منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين

تهتم بـ الفلسفة والثقافة والإبداع والفكر والنقد واللغة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
تعلن إدارة المنتديات عن تعيين الأستاذ بلال موقاي نائباً للمدير .... نبارك له هذه الترقية ونرجو من الله أن يوفقه ويعينه على أعبائه الجديدة وهو أهل لها إن شاء الله تعالى
للاطلاع على فهرس الموقع اضغط على منتديات تخاطب ثم انزل أسفله
» هات يدك البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-12-13, 15:27 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» بين «بياجيه» و «تشومسكي» مقـاربة حـول كيفيـة اكتسـاب اللغـةالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-12-03, 20:02 من طرف سدار محمد عابد» نشيد الفجرالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-30, 14:48 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» الرذ والديناصورالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-02, 18:04 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزةالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 18:42 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزةالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 18:40 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شهد الخلودالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 18:35 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تهجيرالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 18:23 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تقرير من غزة البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 18:18 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» القدس لناالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 17:51 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» يوم في غزة البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 17:45 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شعب عجبالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-11-01, 17:41 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سمكة تحت التخديرالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-10-07, 15:34 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تجربة حبالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-09-16, 23:25 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» زلزال و اعصارالبَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2023-09-14, 05:44 من طرف عبدالحكيم ال سنبل

شاطر
 

 البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
زهر السوسن
عضو شرف
عضو شرف
زهر السوسن

القيمة الأصلية

البلد :
الجزائر

عدد المساهمات :
879

نقاط :
1493

تاريخ التسجيل :
17/10/2012


البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة Empty
مُساهمةموضوع: البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة   البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة I_icon_minitime2012-10-24, 15:18

البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة
محمد العُمري

برغم كل التفاصيل التقطيعية والملابسات التاريخية المائزة التي سيتضح أكثرها خلال العرض، فإن كلمة بلاغة في اللغة العربية تلتقي اليوم مع كلمة ريطورية في التراث البلاغي الغربي المتحدر من الثقافة اليونانية واللاتينية عامة (RHETORIQUE في اللغة الفرنسية، RHETORIC في الإنجليزية)،. وليست كلمة ريطورية أو ريطوريقا، كما عربها فلاسفتنا القدماء، هي وحدها التي عاشت في زحام مع مفاهيم ومصطلحات أخرى تنازعها المجال الخِطابي (بالكسر)، بل إن كلمة بلاغة العربية قد ناضلت هي الأخرى طويلا، وبدون يأس، قبل أن تستولي على تلك المساحات الشاسعة الملتبسة التي كثر الطامعون فيها قديما و حديثا؛ من مناطقة ونحاة، ولسانيين، وسياسيين وفلاسفة وضعيين ولاهوتيين؛ كلٌّ يدعي الحكمةَ وفصلَ الخطاب.

سنحاول رسم خريطة عامة لأرضِ البلاغة، داخلةً تحت سلطتها أو مُقتطعةً منها، مفترضين معرفة أولية بالموضوع، أو رغبةً صادقة في مزيد من المعرف به من خلال ما سنحيل عليه من مراجع. لعل هذا العرض يوصل بالملموس إلى تعريف للبلاغة مازلنا في حاجة إليه مختصين وهواة

أ ـ في التراث العربي

أ . 1. 1 ـ قبل البلاغة كان البديع والبيان

بقطع النظر عن عِلم العروض الذي يدخل في حيز الأنظمة المقـننة المطردة فإن أولَ كلمة تربعت فوق مجموعة من المصطلحات المرصودة لوصف الخطاب من زاوية الخصوصية التعبيرية هي، فيما أعلم، كلمة بديع. كان ذلك في القرن الثالث الهجري مع عبد الله بن المعتز[2]، وقد كان ابن المعتز واعيا بصنيعه فقال: "وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين".

كان هذا "التجميع" إعلانا عن ميلاد علم جديد إلى جانب علوم اللغة والفقه التي تبلورت عبرَ القرنين الثاني والثالث الهجريين[3]. وظل مصطلح "بديع" يتغذى من النقد التطبيقي والخصومات الأدبية، أكثر من أربعة قرون، موسعا دائرة نفوذه لتضم كلَّ صور التعبير و وُجوهَه اللسانية، غيرَ عابئ بمقامات القول ومقاصده، أي بالأبعاد التداولية للخطاب، إلى أن ظهر كتاب مفتاح العلوم للسكاكي فوجدناه (أي المصطلح) يزاح عن موقع السيادة والهيمنة وينقل إلى الهامش، كما سيأتي. ونظرا لأن المفهوم القديم لكلمةِ بديع لم يتوقف، ولم يُخلِ الساحة،َ برغم المنافسة، فقد أصبحنا أمام مفهومين للبديع: مفهوم كلي يضم كل صور التعبير اللسانية[4]، ومفهوم جزئي (عند السكاكي) يضم الصور غير المنضبطة لتعريف "المعاني" و"البيان" اللذين اقتسما أرض البلاغة. وَهنا عُمِّم مفهوم التحسين والمحسن على صور البديع في حين كان نعت "محاسن الكلام" عند ابن المعتز يعني ما ليس من البديع.

كلمة بديع هي إذن الوريث الشرعي لأقدم تأمل في الخطاب الأدبي، الشعري خاصة، من الجاهلية إلى القرن الثالث الهجري. ظهر ظهر هذا المصطلح في جو الخصومات حول ملكية العبارة بين القدماء والمحدثين، ولذلك فهو يضم نوعين من الصور: صور بديعة، وصور متداولة سميت "محاسن الكلام"، واسمها يمهد للنعت الذي نعتت به عند السكاكي: محسنات[5]. وحين يقول تودوروف، بصدد الحضارة الغربية، بأن التأمل البلاغي هو أقدم تأمل في اللغة[6] فمن الأكيد أنه يقصد هذا الجانب الذي دعي بديعا في اللغة العربية، ذلك أن الملاحَظ ، في البداية قبل التقنين والتقعيد، هو، أولاً، الشاذ والفردي والمتغير أي التخييلي الشعري...وذلك برغم ارتباط كلمة ريطورية، في التقليد الغربي، بالخطابة كما سيأتي

الكلمة الأخرى التي تربعت على مجال خطابي متميز وأنتجت لائحةً مصطلحية دالة على علم جديد، قبل استقرار مصطلح بلاغة، هي كلمة بيان. كان ذلك أيضا في القرن الثالث الهجري، مع الجاحظ المتوفى سنة 255هـ في كتابه البيان والتبيين، (أي بحوالي عقدين قبل ابن المعتز).

بخلاف البديع الذي شُغِلَ بإحصاء أوجه العبارة الشعرية والتمثيل لها ومحاولة تعريفها، في غير نسق، اهتم البيان حسب تعريف الجاحظ له بالفهم والإفهام. وبذلك فهو يمتد، في المشروع والطموح، إلى نظرية في المعرفة (استنباطا ومعالجة وتداولا)، ويتراجع في المنجز حسب مقتضيات اللحظة التاريخية معرفة ووظيفة إلى تقنية في التأثير والإقناع. في مسلسل التحول من الطموح إلى المتاح والعملي تدرج الجاحظ من كلمة بيان إلى كلمة بلاغة، ومن كلمة بلاغة إلى كلمة خطابة؛ ينتقل من الواحدة إلى الأخرى وكأنما يتحدث عن الشيء نفسه[7]. وهذا التراجع من المعرفي إلى الخَطابي عبر "البلاغي" لم يستسغه ابن وهب فاعتبر عمل الجاحظ غير موف بمفهوم البيان كمشروع، فاستأنف العملية في كتابه البرهان في وجوه البيان. في ظروف أخرى رجحت كفة المكتوب والمعرفي على الشفوي الإقناعي، ومن خلال عمله أمكن إدراك مشروع الجاحظ.

