د. راجح الكردي
القرآن ونظرية المعرفة
القرآن الكريم ليس كتاب فلسفة إذا قصدنا بالفلسفة مجموعة الأفكار النابعة من العقل والمتسلسلة وفق منهج معين، غرضها تكوين نسق من المبادىء لتفسير طائفة من الظواهر الكونية، ولا كتب نظريات في علم المنطق ولا في المعرفة وليس كتاب أبحاث ينفصل بعضها عن بعض في قوالب البحث النظري، سواء في مجالات علمية أو عملية، في مجالات العلوم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو النفس، وبذلك المفهوم التجريدي النظري، ذلك لأنه منهج رباني متكامل، شامل وهو نسيج وحده، لا يفيه حقه وصفه بالنظرية فهو في حد ذاته ليس نظرية، في فن من الفنون، وهو يتجاوز البحث النظري إلى التطبيق الواقعي، وهو هدى ونور وشفاء للبشرية، كي تستقيم على طاعة الله وعبادته، (قد جاءكُم من الله نور وكتابٌ مبين* يهدي به الله من اتبع رضوانهُ سُبلَ السلام ويخرجُهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).
إن مقصودي الخاص بنظرية في القرآن، ليس إلا محاولة فردية عاجزة، لاستجلاء النظرة القرآنية الصافية، ومحاولة الجمع لمادة قرآنية، تتعلق بالعلم والمعرفة من أجل صياغة نظرية للمعرفة في القرآن وبجهد بشري، لا يحكم على القرآن بهذا الجهد ذلك لأننا لا نجد التقريرات الفلسفية النظرية لما يسمى بنظرية المعرفة بسهولة في القرآن، كما قلت نظرا لطبيعته وغايته. ومع ذلك فإن القرآن لا يمنع من أن نلتمس فيه المعرفة والتربية والتوجيه، ليؤدي دوره في حياتنا، مع حرصنا الشديد، على المنهج السليم، وهو أننا:
_ ننطلق من التصور القرآني، فهو نقطة المنطلق والارتكاز.
_وندخل إليه بلا مقررات سابقة، إنما منه نأخذ مقرراتنا، ولا نحكم عليه بأفكار البشر، إنما إليه نحاكم أفكارنا.
_ وننهج منهجه، وإلا فقدنا المهمة الرئيسية في بحثنا.
_ ونعتقد أنه بإمكاننا _بعون الله _ أن نجمع فنبني من القرآن نظرية في المعرفة، نجعلها صلب جهدنا، ومحور تفكيرنا وحكمنا، ومقياس نقدنا للنظرات الفلسفية، مع اعتقادنا أنه ليس كتابا للمقارنة، وإنما لنا فيه القدوة، حيث كشف زيف الزائفين، ورد كيدهم، وبما يتصل بتوضيح منهجه.
_وإنا لنعتقد بتميز النظرة القرآنية في كل مسألة، ودقيقة من دقائق نظرية المعرفة، مادة، ومنهجا، ومنبعا، وطريقا، وطبيعة، ومقياسا، وقيمة وحدودا.
_كما أننا نحرص _ إن شاء الله _ على محاولة الالتزام بالإصطلاحات القرآنية في التعبير عن الحقيقة التي يتميز بها القرآن، وهو متميز في كل شيء.
ذلك أن مقصودنا هو البحث في ما يوضع تحت عنوان هذه النظرية أو مكوناتها في القرآن، وأننا لا نريد أن نوسع الموضوع على أنفسنا بتسميته "العلم في القرآن" لأن ذلك سيجعل من البحث بحثا ذا شقين: شق يتعلق بعلم الله تعالى وشق يتعلق بالعلم الانساني، فاخترنا عنوان المعرفة للدلالة على أن مرادنا هو العلم الإنساني فحسب.
وذلك لأننا مع من يرى أن المعرفة تطلق على الإنسان، ولا تطلق على الله سبحانه وهي كذلك وردت في القرآن بمشتقاتها في واحد وسبعين موضعا، منها اثنان وثلاثون موضعا بمعنى العلم وكلها تعني العلم والمعرفة الإنسانية فحسب. وما ذلك إلا لأن المصطلحات مهمة كثيراً في التعبير عن الحقيقة، فالمصطلح يخدم المراد، ومن منطلقات ذلك المعنى وعلى أسس محورية تابعة للفكرة أو القاعدة التي منها تنبثق نظرته للأمور، فلا يصح إذن أن يعرض التصور القرآني للمعرفة من خلال مصطلحات نشأت عن نظرة في الوجود أو الاعتقاد، تخالف نظرته.
وإنه لو اضطررنا لاستعمال المصطلح الغريب، فإنه لابد من التنويه بمقصودنا من هذا المصطلح، إذا كان فيه خدمة لفكرتنا وتوضيح لها. وعلى سبيل المثال فقد تستعمل الفلسفة مصطلح "مصادر المعرفة" وتعني بها طرق المعرفة أو وسائلها. ولكن مصطلح مصادر المعرفة في المفهوم الفلسفي، ليس هو المراد بطرقها عندنا، في تصورنا الدقيق، ذلك أن مصدر الشيء أصله، وأصل المعرفة عندنا رباني، (علم الإنسان ما لم يعلم)، وحتى استعمالنا لأدوات المعرفة ووسائلها من عقل وحس، إنا هو بإقدار الله عز وجل، وتمكينه لهذه الوسائل أن تؤدي دورها المعرفي.
