– بيداغوجيا تعليم الفلسفة : ......................تحيات بــلال موڨــاي
تعني البيداغوجية : القواعد التي ترتكز عليها العملية التعليمية ، وهي ترتبط بالكشف عن أفضل الطرق لإيصال المعلومة إلى التلميذ ، بتمكينه من تلقيها و فهمها و استيعابها ثم إتقان توظيفها من خلال التمارين ، وهكذا يتم الإنتقال من عملية المعرفة إلى المعرفة العملية و من هذه إلى توظيف المعرفة . غير أن المهارة البيداغوجية في الفلسفة لا ترتكز على المعلومة من حيث تمثلها أو استخدامها بقدر ما ترتكز على الآليات الفكرية و النفسية التي تتضافر لتلقي تلك المعلومات أو إنتاجها فتتفاعل معها وتنقدها أو توظفها . والمفاهيم الفلسفية ليست مجرد وحدات معلوماتية ثابتة وإنما هي مرنة ، متحركة ، يتغير معناها من مجال إلى آخر ومن فيلسوف إلى آخر .
فدور الأستاذ يتمثل في البداية في:
أولا :
أن يـُـقنع التلميذ بأهمية المفهوم .
ثانيا :
ثم يمكنه من قدرات فكرية تسمح له باستخراج دلالة المفاهيم من خلال شبكة العلاقات التي تقيدها بمفاهيم أخرى تتحدد معانيها بالتبادل.
وثالثا:
اكتساب التلميذ قدرات في التحليل لتمكينه من توظيف هذه المفاهيم بطريقة سليمة في الكتابة الفلسفيّة،
ورابعا :
وأخيرا الصعود بمستوى التلميذ إلى حد توليد لمفاهيم وإنشائها والقدرة على تقويمها وتعريفها وإقامة المقارنات بينها و التصرف فيها بإرادة ذكية وهادفة .
فليس من مهام الأستاذ ــ إذن ــ أن يحشو عقل التلميذ بمادة متغيرة نسبية النتائج أو أن يُـمارسة عليه سلطة أدبية و معرفية بغرض إقناعه أو إخضاعه إلى تلقي معلومات ومعارف ظنّية بدون أن يطلعه على آليات نقدها، أو يمكنه من فرص لتوظيفها . وعلى أستاذ الفلسفة أن يبين للتلميذ أن أهمية الفلسفة لا تكمن في مادتها و إنما لما توفره للتلاميذ من أساليب للنقد و طرق في البرهنة و التقويم .
وللعلم ، أن الفائدة الرئيسية التي يجب على الأستاذ أن ينشدها لا علاقة لها بالمادة إلا بشكل جانبي و هامشي ، وتتمثل في : حمل التلميذ على اتخاذ مواقف حرة وجريئة تستمد مشروعيتها من البرهنة و سلامة الحجة واتساقها مع مبادئ العقل والحس السليم لا من المعارف السابقة و الأحكام البديهية والمسقطة . فإذا لم تقدم هذه الأهداف في الاعتبار عند التدريس ، فسيجد التلميذ نفسه أمام نصوص فلسفية تطرح أفكارا ورؤى مجذومة و مقتطعة من أنساقها فتبدو أمامه غامضة متناقضة . و بالإضافة إلى ما ستسببه للتلميذ من إرهاق ذهني غير مجدي فهي ستزرع فيه أخيرا التذبذب وعدم الوقوف على رأي ، كما أنها ستضعف قدرته على اتخاذ مواقف إيجابية من النظريات والأفكار وستكسبه التردد واللامبالاة وتضعف لديه الجرأة والشجاعة على اتخاذ مواقف خاصة ومن جهة أخرى لن يقنعه أي موقف، و أخيرا سيشعر بأنه بهذه النصوص الفلسفية سيفقد أشياء ذات فائدة نفسية وعملية دون أن تسدّ هي الشغور الذي سيتركه فقدان الأحكام المسبقة والعادات والعقائد . وعندئذ يحق له أن يتساءل باستنكار " ما هي الفائدة من دراسة مثل هذه النصوص ؟ " فإن كان الغرض من ذلك : تمثلها واستيعابها على ما هي عليه من تضارب وتناقض ، فإننا سنغالطه ونقدم له "اللامعقول " على أنه " معقول " ، وهذا خطأ ، كثيرا ما يقع فيه أستاذ الفلسفة ، إما نظرا لكثافة المادة الفلسفية ، أو لجديته المفرطة في تعامله مع الفلسفة كمادة ، أو لتعصبه المذهبي ( كالماركسي ــ مثلا ــ ) ، أو استجابة لشروط الامتحان فيها، أو لنوعية النصوص المختارة التي تكون إخبارية لا برهانية ولا انشائية والمؤسف أن الغالب على النصوص أنها تعطي معلومات بشكل سردي .
