دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية الدكتور محمد جبار المعيبد(منقول)
ـ 1 ـ
بدأ الاهتمام بالدراسات الصوتية خاصة ، والدراسات اللغوية عامة ، في البصرة ، هذا المصر ذي الموقع الفريد على حافة الوطن العربي . لذا فأذا ما اريد البحث في تاريخ الدراسات الصوتية عند العرب كان لابد ان يكون لعلماء البصرة نصيب اكبر في هذا الميدان الرحب .
والعلماء ، الاقدمون منهم والمحدثون ، يتفقون على ان هذا العلم اخذ مكانته وترسخت اركانه على يدي العالمين من علمائها هما : الخليل بن احمد الفراهيدي ( توفي نحو 175 هـ ) وتلميذه عمرو بن عثمان الملقب بسيبويه ( توفي نحو 180 هـ ) . لكنهم يتفقون على ان هذا العلم كان عندهما ناضجاً قد اكتمل ووقف على سوقه ، اذ نجد عندهما تحديداً دقيقاً لمخارج الاصوات العربية في زمانها ، ومصطلحات لصفات هذه الاصوات ظلت الى وقتنا هذا يعول عليها في تحديد اصوات عربيتنا المعاصرة .
هذا النضوج والاكتمال كان مثيراً للتساؤل والدهشة : ألم تسبقهما محاولات لعلماء اللغة والنحو في هذا الميدان ، من البصرة او غيرها من أمصار ألعرب او المسلمين ؟ وعلى الرغم من ان هذا التساؤل يشمل علم النحو الذي ورد في كتاب سيبويه بشكل أقرب ألى الاكتمال والنضوج ، الا ان البحث في الدراسات الصوتية قبل الخليل وسيبويه لا يوصل الباحث الى نتيجة تشير الى جذور هذه الدراسة عند من سبقهما من العماء . ومع هذا فأن الشك سيبقى يكتنف على هذا الجانب من النحث ، وسيبقى الافتراض قائماً : هن هناك جذوراً وبلبنات وبصمات لعلماء وسبقوا الخليل وسيبويه .
واذا ما قارنا هذا الاهتمام المبكر للدراسات الصوتية عند العرب بالدراسات التي اهتمت باصوات اللغات السامية الاخرى فستجد الاهتمام بعربيتنا ابكر من غيرها من اللغات ، لعوامل كثيرة ، اهمها الديني الذي جعل من القرأن الكريم محوراً
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 2 ـ
لكل الدراسات اللغوية والادبية .
لقد اثرت دراسات الخليل وسيبويه ـ وبخاصة الاخير منها ـ اهتمام علماء اللغة المشترقين والعرب فقدموا دراسات قيمة وضعت في ميزان النقد والتحليل ما قدمه هذان العالمان ، ومن تلاهما من علماء العربية ، وتوصلت الى ان هذه الدراسات الصوتية المبكرة كانت دقيقة في وصف مخارج الاصوات وصفاتها .
وقبل ان نعرض لما كتبه هذان العالمان البصريان عن النظام الصوتي للعربية ، لابد من التأكيد على ان سيبويه هو احد تلاميذ الخليل المقربين . وتذهب جمهرة كبيرة من الدراسين الى ان ما في ( كتابه ) ان هو الا علم الخليل وارثه ، رتبه سيبويه واخرجه في كتاب(1) . وعلى الرغم من غلو هذه الاقوال ، فأن فيها شيأً كثيراً من الصحه، نضراً الى ما نعهده من قوة العلاقه بين الاستاذ وتلميذه وكثرة تردد اسم الخليل في ( الكتاب ) .
هذه الاقوال تقودنا الى ان ننظر بحذر الى ما نسب الى الخليل في مقدمة
كتاب ( العين ) من اقوال في الدرس الصوتي عند العرب . فهي تختلف اختلافاً شديداً مع ماهو مذكور في ( كتاب ) سيبويه في وصف المخارج وعددها وصفات الاصوات والمصطلحات .