كان الجاحظ يقدم وسيلة للحوار في عصره بين الفرقاء في المجال الفكري والسياسي، الحوار من خلال الرصيد الخطابي العربي من جهة وأحوال المخاطبين من جهة أخرى، المهم: كيف يكون الخطاب ناجعاً، فاعلاً. مع ما يؤدي إليه هذا المسعى من مفارقة بين الجمال والمنفعة العملية الآنية.

ومع ذلك فإن التيار العام كان لصالح الجاحظ، ظهر ذلك في القراءات اللاحقة ابتداء من العسكري وانتهاء بابن سنان، فقد أخذا من الجاحظ أهم مكونين للخطاب الإقناعي، وهما: المناسبة والاعتدال[8]. وبقي البيان في معناه المعرفي القريب من المفاهيم السميائية الحديثة خارج المسارات التي تندفع في منحدر المجرى الكبير الذي سيسمى بلاغة، إلى أن قزم هو الآخر (أي مصطلح البيان) في مفتاح العلوم للسكاكي، كما هو معلوم. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن العسكري فضل ـ بعد ذلك ـ كلمة محايدة ("الصناعتين") علامة على مادة مأخوذة، في أغلبها، من الجاحظ وابن المعتز، في حين انحاز ابن سنان ، لاعتبارات أديولوجية ذات كساء معرفي لا يتسع لها المقام، إلى مصطلح جديد[9]: الفصاحة. معيدا جانبا كبيرا من بيان الجاحظ إلى الواجهة.

نسجل هنا ملاحظة تبدو لنا ذات أهمية كبيرة، وهي أن كلمة بلاغة ظهرت في تاريخ وصف الخطاب في اللغة العربية في الحقل نفسة الذي ظهرت فيه في وصف الخطاب في الحضارة الغربية عند اليونان وهو الخطابة. ولا يتعلق هذا الاستنتاج بقضية الأثر والتاثر والتبعية والأسبقية بل يتعلق بطبيعة الخطابة نفسها[10]. لقد كان من المعقول تفرع البلاغة عن البيان؛ فتحول البيان إلى بلاغة يعني تقديم الإفهام على الفهم، إن لم يعن التخلي عن الفهم لصالح الإفهام نهائيا، أي الخروج من نظرية المعرفة إلى نظرية الإقناع[11]. كما خرجت البلاغة من دائرة الخطابة عند اليونان.

أ .2 ـ البلاغة والفصاحة :

وهكذا فإلى حدود القرن الخامس الهجري لم تكن كلمة "بلاغة" (باعتبارها الحاكم العام المقبل لأرض الخطاب) قد بسطت نفوذها بعدُ على كل الأراضي التي فتحها أعوانها في مختلف أقاليم الخطاب: شعر، خطابة، كتابة. وبرغم كون كتاب أسرار البلاغة أولَ كتاب يطرح سؤال الهوية، هوية الخطاب البليغ فإنه كان مَحكوما بتوجهه إلى الشعر. ولذلك يصلح أن يسمى حسب تعابيرنا: أسرار بلاغة الشعر، أو لغة الشعر. ومن البين أن هذا المفهوم الذي أراد الجرجاني تعميمه قد مارس الإقصاء على عدة مستويات وذلك باقتصاره على الشعر ثم على الجانب الدلالي منه ثم على صور معدودة من الجانب الدلالي، لاشك أنها مهمة ولكنها ليست كل شيء، وهي: التشبيه والتمثيل والاستعارة. حاول الجرجاني في كتابه الثاني تدارك جانب من الموضوع، جانب المناسبة التداولية مع تماديه في إقصاء الإيقاع أو تقليص دوره إلى أقصى حد[12].

ومن مظاهر استمرار الغموض في المجال المصطلحي إلى حدود القرن الخامس الهجري قول الجرجاني، في أول دلائل الإعجاز:

"ما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة" لا يكشفُ عن مغزاها والمراد منها بوضوح، بل هو أقرب إلى "الرمز والإيماء، والإشارة... والتنبيه على مكان الخبيئ ليطلب" وقصارى الأمر الإشارة إلى أن هناك نظما وصياغة وتصويرا ونسجا وتحبيرا بدون تدقيق للمفاهيم والحدود"[13].

مع اختلاف العنوان (من أسرار البلاغة إلى دلائل الإعجاز) فالمؤلف مازال يعالج القضية ذاتها، على أوسع نطاق، القضية التي عبر عنها بألفاظ مختلفة: "البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة"، (أرجح أن تكون البراعة لفظا مرادفا، عند المؤلف، لكلمة بديع، وبذلك يستوفى ذكر أهم المصطلحات التي راجت في مجال تحليل الخطاب). فهذه الألفاظ تلتقي كلها في التعبير عما يتفاضل به القائلون. مردها جميعا عنده، إلى "وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من رضى القلوب...ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له وأحرى أن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية"[14].

وبرغم ترديد كلمتي بيان وفصاحة في وصف الكلام في أول الدلائل فإن الجرجاني لم يُشر إلى علاقة تراتبية بينهما وبين كلمة بلاغة التي اعتمدها في كتاب الأسرار، بل يبدو ليأن ترديدهما راجع لسياق الرد على من ادعى وجودهما في اللفظ من المعتزلة وغيرهم. وهذا الأمر أكثر جلاء عند ابن سنان الخفاجي الذي جعل البلاغةَ أعم من الفصاحة[15] (برغم الاضطراب الذي أدى إليه ذلك في بناء كتابه). وقد انتقد هو الآخر تعريف البلاغة عند القدماء فقال: "وقد حد الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم، وليست بالحدود الصحيحة"[16]. ثم استعرض التعريفات المقترحة، وهي، في أكثرها، مما جاء عند الجاحظ في البيان والتبيين، فبين أنها نعوتٌ وليست تعريفاتٍ جامعة مانعة. وهذه ملاحظة مهمة تميز بين مرحلتين: مرحلة الإحساس بالموضوع، ومرحلة ضبطه وتسويره.

لقد كانت محاولة تدقيق مفهوم البلاغة في هذا العصر (القرن الخامس الهجري) محكومة باعتبارات عقائدية تتعلق من جهة بطبيعة الكلام في تصور كل من المعتزلة والأشاعرة؛ هل هو أصوات أم معان؟ فتبعا لذلك ينبغي أن تكون البلاغة فيما هو جوهري (أي ما يحدد طبيعة الكلام): في المعني عند الجرجاني(مشروعا ومنجزا) وفي الأصوات في مشروع ابن سنان
لقد كان مشروع عبد القاهر عميقًا في حفره في مجال المعاني والمقاصد على حساب الإيقاع والمقامات والقيم الثقافية(الأغراض)، وكان مشروع ابن سنان أكثر شمولية واستيعابا لمكونات الخطاب الكلاسيكي الشعري والخطابي:المكونات اللسانية وغير اللسانية.

