أدلجة سوسور
قراءتا بلومفيلد و تشومسكي لكتاب محاضرات في اللسانيات العامة
جون إي. جوزيف
John E. Joseph
ترجمة: باقر جاسم محمد
تمهيد
في هذه الدراسة القيمة، يسعى جون إي. جوزيف إلى تأسيس مرجعية فكرية لمفهوم معرفي جديد هو ’إساءة القراءة ‘misreading)) الذي قد يكون من معانية إساءة التأويل و الفهم. و المؤلف يطبق هذا المفهوم على أثنين من كبار علماء اللسانيات في القرن العشرين هما بلومفيلد و تشومسكي في قراءتيهما، أو الأصح قراءاتهما، لمحاضرات سوسور الشهيرة في اللسانيات العامة. و قد تابع المؤلف التحولات في فهم كل منهما لنصوص المحاضرات، و ربط بين تلك التحولات و أسبابها الذاتية الكامنة في التطور العلمي في النظريتين الخاصتين بكل من بلومفيلد و تشومسكي. و هو في كل ذلك لم يكن مسوقا ً باعتبارات ذاتية أو لغرض النيل من مكانتي بلومفيلد و تشومسكي العلميتين ، كما إنه لم يسع َ إلى نفي صفة العلم عن اللسانيات نفسها؛ و إنما أراد القول بأن إساءة القراءة ظاهرة متفشية في كل فروع الدراسة العلمية بما في ذلك اللسانيات . و إساءة القراءة ، حسبما يرى المؤلف، وظيفة من وظائف الحقول المعرفية التي تكون ذات طبيعة’ نظرية أكثر من كونها تطبيقية، و مجردة أكثر من كونها عملية، و مؤسسة على تقاليد الخطاب أكثر من تقاليد الفعل‘.
و يذهب المؤلف إلى أن سياق التطور الفكري لكل من بلومفيلد و تشومسكي قد تحكم إلى حد بعيد، سلبا ً أو إيجابا ً ، في قراءتيهما لتلك النصوص. وهو لا يقدم هذا الرأي دونما سند علمي، و إنما يدعمه بنصوص مأخوذة من مؤلفات بلومفيلد و تشومسكي. فيعرض الشواهد النصية أولا ً، و يحللها ثانيا ً، و يبني عليها استنتاجاته ثالثا ً. و حري بنا أن ننبه إلى أن المؤلف لا يستعمل مصطلح الأيديولوجيا بمعناه العام المرتبط بالأحزاب و السياسة و السلطة ، و إنما بمعنى ضيق يناسب موضوع دراسته، ألا و هو الانحياز إلى نظرية أو فهم معين للغة.
و نظرا ً لما أثارته هذه الدراسة لدينا من ملاحظات مهمة، و لحاجة بعض المفاهيم إلى شيء من التوضيح و الشرح ، فقد رأينا أن نضيف الملاحظات و التوضيحات الخاصة بنا إلى آخر الدراسة؛ و أن نشير إليها بالأرقام المحصورة بين معقوفتين[ ] لتمييزها عن ملاحظات المؤلف المحصورة بين هلالين( ) . المترجم
1. المقدمة: إساءة القراءة و الأيديولوجيا
إن تاريخ اللسانيات هو إلى حد ٍ كبير ٍ تاريخ إساءات ٍ في القراءة، و تاريخ فشل ٍ في التواصل بين المؤلفين و القراء، و زاد من حدة ذلك الوهم ُ القائل ُ بأن التواصل قد تحقق بنجاح. فمنذ قراءات محاورة أفلاطون ( كراتيلوس ) بوصفها دفاعا ً عن النزعة الطبيعية في اللسانيات. تلك القراءات التي قام بها باحثون مختلفون منذ عصر النهضة و ما تلاه، و حتى تفسيرات تشومسكي (1966) لأولئك المفكرين من عصر النهضة و التنوير بوصفهم يمثلون إرهاصات ٍ لوجهات نظره الخاصـة في النزعة العقلانية rationalism و إحياء الثقافة الوطنية nativism،[1] وصولا ًً إلى الفهم الخاص لمفهومي تشومسكي في الكفاية (competence) و الأداء(performance) اللغويين لدى بعض المتخصصين باللسانيات التطبيقية في الستينيات و السبعينيات( أنظر نيوماير1989)،فإن عددا ً لا يحصى من صور فشل التواصل قد حددت من دراسة مادتنا الأساسية في التواصل.
و سواء أكانت إساءات القراءة هذه شبه َ مقصودة ٍ أم أصيلة ً في كينونتها العرضية، فإنها نادرا ً ما تكون محايدة. فالنصوص لا تعالجها أدمغة فارغة، بل عقول قد تمّ ملؤها بمجموعة من الأفكار، و المقولات الفكرية المسبقة، و النماذج العليا، و ربما بما هو أكثر أهمية، أعني بذلك جدولا ً بالأولويات ( أو الأجندات ). وبكلمات أخرى فإن إساءات القراءة هي في العادة موجهة أيديولوجيا ً.
إن هذا الكلام ليس نقدا ً سلبيا ً موجها ً ضد حقل اللسانيات أو تاريخها. فإساءة القراءة كما عَُرّّفت في أعلاه هي حدث عارض لا يمكن تجنبه و بخاصة حين يكون المؤلف و القارئ منفصلين من حيث الجيل و من حيث الثقافة. لقد قبل معظم نقاد الأدب بالمقدمة المنطقية القائلة بأن النصوص لا تنطوي على معنى متأصل فيها، و لكنَّ المعنى يجري خلقه عند كل فعل قراءة، و بوساطة قارئ يأتي، أو تأتي، بعقله و تجربة حياته المتفردين ليفرض عبئهما على النص. و بالتأكيد فإنه ليس هناك من سبب ٍ يجعل من هذا الرأي أقل صدقا ً في نوع غير خيالي مثل اللسانيات بالمقارنة مع القصص؛ و في الواقع، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار جدول الأولويات و نزعة المساجلة و الجدل العنيف في الحقل اللساني، فإنه قد يكون أكثر صدقا ً.
