قراءة في ديون محمد نعمان الحكيمي
فلسفة الوجع في «شغاف يتداعى»
الخميس 26 يوليو-تموز 2012
أن تكون شاعراً ومتصوفاً، فأنت في رحلة الكشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف، فالصوفية والشعر يتعالقان ويتحدان بحب باذخ؛ لأنهما استبطان منظم لتجربة روحية تحمل معاناة البحث والتساؤل في أفق غريب.. بغية استشفاف المجهول، واكتشاف ما يختبئى وراء هذا الستار الكثيف للواقع المعيش بحثاً عن المعنى وتجلياً للمشاعر والأحاسيس..
والقارئ لنتاج محمد نعمان الحكيمي يحس بمدى تأثر الشاعر بالتصوف كثقافة ومنهج حياة، وعنوان ألم، وإسقاط وجع، فالذات المتوجعة التي هي فلسفة المتصوف الدائمة نجدها تحلق في ثنايا دواونيه الثلاثة، والثالث ديوانه « شغاف يتداعى» الصادر مؤخراً من مركز عبادي للدراسات والنشر عام 2012م، نجد فيه البؤرة والمرتكز لنصوص الديوان هو الألم والوجع الصوفي الخالص، وإن عمد أحياناً النزول إلى اهتمامات الإنسان العادي، وهي نكهة جاذبة خاصة بالحكيمي تحملها كاريزما نصوصه، التي تؤسس له التميز والتفرد عن غيره من الشعراء في المشهد الشعري اليمني المعاصر..إنه ينحاز إلى الألم، إلى حياة الجذب وجلد الذات بدروشة عبارتية دلالية، تطبع الخصوصية وتحط اسمه علماً وقطباً من أقطاب الثقافة الحالمية «تعز» لذا هو شغاف قلب محب يتداعى، في رحلة المريد، فيكتب مقدمة الديوان المثقف الصوفي الجنيد، كأنه يعمّد الديوان ويمنحه المباركة والطريقة معاً للوصول إلى ما وراء القلب والعيش في كنف الماوراء والغيب..
إذاً «شغاف يتداعى» العنوان وهو العتبة النصية للديوان الذي يدعونا للوقوف عنده، لما فيه من إيحاء ودلالة لمدى الحب والوجد التي وصلت إليه الأنا المتوجعة، والمتحدة مع الأنا الصوفية التي شغفها حباً ووجداً وألماً، «شغاف يتداع ى» ويتزاحم على بياض المخيلة، فيساقط برداً على الورق، وبياض الحلم ويسمو إلى سماوات من الدهشة والصفاء والنقاء...
فـ«شغاف يتداعى» جملة إسمية تدل على مدى الثبات والالتصاق للألم والوجع ولمعاناة الشاعر الدائمة، ربما في عذابات أناه الشعرية، أو معاناته مع الشعر نفسه.. وقد رسم خطه الروحي المنسكب من عل ليتماوج الألق في سماء الشعرية في تشوفها الصوفي وفي إشراقات اللمح وانبعاثات الفيض، وهي تعمل على غسل روح الشعر بكل تناقضات الأنا وترددها من الشك إلى اليقين والعكس....