أ . 3 ـ البلاغة / "علم الأدب"

يعتبر السكاكي أباً للتصور المدرسي الذي استقر للبلاغة العربية من عصره إلى اليوم، ذلك التصور الذي يقسم البلاغة إلى ثلاثة علوم: المعاني والبيان والبديع. هذا مع العلم بأن السكاكي لم يجعل البديع في مستوى واحد مع المعاني والبيان، أي لم يعتبره علما بل مجرد ذيل للمعاني والبيان يضم صورا تعبيرية لا يجمعها غير كونها ذاتَ طبيعة تحسينية: محسنات لفظية ومعنوية.

وبذلك أزيح البديع عن مضمونه الأول عند ابن المعتز: الصور اللسانية المميزة للتعبير الأدبي والشعري خاصة، كما سبق . لقد أُخِذَتْ منهُ صورُ الاستلزام الدلالي التخاطبي، ودُفعت من المجال التحسيني إلى المجال الحجاجي التداولي[17]، فربطت بمبحث الاستدلال. والصور المقصودة هي:التشبيه والتمثيل والاستعارة والمجاز والكناية. وهي مادة "علم البيان". وفي هذا السياق أُلحقت بالخصم التاريخي للبديع، الذي دعي علم المعاني بعدما ظل مشتتا في مباحث اللغويين ودارسي النص القرآني، قبل أن يبلور الجرجاني قضاياه في إطار السؤال البلاغي،ضمن مبحث "النظم" حيث المدار على المقاصد. إن علاقة المعاني بالبديع في تصور السكاكي كعلاقة البديع عامة بالبيان عند الجاحظ. وليس من المجازفة الصورية في شيء أن نستنتج أن المعاني والبيان من طينة واحدة.

يلتقي "علم المعاني" عند السكاكي مع "البيان" عند الجاحظ، ويتكامل معه في كون كل واحد منهما يبحث في علاقة الخطاب بالأحوال والمقاصد، أي في البعد التداولي للخطاب. الأول (المعاني) في المستوى اللساني الدلالي، والثاني (البيان) في المستوى اللساني السوسيونفسي. لقد بذل الجاحظ قصارى جهده للملاءمة بين مطلب مراعاة أحوال المخاطبين الذي قدمه من خلال صحيفة بشر بن المعتمر، وبين مطلبي صحة اللغة وحسن التعبير. وبعده أوضح الجرجاني أن "الصحة" تحصيلُ حاصل، ثم اهتم السكاكي بعد الجرجاني بملاءمة الكلام للغرض منه، مع احتمال تفاوت دلالته وحسنه.

إن المركز في بيان الجاحظ ومعاني السكاكي هو الأحوالُ والمقاصد، ولذلك ظل البديع أي صور التعبير الشعري وأسئلته على هامشهما. كان الجاحظ يبحث عن نظرية للمعرفة فوقع في البلاغة، فعن أي شيء كان السكاكي يبحث؟

كان السكاكي يبحث عن مكونات: "علم الأدب". العلم الذي يصون المتحدث من الخطـأ فــــي: 1) مطابقة الكلام لقواعد اللغة ،2) ثم لأحوال ومقامات التخاطب ،3) ثم يعطيه حسنا وقبولا. وإذا كان الصواب اللغوي مسألة معيارية عامة لا تفاوت بين المتكلمين فيها، لأنها قابلة للتحقيق على مستوى واحد، وكان التحسين فَضْلة يتحقق الغرض من الخطاب بدونها، في تصوره، فإن مركز "علم الأدب" ولبه هو مطابقة الكلام للغرض منه، ثم تفاوتُ الدلالة في التعبير عن الغرض، أي المعاني ثم البيان.

نرجح هذه القراءة بالنظر إلى بناء الكتاب من جهة وبمسار قراءته في الثقافة العربية من جهة أخرى. فالسكاكي معروف اليوم عند الدارسين التداوليين من لسانيين ومناطقة من خلال "علم المعاني" و"علم البيان" بحديثه عن المقام التخاطبي والاستلزام الخطابي. وليس له في مجال النحو والصرف ولا في "البديع" والعروض والقوافي (وقد تعرض لكل ذلك ضمن علم الأدب) ما يؤهله لمنافسة الفحول في هذه العلوم. إن أهمية عمله تكمن في اكتشاف منطقة تقاطع النحو والمنطق والشعر، أي في وصوله شخصيا إلى عاصمة البلاغة. وبذلك خرج من خطاب التنافي بين النحو والمنطق والشعر الذي تاه فيه متى بن يونس والسيرافي وغيرهما، وكان من حقه أن يقول: وجدتُها!

وبناء على ما سبق"فإن بلاغة السكاكي تقع عند تقاطع ثلاثة مباحث متداخلة ومتنافرة في الوقت نفسه، هي النحو والمنطق والشعر(الشعر باعتباره رؤية وتشكيلا للغة. وسنُعوِّضه هنا بلغته الواصفة الأكثر ارتباطا به، وهي البديع بمفهومه الواسع عند ابن المعتز ومن سار في طريقه).وبذلك يمكن تمثيل بلاغة السكاكي بالتقاطعات التالية[18]:
الشعر (البديع النحو البلاغة(المعاني والبيان) المنطق(الاستدلال
من المشروع الآن التساؤل: هل العالِم بالأدب هو المثقف؟ هل علم الأدب هو الثقافة في مفهومنا الحديث؟ الأكيد أنه هو الأديب، الأكيد أنه سيحصل على بطاقة العضوية في أي اتحاد للأدباء.

حين انتهى السكاكي من بلورة علمي المعاني والبيان عرَّف البلاغة من خلالهما فقال:: "هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها[19]". إن هذا التعريف هو تعريفٌ لعلمي المعاني ("خواص التراكيب") والبيان ("أنواع التشبيه..الخ") معا. فالبلاغة، في نظر السكاكي، هي المعاني والبيان. وقد عرف المعاني والبيان مرة أخرى. (بعد حديثه عن البديع دون أن يأخذه بعين الاعتبار) تعريفا أكثر صورية وتجريدا، إذ عوض صور البيان (التشبيه والمجاز والكناية) بعبارة: "صياغات المعاني": "علم المعاني والبيان هو: معرفة خواص تراكيب الكلام، ومعرفة صياغات المعاني، ليُتوصل بها إلى توفية مقامات الكلام حقها[20]".

من المثير للانتباه أن نجد السكاكي يتصدى فجأة، بعد الذي تقدم من تعريف البلاغة، لتعريف الفصاحة، وإفساح المكان لها لتحل حيزا من المجال الفسيح من علم الأدب الذي ظهر للمؤلف أنه ما يزال فارغاً بعد بناءِ مفهوم البلاغة.

قد ينصرف الذهن، في البداية، قبل النظر في المحتوى، إلى أن الفصاحة هي الامتداد التطبيقي للتصريف والاشتقاق مثلما يمكن اعتبار علم المعاني امتدادا تطبيقيا للنحو، غير أن المؤلف لم يقف بالفصاحة عند هذه الحدود، بل تجاوز البعد الصوتي والمعجمي إلى البعد التركيبي، وكأنه يلخص نموذجَ ابن سنان في الفصاحة. قال:

"وأما الفصاحة فهي قسمان: راجع إلى المعنى، وهو خلوصُ الكلام عن التعقيد، وراجع إلى اللفظ، وهو أن تكون الكلمةُ عربيةً أصْلية[21]".

وعلامة عروبة الكلمة: 1) أن تكون متداولة عند الفصحاء، 2) وأن تكون أجرى على قوانين اللغة، 3) وأن تكون سليمة من التنافر".

