الفلسفة الأوروبية من عصر النهضة الى نهاية القرن 18 م
عصر النهضة وتطور الفلسفة الأوروبية والتنوير حتى نهاية القرن الثامن عشر
تقديم: موقاي بلال
في سياق انتقال مجتمع أوروبا الغربية من النمط الزراعي الإقطاعي محدود الأفق إلى النمط الجديد الصناعي الرأسمالي بآفاقه المفتوحة ، وعبر صراع وتناقض نوعي متعدد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية ، بدأت تراكماته الأولى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر .
في هذا السياق تولدت المفاهيم والأفكار والمدارس الفلسفية معلنة بداية عصر جديد للبشرية ، عصر النهضة والتنوير. لكن ولادة هذا العصر لم تكن عملية سهلة في المكان أو الزمان ولم تتم أو تظهر معالمها دفعة واحدة ، أو اتخذت شكل القطع منذ اللحظة الأولى مع النظام أو الحامل الاجتماعي القديم ، إذ أن هذا الانقطاع لم يأخذ أبعاده في الانفصام التاريخي بين العصر الإقطاعي القديم وعصر النهضة والتنوير الجديد إلاَ بعد أربع قرون من المعاناة شهدت تراكماً مادياً وفكرياً هائلاً من جهة ، وتحولات ثورية في الاقتصاد والتجارة والزراعة والمدن كانت بمثابة التجسيد لفكر النهضة والإصلاح الديني والتنوير من جهة والتلاحم مع هذه المنظومة الفكرية الجديدة من جهة أخرى ، تمهيداً للثورات السياسية البرجوازية التي أنجزت كثيراً من المهمات الديمقراطية لمجتمعات أوروبا الغربية في هولندا في مطلع القرن السابع عشر ، وفي بريطانيا من 1641 _1688 ، ثم الثورة الفرنسية الكبرى 1789 _ 1815 ، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر .
لقد كان نجاح هذه الثورات بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير أو عصر الحداثة ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني ، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي أحدثت زلزالاً في الفكر الأوروبي الحديث كان من نتائجه الرئيسية ” انتقال موضوع الفلسفة من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم وبين العقل والمادة (2) . والسؤال .. ما هي المقدمات المادية والفكرية التي دفعت نحو ولادة عصر النهضة ؟
المقدمات الأولى أو المرحلة الانتقالية نحو أسلوب الإنتاج الرأسمالي :-
قلنا في المحاضرة الأولى أن الفكر الذي ساد في المرحلة السابقة ( الإقطاعية ) لم يهتم ببحث المسائل المطروحة بما يدفع نحو الانتقال من حالة الجمود أو الثبات إلى حالة النهوض والحركة الصاعدة ، ولم تسفر تلك المرحلة ( التي ما زلنا نعاني من رواسبها في وطننا حتى اللحظة ) عن نتائج إيجابية تذكر سواء في الفلسفة أو في العلم ، ذلك أن “المفكرين” لم يتطلعوا إلى البحث عن الحقيقة بل عن وسائل البرهان على صحة العقائد الدينية خدمة لمصالح الملوك والنبلاء الإقطاعيين ورجال الدين .
كان لابد لهذه الفلسفة القائمة على مثل هذه الأسس أن تسير في درب الانحطاط في ظروف بدأ فيها يتعزز العلم مع بدايات تشكل أسلوب أو نمط الإنتاج الجديد في أحشاء المجتمع الإقطاعي ما بين القرنين الرابع والخامس عشر .
كان بداية ذلك التشكل عبر إطارين كان لابد من ولادتهما مع اقتراب نهاية تلك المرحلة وهما : إطار التعاونيات (3) ، وإطار المانيفاكتوره (4) التي كانت البدايات التمهيدية نحو ولادة المجتمع الرأسمالي حيث ظهرت المانيفاكتورات في المدن الإيطالية أولاً ثم انتقلت إلى باقي المدن الأوروبية .
في هذه المرحلة الانتقالية ، نلاحظ تطوراً ونمواً للمدن وظهور التجار والصناعيين وأصحاب البنوك ، والاكتشافات التكنيكية المغازل الآلية – دواليب المياه – الأفران العالية ودورها في صناعة التعدين واختراع الأسلحة النارية والبارود والطباعة في أواسط القرن الخامس عشر .