فأذا امنا بأن ما موجود في مقدمة ( العين ) هو للخليل ، فهذا يعني ان ما في ( الكتاب ) من الدراسة الصوتية مأخوذ عن غير الخليل ، او انه من اقوال سيبويه وأرائه . لكن سؤالاً ملحاًً يبقى يتردد : الم يطلع سيبويه على أراء استاذه في هذا الجانب ؟ الم يتأثر بها ؟ لم لم ينقلها ـ على الأقل ـ الى جانب أرائه التي عرضها ؟ اقول : ان الشكوك التي اكتنفت كتاب ( العين ) ونسبته الى الخليل ،
**************************************************************
(1) يقول الدكتور ابراهيم انيس ( الاصوات اللغوية ) وقد لخص سيبويه في اَخر كتابه المشهور اَراء الخليل في اصوات اللغة في دقة وأمانة .. )
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 3 ـ
قديماً وحديثاً ، تجعل الدارس يتردد في قبول في نسبة ما ورد من افكار في الجانب الصوتي في مقدمة ( العين ) الي الخليل ، لأن الكتاب لن يرو عن اي من تلاميذه المعروفين ، ولم يظهر الا بعد خمس وسبعين سنة من وفاته(4) .
الا ان ( العين ) بطباعته المتعددة ضل يحمل اسم الخليل أعتماداً على قول من قال ان خطة الكتاب ونظامه كانا من عمله . ومهما يكن فأنا سنعرض الى مادته الصوتية واختلافها مع كتاب سيبويه لنؤكد ترددنا في قبول نسبتها الى الخليل .
ـ 2 ـ
ففي مقدمة العين(5) ينقل عن الخليل انه ميز تسعة مخارج للاصوات العربية هي :
1 ـ الحلقية ( ع ، ح ، هـ ، خ ، غ ) ، قال : لان مبدأها من الحلق .
2 ـ اللهويه ( ق ، ك ) : لأن مبدأها من اللهاة .
3 ـ الشجرية ( ج ، ش ، ض ) ، قال : لأن مبدأها من شجر الفم ، اي مفرج
الفم .
4 ـ الأسلية ( ص ، س ، ز ) ، قال : لأن مبدأها من اسلة اللسان ، وهي
**************************************************************
(2) بعض العلماء الاقدمين اعتبروا هذا الاختلاف في الجانب الصوتي بين ( الكتاب ) و ( العين ) دليلاً على ان كتاب العين ليس للخليل . ومن هؤلاء ابو بكر الزبيدي صاحب كتاب ( مختصر العين ) .
( النظر : المزهر للسيوطي 1 \ 85 ) .
(3) ابراهيم انيس ، الاصوات اللغوية 108 . يقول : ( فأذا صح ان كتاب العين على الصورة التي انحدرت الينا من عمل الخليل بن احمد او أملائه ، فقد كنا نتوقع أذن ان نجد نفس المصطلحات في كلام سيبويه ووارث الكثير من علمه واَرائه ، ولكن كتاب سيبويه فقد خلى منها . وليس من التجني او المغالاة اذن ان تتخذ من هذه الظاهرة دليلاً جديداً على عدم صحة الرأي القائل بنسبة كتاب العين للخليل على الاقل على الصورة التي انحدرت الينا ) .
(4) ابن النديم ، الفهرست 48 .
(5) 1 \ 85
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 4 ـ
مستدق طرف اللسان.
5 ـ النطعية ( ط ، د ، ت ) ، قال : لأن مبدأها من نطع الغار الاعلى .
6 ـ اللثوية ( ظ ، ذ ، ث ) ، قال : لأن مبدأها من اللثة .
7 ـ الذلقية ( ر ، ل ، ن ) ، قال لأن مبدأها من ذلق اللسان .
8 ـ الشفوية ( ف ، ب ، م ) ، قال : لأن مبدأها من الشفة .
9 ـ الهوائية ( ي ، و ، الالف ، الهمزة ) ، قال لأنها لا يتعلق بها شيء .
اما سيبويه فقد عالج النظام الصوتي للعربية ضمن باب ( الادغام ) وفيه قسم الاصوات على ستة عشر مخرجاً . ولم يعط هذه المخارج اسماء ـ كما نقل عن الخليل ، وانما حدد كل صوت ، بمصطلح المخرج الاخير له ، واحياناً يشير الى الحيز الذي بدأ منه وانتهى اليه . وهذه هي مخارج الاصوات عنده(6) .
1 ـ اقصى اللق ( الهمزة ، هـ ، الالف )
2 ـ اوسط الحلق ( ع ، ح )
3 ـ ادنى الحلق ( غ ، خ )
4 ـ اقصى اللسان وما فوقه من الحنك الاعلى ( ق )
5 ـ اسفل من وضع القاف من اللسان ( ك )
6 ـ من وسط اللسان وبين وسط الحنك الاعلى ( ج ، ش ، ي )
7 ـ من بين اول حافة اللسان وما يليه من الاضراس ( ض )
8 ـ من ادنى حافة اللسان الى منتهى طرفه ( ل ) .
9 ـ من طرف اللسان بينه وبين مافوق الثنايا ( ن ) .