أما التعقيد المعنوي فلم يحدد السكاكي سببه بدقة غير أن المثالين اللذين أوردهما يُعتبران من أمثلة اختلال التركيب بالتقديم والتأخير. وقد يكون ثانيهما من التعقيد الدلالي، خاصة وهو مأخوذ من شعر أبي تمام[22].

يبدو أن السكاكي قد حاول في البداية ( في المشروع) أن يتلافى مصطلحي بلاغة وفصاحة فرارا من حمولتهما الفكرية والعقدية التي تطرقنا إليها غير أنه انتبه في نهاية المطاف إلى أن إشعاع الكلمتين في التراث العربي يجعل السكوت عنهما أو تعويضهما أمرا عسيرا، خاصة وأن النحو بمفهومه الدقيق في عصره أصبح أكثر صوريةً وضيقا بحيث لا يتسع كما كان في وقت سابق (عند صاحب الخصائص مثلا بل عند مؤسس النحو سيبويه) لاستيعاب كل مستويات الخطاب.

ونفترض أن السكاكي شعر بأن استعادةَ إحدى الكلمتين دون الأخرى قد يعني الدخول في حمى إحدى النظريتين وقبول كل تبعاتها، ولذلك وجد أنه لابد من إجراءات وتوضيحات تضع الأمور في نصاب جديد"[23].

المشروع الذي ذهب فيه السكاكي كان أشبه بعلم النص عند اللسانيين المعاصرين، لا يمكن هنا الحديث عن التطابق، ولكن يمكن اكتشاف الكثير من عناصر الالتقاء بين منحى السكاكي ومنحى علماء النص في تناولهم النص في أبعاده النحوية والأدبية والمعرفية والسوسيولوجية[24] وغيرها... وإذا كان السكاكي قد جعل البلاغة مساوية - في آخر المطاف ـ لعلمي المعاني والبيان، فإن فَانْ دِيكْ صرح في بداية مقاله المذكور بأن علم النص هو الممثل العصري للبلاغة. وعلى النقيض من مسار عمل السكاكي حيث وجد ضرورة، في آخر المطاف، للاتفات إلى كلمة "فصاحة" برصيدها عند ابن سنان فإن حازم القرطاجني بدأ من مادة الفصاحة متناولا قضايا اللفظ في القسم الأول المفقود[25]. وقد صار مبحث الفصاحة في الكتب المدرسية الحديثة مقدمة لعلوم البلاغة.

أ .2 .1 ـ الحجاج هو"عمود البلاغة"
تخليق البلاغة

اشتهر الحديث، في التراث العربي النقدي، عن عمود الشعر. وقد أقيم ذلك العمود وثبتت أركانه للحفاظ على النمط التقليدي المكتمل للقصيد في وجه حركات التجديد البديعية. أما في المجال الخطابي فلم أسمع الحديث عن "العمود" إلا في القرن السادس مع ابن رشد، وقد سارت فيه الأمور في الاتجاه المضاد. إذ تحدث ابن رشد، في حواره مع نص أرسطو، عن "عمود البلاغة" في سياق انتقاد التصور القديم "لصناعة الخطابة"، ذلك التصور الذي اهتم بالأمور الخارجية غير الداخلة في تكوين الخطاب بل في محيطه الخارجي[26].

عمود البلاغة عند ابن رشد ذو طبيعة منطقية تخول هذه الصناعة الانتماء إلى المنطق، بل إنها لن تستكمل هويتها إلا بهذا الانتماء.

عمود البلاغة بعبارة عامة سهلة هو الحجج القائمة في الأقيسة الخطابية التي هي عنده أقيسة بلاغية أو ضمائر. والأقيسة البلاغية احتمالية أي أنها غير قطعية. وهي بذلك غير مؤهلة لتمييز الحق من الباطل و لكنها من وجهة النفع الجمهوري شبيهة بالحق، وهذا تخريجه لهذه القضية الدقيقة:

"والتصديقات الخطبية، و إن لم تكن حقا، فهي شبيهة بالحق. و أيضا فإن الناس متهيئون بطبيعتهم كل التهيئة نحو الوقوف على الحق نفسه; وهم، أكثر من ذلك، يؤمونه ويفعلون عنه. والمحمودات، وهي التي تكون منها الضمائر شبيهة بالحق من قِبَلِ أنها نائبة عند الجمهور مناب الحق. والشبيه بالحق قد يدخل في علم الحق الذي هو علم المنطق"[27].

(هذا المنحى في تخليق صناعة الخطابة و مَنْطقتُه (من المنطق)، سنجده عند البلاغة الجديدة ونظرية الحجاج في العصر الحديث، عند بيرلمان خاصة، فتأمل).

ومن حَادَ عن هذا الطريق؛ عن طريق عمود البلاغة الذي يربط البلاغة بالمنطق (أي بعلم الحق)، صرف اهتمامه للجوانب الأسلوبية المقامية (السكولوجية) والتنظيمية، أي للأمور الخارجية غير الجوهرية:

"وإذا كان الأمر هكذا، فقد استبان أن قصور هؤلاء فيما تكلموا فيه من أمر الخطابةإنما كان من أجل أنه لم يكن عندهم علم بالمنطق، وأن سائر من تكلم في الخطابة ومن يستعمل الأقاويل الخطبية فقط من غير أن يتقدموا فيعرفوا هذه الأشياء التي هي عمود البلاغة أنه إنما تكلموا في أشياء تجري من البلاغة مجرى التزيين والتنميق الذي يكون في ظاهر الشيء وصفحته، لا في الأشياء التي تنزل منها منزلة ما به قوام الشيء ووجوده. وإن كان قد يظن بما فعلوا من ذلك أنهم قد بلغوا الغاية من الأقاويل الإقناعية، وجروا في ذلك على طريق الصواب والعدل" [28].

حين نص ابن رشد هنا على "التزيين والتنميق" وهو يتحدث عن العناصر غير الجوهرية في الخطابة كان نظره مركزاً على حال البلاغة العربية، حيث عوملت الخطابة، في أكثر الأحوال، بعد الجاحظ معاملة الشعر، أي نُظر إلى الجانب التزييني الخارجي وأهمل الجانب الداخلي الحجي.

كان ابن رشد قبل هذا قد ركز مع أرسطو على الجوانب السيكولوجية:كيف تستعمل ومواطن استعمالها، وكذا تنظيم أجزاء الخطبة مما اهتم به من قبله. وهذه أيضاً أمور غير داخلة في العمود وإن كان دورها في كمال البناء لا ينكر. وهذا النص أشمل في بيان العمود التصديقي والهامش السيكولوجي.

قال:" وكل من تكلم في هذه الصناعة ممن تقدمنا فلم يتكلم في شيء يجري من هذه الصناعة مجرى الجزء الضروري والأمر الذي هو أحرى أن يكون صناعيا، وتلك هي الأمور التي توقع التصديق الخطبي، وبخاصة المقاييس التي تسمى في هذه الصناعة الضمائر، وهي عمود التصديق الكائن في هذه الصناعة، أعني الذي يكون عنها أولا وبالذات.

وهؤلاء فلم يتكلموا في الأشياء التي توقع التصديق الخطبي بالجملة ولا في الضمائر التي هي أحرى بذلك. وإنما تكلموا، فأكثروا، في أشياء خارجة عن التصديق وإنما تجري مجرى الأشياء المعينة في وقوع التصديق مثل التكلم في الخوف والرحمة والغضب وما أشبه ذلك من الانفعالات النفسانية التي ليست معدة نحو الأمر المقصود تبيينه أولا وبالذات، وإنما هي معدة نحو استمالة الحكام والمناظرين، ولذلك كانت وكأنها موطئة للتصديق لا فاعلة له" [29].

