كتب كاتبٌ مقالاً في صحيفة يومية جعل عنوانه ((اللغة الضيقة)) نعَت فيه العربية بالضيق والعجز عن استيعاب مفردات العصر، وعدم الصلاحية للتعليم الجامعي، وراح يَكيل للعربية وأهلها صنوفَ التهم وغرائبَ الشتائم، لينتهي إلى غلو في القول وافتراء في الحكم جاء فيه:
"إذن ليس من المبالغة في شيءالقول: إننا إزاء لغة ميتة على المستوى العلمي".
وقد رأيتُ في هذا المقال وكاتبه رجلاً يهرِف بما لا يعرف، ويتطاول على ما لا يُحسن، ويتهم بلا دليل، وينفخ في غير فحم، ويعمل في غير معمل. فرأيت أن أردَّ عليه بخطرات تحمل حبَّ العربية وتكره شانئيها، وأحيله وأمثاله ممن يجهلون قيمةَ العربية وشأنَها إلى مقال كنت نشرته في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق تحت عنوان "العربية لغة العلم" (المجلد 80 الجزء 3).
فأقول وبالله المستعان:
لعمرُكَ ما ضاقَت لغاتٌ بأهلِها ولكن أخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ
لا عجبَ أعجبُ ممن يصف اللغة العربية بالميتة وهو يكتبُ بها.. ويقتاتُ من خيراتها.. ويفكر بمعرفتها! بل ويحيا بحياتها! وينعم في ظلها.
ولا عجبَ أعجبُ ممن ينعت العربية باللغة الضيقة وهو يعيش في بُحبوحَتها.. ويتزوَّد من سعتها.. ويرفل في رياضها!
ولا عجبَ أعجبُ ممن يزعم أن الافتخارَ باللغة ضرب من الزهو الأجوف واللغو الفارغ ثم إن رحتَ تبحث عما يزهو به لم تجد عنده شيئاً إلا هذا اللغو الفارغ!!.
نعيبُ لسانَنا والعيبُ فينا ولو نطقَ اللسانُ إذن هَجانا
وهل في الدنيا عاقلٌ لا يفخر بلسانه ولغته وهي مناط فكره، وعنوان هويته، ورمز انتمائه، ومستودع تراث أمته؟!
فكيف إذا كانت هذه اللغة هي العربية بشموخها وبيانها وتاريخها وقدسيتها!
كيف إذا كانت هذه اللغة هي العربية التي شهد لها القاصي والداني، والعدو قبل الصديق!
وهاك طائفة مما قاله غيرُ العرب فيها:
قال المستشرق الألماني فرنباغ: "ليست لغةُ العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدُّ، وإن اختلافَنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا - نحن الغرباءَ عن العربية - وبين ما ألفوه حجاباً لا يتبيَّن ما وراءه إلاَّ بصعوبة"[1].
وقال الفرنسي جاك بيرك: "إن أقوى القوى التي قاومت الاستعمارَ الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية، بل اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا، إن الكلاسيكيةَ العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية، وقد كانت هذه الكلاسيكيةُ العربية عاملاً قوياً في بقاء الشعوب العربية"[2].
وقال وليم ورك: "إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانِها من التكيف وَفقاً لمقتضيات العصر".
وقال المستشرق الألماني كارل بروكلمان: "بلغت العربيةُ بفضل القرآن من الاتساع مدىً لا تكاد تعرفُه أيُّ لغةٍ أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن العربيةَ وحدها اللسانُ الذي أُحِلّ لهم أن يستعملوه في صلاتهم..."[3].
وقال د. جورج سارتون: "وهبَ اللهُ اللغة العربية مرونةً جعلتها قادرةً على أن تدوَّن الوحيَ أحسن تدوين... بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن تعبِّر عنه بعباراتٍ عليها طلاوة وفيها متانة"[4].
أما أربابُ العربية وأهلوها فقد أنطقوها وهي القادرة على النطق والبيان، فقالت:
أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل سألوا الغواصَ عن صدفاتي؟
وذادوا عنها وهي المستعصيةُ على كل من تسوِّل له نفسه النيلَ منها أو الحطَّ من شأنها:
هل يَضيرُ البحرَ أمسى زاخراً أن رمى فيه غلامٌ بحجَرْ
فلن يضيرَ العربيةَ أن يعقَّها بعضُ أبنائها وقد برَّها الكثيرون!
ولن يضير العربيةَ أن يجحدَ فضلها بعضُ الجَحَدَة وقد عرف فضلها ذوو الفضل والرأي.!