10 ـ من مخرج النون غير انه ادخل في ظهر اللسان قليلاً لأنحرافه الى اللام ( ر )
11 ـ مما بين طرف اللسان واصول الثنايا ( ط ، د ، ت ) .
12 ـ مما بين طرف اللسلن وفوق الثنايا ( ز ، س ، ص ).
13 ـ مما بين طرف اللسان واطراف الثنايا ( ظ ، ذ ، ث ) .
**************************************************************
(6) الكتاب 4 \ 433
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 5 ـ
14 ـ من بين باطن الشفة السفلى واطراف الثنايا العليا ( ف ) .
15 ـ من بين الشفتين ( ب ، م ، و ) .
16 ـ من الخياشم ( ن الخفيفة ) .
الى جانب هذه الاصوات ذكر اصواتاً اخرى ينطق بها العرب ، او بعضهم ، وليس لها رمز كتابي . قال :(7) وتكون خمساً وثلاثين حرفاً بحروف هن فروع ، واصلها من تسعه وعشرين وهي كثيرة يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرأن والأشعار ، وهي النون الخفيفة ، والهمزة التي بين بين ، والالف التي تمال امالة شديدة ، والشين التي كالجيم ، والصاد التي تكون كالزاي ، والف التفخيم ، يعني بلغة اهل الحجاز في قولهم : الصلاة والزكاة والحياة . وتكون اثنين واربعين حرفاً بحروف غير مستحسنة ولا كثيرة في لغة من ترتضى عربيتة ، ولا تستحسن في قراءة القرأن ولا في الشعر ، وهي : الكاف التي بين جيم والكاف ، والجيم التي كالكاف ، والجيم التي كالشين ، والضاد الضعيفة ، والضاد التي كالسين ، والطاء التي كالتاء ،والضاء التي كالثاء ، والباء التي كالفاء . وهذه الحروف التي تممتها اثنين واربعين جيدها ورديئها اصلها التسعة وعشرون ، لاتتبين الا بالمشافهة .. ) .
مما تقدم يبدو واضحاً ان تقسيم سيبويه لمخارج الاصوات اكثر دقة وشمولاً من تقسيم الخليل(8)مقارنة بالدراسات الصوتية الحديثة . وتقسيمه هذا يعتبر ( حصراً علمياً على أعلى درجة من التدقيق ، اعتمد على السماع الذي يسميه المشافهة ، كما اعتمد على استقراء اللهجات جيدها ورديئها(9) ) . وقد لاحض ابن جني(10) الفرق بين ترتيبي سيبويه والخليل ، قال بعد ان ذكر ترتيب سيبويه : ( فأما ترتيبها في كتاب العين ففيه خطل واضطراب ومخالفه لما قدمناه اَنفاً مما رتبه سيبويه وتلاه اصحابه
**************************************************************
(7) الكتاب 1 \ 432
(8) محمود السعران ، علم اللغه 99
(9) حسن ظاظا ، كلام العرب 16
(10) سر صناعة الاعراب 1 \ 50 ـ 51
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 6 ـ
عليه ) . وهذا يوضح سبب قبول كثير من الدراسيين ، وبخاصه النحاة منهم ، تقسيم المخارج عند سيبويه ، كالمبرد وابن السراج وابن عصفور ومكي بن ابي طالب والزمخشري وغيرهم .
واذا وضعنا جانباً الاصوات التي اختلف فيها الدارسون والمحدثون مع ما ورد عن سيبويه في وصف المخارج ، وهي : الضاد والطاء والجيم والقاف والعين ، فأن الدراسات الصوتيه الحديثه تتفق الى حد كبير مع سيبويه في تقسيمه . حتى ان H-blanc وصفه بأنه ( اكمل وادق وصف مبكر للاصوات العربيه وصل الينا حتى الآن(11) ) كما وصفه كانتيو بقوله : ( ونظرية مخارج الحروف عند العرب نظريه احكموا ضبطها بعنايه ) وان ترتيب المخارج ( موافق تقريباً لترتيبنا نحن )(12)
اما بشأن الاصوات ( ض ، ط ، ج ، ق ، ع ) فأن اكثر الدارسين للاصوات اللغوية يرون ان سيبويه لم يخطئ في وصفها ، وانما هي اصوات تطور مخرجها وصارت تنطق بشكل يختلف عما كانت عليه قبل الف عام(13) .