فنحن هنا بإزاء موطئات وفاعلات (الموطئات السيكولوجية والبديعية، والفاعلات الحجية المنطقية)، وهذه التراتبية في فاعلية المكونات حاضرة أيضا في تصور الفلاسفة العرب للمحاكاة، فالإيقاع مثلا موطئ (أو مهيئ) في حين أن التمثيل فاعل أي محقق للمحاكاة.

إن تحويل الوسائل السيكولوجية والتنظيمية والأسلوبية إلى موقع العناصر الخارجية المساعدة لا يعني التقليل من شأنها ولكنه يعني أنها تابعة للجانب الحجي الذي يراقبه "علم الحق" أي المنطق. فلا بد أولاً من أن يكون للخطاب شبه بالحق وانتماء إليه حتى ولو لم يكن في مستوى القطع
وهذا الاجتهاد في توجيه البلاغة ناتج عن الإيمان بوظيفتها الحضارية المتجلية في منفعتين:

1 - حث " المدنيين على الأعمال الفاضلة" و"الفضائل العادلة… وأعني بالفضائل العادلة: التي هي فضائل بين الإنسان وبين غيره، أعني بينه وبين المشارك له في أي شيء كانت الشركة، لا بينه وبين نفسه" [30].

2 – والمنفعة الثانية للخطابة، الوصولُ إلى ما لا يصل إليه المنطق لوجود عوائق في طبائع الناس أو في الظروف المحيطة بالخطابة:" فلهذا قد نضطر إلى أن نحصل التصديق بالمقدمات المشتركة بيننا وبين المخاطب، أعني المحمودات"[31].

ثم يضيف مشيرا إلى الحلقة التي تشد الخطابة إلى منطقة الحجاج:

"وهذه المنفعة تشارك هذه الصناعة، فيها صناعة الجدل، كما ذكرنا ذلك في كتاب "الجدل""[32].

فللصناعتين: صناعة الخطابة (البلاغة) وصناعة الجدل قدرة على الإقناع في الاتجاهين " لكن إذا كانت الأمور التي تعقلن فيها صادقة كانت الأقاويل الخطبية والجدلية التي تستعمل فيها أفضل وأبلغ"[33].

وبذلك يبقى التوجه العام للخطاب إيجابيا، فبهذه القوة يمكن نقض "الضد الذي ليس بعدل"[34]. ومعنى ذلك أنه مع كون الصناعتين تعملان في الاتجاهين (الإيجابي والسلبي) فإن عملهما في الاتجاه الإيجابي هو المنتصر حين يقع التعارض، هذا طبعا مع وجود الكفاءة التي يجب السعي إلى تحصيلها.

إن الخطابة واحدة من "الأمور النافعة" أو "الخيرات" التي يمكن استعمالها إيجابيا أو سلبيا مثل " الجلد والصحة واليسار والسلطان"، فالعبرة في استعمالها بلزوم "العدل" أو "الجور" عن الحق[35].

إن اعتبار الوسائل الإقناعية المنطقية جوهرا للبلاغة في سياق الحديث عن الخطابة جدير بأن يُلحقَ بموقف ابن رشد من الشعر ليوضع ذلك كله في إطار فلسفي تخليقي يسمو إلى النظر من أفق تاريخي: خيرية التاريخ البشري بقطع النظر عن كل الانكسارات التي تمس مصائر الأمم لا مسار التاريخ. ومن المؤسف أن هذا الموقف العميق لم يثر الانتباه، فظل على الهامش، في حين نلاحظ العناية الجمة التي حظي بها منزع مماثل في العصر الحديث كما سيأتي.

أ‌. 2. 2 ـ البلاغة "العلم الكلي"

العبارة المحصورة في العنوان أعلاه لحازم القرطاجني تفسر ما انتهى إليه مشروع السكاكي وهو يحاول رسم حدود علم الأدب. فإذا كان السكاكي قصد تكميل (أو تتميم) النحو والتصريف بعلم المعاني فحدث أن كان النحو والصرف مجرد تمهيد وأدوات أولية لعلم المعاني، فإن حازم القرطاجني صرَّح بوضوح بأن البلاغة هي العلم الكلي لمعرفة تناسب المسموعات والمفهومات، قال:

"ومعرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة الذي تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب من التناسب والوضع، فيعرف حال ما خفيت به طرق الاعتبارات من ذلك بحال ما وضحت فيه طرق الاعتبار، وتوجد طرقهم في جميع ذلك تترامى إلى جهة واحدة من اعتماد ما يلائم واجتناب ما ينافر"[36].

وهذا العلم يسمو فوق صناعات اللسان الجزئية. والبلاغة التي بهذه الصفة هي "البلاغة المعضودة" بالمنطق والفلسفة[37]. وبرغم توجه بلاغة حازم إلى الشعر (حتى صُنِّف المؤلف أحيانا ضدا على عنوان كتابه ضمن نقاد الشعر) فإن بلاغته منفتحة على الخطااب التداولي من خلال المقارنة بين التخييل والتصديق، وبيان مدى تداخلهما وتخارجهما في الخطابين الشعري والتداول. نقتطف فقرة من كتاب: تاريخ البلاغة، بعنوان "تقاطع الخطابي والشعري" تبين وجهة نظر حازم كيفيةَ إستثماره لجهود الفلاسفة المسلمين في قراءة البلاغة اليونانية في ضوء معطيات الشعرية العربية:

" تقاطع الخطابي والشعري

يقوم تفريق حازم بين الخطابة والشعر على أساس المكون المميز لكل منهما. فالشعر مبني على التخييل، وقد يستعمل مكونات الإقناع الخطابي ضمن هيمنة العنصر الذاتي. وعكس ذلك يصدق على الخطابة التي تنبني على العناصر الإقناعية وتدخُل العناصر التخييلية في خدمتها. وقد استعمل حازم في المكون النوعي عبارات مثل: العمدة والأصيل والقوام، وهي تستتبع أو تستدعي نعوت التابع والدخيل. قال: "وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة، الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل مخيلة، مؤكدة لمعانيها، مناسبة لها فيما قُصد بها من الأغراض، وأن تكون المُخيِّلة هي العمدة. وكذلك الخطابة ينبغي أن تكون الأقاويل المخيِّلة الواقعةُ فيها تابعةً لأقاويل مقنعةٍ مناسبةٍ لها مؤكدةٍ لمعانيها. وأن تكون الأقاويل المقنعةُ هي العمدة"[38]

وينبغي ألا يُستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلا فيها كالتخييل في الخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على سبيل الإلماع"[39].

ومرد هذه التداخلات في نظره إلى كون الشعر والخطابة يلتقيان في "الغرض" و"المقصد"، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول لتتأثر لمقتضاه". ولكنه يؤكد، مع ذلك، دور الغرابة في تحقيق الوظيفة الشعرية. فـَ "محاكاة الأحوال المستغربة" تستهدف أحد أمرين: إنهاض النفوس إلى الاستغراب أو الاعتبار فقط"، والمستغرب هو "ما لم يكن معهودا". و على هذا الأساس قسم التشبيه إلى "مبتذل" و"مخترع". والمخترع "أشد تحريكا للنفوس" لكونه غير معتاد يفجأ النفوس "بما لم يكن لها به استئناس قط، فيزعجها إلى الانفعال بديها بالميل إلى الشيء والانقياد إليه أو النفرة عنه والاستعصاء عليه"[40]."[41].

