تطرح مصطلحات (صراع، حوار، تحالف) مضمومة إلى (الحضارات، الثقافات) إشكالات عدة متعلقة بالمواقف والتصورات الفلسفية والفكرية من هذه المفاهيم، حيث تضعنا الصياغة اللغوية لمجموع المقولات المتداولة أمام ست صياغات تركيبية هي: (صراع/ حوار/ تحالف الحضارات) و(صراع/ حوار/ تحالف الثقافات) ولا شك أن لكل تركيب من هذه التركيبات السطحية مستويات متباينة ومتعددة على مستوى البنية الدلالية والتداولية في البنية العميقة/التحتية لكل منها.
وأياًّ كانت الحال "صراعاً، أم حواراً، أم تكاملاً" فإننا في العالم العربي نعتبر الطرف الأضعف في أي خطاب يعتمد أي مصطلح من هذه المصطلحات؛ وهذا راجع لعدة عوامل لعل من أهمها أننا نعيش، في عالمنا العربي، حالة عجيبة يمكن وصفها بـ"الضّعف المزدوج"، أي ضعف الشعوب من جهة، وضعف الحكومات من جهة أخرى وفي وجهة مختلفة. فنحن كأفراد أو كجماعات لا نملك التأثير الكبير على الحكومات وهذه حالة الضعف الأولى، وهذه الحكومات هي الأخرى لا تملك التأثير على المستوى الذي يعلوها دولياً ما يجعلها تناظر شعوبها وتشاطرها حالة الضعف العام.
هذه الحال البائسة جعلت الشعور بالدونية و(اللاّنِديّة) مع الغرب بشكل عام هو الشعور السائد الذي تعيشه أفراد أو جماعات أو شعوب أو حكومات الدول العربية على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري؛ لأنهم لا يستطيعون، مطلقاً، أن يمتلكوا النفوذ السياسي نفسه ولا القوة الاقتصادية ولا الآلة العسكرية نفسها التي يمتلكها الغرب، وهذا يجعل أي حوار يتم في هذا المستوى محكوما عليه بالتعثر أو الفشل لأنه غير متكافئ وغير متعادل وفاقد للنِديّة الواجب توفرها في هكذا مقامات.
هذا الوضع لا يقتصر فقط على حالة الحوار أو التكامل بل يمكن سحبه أيضا على حالات المواجهة والمنافسة والصراع، ولعل الوضعية التراجيدية التي يعيشها العرب فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي تؤكد هذا الاعتقاد، حيث لم يقدم خيار السلم حلاًّ، ولم يقدم خيار الحرب والعنف حلاًّ أيضا، بخلاف حالة جنوب أفريقيا التي كان فيها خيار السلم موفقاً وقدّم الحل النهائي المناسب لها على الأقل من الناحية القانونية، وفي هذه الحالة التي لا الحرب والعنف قدّما نتائج إيجابية، ولا السّلم قدّم نتائج إيجابية، فإن اليأس هو الشعور الطبيعي الذي سيسود المنطقة، وهو شعور لا شك في كونه شعورا سلبيا على كافة الأصعدة؛ لأنه سيؤدي في النهاية إلى التوتر والغضب والاضطرابات.
هذا المنحى في حوار الحضارات لا يتناسب وظروف "الضعف" التي تعيشها المنطقة العربية خاصة وأن الحوار هنا يغفل مستويات يمكن من خلالها أن يتم حوار الحضارات أو (تكامل الثقافات أو صراعها) بشكل أكثر إيجابية وتكافؤاً، فثمة مستوى يبعث الشعور بالثقة والنديّة مع الغرب يكمن –فقط- في المستوى الثقافي (بمفهومه الشامل للمعرفة العلمية) حيث إننا ومن خلال هذا المستوى فقط يمكننا أن نكون ندّاً متكافئا مع الآخر، ويمكننا متابعة الجديد فيه، وفهمه، والإسهام فيه مع المجموعة الكونية، دون أن نكون الطرف الأضعف في المحاورة، لكننا إذا ما حاولنا استدعاء أي عنصر آخر سياسياً كان أم اقتصادياً فإن التحاور وقتها سيكون غير متكافئ على الإطلاق وهو ما قد يفسّر حالة التوتر التي نعيشها بسبب هذه المسألة بالذات.
دولنا العربية في مجملها دول ضعيفة، والوسيلة الوحيدة الباقية أمامها لكي تدافع بها عن نفسها وتحمي مصالحها الوطنية هي الثقافة والفكر؛ حيث من الممكن جدا الوصول إلى نفس المستوى الذي وصلوا إليه في الغرب على مستوى المثقفين والمفكرين والأكاديميين – على الأقل- والساحات الغربية العلمية والثقافية تشهد تواجدا عربيا مهما في هذه المجالات، وبالتالي فإن التركيز على تنمية هذا "الرأسمال الرمزي" هو الرصيد الاستراتيجي الذي يجب أن توليه المنطقة، وبالأخص من حكوماتها، الرعاية والاهتمام الأكبر من مجرد "العطف" و"الشفقة" التي توليها إياه حاليا، وإنفاق ثمن صفقة واحدة من السلاح على خطة تحول ثقافية جادة كفيلة بأن تحدث تغييرا كبيرا في المنطقة لم (ولن) تحدثه جميع صفقات السلاح التي تستنزف الأموال العربية منذ أزيد من نصف قرن في مواجهة مباشرة مع "إسرائيل" التي لا تملك من مقومات البقاء والمقاومة إلا السلاح.