ـ 3 ـ
ونأتي الى صفات الاصوات ( السواكن \ الحروف ) وصفات مخارجها ، وهو ما يسمى في الدراسات الحديثه بالمصطلحات الصوتيه التي ترددت في ( الكتاب ) و ( العين ) . اذ نجد الاختلاف كبيراً والبون شاسعاً بين مصطلحات كل منها . حتى ان قارئاً لايعرف العلاقة بين المؤلفين يظنهما بعيدين زماناً ومكاناً ، او لا تأثير للاستاذ على تلميذه .
**************************************************************
(11) H.blanc , ( the sonorous vs Muffled Distinction in old arabic phonology ) , to honor
roman gakobson ,I,P,297 .
(12) دروس في علم الاصوات العربيه ، ترجمة صالح القرمادي ( تونس 1966 ) 31-32
(13) د . رمضان عبد التواب ، المدخل الى علم اللغة 62 - 82 ، بركشتراسر ، التطور النحوي للغة العربية 16 -20
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 7 ـ
وبدءاً نشير الى ان كتاب العين لايتعرض الى صفات الاصوات ( السواكن ) . كالذي نجده في كتاب سيبويه ، من حيث الجهر والهمس ، والشدة والرخاوة ، وانما تتردد فيه مصطلحات فيه بالمخرج ، واخرى تشير الى السواكن من حيث مخرجها . وهذا نقص في الدراسة الصوتية .اذاً لايكفي لمعرفة الحرف ( الصوت ) وتمييزه تحديد المخرج وحده ، دون علاقة ثانية هي صفة الحرف(14) .
فالمصطلحات الخاصة بوصف المخرج هي : ( والحلقية واللهوية والشجرية
والاسية والنصعية .. الخ ) مما مر منها عند الحديث عن مخارج الاصوات في العين هذه المصطلحات لم ترد في كتاب سيبويه لا من حيث ورود لفظة المصطلح ولا من حيث دلالته ، لكنها ترددت عند اصحاب المعجمات الذين تابعوا العين في وصف مخارج الاصوات .
اما المصطلحات التي تشير الى السواكن من حيث مخرجها لامن حيث
صفتها فهي : حروف الصتم ( 54 ص ) واحرف الطلاقة والطلق ( 54 ، 55 ) والذلاقة والحروف الذلق ( 51 ، 58 ) .
والحروف الصتم . كما جاء في العين(15) : ( التي ليست من الحلق ) ، وهذا مصطلح لم يتردد في غير كتاب العين .
اما احرف الطلاقة والطلق ، فجاء ضمن قوله (16) : ( فمهما جاء من بناء اسم رباعي منبسط معرى من الحروف الذلق والشفويه فانه لايعري من احد حرفيى الطلاقة او كليهما ) ، وهذا يعني انهما حرفان ، ولكن لم يعينهما ، وقوله(17) ( والمضاعف في البيان ... فيجوز فيه من تأليف الحروف جميع ما جاء من الصحيح والمعتل ومن الذلق والطلق والصتم ) . وفي مادة \ طلق من ( العين ) نجد قوله : ( ورجل طليق اللسان وطلق اللسان : ذو طلاقة وذلاقة ، ولسان طلق ذلق اي
**************************************************************
(14) بركشتراسر التطور النحوي 13
(15) مادة \ صتم ( 7 \ 107 )
(17) المصدر السابق 1 \ 55
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 8 ـ
مستمر ) . وهنا نجد ( الطلاقة ) مقرونة بالذلاقة من غير تعيين حرفيها . وهذا مصطلح كسابقه لم يرد عند سيبويه .
اما مصطلح الذلاقة والحروف الذلق ، فعلى الرغم من عدم وروده في
كتاب سيبويه ، فأنه نال نصيباً من الانتشار عند الدراسيين الاقدمين(18) . والمحدثين(19) . وهو مصطلح يشير الى مخرج بعض الاصوات التي تنتهي عند طرف اللسان . وقد حددت هذه الاصوات في مقدمة ( العين )(20) بـ ( ر ، ل ، ن ، ف ، ب ، م ) . قال : وانما سميت هذه الحروف ذلقاً لأن الذلاقة في المنطق انما هي بطرف اسلة اللسان والشفتين وهما مدرجتا هذه الاحرف الستة .
ـ 4 ـ
وننتقل الى كتاب سيبويه فنجد الامر خلاف ما وجدناه في كتاب ( العين ) ، نجد :
1 ـ ان مصطلحاته لا تتشابه لفظاً ولا دلالة مع مصطلحات ( العين ) . وهذا يعني ان سيبويه لايعرف كتاباً بهذا الاسم للخليل . كما يعني ايضاً ان هذه المصطلحات ليست مما يعرف الخليل . والا عرفها سيبويه .