لقد وصلت البلاغة مع حازم قمة الوعي بذاتها، غير أن المهمة التي حاول حازم إنجازها في المنهاج مما تنوء به العصبة أولو القوة. ولذلك لم يجرؤ أحد على إعادة قراءة عمله كما قرئ عمل السكاكي. فبقي مشروعه بعيدا عن الوصفة البلاغية التي اقترحها علماء العربية في بداية هذا القرن للمدارس ثم للجامعات العربية،الوصفة التي ما زالت مقدسة إلى اليوم: علوم البلاغة.

أ . 4 ـ تحنيط البلاغة:

علوم البلاغة

"علوم البلاغة" هو عنوان أشهر كتاب في المجال المدرسي العربي من الخليج إلى المحيط منذ الخروج من شروح التلخيص في بداية التأليف للمدرسة الحديثة (فرغ منه سنة 1334هـ) . والعلوم المقصودة هي المعاني والبيان والبديع حسب تصنيف السكاكي وشراحه. كل ما فعله أحمد مصطفى المراغي هو إضافة مقدمة في "الفصاحة" مأخوذة عن ابن سنان الخفاجي، سيرا في النهج الذي سار فيه بدأه السكاكي.

يقول أحمد مصطفى المراغي في ظروف تأليف كتابه: "أنشئت المدارس العالية والثانوية بمصر في نهاية القرن الغابر، وسلكت في التربية والتعليم طريقا سريا، لا مشاكلة بينه وبين ما تقدمه في معهد العرفان، وكان في مقدمة تلك المدارس التي شيدت مدرسة العلوم من نحو أربعين سنة ونيف. فألف أساتذتها مختصرات تناسب تلك البرامج المدرسية ويسهل على الطلبة أن يحصلوا على بغيتهم منها، فحمد لهم الناس جميل صنعهم. وفي الحق أن تلك الرسائل… وإن اختلف ترتيبها وتنوع تبويبها تنحو، على الجملة، في أسلوبها منحى ما كتبه صاحب التلخيص وشراحه وتسير على خطتهم وتحذو حذوهم وأفضل تلك المختصرات كتاب دروس في البلاغة…

ورأينا أن نضع كتابا يجمع بين طريق المتقدمين من سعة الشرح والبيان والاعتماد على الأسئلة والشواهد … وطريق المتأخرين من حسن الترتيب والتبويب وجمع ما تفرق من قواعد هذه الفنون…[42].

كانت شروح التلخيص ومختصراته وخاصة الإيضاح والتلخيص منتهى ما يطمح العلماء في النصف الأول من هذا القرن إلى فهمه وتفهيمه، كما يقول حامد عوني في مقدمة كتابه : المنهج الواضح. قال بعد عرض موجز لتاريخ البلاغة:

"وبقي الأمر على هذه الحال حتى جاء فارس الحلبة أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626 فوضع كتابه مفتاح العلوم" "ثم جاء المتأخرون من بعده،فلم يستطيعوا أن يزيدوا عليه شيئا من أصول البلاغة. وكان قصارى جهودهم أن تناولوا كتابه بالاختصار تارة وبالشرح أخرى". "وقد بلغ من اعتراف العلماء بهذين الكتابين (التلخيص والإيضاح للقزويني) وجليل نفعهما أن عدوهما آخر ما وصل إليه الإتقان والإبداع في هذه الفنون، فلم يحدثوا أنفسهم بالزيادة على ذلك أو التبديل فيه أو الخروج عليه، ووقفت همتهم عند ما انتهى إليه هذا الإمام الجليل وقصروا جهودهم على البحث في كتبه"[43].

ثم ظهرت ( بعد علوم البلاغة والمنهاج الواضح) كتب كثيرة على نفس النمط،تحذوها حذو النعل بالنعل، وغاب ذلك الإشكال الذي عاشته البلاغة العربية بين الخطابين الشعري والتداولي طوال تاريخها. وكان علم المعاني قد فقد حواريته الناتجة عن التفاعل بين التركيب والمقام في شراح السكاكي من النحاة الذين لم يتبينوا الإشكال المتوخى من تلك الوصفة المعقدة التي حبكها، فحل الحديث عن المقولات النحوية محل تخريج الوظائف البلاغية. وهذا الواقع رَديفٌ لضعف النظر الفلسفي[44].

وكان من نتائج هذا الواقع ضياعُ استراتيجية تدريس البلاغة في الجامعة العربية من الخليج إلى المحيط: هل هي للتاريخ أم للتوظيف؟ وصارت مادة مكملة، أي يكمل بها "مؤرخو الأدب" حصصهم. فيعيدون على طلبة منهكين "مصالحين" بل مستسلمين الدروسَ الرثة التي تلقوها في الثانوي منذ سنوات، أو ينقلون نفس الأمثلة المكرورة من الكتب إياها. ولا تستطيع أن تخرج من هذا الواقع حتى ولو قاطعت الخلق كله، والله غالب على أمره[45].

ولهذا الواقع ظهر بجانب البلاغة في المقررات مواد أخرى، منها: الأسلوبية، وسميائيات النص الأدبي والتداوليات، وتحليل النصوص، والعروض والقوافي، والشِّعرية أو الشعريات، ثم مادة المنطق (في شعب الأدب)..... لا يسأل هذا عن هوية ذاك.

ب ـ في الثقافة الغربية

لا يتسع المقام للحديث عن البلاغة الغربية القديمة إغريقية ولاتينية، بل ليست هناك ضرورة كبيرة للعودة إليها مستقلة عن البلاغة الغربية الحديثة التي استوعبت ما سبق بـ "التنسيق" والنقد، ثم البناء، ولذلك ستحضر البلاغة الغربية القديمة من خلال القراءة الحديثة. وهذا الوضع بخلاف ما عليه الحال في المجال العربي حيث ما تزال البلاغة القديمة ناطقة باسمها غير مستوعبة في الدرس البلاغي الحديث.

حين نرجع إلى أحدث معاجم البلاغة والأسلوبية الغربية نجد كلمة ريطورية تدل على معنيين أساسيين، وقد تدل على معان ثانوية وعارضة. ففي معجم ألفاظ الأسلوبية (VOCABULAIRE DE LA STYLISTTIQUE) لِجون مازاليغا وجورج مولينيي JEAN MAZALEYARAT ET GEORGE MOLINIER) ) ثلاثة معانٍ (ثالثهما ثانوي وعارض)[46]:

1 ـ البلاغة مبحث قديم يهتم بفن الإقناع في مكوناته وتقنياته: استنباط الحُجج ومعالجتها وبثها. "ومن هذه الزاوية نجد البلاغة اليوم في ارتباط بالتداولية".

2 ـ البلاغة مجموعة من صور التعبير منفصلةً عن نوع الخطاب الذي استعملت فيه.

3 ـ وقد تعني الكلمة أحيانا المقاييس المعيارية لفن الكتابة.