ــ أهمية الفلسفة لا تلتمس في مادتها :
إذا كانت المواد العلمية و الأدبية تحمل فائدتها في ذاتها باعتبارها ذات قيمة مفيدة يؤيد نجاعتها الرأي العام والخاص، فان أهمية الفلسفة لا تلتمس في مادتها، و إنما في تنمية العادات الفكرية و الملكات الذهنية المرتبطة بطرق تحليل المعلومة و نقدها و الكشف عن مختلف علاقاتها و مستويات تكونها، لذلك اعتبرت المعرفة الفلسفية كذريعة للتفكير و ليست لغاية التحصيل، فالمادة تستحضر كوسيلة لمقاصد تتجاوزها و تتمثل في تحسين مختلف القدرات الذهنية : ( قدرة التلميذ على الفهم ، قدرته على التقويم ، و المراجعة النقدية، قدرته على تنظيم أفكاره و لم شتات معارفه، قدرته على التحليل و التركيب، قدرته على البرهنة بالاستنتاج أو بإرجاع النتائج إلى مبرهنات، قدرته على توظيف المفاهيم أو خلقها، قدرته على التمييز بين طرق الإقناع وأنواع الخطابات ... إلخ ) . فلو كان الأستاذ يهمل هذه الأهداف و يوظف درسه و طاقته لخدمة مادة فلسفية متشعبة و متناقضة، او أنه يرغم التلميذ بطرق و أساليب مختلفة على أن يأخذ برأي دون رأي ، ويقنع بفكرة دون أخرى و يناصر قضية و يبطل القضية النقيضة، ويلزمه بأن ينظر إلى المسائل من وجهة نظر ويهمل الأوجه الأخرى، فالأستاذ لا يضع نفسه ـــ بهذا العمل ــ في مواجهة مع التلميذ فقط ( لأنه لا شيء يقنعه بأن هذه البضاعة المختلطة وعسيرة الهضم وصعبة التوظيف ... ذات فائدة ويمكن أن تحل محل ما لديه من أفكار ومعتقدات وأراء وأحكام مسبقة تجد مرتكزها في المجتمع ويؤيد نجاعتها الجميع )، ثم يضع نفسه أيضا في مواجهة المجتمع الذي سيظن أن المادة الفلسفية هي الفلسفة عينها، وهذه المادة لو تم تعلمها فإنها ستسلب أشياء ذات أهمية ولا تعطي شيئا .
