د. محمد عمارة
لقد ظلت اللغة العربية لغة العلم العالمي لأكثر من عشرة قرون.. إليها ترجمت المواريث الثقافية والحضارية السابقة على ظهور الإسلام.. وبها تمت المراجعة والتصحيح لهذه المواريث.. وبها كتبت الإبداعات العلمية التي أضافت إلى هذه المواريث وطورتها.. ومنها أخذت أوروبا ـ إبان نهضتها الحديثة ـ التراث اليوناني.. والمنهج التجريبي، والإضافات العربية الإسلامية في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها..
وعندما استأنفت أمتنا يقظتها ونهضتها الحديثة في القرن التاسع عشر ـ عادت العربية لتكون اللغة التي وسعت علوم النهضة الأوروبية، فكان التدريس بها لجميع تلك العلوم..
لكن الكارثة التي تعيشها لغة القرآن الكريم اليوم، والتي جعلت التدريس للعلوم الطبيعية وتقنياتها وأحيانًا العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ يتم باللغات الأجنبية.. والتي جعلت العربية غريبة في بلادها..
هذه الكارثة قد بدأت مخططًا استعماريًا مع بدأ الغزوة الاستعمارية الحديثة لوطن العروبة وعالم الإسلام.. تلك الغزوة التي لم تقنع باحتلال الأرض ونهب الثروة، وإنما أرادت احتلال العقل أيضًا، ليستلب الاحتلال للأرض والنهب للثروات!..
ويكفي للبرهنة على هذه الحقيقة ـ حقيقة دور تغريب اللغة في الغزو والاستعمار ـ أن نقرأ شهادات واعترافات ومخططات القناصل الفرنسيين في القرن التاسع عشر، والتي تحدثوا فيها عن مدارس الإرساليات التبشيرية التي أقامتها فرنسا العلمانية! في المشرق العربي..
هذه الشهادات التي اعتبرت أن مدارس البعثة اليسوعية الفرنسية ـ في لبنان ـ إنما تصنع "فتحًا بواسطة اللغة.. وسيطرة على الشعب وتخلق جيشًا مارونيًا يتفانى في خدمة فرنسا!".. وبعبارة "بول موفلان" ـ أحد كبار اليسوعيين
ـ : "فإن تعليم الناس لغتنا ( الفرنسية) لا يعني مجرد أن تألف ألسنتهم وآذانهم الصوت الفرنسي، بل إنه يعني فتح عقولهم وقلوبهم على الأفكار وعلى العواطف الفرنسية، حتى نجعل منهم فرنسيين من زاوية ما.. إن هذه السياسة تؤدي إلى فتح بلد بواسطة اللغة"!..
وفي مذكرة كتبها القنصل "دي لتينو" ـ في 22 ديسمبر سنة 1847م ـ كانت الصراحة العارية، التي جعلت هذا القنصل الفرنسي يقول: إن الهدف من "فرنسة التعليم" هو "جعل البربرية العربية ؟!! تتنحى لا إراديًا أمام الحضارة المسيحية الفرنسية"!..
هكذا بدأ تغريب اللغة والثقافة والتعليم في بلادنا.. وهكذا خرّجت هذه المدارس أول من نادى بإحلال العامية محل الفصحى ـ أمين شميل (1828 ـ 1897م) ـ وأول من نادى بإحلال الدارونية محل نظرية وعقيدة الخلق الإلهي للكون ـ شبلي شميل (1853 ـ 1917م) ـ وأول من نادى بإحلال العلمانية محل الشريعة الإسلامية ـ فرح انطون (1874 ـ 1922م) ـ .. ومن خريجي هذه المدارس تبلور تيار التغريب والعلمنة الذي يعارض خيار الإسلام في التقدم والنهوض..
لقد أحيت إسرائيل لغة ميتة، لتصبح لغة علمية حية تدرس بها جميع العلوم وكذلك تصنع الصين واليابان مع أصعب لغات الدنيا.. لكننا للأسف عدنا القهقرى فأصبحنا في كثير من جامعاتنا ندرس العلوم الطبيعية بغير لغة القرآن الكريم! مع أن تجارب تدريسها بالعربية أعطت نتائج كبيرة كما هو معلوم ؛ فإلى متى هذا الهوان؟!