الشعر يشعلني ويغسلني معاً
يحلو ببعثرتي وفي تجميعي
إنه طريق المريد إلى مبتغاه، وطريق الشاعر إلى الشعر، والشعر كائن ملكوتي علوي، نوع من الوحي والإلهام، قلب نبي كما يقول الرومانسيون.. يخاف الشاعر أن يغادره، ويفارقه وألا يأتيه يوماً... فهي فلسفة كونية للوجع، وعيش المتناقضات الوجود واللاوجود، الأمل والخوف والرجاء والأمان والشعور بطمأنينة وسكون مع ارتجاف واضطراب الوجع والتصادم، الدوران حول الماء والنار، الظلمة والضوء، الاشتعال والانطفاء غسل الروح من نيران الألم، إنه الوجود العام والخاص.. الانعتاق من القبضة الصارمة لوجوده المادي، والهروب والانزواء إلى الذات وألمها.. الالتجاء خوفاً وألماً إلى العالم العلوي متخذاً مدارج كلماته وتأوهاته الدائمة، وهو بين التقلبات المزاجية للشعر:
كم أتوجس من زيغ الشعر
من كنف الشجو
بين الفينة والنصف
أخاف أن تتركني القصيدة
للبرد
وللريح
وللرمل
الشعر زيغ وهدى حضور وغياب، له فضاء يتقاطع مع فضاءات اللغة والروح، والإشراق نزول وصعود مع آلام الأنا وأحزانها وتوجعها الدائم، خوفها من المجهول، ومن الأشياء المادية التي توصل إلى جفاف الروح التي تريد التعلق بالخصب والحياة الهانئة السعيدة، وإن كان ذلك في رحلة غيبية يريد الشاعر منها الاستمرار .. يريد الشجو النغم المحبب إلى أناه، فالشعر قطعة من فضة الروح التي تأبى الانتهاء والعدمية والسديمية، الرفض لعالم الواقع وطقوسه المعتادة، يريد لحياته الأخرى أن تتشكل في العالم اللامرئي، اللا متشكل الكامن في انسيابية الألم وتداخله وتشابكه في صور مختزلة “للبرد وللريح وللرمل” فكلما اتسع الخيال ضاقت العبارة..
أوراقي المصفرة في حدقات الليل
هل تصبح يوماً
انجيلاً
هل من سفر
يتمثل هذا الوجع المتجعد
من زفرات الروح
تتصل الروح في توجعها ومعانتها في بحثها الكشفي عن النور، مع لعبة الأضداد اللامتناهية، وهي تحمل في سرِّها المعركة الأزلية بين الخير والشر.. إنه التعبير عن حالة من اليأس والقنوط، متلازمة من الأوجاع يحسها الشاعر، لا يستطيع الفكاك منها وهو يعيش في عالم من المتناقضات، عالم يفتقد للدفء والحميمية، فهو سواد وربما بارد كالليل..
الهُّم الطافح بالزرقة في عينيك
لن يتبلور
زهراً وجداول
في كنف الشمس
مادامت قبلتك الليل
الهم الذي صار طافحاً مستعيراً اللون الأزرق في سيميائية الموت والغياب.. إعلان لمدى الألم والوجع، إنه الآخر الذي صار في حلولية واتحاد مع الذات.. للبحث معاً عن مظاهر الخير عن الحياة وتشكلاتها ونبضها، لا الموت والفناء في سراب الوهم والظلام.. رحلة من الألم، وحياة من الوجع هو هذا العالم السفلي الذي لا نحياه إلاَّ بالحزن والفقد واليتم، فكل المواجع استقرت..
هنا صهرتك أروقة الشتات
وأقصتك الجهات مع الجهات
يقرر الشاعر معاناة هذا الإنسان وألمه وشتاته، وغياباته الدائمة عن الخط الذي يجب أن يكون فيه ،فلا بد من منازلة الظلام، ومن معركة لإظهار الضوء في سماء الذات أولاً، ثم في سماوات الآخر.. فنرى الهوس الصوفي بالرؤية الكشفية، نظراً للعلاقة المتسمة بالفصام مع الواقع، فيكون هناك شحن انفعالي للذات ليظهر الصراع، فنسمع الصراخ والألم والقهر الذي يغدو إيقاعاً ذابحاً..
ياغنوة الشجن العميد
حتى متى لاتنضوي شغفاً على قلبي مواجيد النشيد
تظهر الرغبة هروباً بالذات وبها للوصول إلى مواجيد تتسع فيها الرؤية، ويكون فيها المدد والرغبة في التجاوز والاتساع في الرؤيا، والرؤيا هنا رؤيا القلب لا رؤية العين في تجربة عميقة تختزل العالم ببساطة الصوفي وزهده وكتلته الضاجة بالوجع والألم، فلسفة تظهر بوضوح وانسيابية متبوعة بوجد وجب.. مع نقد ثقافي لاذع لما وصل إليه حال التصوف نفسه الذي غدا دروشات وهرطقات لاتمت إلى عالم الروح بصلة فهي “هرطقات المناصيب” على تعبير الشاعر الذي يريد لعالم التصوف نقاءه وألمه ووجعه، نشداناً لتخليص الأنا من قيودها الأرضية لتحّلق في سماء الكشف والبحث عن الحقيقة.