وفقا ً لهذا الفهم، لا تـُـفسر إساءة القراءة على أنها خطأ. فمن الممكن تماما ً أن تكون متكاملة مع التغيير والتقدم. وهي على أية حال لا تقتصر على اللسانيات. إن إساءة القراءة وظيفة من وظائف فروع الدراسة العلمية تتناسب مع كون تلك الفروع نظرية ً أكثر من كونها تطبيقية، و مجردة ً أكثر من كونها عملية ً، ومؤسسة ً على تقاليد الخطاب أكثر من تقاليد الفعل. لذلك فإن اللاهوت نزاع إليها إلى حد بعيد، بينما تظل أعمال البناء و الإنشاء غير متأثرة بها نسبيا ً. و تقع الفيزياء و علم النفس و اللسانيات بين هذين الحدين.
لا تجعل إساءة القراءة حقلا ً علميا ً ما أقل علمية. فأعمال البناء و الإنشاء لا تعتبر أكثر أو أقل علمية من اللاهوت؛ كما أن صفة العلمية ليست معيارا ً مناسبا ً يمكن اعتماده في إظهار الفروق بين الفرعين. و إنما هما مختلفان على مقياس ذي بعدين هما التجريدي- العملي. و على هذا فإن الاقتراح بأن إساءات قراءة ٍ خطيرة ٍ في دلالاتها قد صاغت و شكلت تاريخ اللسانيات، وأن إساءات القراءة هذه قد تكون ذات حافز أيديولوجي، ليس سوى طريقة لإثارة النقاش حول علمية الحقل. و كما أكـّدنا في المقدمة ، فإن الأيديولوجيا، بطريقة أو بأخرى، ذات حضور متعدد الوجوه(omnipresent ) في اللسانيات، و كذلك في أغلب أنماط الفكر الأخرى. و التمييز الحاسم الذي يجب أن يعتمد هو بين اللسانيين الذين يقر ّون بمواقفهم الأيديولوجية، و مَن لا يفعلون ذلك. و كما هو الحال عند الفشل في الإدراك بأن إساءة القراءة تنتج وهما ً للتواصل الناجح، فإن الفشل في الإقرار بالأيديولوجيا يخلق وهما ً لحقل البحث الموضوعي و النقي. و في الحالتين ، ليست الأيديولوجيا و ليست إساءة القراءة هما من يقوم بالتسوية بشأن تكامل العلم، و إنما هو الوهم، و إنه لأمر صحي أن نبدده ( 1 ).
إن حضور إساءة القراءة المتعدد الوجوه و عدم إمكان تجنبها لا يؤديان ضرورة ً إلى أنها ستحصل بقياس ٍ واحد ٍ دائما ً وفي كل موضع من النصوص. فبعض القرّاء أكثر نزوعا ً لها من سواهم، وأكثرهم جدارة ً بالملاحظة هم أولئك الذين لديهم جداول أولويات ٍ خاصة، أمثال تشومسكي(1966). و يستحضر بعض المؤلفين إساءة القراءة أكثر من سواهم، و فوق هؤلاء جميعا ً هناك المؤلفون الذين لم يكتبوا الكتب التي غالبا ً ما عرفوا بها، و الأسوأ، أنهم ماتوا قبل أن يكتبها الآخرون. هكذا كانت الحال مع سقراط و يسوع المسيح و مونجين- فرديناند دي سوسور(1857- 1913). و لنأخذ حالة يسوع و سوسور، فلأن أفكارهما قد دونتها أياد ٍ كثيرة، فهي تطرح على نحو خاص مشكلات ٍ جسيمة ً أمام المفسرين: فالافتقار إلى نص ٍ وحيد ٍ يُحتج به قد مهد السبيل أمام توسع غير مألوف في التفسير.[2]
و في حالة سوسور ، قد يغور هذا الانفتاح أعمق مستقبلا ً، كونه يمثل جزءا ً مميزا ً لفكره. وهذه كانت فكرة جاكوبسنJakobson ( [1969]:7441971) : ’ و لكن ربما تكمن أصالة و عظمة هذا الجوال الرائد الخالد تماما ً في تعارضه مع خيلاء أي فكر نهائي أو قطعي ‘ ، لقد أراد جاكوبسن أن يصف هذا الرائد الخالد في أثناء حياته، و بينما تبدو هذه الصورة الشخصية دقيقة ( أنظر للمزيد كتاب جوزيف a1989) فإنها تنطبق على نحو أفضل على سوسور في العقود التي أعقبت وفاته و طبع كتابه محاضرات في اللسانيات العامة{ و سنرمز لها لاحقا بالمحاضرات}. و من المؤكد أنه لا يوجد عالم لسانيات ٍ في القرن العشرين من قد عانى من ذلك العدد الكبير من القراءات الموجهة أيديولوجيا ً مثلما عانى سوسور- وهي نتيجة مرتبطة بالطبيعة الثورية لفكره، و بالطريقة التي حوفظ بها عليه، و بحقيقة أنه لم يكن حاضرا ً المشهد بصفته قوة ذات نفوذ مؤثر في السياسات الأكاديمية ليحتج على أكثر إساءات القراءة الأيديولوجية رداءة ً.
و في هذه الدراسة سأركز على الكيفية التي تمت بها قراءة سوسور من أثنين من أكثر علماء اللسانيات تأثيرا ً في هذا القرن و هما ليونارد بلومفيلد(1887 -1949) و نعوم تشومسكي ( ولد في العام 1928). و في كلتا الحالتين، و على وجه الخصوص في حالة تشومسكي، سنرى كيف تطورت قراءاتهما بالترادف مع موقفيهما النظريين- و هذا يعني، و أعتقد أن من الإنصاف أن نقول، بالترادف مع أيديولوجيتهما فيما يخص اللغة. و لن تكون النقطة موضع البحث الكشف عن خطل قراءة ٍ بعينها. و إنما هي أن نظهر بطريقة ٍ بناءة ٍ الاستعمالات التي وضع فيها فكر سوسور في سياق تطور علم اللسانيات الحديث، و الأخذ بعين الاعتبار الأيديولوجيات التي حرضت على تلك الاستعمالات.