فيما بعد تم إحراز نجاحات أخرى عززت تطور أسلوب الإنتاج الرأسمالي الصاعد والمنتشر في أوروبا ، وارتبطت هذه النجاحات بعناوين كثيرة ضمن محورين أساسيين :
1. الكشوفات الجغرافية مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر ، خصوصاً اكتشاف أميركا والطريق البحري إلى الهند ورحلة ” ماجلان ” حول الأرض وبالتالي إرساء أسس التجارة العالمية اللاحقة.
2. ترافق كل ذلك مع تغيرات ثقافية وفكرية رحبة كسرت الجمود الفكري اللاهوتي السائد ، وأدت إلى ” تهاوي استبداد الكنيسة في عقول الناس ” وإخفاق وتراجع نفوذ الكنيسة الاقتصادي والسياسي ، وظهور مجموعات من المثقفين البرجوازيين قطعوا كل صلة لهم بالكنيسة واللاهوت الديني المذهبي ، وارتبطوا مباشرة بالعلم والفن ، وقد سمي هؤلاء بأصحاب النزعة الإنسانية “HUMANISM “، ( وهو مصطلح نورده هنا لأهميته إذ أنه دل آنذاك على الثقافة الزمنية في مواجهة الثقافة اللاهوتية أو السكولائية التي تحدثنا عنها في المحاضرة السابقة ) وقد أخذ هؤلاء المثقفون من أصحاب النزعة الإنسانية على عاتقهم معارضة ونقض المفاهيم والعلوم الدينية الكنيسية عبر نشر علومهم الدنيوية التي كانت بالفعل أقرب إلى التعبير عن مزاج البرجوازية الصاعدة آنذاك.
إنَ المسألة المركزية هنا التي نلفت الانتباه إليها ، هي أن هذا العصر سمي عصر البعث renaissance الذي تولت قيادته ووجهت مساره الطبقة البرجوازية الصاعدة آنذاك .
وفي ظل هذا الوضع _ كما يقول المفكر العربي سعيد بن سعيد العلوي _ كان من “الطبيعي” أن تسعى البرجوازية الصاعدة بعد أن امتلكت مقومات الوجود الاجتماعي والسياسي إلى نشر ما تؤمن به من قيم ومعتقدات وآراء وأفكار في كافة مجالات العلوم والمعارف الجديدة ، حيث وجد الفكر الفلسفي العقلاني وفكر التنوير عموماً عند هذه الطبقة الرعاية والتشجيع ، ساعدها على العمل والإنتاج من جهة ، وأوجد لها التبرير الكامل بالمطالب الكبرى لها - كطبقة صاعدة - في المساواة في الحقوق والحرية في اعتناق الآراء المختلفة مع الكنيسة وفي التفكير والعمل خارج إطار الكنيسة أو الدائرة المقدسة ، حيث بدأت في التبلور ، المفاهيم والقيم الجديدة ، وبدأ الحديث عن المصلحة والمنفعة والصالح العام ، والرابطة الاجتماعية التي تعني الرفض الضمني للنظام القائم على أساس التمايز الاجتماعي ؛ إنه الانقلاب في التصورات الإيديولوجية ، فعوضاَ عن النظرة “العمودية” حيث يكون ترتيب الناس في أعلى وأدنى تبرز النظرة “الأفقية” لأعضاء الوجود الاجتماعي الواحد حيث يكون المبدأ الوحيد المقبول للوجود وللعمل معاً هو شعار “المساواة” (5) .
ولكن ما هي المنطلقات الأولية أو العناصر الجوهرية التي دفعت نحو هذا التشكل والاستمرارية في سيرورة عصر النهضة ؟؟
أولاً : المرحلة التاريخية الأولى لعصر النهضة
أعتقد أن كافة الدراسات التي تناولت المرحلة التاريخية الأولى من عصر النهضة وما يطلق عليها “المرحلة الانتقالية” تتفق على أن العنصر الرئيسي لهذا العصر بكل معطياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو: “الفردية أو الإقرار باهتمامات الشخصية الإنسانية وحقوقها ومصالحها كموقف نقيض للكنيسة التي ألغت هذا الحق وصادرته طوال أكثر من ألف عام ، دون أن نغفل إطلاقا دور التجارة التي شكلت العماد الاقتصادي للطبقة البرجوازية” ؛ التي وجدت في التجارة “سندها المعنوي بما تستدعيه من نظام في المعارف وفي القيم ، لأن عالم التجارة هو عالم الامتلاك والبضاعة والتنقل الحر في الزمان والمكان ، والتاجر كان يجد نفسه في ذلك العالم ممثلاُ ، فاعلاً و سيداً تام السيادة غايته الربح ولا حاجة له للراهب أو لسلطان الكنيسة” (6).