إِنَّما يعرفُ ذا الفَضـ ـلِ منَ الناسِ ذَووهُ
ولن يضير العربيةَ أن يتهمها بعضُ المرجفين بها الطاعنين بقدرتها وقد شرَّفها الله سبحانه بأن أنزل القرآن الكريم بلسانها فصارت مثابةً للناس ومهوى للأفئدة وقبلة للعالمين.
{نزلَ به الرُّوحُ الأَمين* على قَلبِكَ لتكونَ من المنذِرين* بلسانٍ عربيٍّ مُبين} [الشعراء: 193-195].
ولن يضيرَ العربية - وهي العزيزة الأبية - أن يستشعر الذلَّ بها أناسٌ ذلت عليهم نفوسُهم فذلُّوا، وهانت عليهم عروبتهم فهانوا، وضاقت عليهم لغتهم بما رحبت فضاقوا:
وكم عزَّ أقوامٌ بعزِّ لغاتِ
وكيف تضيقُ العربية عن استيعاب مفردات العصر اليومَ وهي التي استوعبت ما هو أعظمُ من ذلك وأكبر! حين خرجت من ضيق الصحراء إلى سعة المدائن، ومن حدود البداوة إلى انطلاق الحضارة، فاستوعبت نتاجَ قرون متطاولة من الحضارة والعلم والمعرفة، وجعلت أفئدةَ الناس تهوي إليها، فصارت المقدَّمةَ دون غيرها في كلِّ علم وفن، وغدا إتقانها وحبها والتمسُّح بها شرفاً دونه كل شرف، واستطارت بين الناس مقولة:
"لأن أُهجى بالعربية خيرٌ لي من أن أُمدحَ بالفارسية أو بغيرها".
كيف تَعجِزُ العربية عن استيعاب مصطلحات العلم والتقنية اليوم؟ وكيف توصَف بالضيق وهي التي وَسِعَت كلمات الله سبحانه:
وسعتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيفَ أَضيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنسيقِ أسماءٍ لمختَرَعاتِ
ألا أيهذا اللائمُ لعربيتك أعد نظراً في عروبتك..
ألا أيهذا اللائمُ للغتك أعد نظراً في انتمائك..
ألا أيهذا اللائمُ للغة قرآنك أعد نظراً في تديُّنك..
أعد نظراً يا عبد قيسٍ فربما أضاءت لك النارُ الحمارَ المقيَّدا
ولعمري إن ما تلقاه لغتنا من بني جلدتنا وديننا أقسى وأمرَّ مما تتلقاه من الآخرين!!
ولئن عُذر الآخرونَ فيما يتجنَّون أو يكيدون فأي عذر لهؤلاء؟!
يا ويحَ أمَّتِنا ممَّن يَكيدُ لها ومِن حَليفٍ له من نَبعِهِ يَردُ
ويحَ العروبةِ في أرضِ العروبةِ لا تَلقى المجيرَ وفيها الخائنُ النكدُ
ومع ذلك كلِّه ستبقى العربيةُ صرحاً شامخاً تتهاوى دونه الصروح..
وقلعةً راسخةً تتعاوى حولها الذئاب..
ومنارةً هادية يهدي بها الله من اتبع رضوانه سبلَ السلام.. ويصدُّ عنها من يزيغ عن السبيل القويم.
ألا إن شانئ العربية هو المشنوء..
ألا إن شانئ العربية هو الشنيء..
ألا إن شانئ العربية هو الأبتر..
أما العربيةُ فإنها كما قال سويدٌ اليشكري:
مَعقِلٌ يَأمَنُ مَن كانَ بِهِ غَلَبَتْ مَن قَبلَهُ أَن تُقتَلَعْ
غَلَبَت عاداً ومَن بَعدَهُمُ فَأَبَت بَعدُ فَلَيسَت تُتَّضَعْ
لا يَراها الناسُ إلا فَوقَهُم فَهْيَ تَأتي كَيفَ شاءَتْ وتَدَعْ
وَهوَ يَرميها ولَن يَبلُغَها رِعَةَ الجاهِلِ يَرضى ما صَنَعْ
كَمِهَت عَيناهُ حَتَّى اِبيَضَّتا فَهْوَ يَلحى نَفسَهُ لَمَّا نَزَعْ
إِذ رَأى أَن لَم يَضِرها جهدُهُ وَرَأى خَلقاءَ ما فِيها طَمَعْ
تَعضِبُ القَرنَ إِذا ناطَحَها وَإِذا صابَ بِها المردى اِنجَزَعْ
وإِذا ما رامَها أَعيا بِهِ قِلَّةُ العُدَّةِ قِدماً وَالجَدَعْ
محمد حسان الطيان