2. بلومفيلد و سوسور
ظهرت عبارتان مختلفتان تماما ً بشأن علاقة بلومفيلد بسوسور في مطبوع في سنة 1987، و هي السنة المئوية لميلاد بلومفيلد. إحداهما، و هي لروي هاريس Roy Harris، تلاحظ أنه بينما ُ يقرٌّ بلومفيلد، و في سياق عرضه للمحاضرات في العام1923 بمكانة سوسور بوصفه مؤسس اللسانيات العامة الحديثة ُ ( هاريس b1987: xii-xiii) ، فإنه في كتابه اللغة الصادر عام1933 لا يُعطى سوسور سوى ذكر ٍ عابر ٍ و لمرة ٍ واحدة ٍ في فصل ٍ تمهيدي ٍ عن تاريخ اللسانيات (هاريس: نفسه).
ليس صعباً أن نفسر َ السبب في التفاوت بين مديح بلومفيلد لسوسور في العام 1923 والاستبعاد الأخير لـه بعد عشر سنوات. ذلك أن بلومفيلد عام1923 هو بلومفيلد في مرحلة ما قبل السلوكية؛ و في مرحلته ما قبل السلوكية، كان بلومفيلد من أتباع عالم النفس فونت Wundt. و لذلك فإن عرض عام1923 يعطينا قراءة للمحاضرات من وجهة نظر باحث أمريكي ٍ من أتباع فونت كان أيضا ًً مختصا ً بفقه اللغات الجرمانية التقليدية ( و هو كذلك دارس للغات ذات الأصول الأمريكية ). و لكن بعد عشر سنوات ٍ نـَبـَذ َ بلومفيلد فونت لصالح واتسونWatson . و قد اختلفت قراءته لسوسور تبعا ً لذلك. فهو الآن يقرأ سوسور ليس بوصفه المؤسس الرائد للسانيات الحديثة، و لكن بوصفه مؤمنا ً بتأبيد نظرية المفاهيم النفسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر و المتفشية في مناهج دراسة اللغة. و قراءة بلومفيلد المتأخرة تلك كانت لتقرير طبيعة العلاقة بين كل من النسختين الأمريكية و الأوربية للبنيوية لربع القرن القادم.( 2 )
( هاريس1987b:xiii )
و العبارة الأخرى هي لبلومفيلد نفسه، وردت في رسالة ٍ موجهة ٍ إلى جَي. ميلتون كوانJ.Milton Cowan يعود ُ تأريخـُها إلى 15 كانون الثاني( يناير) من العام 1945. وقد طبعها كوان على أنها نموذج للرسائل الجدية لبلومفيلد في مقالة ٍ مكرسة ٍ لمراسلاته الهازلة ( كوان 1987 ). إذ بعد بعض التصحيح في كتاب ٍ للنحو الروسي يعود لزمن الحرب كتبه كوان تحت أشرافه، تفجع بلومفيلد بالقول:
إن ّ مواقف الشجب و الاتهام تأتي غليظة ً و سريعة ً: و أتوقع أن يُرفض كليا ً تصديق ُ ما أقول في نهاية ِ المطاف. فهناك كلام يدور حول أن دي سوسور لم يذكر في نص كتابي اللغة ( الذي يعكس محاضراته على كل صفحة). و كذلك أنه لم يتناول المعنى بالدراسة- ويبدو أنه ليس هناك من فصل ٍ مكرس ٍ لهذا الموضوع. و أنا لم أكن مقصودا ً [ كذا في نص كوان و الصحيح لم أقصد] أن أقدم اعترافا ًً بزيف ٍ من هذا النوع أو بالخطابات التي تحتويه أو التي تـُبنى عليه.
( كوان 1987:29)
و على الرغم من أن المرء يميل فطريا ً إلى أخذ كلمة بلومفيلد على أنها حاسمة و نهائية، فإنه يجب الإشارة إلى أن ما صرح به هاريس فقط هو ما يتطابق مع التواريخ المعروفة للسانيات في القرن العشرين؛( 3 ) و بأن قراءة بلومفيلد السطحية و المتعجلة في العام1914 و العام 1933 تبدو مـُثبتة ً لوجهة نظر هاريس و ليس وجهة نظر بلومفيلد؛ و بأن ردود أفعال المؤلفين تجاه عروض الكتب السلبية التي تظهر في المجلات يمكن أن تكون في الغالب أقل عقلانية. و حتى عند القبول بالرأي القائل أن بلومفيلد قد تورط ببعض المبالغة المضادة( كما يذهب إلى ذلك كوورنر (1989: 441)، فإن قارئ هذه الأيام في حيرة ٍ من أمره في تتبع تأثير سوسور الواسع الانتشار في بلومفيلد (1933).{ أي بلومفيلد في كتابه اللغة الصادر في العام1933. المترجم} و مع ذلك فإنه بالكاد يمكن أن يُطرح َ جانبا ً قول موجود فعليا ً لبلومفيلد.
و هذه المفارقة الظاهرية تنجم جزئياً عن وهم ما: فنحن نتخيل بأن ما اعتقده بلومفيلد انعكاساً لفكر سوسور يتطابق مع مفهومنا المتأخر في القرن العشرين حول سوسور. و قد يصل الأمر أن نقع في مصيدة التخيل بأن مفهوم بلومفيلد أو مفهومنا لسوسور يتطابق مع سوسور التاريخي، أو أن تركيبا ً كلاميا ً من مثل ’ المفهوم المتأخر في القرن العشرين لسوسور ‘ هو شيء ما يتجاوز كونه تجريدا ً غامضا ً. وهذه منطقة مألوفة: فنحن نغاير بين الاثنين لإظهار الفروق بين سوسور بوصفه لغة ً langue و سوسور بوصفه كلاما ًparole . و لكن بما أننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة اللغة إلا من خلال دليل ٍ مأخوذ ٍ من الكلام ، فإن أفضل أدلتنا لفهم المفاهيم حول سوسور سيأتي من القراءات الفردية الحقيقية. و سأبدأ، تبعا ً لذلك، بتقديم فحص ٍ محكم ٍلكتابات بلومفيلد الأكثر تفصيلا ً حول المحاضرات في الأعوام (1923) و (1926) و (1927).
