الفلسفة البراجماتية
أصولها ومبادئها(1/2)
الدكتور علي عبد الهادي المرهج(*)
(خاص للمعهد)
ظهرت الفلسفة البراجماتية على يد الفيلسوف الأمريكي تشارلس ساندرس بيرس وعرفت بشكل واسع على يد الفيلسوفين وليم جيمس وجون دوي. ربطت هذه الفلسفة بين الفكر والعمل، ونادت بالقول ان (قيمة أي فكرة تكمن في فائدتها العملية) والجديد في هذا المبدأ هو وضع الفائدة العملية في المقام الأول، ويبدو هذا المبدأ الذي وضعه بيرس كمبدأ رئيس من مبادئ وضوح الفكر ومعناه، نتيجة منطقية لانعدام الحس التاريخي لدى الشعب الأمريكي، الذي يحاول أن يكون صانع مستقبل كحالة تعويضية عن فقدانه الجذر التاريخي، فأمريكا تحاول ان تؤصل حاضرها تجاه الماضي الأصيل للشعوب الأخرى، ولا سبيل أمامها لتحقيق هذا الهدف سوى بناء قاعدة معرفية تنطلق منها، وقد شكلت براجماتية بيرس تلك القاعدة التي استقرأت حقيقة تفكير الإنسان الأمريكي، الذي لا يسأل عن النشأة (الماضي) بقدر ما يسأل عن النتيجة (المستقبل)، وقد أصبحت هذه القاعدة هي الميزة الأساسية التي تميز الفكر الأمريكي من الفكر الأوربي.
المشكلة هنا هي أن قاعدة (الآثار والنتائج العملية) هذه لم تعرف لدى الدارسين العرب بصيغتها عند واضعها (تشارلس بيرس)، بل عرفت بالصياغة التي وضعها لها وليم جيمس وجون دوي. ذلك أن جهود الباحثين العرب في محاولتهم لنقل الفكر البراجماتي انصبت على ما كتبه هذان الفيلسوفان، فكان نصيب وليم جيمس وجون دوي من الدراسة والبحث والترجمة- لكونهما مشهورين إعلاميا أو لكونهما تركا كتبا لا تتطلب سوى الترجمة المباشرة أو الاعتماد المباشر عليها- اكبر من نصيب زميلهما (تشارلس بيرس) لذا ترجمت أعمالهما،واعتمدت بشكل يكاد يكون كاملا في توضيح معنى البراجماتية، وقد اصبح القارئ العربي يعرف البراجماتية من خلال ماكتبته هاتان الشخصيتان أو ما كتب عنهما من مؤلفات، اما بيرس الذي لم يترك لنا سوى أوراق غير منشورة ومقالات نشر مجموعة منها في الصحف- فقد ظل مختفيا خلف كلمة (مؤسس) البراجماتية، لكن فكر هذا الفيلسوف وجهده الأساس في بناء المنهج البراجماتي، ظل مجهولا لدى القارئ العربي.
لذلك سينصب جهدنا في هذا البحث لتوضيح معنى البراجماتية لغة واصطلاحا، وكيفية النشأة ودور بيرس في وضع الأساس الذي انطلق منه المنهج البراجماتي بالشكل الذي نعرفه، مع توضيح أن البراجماتية لها ما يميزها، بوصفها فلسفة معاصرة من حيث تأكيدها على عدم الأيمان بالأنساق الميتافيزيقية والإيمان بالقانون العلمي، وميلها إلى تحليل المفاهيم والمصطلحات ونقدها للميتافيزيقيا.
معنى البراجماتية
البراجماتية لغة:
تعني البراجماتية لغة:
1- الاستشراف العملي و (البراجماتي) يعني العملي(1).
2- البراجماتية لفظ مشتق من اللفظ اليوناني (برغما Pragma) ومعناه العمل، وتأتي منه كلمة (مزاولة)(2).