لهذه الأسباب فإن الأستاذ سيجد التلميذ منذ الوهلة الأولى متسلحا بالرفض والاستهزاء ، وأخيرا يجد الأستاذ نفسه في مواجهة مع التفكير الفلسفي ذاته فيسقط في التناقض والاضطراب والخلط بين الفكر والتفكير بين الحكمة ومقتضيات الخروج عنها: نجد الأستاذ في كثير من الأحيان يحذر التلميذ من الأحكام المسبقة ثم يزوده بمجموعة منها ويقدمها على أنها الأصوب بل الحقيقة ، وينتقد عقائد وأوهام وخرافات ثم يقترح عليه أخرى، وهو يمتدح المواقف الفلسفية الحرة والجريئة ومن جهة أخرى يحط من أهمية موقف التلميذ ويحاسبه حسابا عسيرا لأنه لم يجاريه الرأي . فهذا الأستاذ عوض أن يهتم بتنشيط قدرات التلميذ الذهنية وتمكينه من استقلالية التفكير وحرية اتخاذ المواقف ، فهو بعكس ذلك يرهقه بكم هائل من المعلومات الموجهة في إطار غايات لا هي بيداغوجية ولا هي فلسفية ولا حتى تعليمية وإنما ديماغوجية ، تدجينية ، دغمائية ، فلن يكون موقف التلميذ منها في أحسن الأحوال إلا أن يتلقنها ظرفيا استجابة لشروط النجاح في امتحان آخر السنة ، وهو في حقيقة الأمريقابلها بعزوف نفسي وعقلي . ثم إنه لا لوم على الأستاذ ـــ إذا صادف و أن كانت طريقة تدريسه تتفق مع البرامج الرسمية وظروف الامتحان ونوعية النصوص المختارة التي غالبا ما تكون إخبارية أو علمية أو وصفي أو قدحية أو مدحية ... ونظام الدعم فيها يسمى خطأ بنظام البرهنة عند أهل الاختصاص. وشتان بين النظامين .
وهكذا تكون الهوة سحيقة بين وسائل التطبيق وبين الأهداف المرسومة والمسافة شاسعة ( وربما على طرفي نقيض ) بين الموجود والمنشود . فلو تجاوزنا عن شطط قضية اختيار النص وافترضنا أننا إزاء نصوص فلسفية حقيقية فإنها ستعترضنا مشكلة أخرى أساسية تتمثل في كيفية إبراز القيمة التي تحتلها " المفاهيم " في النصوص الفلسفية والتي تقوم مقام الفروض في الأنساق العلمية . وأعتقد أن هذه القيمة تتحدد إنطاقا من أربع مهارات ( أو قدرات ) :
أ ــ تمكين التلميذ من القدرة على فهم النص، وذلك بتنبيهه إلى أهمية " المفهوم "، وكيفية التمييز بين المفاهيم المحورية والمفاهيم الفرعية وبين المفاهيم في سياقها الفلسفي والمفاهيم في سياقها العلمي أو الفني أو الأدبي ... الخ ثم التعرف إلى العلاقة الرابطة بينها . وهذا يمكّن التلميذ من الاكتفاء بمحتوى النص لفهمه .
ب ــ تمكين التلميذ من التحليل والتقويم والاستنتاج والتأليف ، وذلك لتبيين معنى المفهوم من خلال السياق الوارد فيه ، ثم إعادة ترتيب هذه المفاهيم بطريقة مختلفة عن تلك التي جاءت في النص ولكن أكثر وضوحا وتبسيطا ، أما جزء التأليف فيقوم أساسا على تركيز الأسلوب اللغوي المنسجم مع بناية المقال الفلسفي .
ج ــ توجيه التلميذ بواسطة الأسئلة للكشف عن المواقف الفلسفية الواردة في النص والتي تحمل طابع الحرية والجرأة ، ثم تشجيع التلميذ على اتخاذ موقف خاص يدعمه بالحجة ويدافع عنه عقليا . وذلك بتمكينه من طرق الحجاج والبرهنة والاستدلال و التمييز بين العقلي منها و الأدبي أو الخطابي أو السفسطائي ... الخ .
د ــ تمكين التلميذ من القدرة على الاستفادة من هذه المفاهيم بتوظيفها في المقال الفلسفي أو في خطابه وتنبيهه إلى مختلف السياقات التي يمكن أن تستخدم فيها بدلالات تستمد معناها من تنوع البنى حسب ما يجمع المفاهيم من شبكة العلاقات .