. بلومفيلد(1923): الدفاع عن النفس
في عرضه للمحاضرات في العام1923 ( للمزيد من التفاصيل أنظر كوورنر 1989)، يقدم بلومفيلد عدداً من العبارات التقريرية الكاشفة. فالفقرات الافتتاحية تمنح اعترافاً بأهمية سوسور، رغم أنه اعتراف لا يكاد يكون أقوى من العبارات الأكاديمية شديدة التنميق التي تقال عادة ً في تقريض زميل ذي منزلة رفيعة عند وفاته.
إنه لأمر سار أن نرى طبعة ثانية من عمل سوسور المنشور بعد وفاة مؤلفه حول اللغة؛ إن سعة شعبية الكتاب تدل ليس على الاهتمام باللغة فحسب، و لكن أيضا على إرادة الجمهور العلمي لمواجهة النظرية اللسانية بجرأة و عزم. ...
... و في إلقائه المحاضرات حول ’ اللسانيات العامة ‘ كان يقف لوحده على نحو وثيق جدا، ذلك أن ّ ، و كم يبدو الأمر غريبا ً، القرن التاسع عشر الذي درس بتوسع تاريخ عائلة لغوية واحدة أبدى اهتماما ً قليلا ً أو حتى لم يبدِ أي اهتمام ٍ في الجوانب العامة للكلام الإنساني.
( هوكيت1970: 106)
و من هنا إلى آخر الجملة في العرض، حين يصرح بأن سوسور ’ قد أعطانا الأساس النظري لعلم للكلام البشري ‘ ( نفسه:106) فإن كل عبارة تسمح عمليا ً بقراءة ٍ غامضةٍ. فأين، على سبيل المثال، يضع بلومفيلد مكانة سوسور؟ بصراحة ليس في أية جدة ٍ أو ابتكار ٍ- ناهيك عن الثورة- في المنهج؛ و الأكثر من ذلك:
إن قيمة المحاضرات تكمن في العرض الواضح و شديد الدقة للمبادئ الأساسية. فأكثر ما قاله المؤلف قد كان شائعا ً و جرى التعبير عن أجزاء منه هنا و هناك. أما التنظيم فهو خاص به.
(نفسه:106)
و يصف بعد ذلك بعض هذه الأفكار التي غدت معروفة ً و القائلةٍ بأن المحاضرات منسقة فحسب: ’ فمن المعروف أن التغيير التاريخي في اللغة يجري بطريقة آلية(mechanical ) مثيرة للعجب، و مستقلا ً عن أية حاجات ٍ للمتكلمين أو رغباتهم أو مخاوفهم‘ ( نفسه).
قد يتفق سوسور مع الرأي المتعاطف، و لكنه قد يوسعه أكثر ليشملَ استقلال التأثيرات الممكنة و الموجودة بالقوة على تركيب اللغة. وهو قد يصدّ عن المصطلح ’ التغيير التاريخي ‘ و ربما مصطلح ’ آلي ‘ الذي يختلف عن مصطلح ذاتي الفعل(automatic ) لوجود استعارة ضمنية. نحن نعرف بأن قيمة المصطلح آلي، mechanical ، في عمل بلومفيلد تتحدد بوساطة المقابلة بين الآلي- العقلي (mechanistic-mentalistic )، و لا نستطيع الافتراض بأن مكانة بلومفيلد تتطابق في حقائق الموقف القاسية التي لا مفر منها مع مكانة سوسور. أما الفكرة اللاحقة ’ الشائعة ‘ فهي أنه:
خارج حقل النحو التاريخي، قد عملت اللسانيات فقط بطريقة المحاولة المتهورة و اليائسة لإعطاء تفسير نفسي لحقائق اللغة، و بطريقة الصوتيات العامةphonetics {بإعطاء} قوائم لا نهاية و لا هدف لها لمختلف طرق تلفظ الكلام.
( نفسه:106-7 )
و على الرغم من أن بلومفيلد قد يكرر غالبا صور النقد هذه عبر السنين، فإنها في حقيقة الأمر تنطبق إلى حد بعيد على بلومفيلد(1914). و في هذا الموضع ، ربما يكمن مفتاح ما لطبيعة هذا العرض الغامضة: إن بلومفيلد لا يستطيع أن يـوجه تحية للخطوات النظرية المتقدمة للمحاضرات بدون الإقرار ضمنا ً بجوانب الضعف في عمله الخاص الكبير. و تبدو الجملة اللاحقة ، التي تحتوي على أكثر ملاحظات بلومفيلد نيلا ً من سوسور ، مؤيدة لهذا الاحتمال:
’ و الآن، يبدو أن دي سوسور لم يمتلك من علم النفس ما يتجاوز أكثر الأفكار العامة فجاجة، و ما أنجزه في الصوتيات العامة هو تجريد من الفرنسية و الألمانية السويسرية الذي لنْ يصمد حتى بوجه اختبار طلب التقديم لدراسة الإنجليزية ‘ ( نفسه:107 ). و بعبارة أخرى لم يكن سوسور بوضعية تسمح لـه بنقد بلومفيلد(1914){ توفي سوسور عام 1913 } حين لم يكن بلومفيلد مستعداً للتسليم بنقاط الضعف فيها. و بعد ذلك و بخبرة مميزة يحول بلومفيلد نقدا ً لاذعا ً إلى إطراءٍ ظاهري: ’ و هكذا هو يمثل، في شخصيته الخاصة و ربما دونما قصد ، ما برهن عليه إراديا ً و بكل ما هو واجب الأداء: إن علم النفس و الصوتيات العامة ليس لها من أهميةٍ مطلقا ً و هي، من حيث المبدأ، لا علاقة لها بدراسة اللغة‘ (نفسه)
و هكذا ينقذ بلومفيلد عمله الشخصي[ اللغة ] من مبدأين لسوسور يبدو أنهما يمكن أن يقللا من قيمته، وذلك بوساطة انحراف ذي شقين: فهو يجعل من رفض المحاضرات لعلم النفس و الصوتيات العامة تافها ً بالزعم أنهما مبدأين أساسيين شائعين- و لذلك فهما معروفان من بلومفيلد نفسه- ثم بجعل الأمر واضحا ً في أن سوسور لن يتمكن من النجاح في أي حكم ذي قيمة في هذه المجالات على أية حال. و المعنى الضمني هو أن رفض سوسور لعلم النفس و الصوتيات قد يكون ناجما ً عن عجزه المطلق في هذه المجالات. و هنا يبرز بلومفيلد متفوقا ً على سوسور على أي معيار يمكن تصوره.( 4 )
و الفقرتان اللاحقتان اللتان تعطيان بعض تفاصيل المحاضرات هما أقل حرفية ً و تلاعبا ً، فإن المرء ليذعر لكثرة عدد الكلمات ذات الطابع الشخصي المتفرد المنثورة على الطريق التي لا تعود لسوسور، و لكن بشكل بارز لبلومفيلد:
ينبغي النظر إلى لغة الجماعة على أنها نظام من العلامات( signals ). و كل علامة مؤلفة من وحدة أو أكثر؛ و هذه الوحدات هي ’ أصوات ‘ اللغة. و لا يقتصر الأمر على أن لكل علامة معنى محدد فحسب... و لكن ربط هذه العلامات يتواصل بوساطة قواعد محددة و هو نفسه يضيف عناصر محددة للمعنى. ... و هذا كله نظام معقد و اعتباطي للعادة الاجتماعية مفروض على الفرد، و هو ليس موضوعا ً للتفسير النفسي مباشرة...