نعتبر المعنى الثالث عرضيا مرتبطا بانكماش البلاغة وتقوقعها على نفسها لاستهلاك رصيدها وإحراق شحومها، هذا فضلا عن الوظيفة التعليمية الموكولة لها في المجال الثقافي، وهذه لا دخل لها في تحديد هويتها وإن كانت مؤثرة فيها، إذ تعطي قيمة لما هو جاهز ومتداول وتُكرسه[47]. وبذلك يبقى للبلاغة في التقليد الغربي معنيان كبيران: المعنى الحجاجي الإقناعي الذي يصب في التداولية الحديثة، والمعنى التعبيري الشعري الذي يصب في الأسلوبية. وهذه الثنائية تغري باسترجاع ثنائية البديع والبيان في نشأة البلاغة العربية.

المعنى الأول، ذو البعد التداولي، هذا المعنى متصل بنشأة البلاغة في الغرب، فقد ركز بارت في خلاصته المشهورة المركزة من تاريخ البلاغة الغربية على نشأتها في إطار الحجاج من أجل الأرض، حيث عمل كوراكس وتلاميذه على تعليم الناس تقنية الدفاع عن الأرض. وهذا التفسير الأحادي لظاهرة معقدة مقبول من الناحية الرمزية، أي من حيث التأكيد على الطبيعة الحجاجية للخطابة، وإلا فالخطابة كما صاغ أرسطو أدبياتها التي تراكمت إلى عصره جديرة بأن تفسر من ثلاث زوايا، وفق ما اقترحه روبول[48].

1 ـ الزاوية الحجاجية القضائية

2 ـ الزاوية الأدبية

3 ـ الزاوية الفلسفية

وهذا المنحى في التفسير تؤيده القراءات اللاحقة للبلاغة اليونانية، خاصة القراءة العربية حيث نجد الخطابة تدرج في الأرغانون عند الفلاسفة، ثم يصاغ جانبها الأدبي كبلاغة معممة عند الأدباء، على نحو ما رأينا في أسرار البلاغة. بل كان البعد القضائي الذي اعتبر أصلاً لنشأتها أول مُتخلىًّ عنه.

2 ـ والمعنى الثاني مرتبط بعملية الاختزال التي تعرضت لها البلاغة عبر تاريخ طويل، وسنعرض لها.

***

كيف صيغت التعاريف الحديثة للبلاغة؟

حاول بلاغيون غربيون، بعد الحرب العالمية الثانية ـ ظهرت أعمالهم خلال الستينات في الغالب ـ استثمار الأفق العام الذي تفتحه الريطورية القديمة في الواجهتين: في اتجاه الحجاج والجدل، وفي اتجاه الأسلوب والشعر، وذلك قبل أن تظهر صياغات عامة ذات طابع سميائي في اتجاه الخطاب عامة.

عادت البلاغة القديمة محاورا جديا في بناء بلاغة جديدة وحديثة لعدة أسباب. يرى أوليفي روبول أن من المفارقات كون البلاغة القديمة استدعيت لعلاج قضايا حديثة لا تعود إلى مجال الخطاب واللغة (بالمعنى الخاص)، بل تعود إلى مجالات أخرى كعلم النفس والموسيقى والصورة، ومن هذه القناة عادت إلى مجال اللغة: "وعموما فإن البلاغة عادت إلى مجال اللغة عبر مباحث غير لسانية"[49]. و يُجمل هنريش بليت تلك الأسباب في ازدهار البحث التداولي (في اللغة والخطاب) ونظريات التواصل والنقد الأيديولوجي، والشعرية اللسانية. يقول، (بعد التذكير بتردي البلاغة وسوء سمعتها قبل نهضت علوم اللغة في العصر الحديث):

" ثم تغيرتْ هذه الوضعية (وضعية التردي) بشكل يكاد يكون مفاجئا في الستينات من هذا القرن. وكان باحثون ألمان قد حاولوا، قبل ذلك، إعادة الاعتبار إلى البلاغة: دُوكهورن Dock-horn (1944-1949) بتأسيسه لعلم جمال بلاغي قائم على التأثير، وكورتيوس (1956) بتبريره للتحليل التاريخي للمعاني المشتركة[50]، و لَوَسْبِيرك (1960-1967) باستقصائه المنهجي الواسع لمواد البلاغة الكلاسيكية. ونلاحظ حالياً كثرة مفرطة من الأعمال المرصودة للبلاغة تنظيراً وتأريخاً، في أوربا والولايات المتحدة في وقت واحد. إن سببَ هذه "النهضة" البلاغية يرجع، في مجال التنظير، إلى الأهمية المتزايدة للسانيات التداولية، ونظريات التواصل والسميائيات والنقد الأيديولوجي، وكذا الشعرية اللسانية في مجال وصف الخصائص الإقناعية للنصو وتقويمها. ونتيجة لهذه الأهمية يجب أن سنجل، أولاً، أن البلاغة قد صارت عِلماً، وأننا نهدفُ من جهة ثانية إلى إقامة نظرية بلاغية، وأن البلاغة من، جهة ثانية، ليست محصورة في البُعد الجمالي بشكل صارم، بل إنها لتنزع إلى أن تُصبح عِلماً واسعاً للمجتمع. إن روادَ هذه البلاغة الجديدة في فرنسا[51] هم رولان بارثْ وجِيرار جِينت وَ ب. كونتر و كبدي فاركا، ومجموعة Mu بلْييجْ و بيرلمان و تودوروف. لقد استطاع هؤلاء الباحثون وباحثون آخرون كثيرون في بلاد أخرى أن يجعلوا من البلاغة مبحثاً علمياً عصرياً"[52].

لم يعُد الرجوع للبلاغة القديمة يستتبع أية عبارة من عبارات القدح بالمحافظة والرجعية، بل صار دليلا على الإحاطة بالإشكالية الخطابية والإمساك بخيوطها. لقد صار استحضار البلاغة القديمة حجة على نجاعة المنهج وملاءمته لموضوعه. ومن هنا وجدنا الحديث (بل الاعتزاز) بوراثة البلاغة القديمة وتمثيلها. فتودوروف (وديكرو بالتضامن) يرى أن الأسلوبية هي الوريث الشرعي للبلاغة[53]، ويصرح بيرلمان ومن معه بأن الوجهة الصحيحة لحجاج فعال وناجع في البيئة الديمقراطية الحديثة هي وجهة بلاغة أرسطو[54]. كما يصرح رائد علم النص، فان ديك، أن علم النص هو الممثل العصري للبلاغة[55]. وتجاوزَ جان كوهن فتوى المشروعية فوضع يده على الميراث البلاغي مباشرة فسجله وحفظه تحت اسم اللغة الشعرية في كتابه: بنية اللغة الشعرية.

من كل هذا التنوع في الاهتمام بالبلاغة وإعادة صياغة نظرية حديث في حوار مع التراث البلاغي الضخم تكشفت توجهات ثلاث:

1 ـ التوجه الحجاجي/ المنطقي (أو الفلسفي)

2 - التوجه الأسلوبي/ الأدبي (إو الشعري)

3 – التوجه الخِطابي/ السميائي (أو النصي)

في حين يبدو التوجهان 1 ، 2 نزوعين متعارضين: أحدهما يجر البلاغة نحو المنطق عبر الجدل، والثاني يجرها نحو الشعر عبر الأدب، فإن الاتجاه الثالث حاول تجاوز هذه الازدواجية طامحا إلى تغطية المجال التواصلي بشكل عام، معتمدا الخطاب.