ــ في معنى النص والقراءة :
النصوص هي حوافز و مثيرات لتحريك حيرة التفلسف لدى لتلميذ والدفع به نحو التحرر الفكري من قيود الراي السائد . وكلمة نص في الأصل اللاتيني تعني النسيج . فهو إذن نسيج الكلمات المنظومة والمنسقة في خطاب تأليفي . وينطوي مفهوم النص على رسالة مكتوبة و مركبة كالعلامة اللغوية : ومن جهة نجد الدال (مادية الحروف وتسلسلها في كلمات ، جمل ، فقرات ، فصول ... ) ومن جهة أخرى المدلول ، وهو معنى أصلي أحادي الاتجاه ، قطعي تحدده صحة المعلومات التي تنقله. وقد جاء في تعريف النص : << نعرف النص بأنه جهاز نقلي لساني يعيد توزيع نظام اللغة ، وأفعال الحديث التواصلي >> وكي يكون النص فلسفيا فهو يستوجب نظاما من البرهنة أو من الجدل والحجاج كالنصوص الموضوعة في إثبات الموضوعات الميتافيزيقية أو الوجودية أو في نفيها باعتماد الجدل أو الحجج العقلية ، أو يكون النص الفلسفي إنشائيا ينطوي على تناول لقضية أو تعريف لمسألة أو لأطروحة فيها الكثير من العمق الفكري والإبداع، وهذا يختلف كثيرا عن النص الإخباري أو التاريخي حيث يعتمد الأسلوب السردي الحكائي ، والنص الأدبي حيث يطغى اللفظ على المعنى والأسلوب على الفكرة والمقصد الذاتي على المنطق الموضوعي، وكذلك يختلف عن النص الوصفي : العلمي أو الفني ، ناهيك عن النصوص التي تقال في القدح أو المدح أو المقارنة المعيارية القيمية او النصوص التي توافق هوانا ورغباتنا وتستجيب لنزواتنا أو حميتنا ونعرتنا كالنصوص الخطابية أو معظم النصوص المقتبسة عن الكتابات الماركسية أو النصوص السياسية لأجل الإعلام و الدعاية والإطراء أو التشهير والتدجيل ... الخ .
ـــ ولقد كانت النظرة إلى النص متأثرة بما يوحي به اشتقاق اللفظ ( كما أسلفنا ) على أنه " نسيج " ، لذلك اتخذ كــ "حجاب " يجب الذهاب وراءه والحفر فيه . بحثا عن " الحقيقة "، وعن مضمون الرسالة الجوهري واستجلاء الدلالة والمعنى . إلا أن النظرية التي يقترحها رولان بارط للنص ، متأثرة بالنزعة البنيوية ، فهي لا تعير أهمية للنص الحجاب ، وتسعى لاكتشاف النسيج وهو في حالة تشابك الأنظمة ، الصيغ ، الدوال ، وهي المحدد للعلاقة بين المفاهيم ، وفي هذا النسيج يتموضع الفاعل ، وهكذا ننتقل من البحث عن المعنى إلى الكشف عن آلية التمعين أي تحويل النظر من البحث عن ممكن لدلالة موضوعية ، تظهر وكأنها محنطة في الأثر / المنتج، إلى النص كإنتاج ، حيث يكون مناسبة لفضاء متعدد المعاني الممكنة، فالتمعين هو مرافعة يستطيع " فاعل " النص في غضونها هاربا من منطق الأنا المفكرة المدركة ، ودالفا إلى أنواع أخرى من المنطق . فكل نص فلسفي ينطوي على موقف ، ويحتاج إلى أن يتعامل معه بطريقة ما ، وبأسلوب إرادي حر ، فإذا ما اعتبرنا النص كما يقول بول ريكور : << هو كل حديث جعلته الكتابة ثابتا >> . نعرف أن التثبيت يأتي بواسطة الكتابة مكان الكلام بالذات ، والقارئ يحل محل المحاور ، كما أن الكتابة تحل محل العبارة والمتكلم ، غير أن القارئ غائب عن فعل الكتابة، والكاتب غائب عن فعل القراءة، وهكذا يتسبب النص في تغييب