( نفسه:107)
إن كلمة علامات( signals ) هي، بوضوح، ترجمة لكلمة signes { الفرنسية }؛ و لكن المصطلح الإنجليزي يوحي بفكرة دافع ما، مع ما يتضمنه ذلك من إيحاءات سلوكية. أما بالنسبة للمكون ’ وحدات ‘ units فإن المحاضرات تتكلم بطريقة غامضة فحسب عن مصطلح خطية اللغة linearite [3]. فإذا ’ كانت هذه الوحدات هي" أصوات " اللغة ‘ فإنه يجب أن يكون في ذهن بلومفيلد الدال signifiant فقط ، و ليس الدلالة signifiē. فقولـه بأن ’ لكل علامةٍ معنى محددا ً ‘ يـُبـْطِل ُ، بوساطة كلماته، ديناميكية العلامة السوسورية، و بالنسبة لهذا الكلام فإن القول بأن لكل معنى علامة محددة سيكون مساويا ً من حيث الصدق و الحسم. و إنه لأمر ذي مغزى أن بلومفيلد لم يقم بعلمية القلب هذه إذا ما أخذنا بالحسبان انحيازه ضد علم الدلالة؛ إذ على الرغم من احتمال كون هذا الانحياز ليس مطلقا ً( أنظر ماثيوز 1986)، فإن من المؤكد أن بلومفيلد متردد في الإقرار بوجود ٍ مستقل ٍ للمعنى. و في الجملة الأخيرة من الاقتباس، فإن كلمة عادة habit تعود بوضوح إلى بلومفيلد أكثر من سوسور.( 5 )
و قد يبدو النصف الثاني من العرض داعما ً للفرضية القائلة بأن النزعة السوسورية لدى بلومفيلد ربما قد تغيرت بطرق رئيسية عما يتصوره أغلبنا على أنه مكانة سوسور الراهنة. و سواء أكان لذلك التصور وجود موضوعي أم لا، فإن بلومفيلد وجد في المحاضرات نظاما ً لسانيا ً يعمل على ’العلامات‘، و رفضا ً أساسيا ً للمقولات النفسية. و يساعدنا الجزء الأول من العرض أن نفهم بطريقة فيها كثير من العمومية كيف يجب أن تكون قوة ُ أثر ِ المحاضرات على بلومفيلد: فالمعتقدات الأساسية لسوسور، إذا ما كانت صحيحة، لن يكون مقدرا لها أن تفشل في تدمير الأسس التحتية لدراسة بلومفيلد الرئيسية (1914). إن جدول أولويات بلومفيلد، و هو أمر طبيعي تماما، هو الدفاع عن عمله الخاص. و مثل أغلب عارضي الكتب الجيدين، فإنه يغطي نقده لسوسور بحجاب معقد من الاختلاف و التبني. و مع ذلك فإنه حتى العبارة الختامية ( ’ هنا قد رسم دي سوسور بالتفصيل أولا ً العالم الذي كان فيه النحو الهندو- أوربي التاريخي (الإنجاز العظيم للقرن الماضي) مجرد فرع منفرد من فروع المعرفة؛ لقد أعطانا الأساس النظري لعلم للكلام البشري ‘( نفسه: 108 ) تبهت بوصفها إطراء ً عندما نتذكر كم هي ضئيلة ُ القيمة ِ الأهمية ُ التي أضفاها بلومفيلد فعلا ً على ’ الأساس النظري ‘ المنفصل تماما ً عن التطبيقات العملية.
4. بلومفيلد(1926) و(1927) سوسور ذو النزعة السلوكية
إن الورقة المهمة الأولى التي تـُجسّد النظريات السلوكية ل أي. بي. فايس A.P.Wiess هي مقترح عام 1926 لإنشاء مفهوم ’ الطريقة الافتراضية ‘ postulational method التي تنقذ المناقشة لأنها تحدد مقولاتنا بجهاز مفاهيم مُعرّف ؛ و بالتخصيص، فهي تفصلنا عن الجدال النفسي (هوكيت128:1970-9). و هنا يُعترَف بسوسور و سابيرSapir لأنهما اتخذا ’ خطوات باتجاه تعيين وتحديد اللسانيات ‘ ( نفسه:129). ’ وهكذا ‘، يلاحظ بلومفيلد،’ بإن كلا ًمن الوصفين النفسي الفيزيائي لأحداث الكلام يخصان علوما ً أخرى غير علومنا‘( نفسه:129) . و كل هذه الأقوال المتعاطفة تـَكررَ التفوه بها لأول مرة في عرض المحاضرات، وهي متبوعة بالتقديم الأول للمخطط النفسي في قالب عام 1933: ’ لحافز معين هو (A) يستجيب الشخص بوساطة الكلام؛ و كلامه و هو(B) يحفز بدوره سامعيه للقيام باستجابات معينة هي (C). و بوساطة عادة اجتماعية يكتسبها كل فرد ٍ في الطفولة من الأكبر منه سنا ً، تترابط العناصر A-B-C بشكل وثيق (نفسه). و المصطلح ’ عادة اجتماعية ‘ يأتي مباشرة من عرض عام 1923 و بعد ذلك ، وفي العام 1926 ظهرت الأفكار التي ربطها بلومفيلد مبكرا ً بسوسور بشكل اعتراف ٍ بالفضل سريع ِ الزوال و غير مباشر فحسب.