2 ـ ان كتاب سيبويه يتعرض بشكل دقيق الى صفات الاصوات ( السواكن ) ، كالجهر والهمس ، بينما جل مصطلحات ( العين ) تتصل بصفات المخارج .
3 ـ ان سيبويه حدد هذه المصطلحات وشرحها ، وان كان الغموض اكتنف شرح بعضها لأسباب تتعلق ، ربما ، بلغة سيبويه .
**************************************************************
(18) ابن جني ، سر صلنبعة الاعراب 1 \ 74
(19) هنري فليش ، العربيه فصحى 36
(20) 1 \ 51
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 9 ـ
4_ شاعت مصطلحات بين الدارسين ، من بعده ، وجدها الكثيرون منهم صالحة لأن تكون معبره عن المصطلحات الصوتية الحديثة ، ومقابلاً مناسباً للمصطلحات في اللغات الاوربية .
قسم سيبويه صفات الاصوات الى قسمين رئيسين هما : الاصوات الشديدة والاصوات الرخوة . وهاتان الصفتان تتحكمان بمجرى الهواء وانتاج الصوت . وقد عرف الصوت الشديد بأنه ( الذي يمنع الصوت ان يجري فيه ) (21) وهذه الاصوات عنده هي : الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء والتاء والدال والباء .
اما الصوت الرخو فغلاف الشديد عنده . واصواته هي الهاء والحاء والغين والخاء والشين والضاء والظاء الزاي والسين والظاء الثاء والذال والفاء .
وكل صوت شديد او رخو ينقسم بدوره عنده الى صوت مجهور وصوت مهموس . وهذا التقسيم يعتمد على وجود الرنين الذي يصاحب نطق هذه الاصوات او عدم وجوده . فالصوت المجهور فيه رنين والصوت ، المهموس لارنين فيه .
وقد عرف الصوت المجهور بأنه : ( حرف اشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس ان يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت )(22) . واما المهموس ( فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه )(23).
والاصوات المجهورة عنده هي : الهمزة والالف والعين والغين والقاف والجيم والياء والضاد واللام والنون والراء والطاء والدال والزاي والظاء والذال والباء والميم والواو .
اما المهموسه فهي : الهاء والحاء والخاء والكاف والشين والسين والتاء والصاد والثاء والفاء .
ثم نجد عنده تقسيماً ثالثاً يعتمد على ارتفاع اللسان الى الحنك الى الاعلى او
عدم ارتفاعه . وسمي هذه الاصوات : المطبقة والمنفتحة. والاصوات المطبقة عنده
**************************************************************
(21) الكتاب 4 \ 434 .
(22) المصدر نفسه 4 \ 434 .
(23) المصدر نفسه .
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 10 ـ
اربعة : الصاد والضاد والطاء والظاء . وما عداها فاصوات منفتحة . يقول في وصف هذه الاصوات : ( وهذه الحروف الاربعة اذا وضعت لسانك في مواضعهن انطبق لسانك من مواضعهن الى ما حاذى الحنك الاعلى من اللسان ترفعه الى الحنك . اذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان والحنك الى موضع الحروف )(24) فالاطباق عنده صفة اساسية في تحديد الصوت ، بأنعدام هذه الصفحة يتكون صوت أخر . قال : ( ولولا الاطباق لصارت الطاء دالاً ، والصاد سيناً ، والظاء ذالاً،
ولخرجت الضاد من الكلام لانه ليس شيء من وضعها غيرها(25) .
والى جانب هذه الصفات نجد عنده ( الصوت المنحرف )(26) ، وهو انحراف اللسان مع الصوت . ومثل له بصوت اللام . واصوت المكرر وحرف شديد يجري فيه الصوت لتكريره وأنحرافه الى اللام ... ولو لم يكرر لم يجر الصوت )(27) ومثل له بصوت الراء .
ـ 5 ـ
وماذا بعد سيبويه وما نسب الى الخليل في الدرس الصوتي ؟ ... يذهب
الدكتور أبراهيم انيس الى ان العلماء الذين جاؤا بعد سيبويه ( اكتفوا بترديد كلامه في نفس الالفاظ والحروف دون ان يزيدوا عليه ما يستحق الذكر ، ودون شرح واضح لتلك الاَراء . بل حتى أولئك المشهورون من شراح كتاب سيبويه امثال السيرافي والرماني كانوا يقنعون في شرحهم للاصوات اللغوية بذكر الفاظ سيبويه وعباراته ومصطلحاته كما هي(28) ) .
**************************************************************
(24) المصدر نفسه 4 \ 436 .
(25) المصدر نفسه .
(26) المصدر نفسه .