مزدوج: تغييب القارئ والكاتب، أما النص فيحل مكان علاقة الحوار، التي تربط صوت الأول بسمع الثاني، وهذا ما يفسح المجال لإمكانيات متعددة لفهم النص وما يشرع لعملية التأويل. فلا وجود لنص بدون إحالة إلى مرجع . من هنا بالضبط ، ستكون مهمة القراءة ــ باعتبارها تأويلا ــ هي إقامة الإحالة وتأسيسها. ففي حالة الحوار الشفوي يكون المتحاورون حاضرين بالنسبة إلى بعضهم البعض، إضافة إلى وجود وضعية خاصة ( يتم فيها الحوار )، ووسط معين ، وظرفية تحدد زمان الخطاب ومكانه . فالخطاب يحيلنا إلى واقع مباشر يمثل ظروف إرادة الخطاب . أما إذا ثبت الخطاب في نص فإن الإحالة تغير في اتجاهها، فيصبح النص في علاقة إحالة مع نصوص أخرى، التي تأتي لتحل محل الواقع الزماني والمكاني الذي يشير إليه الكلام الفعلي الحي ويذكر ب . ريكور طريقتين ممكنتين للقراءة : القراءة طبقا للموقف التفسيري ، كأن نتخذ من العالم الفعلي المحيط مرجعا يحيلنا إليه فعل القراءة، و إما أن نعتمد على بنية النص في حركيته نحو الدلالة، وهو الموقف التأويلي ، وهو حسب ب . ريكور يشكل الوجهة الحقيقية لفعل القراءة . وإذا كانت القراءة ممكنة فلأن النص ليس مغلقا على ذاته، بل يكون دائما مفتوحا على شيء آخر . أن نقرأ يعني أن ننتج خطابا جديدا و أن نربطه بالنص المقروء ، وهذا الارتباط بين الخطاب القارئ و الخطاب المقروء ، يكشف ــ ضمن التكوين الداخلي للنص ــ قدرة أصيلة على استعادة الخطاب لذاته بشكل متجدد ، وهي التي تُعطي خاصيته المفتوحة على الدوام ، والتأويل هو النهاية الفعلية لهذا الارتباط ، وهذه الاستعادة المتجددة .
فالنص الفلسفي يحيلنا بالضرورة إلى البحث عن القوالب المنهجية ، وطريقة البرهنة والصيغ اللغوية ، التي يصب فيها التفكير الفلسفي بشكل عام ، والتعبير الفلسفي بشكل خاص ، ويمكن من إيجاد الصيغ النظرية وطرق البحث التي تقترن مع مستويات استخدام المنهج الفلسفي . وهو في الوقت ذاته يظل نافذة مطلة على الثقافات الإنسانية والطريقة المثلى للتوليف بينها وجمع ماضيها بحاضرها ، وبعيدها بقريبها ، ويتيح للباحثين والدارسين إمكانية التوسع في البحث والتنقيب عن مآثر الفكر العالمي ، ويلزم القارئ أو الدارس في مقابل ذلك بالعودة إلى الأصول و المصادر التي نما وتطور فيها هذا الفكر أو ذاك ، و بالتالي يمكن من تشكيل نظرة نقدية فاحصة حول مبادئ الحضارة ، وقيم العقل من الناحية الابستيمولوجية ، ومحدداتها الشكلية والخطابية وآفاقه المستقبلية ويكشف النقاب عن الإشكاليت الفلسفية وصورها المعرفية والعلمية .
ــ المفهوم وتدريس الفلسفة :
يبقى المشكل الأساسي الذي يسترعي اهتمام الباحثين في مجال تدريس الفلسفة يتمحور حول كيفية استثمار النص الفلسفي ومن خلال ذلك تهذيب وتطوير القدرات الفكرية للتلميذ ثم إذا كان مفتاح النفاذ إلى فهم النظريات الفلسفية بصورة عامة والكشف عن خفايا التفكير الفلسفي ومقاصده ووسيلتنا للتمييز بين ما هو فلسفي في التفكير وبين ما هو غير فلسفي يتمثل في مشكلة " الحكم " فإن مفتاح الفهم في النص الفلسفي هو " المفهوم" .