و مجاراة لهاريس، لا يمكن أن نستنتج من هذا استبعادا ً لسوسور، لأن ورقة أخرى تعود للمرحلة نفسها( بلومفيلد 1927 ، مقدر لها أن تلقى قدرا ً من الإهمال مساويا ً لقدر التأثير الذي مارسته ورقة عام 1926 ) تتناول تعاليم سوسور بالتفصيل و بلغة إيجابية مع ذلك. و يوضح بلومفيلد(1927) بعض المسائل المحورية فيما يخص فهمه للمحاضرات و أثرها بالنسبة للبنيوية الأمريكية. و هي تبدأ بتصريح من كتاب فونت (1900) بوصفه أعظم عمل في لسانيات الربع الأول للقرن( هوكيت 1970: 173)؛ و القائمة الموجودة في أسفل الصفحة لسبعة عشر عملا ً هي’الأقل‘ أهمية تتضمن بلومفيلد(1914) و سوسور(1922). و لم يظهر فايس (1925) في القائمة، على فرض أن عمله لم يكن لسانيا ًً خالصا ً، و لكن رغم ذلك هيمن على مقالة القسم الأول المعنونة (’ الطريقة الأساسية‘).
يلاحظ بلومفيلد بعض الجوانب الإيجابية في عمل اللسانيين المدرجين في قائمته، و من بينها ’ إنهم لا يستخدمون في ممارستهم الفعلية جهاز المفاهيم الاستبطاني introspective terminology المثير للمشكلات، ولا تقلقهم اليوم استحالة إرجاع السلوك البشري إلى مصطلحات ٍ نفسية ٍ( عصبية ٍ)؛ و مع ذلك فهم لا يستخدمون قوى مادية إضافية‘ (نفسه:174). لاحظْ بصورة خاصة قصره الأمر على مصطلح ’ الممارسة الفعلية ‘، بالمقارنة مع التنظير، حيث ما زالت المصطلحات النفسية ’ الاستبطاني‘ و ’ مادية إضافية‘ تهيمن على نحو وطيد. و يجب أن يكون حاضرا ً في الذهن أن مثل هذا التنظير هو هدف عرض بلومفيلد النقدي عند قراءة مديح المحاضرات بوصفها تعطي ’ الأساس النظري لعلم للكلام البشري‘( أنظر أعلاه). و رغم أن اللسانيات تحتل موقعا ً ستراتيجيا يمكن منه الشروع بدراسة الإنسان‘ ( نفسه )، فإن اللسانيين الذين سطر أسماءهم - بمن فيهم فونت ، و سوسور ، و هو نفسه كما كان في العام1914- لم يقوموا بهذا العمل. كانوا يقبلون بالنزعة القطعية finalism و ما فوق الطبيعية supernaturalism لمدرسة ٍ نفسية ٍ بعينها، مع كثير من الاختلافات ‘ فقط من أجل نبذها، و طبعا ً، يكون ذلك حال أن يصلوا إلى موضوع اللسانيات الحقيقي،( نفسه ).
و هذا يعني أن علم النفس الذي جرى بسطه و الدفاع عنه في فصولهم التمهيدية لم يمتد ليصل إلى فصولهم المتأخرة حول التحليل اللساني. فالمزاوجة بين النزعة فوق الطبيعية مع المصطلح الوضعي المنطقي ’النزعة القطعية‘ سيتكرر حدوثها في كل مكان من المقال.
لا يستطيع اللساني أن يقبل ’ مدرسة نفسية بعينها، مع كثير من الاختلافات‘ بسبب من أنها ’ تسعى إلى أن تفسر، و على أساس ٍ فردي ٍ، ظواهرَ يعلم أنها تكون مشروطة ً تاريخيا ً بوساطة المجموعة الاجتماعية‘(نفسه). و العبارة تبدو ذات صفة سوسورية على نحو مثالي، بيد أن بلومفيلد لم يرد منها أن تنطبق على سوسور فحسب، بل على كتاب فونت Völkerpsychologie ( و من الواضح أنه يُعدّ ُ هنا نسخة مختلفة من مدرسة نفسية بعينها)، و بالنسبة لبلومفيلد (1914)، و في الحقيقة، و كما سنعرف قريبا ً، ينطبق ذلك على كل منهج لم يؤسس على المبادئ السلوكية. فليست الدراسة النفسية الفردية و لا الاجتماعية هي مما يتعلق ’ بمستوى التجريد‘ الذي توجد عليه ’ الأنماط الاجتماعية اللسانية و سواها‘ و تعمل:
نحن لا نتعقب الأقوال اللفظية لفرد ما منذ ميلاده. ... و نحن لا نتعقب استعمال شكل لساني في الجماعة البشرية، حدثا ً بعد حدثٍ. و حالما يكتسب فرد ما عادة استعمال شكل لساني معين، نفترض أنه تحت كوكبة معينة من[ الحافز المادي، و الشرط الشخصي المحض للفرد في الزمان، و مجموعة عادات ما وراء لسانية] سيتلفظ به.
( نفسه:175)
و مرة أخرى يكون الجزء الأول من هذه العبارة ذا صيغة سوسورية مثالية، و هي لن تأتي من بلومفيلد خلال طوره الأكثر تبكيرا ً حين كان من أتباع فونت. و إنه لأمر يزيدنا إستنارة أن نرى الأفكار السوسورية تستخدم بوصفها مسوغا ً منطقيا ً لتقديم مسلمات المدرسة السلوكية. و يعتقد بلومفيلد بأن اللسانيين لا يجب أن يعتمدوا أية نظرية ٍ نفسية ٍ في مطلق اُلأحوال، و لكن يجب جعل علماء النفس يأُتون إليهم إذا جاز التعبير. و مرة أخرى فإن هذه العبارة قابلة للفهم فقط إذا فصلنا المدرسة السلوكية عن علم النفس، و ذلك لأن كتاب بلومفيلد(1933) قد بُنِيَ مباشرة على نظرية سلوكية.