البراجماتية اصطلاحاً:
أما المعنى الاصطلاحي لكلمة البراجماتية فهو وبصورة محددة يطلق على أحد المذاهب الفلسفية التي ظهرت في اميركا على يد تشارلس ساندرس بيرس (1878م) وتطور على يد وليم جيمس وجون دوي. يقرر هذا المذهب ان «العقل لا يبلغ غايته إلا إذا قاد صاحبه إلى العمل الناجح، فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة أي الفكرة التي تحققها التجربة. ولا يقاس صدق القضية إلا بنتائجها العملية»(3)، وهذا يعني ان النتائج أو الثمار المستحصلة هي التي تحدد قيمة أي فكرة، فهي التي تقطع الشك باليقين كما ترى البراجماتية.
اقسام الفلسفة البراجماتية:
تقسم البراجماتية كغيرها من المدارس الفلسفية الأخرى إلى عدة اقسام بتعدد فلاسفتها (على الرغم من انها اتجاه في الفلسفة) فهناك:
1- براجماتية بيرس التي سنتناولها في بحثنا هذا.
2- براجماتية جيمس التي سماها فيما بعد (التجريبية المتطرفة) فهو (جيمس) يعد «كل ما تقوم عليه التجربة فهو حقيقي واقعي، وكل ما هو واقعي تقوم عليه التجربة»(4). الوعي عند جيمس تيار مستمر تجري تجزئته إلى موضوعات وعلاقات بين الموضوعات(5) وذلك بفعل تدخل العقل، وهذه التجربة لا تجري بشكل اعتيادي وانما تمليها مصالحنا وغاياتنا وربما مزاج المدرك كذلك(6).
3- هناك نوع آخر من البراجماتية هي براجماتية دوي التي سماها باسم (الاداتية Instrumentalism) أي ان «النظرية آلة واداة للتأثير في التجربة وتبديلها، أو المعرفة النظرية وسيلة لزيادة قيمة التجارب السابقة من حيث دلالتها المباشرة»(7) فالنظرية الآلية تحسب «ان العقل آلة يستخدمها الإنسان للمحافظة على الحياة أولا وفي تنميتها ثانياً» ويعبر عنها دوي بالقول ان الاداتية «هي محاولة لتكوين نظرية منطقية دقيقة للمدركات العقلية والاحكام والاستنباطات في شتى صورها وذلك عن طريق البحث اولا في الكيفية التي يؤدي بها الفكر وظيفته في التحديد التجريبي للنتائج المستقبلة»(8).
4- وهناك اتجاه في الفلسفة البراجماتية ظهر في ألمانيا وهو نوع متطرف من البراجماتية تأسس على يد فايهنجر(9)، سمي فلسفة (الوهم) وهذا النوع يرى «ان المبادئ الرئيسية في العلوم الطبيعية والرياضيات والفلسفة والأخلاق والدين والقانون مجرد أوهام. وعلى الرغم من ان الحقائق الموضوعية تنقصها إلا انها مفيدة للعمل»(10) ويبدو ان هذا الاتجاه لم يلق نجاحاً في المانيا نتيجة لوجود تيارات فلسفية كبيرة متجذرة في المانيا، فكيف لألمانيا ان تستقبل تياراً فلسفياً وافداً والفلاسفة الألمان هم أركان الفلسفة في العالم الحديث.
5- أما النوع الآخر من البراجماتية فهي براجماتية شلر(11) التي سماها (الإنسانية) أو المذهب الإنساني (Humanism) وقد ظهر المذهب في إنكلترا في مدة مقاربة لظهور البراجماتية في أمريكا، ويتلخص هذا المذهب في ان «إدراك الإنسان ان المشكلة الفلسفية تخص كائنات بشرية، تبذل غاية جهدها لتفهم عالم التجربة الإنسانية وزادها في ذلك أدوات الفكر البشري وملكاته»(12). فلسفة شلر هي فلسفة إنسانية يؤثر فيها الإنسان تأثيراً كبيراً، فالفلسفة عند شلر وجدت لحل مشاكل الإنسان ومعالجتها.