لا يوجد مفهوم بسيط بل لكل مفهوم مكونات . والمفاهيم تعرف معانيها بحسب علاقاتها بالنظر إلى بعضها البعض ، كالأرقام في أنظمة الأعداد أو كالرتب العسكرية في نظام الجيش : فمفهوم " الآخر " ــ مثلا ــ يعلم بالقياس على مفهوم " الأنا " .
لذلك يجب على مدرس الفلسفة ( ودارسها ) أن يكونا على دراية كافية بأهمية " المفهوم " ليس باعتباره الحجر الأساس في بناء النص الفلسفي فقط بل باعتباره أيضا المفتاح الذي يمكن القارئ من فتح ما أغلق من النصوص الفلسفية ، والمعبر الذي لا بد منه لفهمها وتوظيفها ، ثم هو الأداة الأساسية التي إن تمكن التلميذ من القدرة على حذق استخدامها وتقديرها في سياقها، والتحكم في استعمالها، ثم في الأخير تغليب الإرادة الحرة في توظيفها توظيفا هادفا ، فإن التلميذ سيتمكن من الروح الفلسفية والمسك بزمام التفكير .
تعتبر المفاهيم المحورية في النص بمثابة المفاتيح التي بواسطتها يلج التلميذ إلى أفكار الكاتب ومقاصده ويعتبر الكشف عن شبكة المفاهيم عملية أساسية لتمثل قضايا النص . والتلميذ الذي سينجح في اتقان هذه الطريقة ، ستقع حمايته :
ــ أولا : من التسيب المفهومي الذي يوقعه في " الشقشقة " اللفظية والعبارات البراقة الخالية من المعنى .
ــ ثانيا : من التفكير الجوهراني والتشخيصي والمشدود إلى الحدس الحسي .
ــ ثالثا : من الاعتقاد في ثبوتية معاني المفاهيم واندراج كل منها في ماهيات فكرية ثابتة لها ما يقابلها في الواقع فتتطابق مع حقيقته .
ــ رابعا : من التعامل مع المفهوم كمجرد كلمة خالية من القيمة الفكرية المجردة .
وبالإضافة إلى ذلك سيكسب التلميذ ــ بإتقان هذه الطريقة ــ القدرة على التحكم في المفاهيم ، وذلك بالتمكن من فهمها انطلاقا من النص المتضمن لها ، ثم توظيفها أو نقدها ، أو إعادة تنظيم النص وتمثله انطلاقا منها .
وهذه الطريقة تفيد كثيرا في تفجير معاني النص من الداخل، دون أن يجد نفسه في حاجة أكيدة إلى إنارة خارجية بالالتجاء إلى معلومات أخرى أو نصوص تضاف إلى النص الأصلي ، بل يكفي أن ينتبه التلميذ إلى العلاقات حتى يتبين دلالة المفاهيم من بعضها البعض ، فيغدو معناها مرتبطا بمكانتها من النسق العام الذي يمثل بنية النص. وهكذا يفهم التلميذ ، أن " العقل " الذي يعنيه أفلاطون ــ مثلا ــ ليس هو " العقل " الذي يعنيه أرسطو ، وأن مفهوم العقل في التصور المثالي ، ليس هو نفسه في مدارس وتيارات مادية أو تجريبية ، وقس على ذلك كل المفاهيم الأخرى .
فالنظرية الفلسفية لا يوجدها الفيلسوف لخدمة المفاهيم ، بل بالعكس من ذلك ، إذ لكل مفهوم داخل نظرية ما وظيفة وموقع ، وليس له من دلالة مخصوصة إلا في نطاق تلك الوظيفة وذلك الموقع ، فإذا غيرنا فيهما تغيرت دلالة المفهوم حتى و إن بقي الاسم الذي يشير إليه هو هو لم يتغير .