(27) المصدر نفسه 4 \ 435 .
(28) الاصوات اللغوية 106 .
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 11 ـ
ولقد رجعنا الى كتب ثلاثة من علماء البصرة نستعرض ما ورد فيها من افكار في الدرس الصوتي ، هم : ابو الحسن سعيد ابن مسعدة المعروف بالاخفش الأوسط ( ت نحو 215 هـ ) ، وابو العباس محمد بن يزيد المبرد ( ت 285 هـ ) ، وابو بكر محمد بن الحسن بن دريد ( ت 321 هـ ) .
والاخفش ، على الرغم من انه اسن من سيبويه ، فأنه تتلمذ عليه وعنه اخذ الكتاب ورواه . اما الخليل فهناك خلاف حول الاخذ عنه ، فبينما يذهب ابو الطيب اللغوي ال ( انه لم يأخذ عن الخليل(29) ) ، يؤكد ابو بكر الزبيدي انه ( صحب الخليل قبل صحبته لسيبويه(30) ) . وهذا يعني اطلاع الاخفش على المادة الصوتية في كتاب سيبويه ، مما له انعكاس في كتابه ( معاني القرأن ) ، وهو تفسير لغوي للقرأن الكريم ، مع العنايـة بالجوانـب الصوتيـة والصرفية والدلاليـة(31) .
كتاب ( معاني القرأن ) يؤكد امرين : اولهما متابعة الاخفش لسيبويه في مصطلحاته ووصف مخارج الاصوات ، عامة ، وثانيهما : عدم اطلاعه على كتاب ( العين ) ، وبالتالي خلوه من اي مصطلحاته الصوتية التي مر ذكرها ، أو نقل لوصف مخارج الاصوات كما هي في العين .
واطلاع الاخفش على المادة الصوتية لسيبويه لايعني النقل الحرفي لها ، وانما نجده احياناً يصف بعض مخاج الاصوات وصفاً فيه دقة توحي بعلم الاخفش في هذا الفن . فبينما يضع سيبويه الدال والتاء في مخرج واحد هو ( مما بين طرف اللسان واصول الثنايا ) ، يضعها الاخفش في مخرجين متقاربين ، فالدال عنده ( بطرف اللسان واطراف الثنيتين )(32) ، ( والتاء بطرف اللسان واصول الثنيتين )(33) ، واللام عند سيبويه ( من ادنى حافة اللسان الى منتهى طرفه ) ، نجدها عند الاخفش
**************************************************************
(29) مراتب النحويين 111 .
(30) طبقات النحويين واللغويين 73 .
(31) مقدمة الدكتور فائز فارس لكتاب ( معاني القرأن ) 1 \ 57 .
(32) معاني القرأن 1 \ 107 .
(33) المصدر نفسه .
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 12 ـ
( بطرف اللسان قريب من اصول الثنايا ) ، وهي ( بالشق الايمن ادخل في الفم)(34) .
ونجد الامر معكوساً في مخرجي الصاد والنون ، اذ يضعهما سيبويه في مخرجين فيهما تفريق ودقة في الوصف .فمخرج النون عنده ( من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا ) . والصاد ( مما بين طرف اللسان وفويق الثنايا ) ، يضعهما الاخفش في مخرج واحد هو ( مخرج طرف اللسان )(35)
اما المصطلحات التي تصف هذه الاصوات ، فنجد لديه : الاطباق والمطبق ، والجهر والمجهور ، والهمس والمهموس(36) .
ـ 6 ـ
اما المبرد فقد عالج الاصوات اللغوية في كتابه المقتضب(37) ضمن باب الادغام ، كسيبويه . ومادته فيه ملخصة عن ( الكتاب ) ، وان لم يذكر ذلك . وعدد الحروف ( الاصوات ) عنده ( خمسة وثلاثون حرفاً ، منها ثمانية وعشرون لها صوره )(38) ، وبذلك يختلف عن سيبويه الذي عدها تسعـة وعشريـن حرفـاً(39) .
**************************************************************
(34) المصدر نفسه 2 \ 533 .
(35) المصدر نفسه 1 \ 23 .
(36) المصدر نفسه 2 \ 366 .
(37) 1 \ 192 ـ 196 .
(38) المقتضب 1 \ 192 .