6- ومثلما امتد تأثير البراجماتية إلى بريطانيا ظهرت أيضا في إيطاليا، حيث تبناها الايطالي الشاب بايني الذي قال عن البراجماتية بأنها «تكمن وسط نظرياتنا مثل الرواق أو الدهليز في فندق فهو يفضي إلى عدد لا حصر له من الغرف ويفتح عليها. ففي احدها قد نجد رجلاً منكباً يكتب سفراً في علم الجمال، وفي الغرفة المجاورة لها قد نجد شخصاً ساجداً يدعو الله ان يهبه الإيمان والقوة وفي الثالثة نجد كيميائياً يبحث في خصائص أحد الاجسام، وفي غرفة رابعة نجد نظاماً من الميتافيزيقيات المثالية في طور المخاض والابتداع، وفي غرفة خامسة نجد من يثبت استحالة الميتافيزيقا.ولكن الرواق أو الممر أو الدهليز ملكهم جميعهم. ومن المحتم على كل منهم ان يمر خلاله إذا اراد طريقاً عملياً للدخول إلى غرفته أو الخروج منها»(13).
وكذلك ظهر لهذا الاتجاه ما يماثله في فرنسا على يد برجسون صاحب الفلسفة الروحية، وقد كان الأخير من المعجبين اشد الإعجاب بآراء وشخصية وليم جيمس حتى انهما كانا يتبادلان رسائل الإعجاب الفكري فيما بينهما(14)، ويتبين من خلال هذه الرسائل موافقة برجسون لأغلب آراء وليم جيمس على الرغم من وجود بعض نقاط الاختلاف في مذهبيهما حتى ان «جيمس قد صرح بتحوله إلى البرجسونية»(15)، «كلا الفيلسوفين قد اوليا اهتماماً للتطور البايلوجي ولكن بفرق، حيث كان برجسون اكثر بيلوجية من جيمس»(16)، «إلا ان برجسون يقترب من البراجماتية كونه يعد العقل هو القدرة على صنع الأدوات»(17) فليس المهم عند البراجماتية العقل، بل هو فعل العقل وتأثيره وما يؤدي إليه بوصفه أداة في خدمة اغراض الإنسان.
اصل البراجماتية:
يرجع اصل البراجماتية إلى تشارلس ساندرس بيرس. وقد نشأ اصطلاح البراجماتية (Pragmatic) في ذهن بيرس نتيجة "دراسته لكانط" فالانثروبولوجيا البراجماتية طبقاً لما يراه كانط - كما يقول بيرس- (هي فلسفة اخلاق عملية، فالأفق البراجماتي هو تكييف لمعرفتنا العامة في التأثير على اخلاقنا«(1-5)(18) والفرق العملي (Practical) عند كانط والبراجماتي (Pragmatic) عند بيرس هو انه عند كانط "ينطبق على القوانين الأخلاقية التي يعدها أولية (Apriori) أما العملي عند بيرس فينطبق على قواعد الفن والصنعة التي تعتمد على الخبرة وتقبل التجربة»(19) وقد كانت غاية بيرس من ذلك هو وضع تصورات واضحة تتلاءم وما يريده هو.
ان دراسة بيرس لكانط ارتبطت بجانبها العملي لأن بيرس ومنذ طفولته وبتشديد من والده كان حريصاً على ان يكون كيمياوياً مما ارتبط ذلك عنده بأن يميل في كبره إلى الاعتقاد بأن التجربة والمعمل هما الفاصل الرئيس في الحكم على صدق الفكرة أو كذبها. فالشخص الذي ما يزال يفكر باصطلاحات كانط - كما يرى بيرس- «يكون العملي (Praktisch) وPractical و(البراجماتي) بمثابة الشيء ونقيضه، وينتمي اولهما إلى منطقة من الفكر لا يستطيع فيها أي ذهن من طراز تجريبي ان يطمئن إلى صلابة الأرض التي تحت قدميه بينما الثاني يعبر عن الارتباط بهدف انساني محدد، وابرز ملامح النظرية الجديدة (البراجماتية) هو الاعتراف بوجود علاقة لا تنفصم عراها بين الادراك العقلي والغرض العقلي»(20)، فالمدلول العقلي إذن لكلمة من الكلمات انما يكون في تأثيرها على مجرى الحياة والا فلا يكون هناك معنى لهذه الكلمات ولا يوجد هناك داعٍ لتداولها.