أما أبرز المفكرين الأوائل الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذه المرحلة هم:
- نيقولا ميكافيللي ( 1469 م. _ 1527 م. )
- هو من أوائل المنظرين السياسيين البرجوازيين ، حاول في مؤلفاته البرهنة على أن البواعث المحركة لنشاط البشر هي الأنانية و المصلحة المادية، وهو صاحب مقولة :” أن الناس ينسون موت آبائهم أسرع من نسيانهم فقد ممتلكاتهم” ، إن السمة الفردية والمصلحة عنده هما أساس الطبيعة الإنسانية؛ ومن جانب آخر فقد رأى أن القوة هي أساس الحق في سياق حديثه عن ضرورة قيام الدولة الزمنية المضادة ( البديلة ) لدولة الكنيسة؛ ويؤكد على أن ازدهار الدولة القوية المتحررة من الأخلاق ، هو القانون الأسمى للسياسة وأن جميع السبل المؤدية لهذا الهدف طبيعية ومشروعة بما فيها السبل اللاأخلاقية ( كالرشوة والاغتيال ودس السم والخيانة والغدر )؛ والحاكم عنده يجب أن يتمتع بخصال الأسد والثعلب ، وسياساته هي سياسة “السوط والكعكة”؛ هذه هي النزعة الميكافيلية التي تبرر كل شيء للوصول إلى الهدف السياسي ، وهي توضح معنى الفردية والإقرار بالاهتمامات الشخصية التي أشرنا إليها أعلاه.
- نيقولا كوبرنيكس ( 1473 م. _ 1532 م. )
- ساهم هذا المفكر في تحطيم الإيديولوجية اللاهوتية القائمة على القول بمركزية الأرض في الكون وذلك عبر اكتشافه لنظرية مركزية الشمسHelio Contricism التي قام على أساسها علم الفلك الحديث؛ وهذه النظرية من أهم منجزات “كوبرنيكس” على الإطلاق وهي تستند إلى مبدأين:_
أولاً: ليست الأرض ثابتة في مركز الكون بل تدور حول محورها الخاص؛ وقد استطاع من خلال ذلك تفسير تعاقب الليل والنهار.
ثانياً: الأرض تدور حول الشمس مركز الكون.
وبالرغم من أن كوبرنيكس أخطأ في موافقته على النظرة السائدة آنذاك عن “محدودية الكون التي أثبت العلم المعاصر أن الكون الذي نعيشه لامتناه ولامحدود ، كما أخطأ في أن الشمس مركز الكون” إلا أنه كما يقول إنجلز: ” تحدى هيبة الكنيسة في مسائل الطبيعة ووضع الأسس الأولى لبداية تاريخ تحرر العلوم الطبيعية من اللاهوت” .
جوردانو برونو ( 1548 م. _ 1600 م. )
فيلسوفاً وعالماً فلكياُ، قام بتطوير وتصحيح نظرية كوبرنيكس، بدأ حياته راهباُ وبسبب أفكاره المادية انفصل عن الكنيسة وتفرغ لنظرياته العلمية، آمن بـ “لا نهائية” المكان أو لانهائية الطبيعة، ورفض مركزية الشمس في الكون مؤكداُ على أن لا وجود لهذا المركز إلا كمركز نسبي فقط “فشمسنا ليست النجم الوحيد الذي له أقمار تدور حوله” فالنجوم البعيدة هي شموس أيضاً لها توابعها، كما افترض أن جميع العوالم في هذا الكون مأهولة ، يدفعه إلى ذلك إيمانه بأن كل ما في الطبيعة ذو نفس استناداً إلى إيمانه بمذهب حيوية المادة “HYLOTOISM ” الذي اعتنقه كغيره من الفلاسفة الطبيعيون(7) ؛ وهو أول من قال بوجود التجانس الفيزيائي بين الأرض والكواكب وهذه التنبؤات لم تؤكد علمياً إلا في أواسط القرن العشرين.