(39) ابن يعيش في شرح المفصل ( 10 \ 126 ) والسيوطي في جمع الهوامع ( 2 \ 227 ) والطيب البكوش في النظريات الصوتية في كتاب سيبويه 145 ، والدكتور خليل العطية في الفكر الصوتي عند ابن دريد 175 وغيرهم ، يذهبون الى ان المبرد اخرج صوت الهمزة من الاصوات العربية . والذي في كتاب المقتضب خلاف ذلك . يقول ( 1 \ 192 ) : ( فمن اقصى الحلق مخرج الهمزة ، وهي ابعد الحروف ، ويليها في البعد مخرج الهاء ... ) . ويتتبع مخارج الاصوات التي ذكرها نجده لايذكر صوت الياء ( ي ) . ولعل ما نقل ابن يعيش عن المبرد بشأن الهمزة عن كتاب أخر غير المقتضب في فالنصوص التي يذكرها لا وجود لها في هذا الكتاب . فأذا ذهبنا مع محقق الكتاب ، محمد عبد الخالق عضيمة ، في مقدمة الكتاب ص 5 الى ان المبرد الف المقتضب ( وقد تأصل تفكيره ونضجت ثقافته واستوت معارفه ... ) ، فمن المحتمل انه راى رأياً أخر في الهمزة في كتابه المقتضب .
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 13 ـ
ترتيب الاصوات حسب مخارجها يشبه ، عنده ، الى حد كبير ترتيب سيبويه ، الا انه قدم بعض الاصوات وأخر اخرى من غير تفسير . فقدم ( الحاء ) على ( العين ) ، و ( الخاء ) على ( الغين ) ، و ( الشين ) على ( الجيم ) ، و ( التاء ) على ( الدال ) ، و ( الصاد ) على ( الزاي ) ، و ( الثاء ) على ( الذال ) ، و ( الواو ) على الباء والميم ) (40) .
اختلفت عن سيبويه في وصف بعض مخارج الاصوات ، فالضاد عنده ( مخرجها من الشدق ، فبعض الناس تجري له في الايمن ، وبعضهم تجري له في الايسر . ) (41) وهذا الوصف ليس وصف الضاد الفصيحة ، وانما هو وصف ( الضاد الضعيفة ) التي وضعها سيبويه ضمن الاصوات السبعة التي تكون اثنين واربعين حرفاً ، وعدها ( غير مستحسنة ولا كثيرة في لغة من ترتضي عربيته ، ولا تستحسن في قراءة القرأن ولا في الشعر .. ) . قال سيبويه ( الضاد الضعيفة تتكلف من الجانب الايمن . وان شأت تكلفتها من الجانب الايسر وهو اخف .. )(42) .
يذكر بعد ذلك صفات الاصوات كما هي عند سيبويه : الرخوة والشديدة ،
والمهموسة والمجهورة ، وغيرها . وعلى الرغم من ان كتاب ( العين ) معروف في زمانه الا اننا لا نجد اثراً لمصطلحاته عند المبرد .
اما ابن دريد فقد درس للاصوات اللغوية في مقدمة معجمه ( الجمهرة اللغة ) ، وهي دراسة تبدو فيها متابعته لما كتب لهذا الفن عند سيبويه وكتاب ( العين ) . وقد صرح بذكر الخليل و ( العين ) فأثنى عليه(43) . اما سيبويه فلم يذكره لامن قريب ولا من بعيد في هـذه المقدمة علـى الرغـم مـن افادتـه منه(44) .
**************************************************************
(40) المقتضب 1 \ 192 ـ 194 .
(41) المصدر نفسه 1 \ 193 . (42) الكتاب 1 \ 432 .
(43) الجمهرة 1 \ 3 .
(44) د . خليل العطية ، المصدر السابق 174 ـ 175 .
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 14 ـ
قسم ابن دريد(45) الاصوات الى ، مصمتة و مذلقة وهما مصطلحان صوتيان من مصطلحات كتاب ( العين ) . فالمذلقة ستة اصوات هي : (أ) جنس الشفة ( ف ، م ، ب ) (ب) جنس اسلة اللسان ( ر ، ن ، ل )
اما الاصوات المصمتة فأثنان وعشرون صوتاً ، ثلاثة منها معتلات ( و ، ي ، الالف ) ، وتسعة عشر(46) صحاح ، هي :
(أ) اصوات الحلق ( الهمزة ، هـ ، ح ، ع ، خ ، غ )
(ب) اصوات اقصى الفم ( ق ، ك ، ج ، ش )
(ج) اصوات وسط اللسان ( س ، ز ، ص )
(د) اصوات ادنى الفم ( ن ، ط ، د ) و ( ظ ، ث ، ذ ، ض )
ثم عاد مرة ثانية فقسم هذه الاصوات تقسيماً أخر تابع فيه سيبويه ، وان لم يذكره . قال : ( وذكر قوم من النحويين ان هذه التسعة والعشرين حرفاً لها ستة عشر مجرى ... )(47) ، ذكر في هذا التقسيم المخارج الموجزة مع تقديم وتأخير في بعض الاصوات ، كالاتي : ( الهاء ، الهمزة ، الالف ، العين ، الحاء ، الغين ، الخاء ، القاف ، الكاف ، الجيم ، الشين ، الياء ، السين ، الصاد ، الزاي ، النون ، اللام ، الراء ، التاء ، الدال ، الطاء ، الواو ، الباء ، الميم ، الفاء ، الظاء ، الذال ، الثاء ، الضاد ) .