النادي الميتافيزيقي: ولادة البراجماتية:
لقد سعى بيرس ومنذ صغره وبمساعدة والده للسير في مجال البحث العلمي، ولقد كان جل تفكيره أن تصبح له مكانة خاصة في الفكر الأمريكي في يوم من الأيام، وربما كان هذا الدافع قد تولد عنده نتيجة شهرة والده آنذاك. وقد كانت بدايته في طلب الشهرة هي محاولته أن يجد له مكاناً كأستاذ في جامعة هارفرد إلا انه لم يفلح في ذلك إلا لمدة قصيرة جداً. فما كان منه إلا أن يسعى إلى الشهرة والمجد العلمي من خلال طريق آخر وبمساعدة تشونسي رايت(21). وبعد عشر سنين من تخرجه من جامعة هارفرد قام هو ومجموعة من الشباب المتحمسين والذين يطمحون إلى ان يحتلوا مكاناً في الفكر الحديث بتأسيس حلقة فكرية تولى قيادتها فيلسوفنا تشارلس بيرس، سميت هذه الحلقة (بالنادي الميتافيزيقي). وقد كانت هذه الحلقة هي البذرة الأولى التي أثمرت ما يسمى الآن بـ(البراجماتية) وفي إحدى مذكراته يقول بيرس: "كان ذلك في أوائل السبعينات (1870) عندما اعتادت جماعة منا نحن الشباب في كامبرج العتيدة، دعونا أنفسنا على سبيل السخرية وعلى سبيل التحدي (النادي الميتافيزيقي) لأن مذهب اللاادرية كان عندئذ في أوج رواجه. وكان ينظر بازدراء شديد إلى كل الميتافيزيقيات. اعتادت الجماعة أن تلتقي أحيانا في غرفة مكتبتي وأحياناً أخرى عند وليم جيمس. ولعل بعض حلفائنا القدامى في (العصابة) لن يحفلوا اليوم بأن يذاع على الملأ أننا كنا في شهوات الشباب على الرغم من ان كل نصيبنا من شهوات الشباب لم يكن سوى الشوفان المسلوق واللبن والسكر في كل ورطة على المائدة المشتركة. فأما المستر هولمز فأعتقد انه لن يسوءه ان نقول اننا فخورون بـأن نتذكر عضويته. وكذلك العالم الموقر جوزيف وارنر. ولقد كان نيكولاس سانت جرين من اكثر الزملاء الأعضاء اهتماماً وشغفاً، وهو محامٍ ماهر ضليع في مادته، واحد حواريي بنثام. كانت قوته الخارقة في تجريد الحقيقة الحية من أثواب المصطلحات البالية هي ما لفتت إليه الأنظار في كل مكان، وكان يرى أهمية خاصة في تعريف باين (Bain)(22) للاعتقاد بأنه "هو الشيء الذي يصبح الإنسان على أساسه مستعداً للفعل (العمل) وغالباً ما كان يحض على أهمية استعمال هذا التحديد. وهذا التحديد يرينا ان البراجماتية ليست إلا نتيجة له. ولذلك أميل إلى اعتبار (باين) الجد الأول للبراجماتية، وتشونسي رايت وهو شخصية ذائعة الصيت في تلك الفترة. لم يكن ليتغيب عن اجتماعاتنا ابداً، وكنت على وشك ان اسميه (المايسترو) (أي قائد) الاوركسترا (الفرقة) ولكنه خليق بأن يوصف استاذنا في الملاكمة الذي اعتدنا وخصوصاً أنا ان نواجه لكماته ولطماته القاسية مراراً وتكراراً..)(12-5).