و في نهاية الفصل الأول، يصوغ بلومفيلد عبارتين، تـُنبئ إحداهما بكتابه الصادر عام1933( ’ بالنسبة لفايس فإن المجموعة الاجتماعية مكون حيوي من مرتبة أعلى من أي كائن حي فرد متعدد الخلايا‘ ) و تعيد بإيجاز عرضه للمحاضرات( ’ علم النفس ليس ضروريا ً في اللسانيات‘) ( نفسه:176). و يعرض بعد ذلك الزعم القوي القائل بأن وجهة نظر فايس هي ’ مخطط لما حسبته أنا المعاني الضمنية للممارسة الفعلية ... لكل اللسانيين، و مهما كانت وجهات نظرهم حول علم النفس‘ ( نفسه ). و مرة أخرى، يكون الفصل بين الممارسة الفعلية و التنظير أساسيا ً(6).
و يعالج الجزء الثاني، و عنوانه ’ مشكلة المعنى‘، المحاضرات بطريقة أكثر مباشرة من سواها ، و فيه لا يـُعدّ المعنى مما يرقى إلى حجم مشكلة مطلقا ً، و بداية، يبدو بلومفيلد معترفا ً بذلك:
بأي طريقة ’ تعني ‘ كلمة تفاحة أو ’تشير‘ إلى تفاحة ما، حين لا يكون أي منها حاضرا ً؟ و لماذا يكون التعريف المعجمي برغم ذلك كافيا ً؟ هذه المشكلة نفسية أكثر من كونها لسانية و بالنسبة لعلمنا{اللسانيات} فإن من الأفضل أن تـُعالج ببعض المبادئ الملائمة. و هي طبعا ً ستُحل بسهولة ٍ سحرية ٍ إذا ما رضينا بالجواب القائل بأنه، عندما لا تكون التفاحة الطبيعية حاضرة ً، فإن ’ صورة ً عقلية ً‘ أو ’ مفهوما ً ‘ للتفاحة سيحل مكانها.
( نفسه: 177 )
و تلك هي ’ الصورة العقلية ‘ أو ’ المفهوم ‘ التي أدخلها أرسطو في الفكر اللساني، و أعادت المحاضرات إحياءها و إبرازها، وسخر منها بلومفيلد، و قد نسبها بلومفيلد- و يا للعجب- ليس إلى سوسور و إنما إلى أوجدن و ريتشاردز(1923).{في كتابهما ’معنى المعنى‘} و حقيقة أن خطاطة مثلث المعنى الشهيرة لديهما تحتوى ’ الفكرة أو المرجع‘ بوصفه أحد رؤوس المثلث( أضاف إليها بلومفيلد التفسير الخاطئ بين حاصرتين ’[ صورة، مفهوم، أو فكرة التفاحة]‘) توضح السبب في أن بلومفيلد يقول أنهما’ لم يتقدما بنا خطوة واحد نحو الأمام ‘( نفسه). أما رأسا المثلث الآخران فهما المشار إليه ’ Referent‘ ( و هو عند بلومفيلد:’[ ... التفاحة الطبيعية الحقيقية]‘)، والرمز ’ symbol ‘ ( عند بلومفيلد:’[ الكلمة تفاحة]‘). و مع ذلك فمن الناحية التاريخية كان مصطلح المشار إليه مما أضافه أوجدن و ريتشاردز - أو هو إعادة الصياغة ما قبل الأرسطية- إلى النظام السوسوري ( أنظر هاريس 1987b:62-3)، الذي يحتوي مصطلحات مكافئة ل لمفهوم’ الفكرة أو المرجع‘ (signifiē) و مفهوم ’الرمز‘ (significant) فحسب. و لكونه أبطل مركزية الدلالة وفقا ً للفهم السوسوري و أعاد الشيء الطبيعي إلى النظام، ينبغي أن يحظى أوجدن و ريتشاردز بالفضل، لا باللوم، في عيني بلومفيلد!
و لكن بلومفيلد يرى الأمور على نحو مختلف جدا ً: بالنسبة إليه، لم يكن نظام سوسور مكوناً من وحدتين ، بل من أربع. ’ نظام دي سوسور أكثر تعقيدا ً فهناك(1) الشيء الحقيقي، (2) المفهوم،(3) الصورة الصوتية المادية،(4) القول الكلامي ...‘ (بلومفيلد 177:1927). و هو بوضوح يفضل سوسور على أوجدن و ريتشاردز، و لكن العنصر غير المرغوب فيه أي ’ المفهوم ‘ ما زال هناك. ثم يوضح بلومفيلد بأن العنصر(4) هو الكلام parole ، بينما ’ الجزء المكون من المصطلحين العقليين الخالصين(2) و(3) يتجسد في المفهوم langue ، و هو قالب اللغة الموحد اجتماعيا ً‘( نفسه ). والعقلي هو مصطلح آخر يمثل عبئا ً بالنسبة لبلومفيلد، و هي إشارة إلى إنه من المحتمل أن لا يقبل النظام كما جري تقديمه.( 7 )
و في حركة بلومفيلد القادمة سنراه ينقذ سوسور من تهمة النزعة العقلية؛ إنه، كما أَعـْتقـِد ُ، المقطع المفرد الأكثر أهمية في فهم قراءة بلومفيلد الاستثنائية لسوسور. ومرة أخرى ستكون المشكلة أن مصطلحين من نظام سوسور، هما’ المفهوم ‘( signifiē ) و ’ الصورة الصوتية المادية ‘ ( signfiant )،هما مصطلحان ’ عقليان خالصان ‘: ’ تطرح عبارة دي سوسور الحذرة على نحو جلي النقطة موضع المساءلة في القضية: فما يسميه ’عقلي ‘ هو بالضبط ما يسميه هو و كل اللسانيين الآخرين " اجتماعي " ‘(نفسه). و هذا يعني أن كلا ً من الدال و المدلول يعودان إلى اللغة langue ، و اللغة مـُنشأ اجتماعي ذو أصل عقلي؛ و بذلك يكون الدال و المدلول مـُنشأين اجتماعيين لهما أصل عقلي. حتى الآن كان بلومفيلد يسبح دائخا داخل فجوة سوسورية: الفشل في تبديد الغموض بين اللغة بوصفها حقيقة اجتماعية سابقة الظهور و بوصفها خاصية عقلية فردية. و لكنه يذهب أبعد من ذلك: ’ لا حاجة لمصطلحات قاطعة شائعة. و من الأفضل أن نعمد إلى استبعاد العنصرين(2) و (3) و نتكلم بدلا ً عن ذلك في الانسجام المحدد اجتماعيا بين خصائص معينة في (1) و(4)‘( نفسه ).