وهذا التقسيم ، كما هو واضح ، فيه اضطراب ملحوظ يصعب تفسيره . ولعل ماذهب اليه الدكتور خليل العطية من ( ان النسخة التي بين ايدينا من الجمهرة مختلفة عن سواها )(48) فيه تفسير مقبول لهذا الاضطراب .
اما صفات الاصوات فكان فيها متابعاً سيبويه في الشدة والرخاوة . والجهر والهمس ، والاطباق والانفتاح ، وكتاب العين في المصمتة والمذلقة .
**************************************************************
(45) الجمهرة 1 \ 6 ـ 7 .
(46) كذا ، وقد ذكر بعد عشرين حرفاً \ صوتاَ .
(47) الجمهرة 1 \ 8 .
(48) الفكر الصوتي عند ابي دريد 177 .
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 15 ـ
ـ 7 ـ
وبعد ، فمن خلال هذا العرض السريع لدور البصرة في نشأة الدراسات
الصوتية يبقى لكتاب سيبويه دور الريادة في هذا العلم ، بعد ان ضل الذين جاؤا بعده من البصريين وغيرهم في فلك نضرياته الصوتية . ويبقى هذا الكتاب حتى يومنا هذا الوثيقة الاكثر اهمية في تاريخ الدراسات الصوتية العربية التي تؤرخ لعربيتنا منذ اكثر من الف عام .
دور البصرة في نشأة الدراسات الصوتية ـ 16 ـ
مصادر البحث
* الاصوات اللغوية ـ د . ابراهيم انيس القاهرة ( الطبعة الرابعة ) 1971
* التطور النحوي للغة العربية ـ بركشتراسر ، اخرجه : د . رمضان عبد التواب
القاهرة ( مكتبة الخانجي ) 1982
*جمهرة اللغة ـ لأبن دريد ، تصحيح : فريتس كرنكو ، الهند ( حيدر اباد
الدكن ) 1344 هـ .
* دروس في علم اصوات العربية - جان كانتينو ، ترجمة : صالح القرماوي .
تونس 1966 .
* سر صناعة الاعراب - ابن جني ، تحقيق مصطفى السقا وأخرين . القاهرة
( البابي الحلبي ) 1954 ، الجزء الاول.
* شرح المفصل ـ لأبن يعيش ، القاهرة ( المطبعة المنيرية ) 1928 .
* طبقات النحويين واللغويين - ابو بكر الزبيدي ، تحقيق : ابي الفضل ابراهيم .
القاهرة ( دار المعارف ) 1973 . الطبعة الثانية .
* العربية الفصحى - هنري فليش ترجمة : د . عبد الصبور شاهين . بيروت
( المطبعة الكاثولوكية ) 1966 . علم اللغة ـ د محمود السعران ، القاهرة ( دار المعارف ) 1962 .
* العين ـ الخليل بن احمد الفراهيدي ، تحقيق : د . مهدي المخزومي و د .
ابراهيم السامرائي ، بغداد ( وزارة الثقافة ) 1980 وما بعدها .
* الفكر الصوتي عند ابي دريد ـ د . خليل العطية ، مجلة كلية الاداب ( جامعة
البصرة ) العدد 16 \ 1980 .
* الفهرست ـ لأبن النديم ، تحقيق : رضا تجدد ، طهران 1971 .
* الكتاب سيبويه ، تحقيق : عبد السلام هارون ، القاهرة .
* كلام العرب ـ د . حسن ظاظا ، القاهرة ( دار المعارف ) 1971 .
* المدخل الى علم اللغة ـ د . رمضان عبد التواب ، القاهرة ( مكتبة الخانجي ) .
* مراتب النحويين - ابو الطيب اللغوي ، تحقيق : ابي الفضل ابراهيم . القاهرة
( دار نهضة مصر ) 1974 الطبعة الثانية .
* المزهر ـ للسيرافي ، تحقيق : ابي الفضل ابراهيم . القاهرة ( البابي الحلبي ) ،
بلا تاريخ .