من الواضح ان تشونسي رايت من أهم الأعضاء في هذا النادي، وله أثراً كبيراً على بيرس ووليم جيمس، حيث كان (أستاذاً) صاحب مكانة مرموقة في دائرة اصدقائه في كامبرج(23) وقد عده جيمس «استاذاً ضليعاً في ميدان التفكير العلمي ويتقبل آرائه على اعتبار انه حجة مبينة في الدعوة إلى الأهداف والطرائق العلمية»(24). وقد كان رايت من اشد المتشبثين بالفلسفة التجريبية، وربما كان هذا هو أحد الأسباب المهمة في إعجاب بيرس ووليم جيمس بهذا الرجل.
كانت تدور في هذا النادي المناقشات والمجادلات بين أعضائه، وقد حرص بيرس على أن يدون ما كانوا يتناقشون به خشية أن ينتهي الأمر إلى الحل دون أن يترك أي ذكرى مادية وراءه، «وقد حاولت - كما يقول بيرس- أن اكتب مقالاً عرضت فيه بعض الآراء التي كنت أحبذها دائماً تحت اسم البراجماتية، وقد نشرت هذه المقالات في عام 1878 في مجلة العلوم الشهرية الشعبية عدد يناير»(12-5).
المنهج البراجماتي:
ارتبطت بداية المنهج البراجماتي بقاعدة بيرس القول المأثور كما تسمى (Maxim) «الأخذ بالنتائج العملية التي ندرك أن تفكيرنا قد يكون على علاقة بها وعندئذ يكون إدراكنا لهذه النتائج هو كل مفهومنا عن هذا الموضوع»(1- 5)، هذه القاعدة التي عدت النتائج هي مقياس صدق الفكرة أو بطلانها، وبالتالي عدها بيرس الأساس في وصولنا إلى أقصى درجات الوضوح، لذا فهو لم يكتف بذكرها ذكراً عابراً، بل يعيد القول بها في أكثر من مكان بين كتاباته، فهو يقول «لكي نتأكد من معنى أي مفهوم عقلي، يجب ان نأخذ بعين الاعتبار النتائج العملية التي يمكن أن تحصل بالضرورة من ذلك المفهوم، ومجموع تلك النتائج يشكل المعنى التام لذلك المفهوم»(402-5)(422-5)(438-5).
انطلاقاً من هذا القول المأثور أصبحت البراجماتية منهجاً في الفلسفة، ولم يتخذ فلاسفتها عند دخولهم مجال البحث الفلسفي طريقة فلسفية خاصة تجعل منهم بناة مذهب فلسفي متكامل قائم بذاته لا يقبل الزيادة أو النقصان كما فعلت المثالية أو التجريبية، بل ان المعرفة الإنسانية معرفة محددة ونسبية قابلة للتغيير بتغير ظروف الإنسان، فجميع فلاسفة البراجماتية عدوا البراجماتية منهجاً وليس مذهباً فلسفياً، «فهي اتجاه لحل المناقشات الفلسفية والمنازعات الميتافيزيقية التي لولاها (البراجماتية) وبدونها ما كان يمكن لها ان تنتهي.. (فالمنهج البراجماتي يعد) محاولة لتفسير كل فكرة بتتبع واقتفاء اثر نتائجها العملية كل على حدة»(25)، ومن الممكن ان يكون أحد أسباب ولادة المنهج البراجماتي هو ذلك الصراع بين التجريبية من جهة، والتي تخلص للوقائع الجزئية والأشياء المحسوسة والعقلية من جهة أخرى، والتي تعنى بالحاجات الروحية للإنسان، لكنها تتنكر للوقائع الجزئية والأشياء المحسوسة. وقد وجد المنهج البراجماتي ان كلا المدرستين يهمل جانباً ويهتم بجانب آخر، وكلا الجانبين مهمين، فجاء المنهج البراجماتي لكي يفي المطلبين «فهو ديني كالعقيلين ولكنه في نفس الوقت مثل التجريبية شديد الإخلاص للوقائع الجزئية والأشياء المحسوسة»(26)، فغاية المنهج البراجماتي هو توضيح الفكرة ومحاولة الوصول إلى حل النزاعات الميتافيزيقية. فالبراجماتية عدوة لدودة لكل تكلف أو