و بما أن من الواضح أن ’ الأشياء الحقيقية‘ و’ الأقوال الكلامية‘ لها جانب اجتماعي أيضا ً- الأشياء الحقيقية ، إما بحضورها أو بغيابها، تستثير الأقوال، التي تشكل تفاعلا ً اجتماعيا ً- إذن نستطيع ببساطة أن نستغني عن خصيصتها العقلية. و إذا ما تم ذلك، لن يتبقى سبب للتمييز بين الشيء الحقيقي و المفهوم، و بين القول الكلامي و الصورة الصوتية المادية. و نحن لم نتجنب مصطلحات ’المفهوم‘(signifiē) و’ الصورة الصوتية‘(signifiant) غير المرغوب فيهما فقط،، و إنما أوضحنا بأنهما لا يخصان نظام سوسور قط، و بأن سوسور، في الواقع، ليس عقليا ً.
و يستمر بلومفيلد في مناقشة مسألة أن سوسور لم يقصد في الواقع أن يـُؤخذ مصطلحا الدال و المدلول على أنهما جزء أساسي في نظامه- و مرة أخرى تجري ترقية ’ الممارسة الفعلية‘ لمرتبة الأولوية متفوقة بذلك على التنظير المجرد:
في ممارسته الفعلية، يحكم دي سوسور خارج المصطلحات الميتافيزيقية. ... أو مرة أخرى، إن توضيح أوسثوف للسمات الأولى في المركبات compounds التي تظهر في عدة لغات هندو-أوربية، و هو توضيح مثالي لتجنب الباحث اللساني للنزعة العقلية، يمثل بالنسبة لسوسور نموذجا ً يـُحتذى.( 8 )
( نفسه:177-8)
و جوهر هذا القسم أن نظام سوسور اللساني، كما يراه بلومفيلد، هو بالضبط ذلك النظام الذي اعتدنا على تشخيصه على أنه يخص بلومفيلد(1933). و لا يعرض بلومفيلد تحسينات على نظام سوسور؛ إنما يزعم أن نظام سوسور هو على هذه الصورة، و أن الإضافة غير الموفقة لأثنين من المصطلحات الميتافيزيقية الزائدة و غير الضرورية لا يجب أن تسم سوسور بكونه عقليا ً، لأنه أساسا ليس واحدا ً منهم. و يتقلص نظام سوسور إلى ’ انسجام ٍ محدد ٍ اجتماعيا ً بين خصائص معينة ل(1) [ الشيء الحقيقي ] و (4) [ القول الكلامي ]‘ ( نفسه:177) و لا ينجو سوسور من اللوم كليا ً؛ لاستخدامه دونما ضرورة المصطلحات العقلية التي مال زال يـُوبـَخ ُ عليها( على نحو متصل مع بلومفيلد العام1914) و لقبولـه ب ’ النزعتين القطعية و ما فوق الطبيعية لمدرسة نفسية بعينها، مع بعض الاختلافات‘ حتى و لو كان قد هجرها في التحليل الفعلي.
للعودة، على طريق الخاتمة الاستنتاجية، إلى العبارة التي أطلقها هاريس و كانت مفتتح القسم الثاني: إن ’ مديح عام 1923‘ أكثر غموضا ً و أقل نبلا ً مما اعتدناه من أماديح ؛ فلا وجود للزعم ب’استبعاد سوسور بعد عشر سنوات‘ كما شهد بذلك كوان(1987) عن صواب. إنه لمن الصحيح القول بأن’ عرض عام1923 يعطينا قراءة للمحاضرات كما يراها أمريكي من أتباع فونت ‘، و لكنه أيضا يعطي دافعا ً جزئيا ً لاستبعاد بلومفيلد لفونت. و يبدو أن بلومفيلد قد أكتسب من المحاضرات قولـه الفصل بأن اللسانيات لا تحتاج علم النفس. قرأ بلومفيلد سوسور بوصفه يقدم مدخلا ً إلى مظهر اجتماعي جديد و جذري، ثم وجد الضبط الشكلي لذلك المظهر في المدرسة السلوكية. و ليست القضية أن قراءته لسوسور قد اختلفت بين عام1923 و عام1933 بسبب من إعادته تكييف أموره العلمية حين انتقل من فونت إلى فايس؛ و إنما يبدو أن إعادته تكييف الأمور من فونت إلى فايس قد وجدت قوة دفع لها من خلال قراءته لسوسور، التي، و استنادا ً إلى ما تتيحه لنا الوثائق المدونة من تحديد،، لم تمرّ بتغيير جوهري. و من المؤكد أن بلومفيلد(1927) أوضح بجلاء بأن سوسور لم يكن من الذين تمسكون باستخدام المقولات النفسية دائما، ولكنه سلوكي طليعي.
و في ملاحظته الختامية، كان هاريس على صواب بالتأكيد: ’ قراءة بلومفيلد كانت لتقرير طبيعة العلاقة بين النسخة الأمريكية و النسخة الأوربية من البنيوية لربع قرن قادم‘. و اتجاه الرأي أنها، على أية حال، مقلوبة على رأسها. إن قراءة بلومفيلد لم تكن استبعادا ً ، وإنما هي تفسير مفرط في خصوصيته كانت في مسألتها الحاسمة- و هي القرار بأن الدال و المدلول هما ’ أقوال الكلام‘ و ’ الشيء الحقيقي‘- تنحرف بعيدا ً عن منهج النزعة السوسورية التقليدية.