيق غاية أو أكثر من غايات التخاطب، فمنذ أن ينتقل الذهن من اللفظ إلى المعنى اهتداء بالعلاقة الوضعية الاعتباطية التي تربط بينهما تبدأ رحلة البحث نحو مرادات المتكلم التي تشمل الغاية والغرض والمقصد، ولابد من التشديد هنا على أن الانتقال من المعنى إلى أي من هذه المفاهيم الثلاثة هو قضية عقلية سياقية تخاطبية وليس للوضع فيها من تأثير مباشر.
ولابد من التذكير أيضا أنه يمكن أن يفهم المعنى دون أن يدرك المقصد، وهو أمر شائع في المخاطبات، وقد ورد ذم القرآن كفار قريش بوصفهم أنهم "لا يفقهون"، مع أنهم عرب أقحاح يفهمون معاني الكلام، ولكنهم يخفقون في فهم مقاصد الشارع، وهذا عائد إلى أن الفقه –كما عرفه ابن القيم- "أخصَّ من الفهم؛ وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة". ومن الفروق الجوهرية بين المعاني والمقاصد أن المعاني تنتمي إلى الوضع واللغة، في حين تنتمي المقاصد إلى الاستعمال والكلام، ومن ثمّ يمكن الحديث عن معاني الجمل ومقاصد القولات على افتراض أن الجمل كيانات وضعية مجردة، والقولات هي التحققات الفعلية للجمل في المقامات التخاطبية، وهكذا فإن المعاني تدرس في علم الدلالة semantics، أما المقاصد فتدرس في علم التخاطب pragmatics. وقد يتفق المعنى مع المقصد إذا ما استُعمل اللفظ في معناه الحقيقي، وفي هذا الحال فإن الاتفاق يكون في الذات فقط؛ أما في الاعتبار فإنه معنى من حيث كونه نتاجا للوضع اللغوي، ومقصد من حيث كونه نتاجا للاستعمال والقرائن التخاطبية. وسنوضح في الجدول الآتي رسم المسار الذي تسير عليه القولات اللغوية ابتداء من المسلك الذي اتُّبع في إنشائها مرورا بالمعنى فالقصد والغرض والغاية من خلال بعض الأمثلة.
هذا الشكل يوضح بالمثال المسار من المسلك إلى الغاية:
القولة
| المسلك
| المعنى
| المقصد
| الغرض
| الغاية
|
زيد كثير الرماد
| الإخبار (نظمي)
| زيد كثير الرماد
| زيد كريم
| المدح
| التأثير
|
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ{
[المرسلات: 15]
| الإخبار (نظمي)
| أن المكذبين سيعذبون يوم القيامة | الوعيد
| التخويف
| التأثير
|
قول خديجة للرسول –ص-: "إنّك لتصل الرحم و تصدق الحديث"
| الإخبار (نظمي)
| أنه يصل الرحم ويصدق في القول | التذكير
| الطمأنة
| التأثير
|
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً{
[الحجرات:12]
| الاستفهام (نظمي)
| السؤال عن حب أكل لحم الأخ الميت
| الإنكار
| التنفير
| التأثير
|
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى{ [الإسراء:32] | النهي (نظمي)
| عدم قرب الزنى
| التحريم
| التوجيه
| التأثير
|
أين تقع مدغشقر؟ | الاستفهام (نظمي)
| السؤال عن أين تقع مدغشقر؟ | الاستفسار
| الاستكشاف
| التعلم
|
هذا الشكل يوضح
بالمثال المسار من المسلك إلى الغاية
5- طبقات المعنى
مثلما كان للمقصد مراتب فإنّ للمعنى مستويات أو طبقات متدرّجة: ففي نحو الكناية المشهورة فلان كثير الرماد يمكن التمييز بين المعاني الآتية:
المعنى الأول: أن لفلان رمادًا كثيرًا (علاقته باللفظ اعتباطيّة).
المعنى الثاني: أنّه كثير إشعال النيران (علاقته بالمعنى السابق عقليّة).
المعنى الثالث: أنّه كثير الطبخ (علاقته بالمعنى السابق عقليّة).
المعنى الرابع: أنّه كثير الضيوف (علاقته بالمعنى السابق عقليّة).
وعندما تتضافر القرينة مع المعنى في المقام التخاطبي فالناتج هو المقصد، وهو هنا "أنّه كريم جواد".
وباستثناء المعنى الأول الذي تكون العلاقة فيه بين اللفظ والمعنى علاقة وضعية اعتباطية تعد بقيّة المعاني من قبيل ما يسميه عبد القاهر الجرجاني "معنى المعنى"، وهو معنى ينشأ عن علاقات معنوية استنتاجيّة على منوال ما عرف بقاعدة "المعنى يجذب المعنى". ومثلما هو الحال مع المعنى الذي قد يكون مقصودا حرفيا أحيانا فيتحول إلى مقصد بفعل السياق، فكذلك معنى المعنى قد يكون مقصودا لذاته كما في التأويل الأخير (وهو أنّه كريم جواد) في الكناية السابقة حيث تحوّل إلى مقصد كلامي.
وقد فرق بعض علماء التراث بين المعاني الأُوَل والمعاني الثواني، فمثال المعاني الأول القيام المؤكد في نحو "إنّ زيدا قائم" ومثال المعاني الثواني في هذا المثال "رد الإنكار ودفع الشك". وقد ذكر التهانوي أن المقصود بالمعاني الثواني "الأغراض التي يساق لها الكلام"، فإن صحّ هذا فقد قارب المقصود في هذا البحث بالأغراض التخاطبية.
يمكن إذن أن نلخص ما سبق في أن عملية التخاطب تبدأ باللفظ وينتقل منه إلى المعنى من خلال العلاقة الوضعية الاعتباطية، ثم يُنتقل من المعنى إلى القصد المرتبط بكل من الغرض والغاية من خلال معطيات تداولية واجتماعية تتجسد من خلال السياق في مفهومه الواسع.
الانتقال من اللفظ إلى المعنى علاقة وضعية اعتباطية
الانتقال من المعنى إلى القصد والغرض والغاية معطيات وعلاقات تداولية واجتماعية
هذا الشكل يوضح العلاقة بين اللفظ والمعنى، وبين المعنى، والقصد والغرض والغاية
وأخير لابد من الإشارة إلى أن المسلك والغرض والغاية هي مفاهيم نسبية بحيث يمكن أن يتحول ما كان غرضا في مقام تخاطبي ما إلى مسلك لبلوغ غرض غير لغوي مثلا، وذلك كأن يمدح المتكلم شخصا آخر لغرض الحصول على بعض المال، فيصبح المدح مسلكا والحصول على المال غرضا والإثراء غاية، ومن ثم يتزحزح الغرض عن طبيعته اللغوية ويصبح مأربا خارجيا، مثلما هي الغاية دائما. وهذا التحوّل في طبيعة الغرض يعكس حقيقة مفادها أن الممارسات التخاطبية ليست منقطعة عن سائر الأفعال الاجتماعية التي نقوم بها في حياتنا.
يتبع