رطانة، فالفكرة يجب ان تكون واضحة وذات معنى ولها ما يؤكدها في عالم التجربة. يعد المنهج البراجماتي كل الأفكار التي تطرح لمناقشة "قضية ميتافيزيقيا الوجود هي إما رطانة بدون معنى، أو لامعقولة، كلمة واحدة تكون معرفة بكلمات أخرى تظل هي بحاجة إلى كلمات أخرى من دون ان يكون هناك تصور واقعي قد تم بلوغه" (423-5). ولذلك فإننا نرى ان بيرس يعد هذا «النوع من البحث محض هراء ويجب ان يستبعد تماماً، وما يجب ان يبقى من الفلسفة هو سلسلة من القضايا القابلة للتمحيص أو الاختبار بواسطة مناهج العلوم الحقيقية القائمة على الملاحظة»(423-5)، فقيمة الفكرة بالنسبة للبراجماتية «ليست في الصور والأشكال التي تثيرها، وليست في انطباقها على حقائق الموجودات وإنما في الأعمال التي تؤدي إليها هذه الفكرة، وفي التغييرات التي تنتجها في الدنيا المحيطة بنا، ولا يهم في هذه الحالة حقائق الأشياء في ذاتها لأننا نستطيع ان نفرض هذه الحقائق كيفما اتفق، فما جميع هذه الاحساسات إلا علامات ومعالم تقود العقل إلى التصرف والسلوك»(27) فالبراجماتي «يولي ظهره بكل عزم وتصميم - إلى غير رجعة- لعدد كبير من العادات الراسخة المتأصلة العزيزة على الفلاسفة المحترمين... انه ينأى بعيداً عن التجريد وعدم الكفاية وعن الحلول الكلامية ويعرض عن التحليلات القبلية وعن المبادئ الثابتة وعن ضروب المطلق والأصول المزعومة وهو يولي وجهه... شطر الحقائق والوقائع، شطر العمل والمزاولة وشطر القوة»(28). فالمنهج البراجماتي بهذا المعنى هو «عودة إلى المشخص، والى الفعل، أهمية هذا المنهج يكمن في انه قادر على تغيير موقفنا من المشكلات الفلسفية إذا ما اتخذنا منها دليلاً ومعياراً لسلوكنا وتفكيرنا وهو يحول النظرية إلى أدوات بعد ان كانت حلولاً لمعضلات،وتهمل السياق وأصل الفكرة وماهيتها والمعطيات والبنى والوظائف»(29)، وهذا بحد ذاته يعد انعطافة وتغيراً في وجهة البحث الفلسفي نحو الإنسان من جديد وترك ما هو نظري والاتجاه إلى ما هو عملي، يجمع بين الفكر والعمل محاولاً ان يجعل الأفكار قواعد للسلوك.
وبذلك تبقى البراجماتية اتجاهاً وليس مذهباً بالمعنى المألوف للكلمة، فهو (أي المنهج البراجماتي) «لا يأخذ بصحة معتقداته أو مبادئ معينة على سبيل الجزم أو اليقين إنما يمكن اعتباره اتجاهاً يجمع بين عدد من المشتغلين في الفلسفة في اطار من شأنه ان يقارب بين مواقفهم ازاء تناولهم مشكلات الفلسفة التقليدية بالدراسة والتحليل»(30).
الهوامش
ـــــــ
(*) استاذ الفلسفة المساعد في كلية الاداب الجامعة المستنصرية، معهد الابحاث والتنمية الحضارية.
(1) البعلبكي، منير: المورد، بيروت، دار العلم للملايين، 1977، ص.
(2) صليبا، جميل: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ج1، ص203. وكذلك انظر: جيمس، وليم: البراجماتية، ص65.
(3) صليبا، جميل: المعجم الفلسفي، ص203-204.
(4) الشنيطي، محمود فتحي: وليم جيمس، دار الحمامي للطباعة، مصر، 1957، ص92.
(5) جود، س، ي: مدخل إلى الفلسفة المعاصرة، ترجمة: محمد شفيق شيا، مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، ط1،1981، ص89.
(6) صليبا: المعجم الفلسفي، ج1، ص204.
