لا شك أن الدرس اللساني بعمومه يجنح إلى الوصفية في دراسة الظاهرة اللغوية، وإلى استقراء أحكامها.
ولا يخفى أن الدارس العربي القديم قد انتهج في دراسته للغة العربية أسسا ومبادئ، هي بحق عماد المنهج الصحيح في دراسة اللغة.
إلا ان انتقال الباحثين العرب من وصفيتهم واستقرائهم إلى المعيارية قد شكل مثار جدل حول صحة البحث العربي.
وما يقال في انزياح هذا المنهج في القرون الهجرية الأولى مع سيبويه وغيره وجنوحه نحو المعيارية، ومن كونه حاد عن المنهج الصحيح في اتباع الظواهر اللغوية لا يمكن الجزم به البتة.
إن لسانيتنا تقتضي علينا مراعاة خصوصية المادة المدروسة" العربية "....لأن وصف الظاهرة اللغوية وفقط، يؤدي إلى ضرب العربية الفصحى.... وما نسمعه من ذوي "الشخصيات المهزوزة" ممن ينادون بتأطير المدارس على العامية وإلغاء الفصحى خير دليل.
إن خصوصية العربية تكمن في اتصالها بكتاب ربنا، وانتقال الدارسين القدامى إلى التدوين والمعيارية "النحو" إنما محافظة منهم على النص القرآني والسنة الشريفة.
فإن قال قائل:
إن اللسانيات السوسيرية تنادي بدراسة اللغة ذاتها ولذاتها، قلت قد كان لعلماؤنا القدامى السبق في ذلك:
يقول عبد الراجحي في كتابه فقه اللغة في الكتب العربية أن علماء اللغة القدامى درسوا العربية باعتبارها وسيلة لغاية وهي فهم النص القرآني، وهم بذلك ينتهون بها أيضا إلى درس لغة وهي لغة القران، وبهذا فإن العرب وإن كانوا قد اتخذوا الدرس اللغوي وسيلة، فإن هذا الدرس قد انتهى بهم إلى أن يكون غاية في حد ذاته.
إن ما يُرى من التطبيل والتزمير لابحاث الغربيين بل وحتى الانتقاص من شأن قدامى علمائنا لمن العجب العجاب، ألم يكن من مبادئ دوسيسير في منهجه استعمال العلامة اللسانية signe ling ؟ والتي " يرى دي سوسير انها كيان نفسي ذو وجهين، وهما: التصور concept ويضع له دوسيسير مصطلح الدال signifiant، والصورة السمعية image ويضع acoustique مصطلح المدلول signifié ". في حين نجد ان ابن سينا قد عرفها وأوردها في كتابه الشفاء "العبارة" والذي تبدو فكرته أوضح عرضا وأدق تصورا:" ومعنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا الفهم، فكلما أورده الحس على النفس اتفتت إلى معناه".
ولسانية التوزيعيين التي جاءت بأفكار كقابلية تقسيم اللغة إلى تقسيم ثنائي وأولي، على أساس الوحدة الدالة وغير الدالة، قد أُريد أن يكون لها موقع في العربية، ولم يُتبيّن لهم - أو تجاهلوا- ما للعربية من خصوص. يقول أستاذنا الدكتور الطيب دبة في مداخلة له في أخر ملتقى للسانيين بجامعة الأغواط أن مثل هذا التقسيم لا يمكن له أن يصدق على لغتنا العربية، فإن قال قائل:
اطلعت الطالبة على الدرس، يمكن أن تقسم إلى وحدات دالة وغير دالة، أي إلى مونيمات ومورفينات. نحو:
قرأ/ت/ال/....... إلا أن الملاحِظ يجد أن فعلا مثل قرأ لا يدل على وحيد دلالة، بل تعددٍ في الدلالات، مثل الفاعلية والمضيّ ........ يتبع