من الكتب المعالم في مسار هذا التحول،الكتب التي حددت ملامح الاتجاهات الثلاثة، (الكتب التي نطمئن إلى أن القارئ سيجد فيها ما تعجز هذه المقالة عن الإحاطة به):

1 ـ كتاب مشترك بين بيرلمان وأولبريشت تيليكا بعنوان:

مصنف في الحجاج، البلاغة الجديدة

TRAITE DE L’ARGUMENTATION, LA NOUVELLE RHETORIQUE

2 ـ وكتاب مشترك بين أفراد مجموعة مي بِ لييج (GROUPE Mu DE LIEGE) بعنوان:
البلاغة العامة: LA NOUVELLE RHETORIQUE[56]

3 البلاغة والأسلوبية Rhétorique et stylistique لهانريش بليت. Henreih Plett

1 – التوجه الحجاجي المنطقي:

البلاغة حجاج والحجاج بلاغة[57]

العنوان المزدوج لكتاب بيرلمان وأولبريشت تليكا (مصنف في الحجاج، البلاغة الجديدة) جدير بالتأمل، فهو إذ يسعى إلى ضبط العلاقة بين الحجاج والبلاغة؛ يعطي إمكانية قراءتين:

أ ـ الحجاج هو البلاغة الجديدة.

ب ـ الحجاج من البلاغة الجديدة[58].

وإذا وضعنا الكتاب في السياق المعرفي العام حيث مُدت البلاغة نحو الجدل في سياق قراءة خاصة تساهم فيها أعمال أخرى للمؤلفين (منها كتاب امبراطورية البلاغة لبيرلمان) جاز أن نرجح الاعتبار الأول: الحجاج هو البلاغة. إذا ما ليس حجاجا بالمعنى الذي يرتضيه المؤلفان سينتميإلى أحد القطبين: السفسطة أو البرهان.

وحين توضع البلاغة في سياق منازعة المنطق الصوري في استنباط المعرفة تصبح مبحثا فلسفيا. يقول روبول: "أن تكون البلاغة بيداغوجيا هذا أمر قد لا يكون محل نزاع، ولكن ألا يمكن أن نذهب بعيدا فنجعلها أداة من أدوات االفلسفة؟ هل يمكن أن تعتمد الفلسفة على البلاغة؟ في الاستكشاف والبرهنة؟"[59].

يعترض البعض بكون الفلسفة تهتم بالحقيقة في حين تقوم البلاغة على قيم من قبيل: العادل والنافع والجميل. هذا أيضا لا يحرج نظرية الحجاج البلاغي لأنها ترى أن الفلسفة إنما وقعت في الحرج بسبب عدم قدرتها على الخوض بكفاءة في هذه المجالات نتيجة المأزق الذي وضعتها في الفلسفة الوضعية والعقلانية فيه. والحال أنها مضطرة للخوض في مجال القيم بمجرد ما تعطي معنى للوجود الإنساني: "وهل هناك مناهج عقلانية مقبولة تسمح باختيار الخير من الشر، والعدل من الظلم، والديمقراطية من الدكتاتورية؟…"[60].

وبقدر ما حاول بيرلمان إثبات عجز المنطق الصوري والفلسفة الوضعية في المجال القيمي بقدر ما حرص على إبعاد الأحكام الانفعالية والاعتباطية عن البلاغة. "فالبلاغة صالحة عنده لأن تكون منطقا لأحكام القيمة، أي للفلسفة، على شرط التخلي عن التعارض التبسيطي بين منطق مختزل في البرهنة الشكلية والبلاغة مختزلةً في إجراءات إقناعية غير عقلية. وباختصار فالفلسفة يمكن أن تظل عقلية حتى وهي تؤسس أحكامها القيمية على البلاغة"[61].

[يعرض بيرلمان في مقدمة إمبراطورية البلاغة "قصة" لقائه بالبلاغة، ذلك العلم العتيق الذي عالج مسألة القيم بكفاءة تثير الإعجاب. لقد كان منطلقه هو البحث عن "منطق للقيم" قال: "إن العمل الطويلل النفس الذي خضت فيه مع أولبريشت تيتيكا هو الذي قادنا إلى نتائج غير متوقعة إطلاقا. نتائج كانت بالنسبة إلينا كشفا لأمر كان محجوبا عنا ألا وهو أنه لا يوجد منطق للقيم وأن ما نبحث عنه كان قد عولج من طرف مبحث ضارب في القدم، منسي حاليا ومستهجن، هو البلاغة، أي فن الإقناع والاقتناع[62].."

ليس مما يناسب سياق هذا الحديث مناقشة هذه النظرية في جوهرها ، فهذا من اختصاص جيرانها من المناطقة والتداوليين الذين اهتموا بها طوال العقود الخمسة التي مضت على ظهورها[63]. الذي يهمني هو امتدادها التأويلي في توجيه التراث البلاغي لصياغة نظرية ذات عمق حواري فلسفي، نظرية قرئت على نطاق واسع وأثرت في المسار البلاغي أعمق الأثر، وأبسط دليل على ذلك رواج كتاب بيرلمان وأوليرشت ـ تيتيكا الذي ترجمته طبعاته المتعددة برغم حجمه الكبير[64].

وتمثل هذه الصياغة أحد تخوم البلاغة التي تتعرض باستمرار للاقتحام من طرف المناطقة، غير أن دخول المناطقة إلى هذه الأرض لم يكن مقرونا على الدوام بالنظر في زواياها الملتبسة حيث يختلط العقل والعرف والجمهور بالخيال والبدعة والفرد، على الترتيب. ولذلك كثيرا ما تستهويهم إقامة المتارس والحدود، وصبغ الأخضر بالأحمر! فتتحول الأدوات الشعرية المرصودة للبس وإطلاق الذات من عقالها إلى أدوات لتقييد النظر وتجفيف الفكر. ويتحول المنطقي إلى منفذ من الضلال. يلقي القبض على البلاغي من سكان ضفة الشعر ويقطر في عينيه عصير أوراق "الفهم الصحيح" التي مضغها فأحسن مضغها، وبعد أن يطوق عنقه بذراع الحق يجرعه غصص الصواب، علَّ الله يفتح بصيرته فلا يفعل. وهذا انطباعي عن حوار سنوات مع بعض الزملاء الأعزاء من المناطقة.

2 ـ الاتجاه الأسلوبي: البلاغة هي الأسلوب

القطب الآخر للبلاغة الحديثة هو قطب بلاغة العبارة وقد كرس هذا الاتجاه نفسه كبلاغة عامة أو معممة عبر تاريخ طويل امتد من القرون الوسطى إلى العصر الحديث. لق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين  ::  اللغة والنحو والبلاغة والأدب :: البلاغة والنقد-
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

قم بحفض و مشاطرة الرابط منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين على موقع حفض الصفحات
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم


البَلاَغة العامّة والبلاغات المُعمَّمة 561574572

فانضموا إليها

Computer Hope
انضم للمعجبين بالمنتدى منذ 28/11/2012
سحابة الكلمات الدلالية
البخاري اللسانيات اللغة الحذف كتاب قواعد مبادئ الخطاب الخيام النص محمد المعاصر ننجز موقاي النحو اسماعيل التداولية مجلة العربية مدخل النقد على الأشياء العربي ظاهرة بلال


حقوق النشر محفوظة لمنتديات تخاطب
المشاركون في منتديات تخاطب وحدهم مسؤولون عن منشوراتهم ولا تتحمل الإدارة ولا المشرفون أي مسؤولية قانونية أوأخلاقية عما ينشر فيها

Powered by phpBB© 2010

©phpBB | Ahlamontada.com | منتدى مجاني للدعم و المساعدة | التبليغ عن محتوى مخالف | آخر المواضيع