(7) فام، يعقوم: البراجماتزم، دار الحداثة، بيروت، 1985، ص158.
(8) دوي، جون: نمو البراجماتية، مقال من كتاب فلسفة القرن العشرين، تأليف رونز واجبورت، ترجمة: عثمان نوية، دار الكتاب العربي، القاهرة، ص243-244.
(9) فايهنجر (1852-1933) فيلسوف الماني، عمله الرئيس (فلسفة كأنَّ) 1911.
(10) حنفي، حسن: مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، مصر، 1991.
(11) هو فردناند سكوت شلر Ferdinand Caning Scott، فيلسوف إنكليزي ولد في ألمانيا عام 1864 ومات في اغسطس عام 1937 وزميل كلية كوركيس كريستي في جامعة اكسفورد، وفي آخر حياته اصبح استاذاً للفلسفة في جامعة كاليفورنيا الجنوبية.
(12) شلر: المذهب الإنساني، نصوص مختارة من كتاب عثمان أمين: شلر، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، مصر، ص131، والكتاب نفسه، ص48.
(13) شلر: المذهب الإنساني، نصوص مختارة من كتاب عثمان أمين: شلر، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، مصر، ص131، والكتاب نفسه، ص48.
(14) للتعرف على محتوى هذه الرسائل راجع كتاب (آراء وشخصية وليم جيمس) لمؤلفه رالف بارتون بيري، ص464.
(15) بيري، رالف بارتون: آراء وشخصية وليم جيمس، ترجمة: محمد علي العريان، دار النهضة العربية، القاهرة، 1965، ص466
(16) المصدر نفسه، ، ص467.
(17) صليبا، جميل: المعجم الفلسفي، ج ، ص204.
(18) الاستخدام هنا لكتاب بيرس بحسب نظام الفقرة وليس نظام الصفحة فجاء الترتيب من اليسار إلى اليمين، الجزء ثم الفقرة بهذا الشكل (1-5) أي الجزء الخامس الفقرة الاولى، فهامش هذا النص يكتب هكذا Peirce: collected Papers (5.1)، وسنتبع هذا النظام في جميع فصول الكتاب.
(19) الاهواني، احمد فؤاد: جون دوي، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، ص86.
(20) دوي، جون: نمو البراجماتية، من كتاب فلسفة القرن العشرين، دار الكتاب العربي، القاهرة، ص232.
وكذاك: Hjalimar: The pragmatism of C.S. Peirce, P.24 & Peirce: Collected papers (5.412)
وكذلك: الاهواني: جون دوي، ص87.
(21) أحد مفكري ومثقفي أمريكا في نهاية القرن التاسع عشر، شارك في تأسيس النواة الأولى للبراجماتية، ومات قبل ان ترى البراجماتية النور. تأثر به (بيرس) وكذلك (جيمس).
(22) الكسندر باين (Alexander Bain) (1818-1903) ينحدر من اصل اسكتلندي شغل كرسي الاستاذية في المنطق في جامعة ايردين، ويرجع الفضل له في احتلال المدرسة التجريبية الانكليزية المكانة التي تستحقها في الاوساط الاكاديمية أهم مؤلفاته (الحواس والعقل) و(الانفعالات والارادة). راجع حول شخصيته وفكره كتاب الفلسفة الانجليزية في مائة عام لمؤلفه رردلف متس، ترجمة فؤاد زكريا، دار النهضة العربية، مصر، ص77.
(23) بيري، رالف بارتون: آراء وشخصية وليم جيمس، ص77.
(24) المصدر نفسه، ص178.
(25) جيمس، وليم: البراجماتية، ص63-64.
(26) المصدر نفسه، ص51.
(27) فام، يعقوم: البراجماتزم، ص151.
(28) جيمس، وليم: البراجماتية، ص71.
(29) الآغا، محمود: المنهج البراجماتي- أصوله ومحتواه، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 8/9 سنة 1980-1981، ص68.
(30) إسلام، عزمي: اتجاهات الفلسفة المعاصرة، دار وكالة المطبوعات، الكويت، ص41.