لقد حطم برونو التصورات القديمة عن العالم المخلوق ليجعل الكون ممتداً إلى ما لا نهاية وهو القائل بأن: “الكلمة الأخيرة في كل مجال من مجالات المعرفة تكمن في العقل وحده” ؛ ألقي القبض عليه من قبل محاكم التفتيش التي سجنته ثمانية سنوات أحرقوه بعدها على أحد أعمدة التعذيب بعدما رفض إنكار فلسفته وتوجهاته العلمية.
العلماء الطبيعيون:
ليوناردو دافنشي ( 1452 م. _ 1519 م.)
كان فناناً وعالماً موسوعياً ومصمماً تكنيكياً قام بوضع عدد من التصاميم لبعض الأجهزة أو الأجسام الطائرة والمظلات، وهو من أوائل المفكرين الذي استخدموا المنهج التجريبي الرياضي في دراسة الطبيعة ، كان ليوناردودافنشي من أوائل المفكرين الذين قَدَّروا عالياً افكار ابن رشد ، وهو الذي اطلق عليه صفة ” شارح أرسطو العظيم ” .
جاليليو ( 1564 م. _ 1642 م. )
وهو من الرموز الخالدة في علوم الفلك .. كان لاكتشافاته الفلكية بواسطة تلسكوب صممه بنفسه دوراً كبيراً في انتصار نظرية كوبرنيكس وبرونو وأطلق عليه اسم “كولومبس السماء” .
كان إيديولوجيي الكنيسة يعتبرون البرهان على صحة نظرية كوبرنيك وبرونو مستحيلاً؛ وبعد اكتشاف جاليليو أصبح مؤكداً صحة هذه النظرية.. لذا أصدرت الكنيسة مرسوماً بتحريم نشر أية أفكار عنها واعتبرت كل ما صدر عنها كتب محرمة؛ إن آراء جاليليو هذه أحالته إلى محاكم التفتيش حيث جرت محاكمته الشهيرة في 1633/02/13 التي اضطر فيها شكلياً إلى أن يتبرأ من “ضلالاته” و “أوهامه” وخرج من السجن بعد هذه “البراءة” ليؤكد بعد ذلك بصوت عال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة .. إنها تدور … إنها تــــدور!!
تميزت فلسفته بمعطيات مادية في كل استنتاجاتها بالرغم من النزعة المثالية في مقدماتها التي تتبدى في نظرته لأصل المجموعة الشمسية ، فعلى الرغم من قناعته بلا نهائية العالم حاول تفسير بنيان الكون بقوله: ” إن الله خلق العالم في زمن معين، ووضع الشمس في مركزه، ووهب الكواكب حركتها باتجاه الشمس عندما غير في نقطة معينة حركتها من مستقيمة إلى دائرية وهنا يتوقف الفعل الإلهي حيث تتولى الطبيعة امتلاك قانونياتها الموضوعية الذاتية التي يدرسها العلم وحده”.
يعتبر جاليلو من أبرز مفكري ذلك العصر الذين صاغوا النظرة الديئية (8)deism إلى الطبيعة التي إعتنقها عدد من فلاسفة ومفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ أسهمت هذه النظرة إلى جانب أصحاب النزعة الإنسانية والفلسفة البانتيئية ( وحدة الوجود ) في تعزيز وتطور الفلسفة العقلانية والمنهج المادي العلمي كمنطلقات أساسية لعصر النهضة.
ثانياً: المرحلة التاريخية الثانية أو تطور الفلسفة الأوروبية في عصر الثورات البرجوازية
أواخر القرن السادس عشر ونهاية القرن الثامن عشر :-
أدى تفسخ العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في النظام الإقطاعي الأوروبي إلى تغيير كبير في الدور الذي يلعبه الدين في المجتمع ورغم ذلك فقد ظل الدين يحتل مواقع أساسية وهامة في ذهنية الناس ونفوسهم ، ولكن لا شك أن تفسخ العلاقات الاجتماعية الاقتصادية وتراجع الهيمنة الثقافية الفكرية اللاهوتية أدى إلى خلق المناخ اللازم لقيام الثورات البرجوازية الأولى في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ بعد أن توفر الظرف الموضوعي الذي أدى إلى انتشار العلاقات الرأسمالية وتفشيها في مسامات المجتمع الإقطاعي وبروز العامل الذاتي عبر التحالف بين قوى البرجوازية المدينية الصاعدة، وشرائح من الأرستقراطية المبرجزة التي تشابكت مصالحها مع مصالح البرجوازية وتحولت ملكيتها للأرض كلياً أو جزئياً من حيث توجيه العملية الإنتاجية لخدمة أغراض وتوجهات النمط الرأسمالي الجديد ( الصاعد ) .