فلو أخذنا مثلا مفهوم اللا وعي سنجد أنه قد وقع استعماله في معاني مختلفة ووظف طبقا لأغراض متباينة . ذكر ليبنيتز في كتاب تأملات حول المعرفة : لنأخذ كل عبارة على حدة ، وسنرى أن المعرفة ( أو الوعي العارف ) لأفكارنا لا يمكن أن يكون أبدا كاملا ، ويتضمن دائما عنصرا من اللاوعي ، وفي مقدمة " محاولة جديدة حول الفهم الإنساني " يقول : << الروح تفكر دائما ، ولكنها لا تكون دائما على وعي بما تفكر >> فنحن نمر بدرجات متصلة من الأفكار اللا واعية إلى الأفكار الواعية التي لا روية فيها ومنها إلى الأفكار الواعية التي فيها روية .
وقد استخدم شوبنهاور مفهوم اللا وعي ، يقول : << إن عقلنا هو لعبة للإرادة التي تضلله حول أسباب وأهداف سلوكنا ، ونعتقد أننا نخدم أغراضنا الخاصة ولكن نكون في الحقيقة مخدوعين بإرادة عمياء للطبيعة .
وعندما أخذ فرويد بمفهوم اللاوعي ، فإنه قد انتزعه من التأمل والاستخدام الفلسفي ليبني عليه نظرية "علمية" ، أفادت في معالجة بعض أمراض العُصاب ، كما أن فرضية اللاوعي وما استتبعها من نتائج قد غيرت إلى حدّ ما في تصورنا للإنسان .
وقد أنجز فرويد ذلك ابتداء من نظريته الأولى 1920 ، عندما أكد في كتابه مدخل إلى التحليل النفسي على الصراع القائم بين الوعي واللاوعي ، بين الأنا العاقل الإرادي والأخلاقي ، والغرائز كمصدر للعصاب، ويميز فرويد بين ثلاثة أنظمة نفسية ، الوعي ، والقبل وعي ، واللاوعي ــ وهذا الأخير خفي تماما ولا يمكن استدعاؤه من قبل الوعي ، وهو يتعاظم باستمرار ويتفاقم تأثيره من جراء سيرورة الكبت .
ويتبلور أكثر تصور فرويد لمفهوم اللاوعي في نظريته الثانية 1923 حيث تحول الاهتمام من اللاوعي المكبوت نحو الأنا الكابت ، واتضح له أن النشاط الكابت للأنا هو كذلك نشاط لاواعي . وهذه الحقيقة تفسر أن الفرد عندما يكبت نفسه يجهل ما يفعل ، ولا يدري ماذا يكبت بالضبط و الأنا يدافع عن نفسه ضد عودة المكبوت بآليات للدفاع لا يعرف هو نفسه طبيعتها ، وهذا دليل على أن نشاط الأنا لا يتصف كلية بالوعي ، بل يغمر اللاوعي جزءا هاما منه ، ومفهوم الأنا لم يعرف قبل فرويد مثل هذه الإضافة في إبراز علاقة المحايثة والتلازم بين الوعي واللاوعي.
فما يجب التأكيد عليه إذن في نهاية هذا المقال أن المفاهيم الفلسفيّة غير بريئة و إنما تحمل مقاصد وأغراض واضعيها وتتطور وتتكامل في اتجاه أهداف ذاتية أوموضوعية أو سياسية اجتماعية تكون ظاهرة أو خفية . وهي تتحول وتتغير معانيها ودلالاتها بتغير هذه المقاصد واختلافها . كما أن هذه المفاهيم تستقل وظائف مختلفة من نسق معرفي إلى نسق آخر .
ويجب توجيه التلميذ إلى العناية بالمفهوم من حيث هو مفتاح التفكير والإنتاج الفلسفي ، لا باعتباره يمسك بالوجود الحقيقي ، بل باعتبار وظيفته ، الافتراضية / الاستنتاجية ، في بلورة التفكير وحصر مجالات المعرفة وتحليلها ونشرها ونقدها وإعادة حصرها وتطويرها .
منقول: المصدر
تحيات بــلال موڨــاي