بينما لم تتضح علاقة الإنسان بخالقه في المفهوم الفلسفي، ومن ثم فطرق المعرفة عندهم مصادرها ومنابعها معا.
كما ننوه أيضا بأن الذي نقصده من نظرية المعرفة في القرآن، ليس كَماً من المعلومات، وأنواع العلوم التي أشار اليها، فذلك ليس داخلا في مجال هذا البحث، وأن ما نشير إليه إنما هو منارات ضوئية كافية، لدفع الإنسان للبحث، وفتح بصيرته على آيات الله سبحانه في الآفاق والأنفس.
ولعلنا قصدنا ببيان مرادنا من هذا البحث، حتى لا تكون شبهة في أننا ممن يفتنون بالنظريات الفلسفية ويهرعون إلى تطبيقها على الإسلام، فتكون القوالب فلسفية والمادة كذلك لا صلة لها بالإسلام.
فالمعرفة عندنا جزء من الوجود. والوجود ثابت قبل أن نتوجه لمعرفته. والمعرفة هي أساس للدور الإنساني في الحياة، إذ هي قبل كل شيء معرفة الله تبارك وتعالى، التي تنبثق منها معرفتنا للدين ودورنا في الحياة. فالمعرفة عندنا مسلمة تسليمنا بالوجود.
أما ما نقوله من إمكان المعرفة بين القرآن والفلسفة فان مقصودنا منه الاتجاه اليقيني في القرآن. إننا نؤمن بالله سبحانه ونوقن بأننا نعلم ونعرف، يقينا واعيا مستبصرا، وندعو إلى هذا الإيمان واليقين على بصيرة (قُل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين).
والدعوة إلى الله سبحانه لإقامة الحجة على الخلق وتحريرهم إيمان وعلم. وكيف يشك في إمكان المعرفة من يعتقد هذا ويعمل له.
ولعل سؤالاً يطرح: وهل أنت واجد في القرآن ما يشفي العليل وما يصلح أن يكون مادة لبناء نظرية في المعرفة. والإجابة التفصلية على هذا إنما هو في تفصيل البحث. ولكني أطمئن إلى أنه توجد في كتاب الله تعالى الأسس الصالحة لهذا الغرض، وإن كنت لا أدعي أنني استطعت اكتشافها جميعا، ولكن حسبي أني على الطريق، وقد بذلت جهدي. ويمكنني أن استأنس بالأسس التالية في المدخل لهذا البحث:
* يحتوي القرآن على أسس واضحة في طرق المعرفة، يقول تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
*مصدر هذه المعرفة أو منبعها هو الله سبحانه: (اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم). (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم* قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).
ذكر القرآن طرق المعرفة ووسائلها: من حواس وعقل أو قلب وأضاف طريقا فريدا ليس في طرق البشر، وهو طريق الوحي والإلهام.
*تعرض لطبيعة المعرفة، وأنها اكتسابية كلها: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)، (علم الإنسان ما لم يعلم).
وتعرض لصور الاكتساب من تفكير وتذكير وفقه وشعور...الخ.
*بين مجالات هذه المعرفة: المجال الطبيعي أو عالم الشهادة، ويدرك بالحواس والعقل، وعالم الغيب وطريقة الوحي، والعقل يسلم بوجوده، ويفهم وفق ما سمح الله له من طاقات، وتفاصيله غيب لا نعلمه إلا بإعلام الله لنا عن طريق الوحي.
بين غاية المعرفة في الوجود الإنساني فجعلها تخدم هدف تعبيد الناس لله اعتقاداً وعبادة، علما وعملا: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
*كما جعلها أساس لقيادة البشرية، والقيام بدور الخلافة في الأرض، وحمل أمانة الهداية والانتفاع مما في الكون مما سخره الله للإنسان (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض).
*القرآن دعوة لتحرير العقل الإنساني، من أغلال التقليد والتبعية، القائمة على أسس الوراثة فحسب، والتي عزلت العقل عن عمله والقلب عن فقهه. ومن ثم فهو يدعو الإنسان إلى التأمل والتفكر، ويوجه نظره إلى الكون، وإلى النفس، ويمدح المتفكرين والمتذكرين وأولى الألباب، ويشنع على الذين لا يفقهون، ولا يعلمون، ولا يتذكرون، ويصفهم بعمى البصيرة أو القلوب. قال الله تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون).
*ثم جمع القرآن بين طرق المعرفة الرئيسية الثلاث معاً: الوحي، والعقل، والحس. كما جمع بين مجالي المعرفة وهما مجالا الوجود: الدنيا والآخرة، أو عالم الشهادة وعالم الغيب في آية واحدة، فقال سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون).
*والقرآن يقرر نسبة المعرفة الإنسانية فيقول: (وفوق كل ذي علم عليم). (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
*ويجعل القرآن اليقين معياره في المعرفة، ويرد الشك والظن، ولا يعتبرهما علما صحيحا: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).
كل هذه الأسس، يمكن أن تكون بناء لنظرية في المعرفة: من حيث ماهيتها، وامكانها ومصادرها وطبيعتها وطرقها ومعيارها وقيمتها.