بالطبع اتخذت هذه العملية في سياق حركتها الصاعدة مساراً تدريجياً بالنسبة للرؤى والأهداف الفكرية والفلسفية العامة؛ فقد بدأت هذه الحركة خطواتها الأولى تحت راية النزعة الدينية الإصلاحية التي يتزعمها مارتن لوثر (1483 م. _ 1546 م. ) الذي كان مؤيداً ومطالباً بالإصلاح المعتدل إلى جانب أنه أنكر دور الكنيسة ورجال الدين كوسطاء بين الإنسان والله، وأكد أن “خلاص” الإنسان لا يتوقف على أداء الأفعال الخيرة والأسرار الغامضة والطقوس وإنما يتوقف على الإيمان المخلص الذي يستند إلى أن الحقيقة الدينية لا تقوم على “التقاليد المقدسة” والمراسم وإنما على الإيمان دون أي وساطة من الكنيسة، وقد عبرت هذ المطالب عن الصراع بين النظرة العامة البرجوازية المبكرة للعالم من جهة، والأيديولوجية الإقطاعية والكنيسة من جهة أخرى (9).
ومما لا شك فيه أن هذه النزعة الإصلاحية الدينية ساهمت في فتح آفاق القطيعة بين الدين والدولة وتعميق تطور مفاهيم المجتمع المدني والمثل السياسية البرجوازية ومؤسسات الدولة الديمقراطية من جهة؛ وتطور الفلسفة التجريبية والمنهجية العلمية من جهة أخرى، مما أدى إلى فقدان الدين لسيطرته في ميداني العلم والفلسفة، وهي خطوة هامة بالرغم من بقاء دوره بالنسبة لعامة الشعب في المجتمع الرأسمالي (10).
وفي ضوء هذا التطور الذي أصاب كل مناحي الحياة في عصر النهضة، رفع فلاسفة هذا العصر رغم الاختلافات بين مذاهبهم شعار “العلم” من أجل تدعيم سيطرة الإنسان على الطبيعة ورفض شعار العلم من أجل العلم.. لقد أصبحت التجربة هي الصيغة الأساسية للاختراعات والأبحاث العلمية التطبيقية في هذا العصر وأبرزها:
• صياغة القوانين الأساسية للميكانيك الكلاسيكي بما فيها قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن (1643 – 1727 ) .
• تطوير علوم الرياضيات والهندسة والفيزياء والأحياء_ ديكارت ولايبنتز
• اكتشاف الدورة الدموية- هارفي - ” تأكيد اكتشاف ابن النفيس”
• قوانين الميكانيك وتعريف مفهوم العنصر الكيميائي_ بويل.
• ميزان الحرارة الزئبقي والضغط الجوي_ تورشيللي ( أحد تلامذة جاليليو)
لم يكن سهلاً لهذه الاكتشافات العلمية وغيرها أن تكون بدون تطور الفلسفة عموماً والمذهب التجريبي على وجه الخصوص ، في سياق الحراك والتناقض والصراع الاجتماعي الدائم والمستمر بوتائر متفاوتة في تسارعها بين القديم والجديد ، إذ أنه بدون هذه الحركة والتناقض لم يكن ممكناً بروز الدعوة من أجل التغيير والتقدم التي عبر عنها فلاسفة عصر النهضة في أوروبا أمثال فرنسيس بيكون، ديكارت، هوبس، لايبنتز، سبينوزا.
- فرنسيس بيكون ( 1561 م. _ 1626 م. )
فيلسوف انجليزي “أول من حاول إقامة منهج علمي جديد يرتكز إلى الفهم المادي للطبيعة وظواهرها”(11) ؛ وهو مؤسس المادية الجديدة والعلم التجريبي وواضع أسس الاستقراء العلمي؛ فالغرض من التعلم عنده زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة وهذا لا يمكن تحقيقه إلاَ عن طريق التعليم الذي يكشف العلل الخفية للأشياء.
دعا أيضا إلى النزعة الشكية فيما يتعلق بكل علم سابق بحيث يجب أن تكون هذه النزعة الخطوة الأولى نحو الإصلاح وتطهير العقل من المفاهيم المسبقة والأحكام المبتسرة (الأوثان) والأوهام التي تهدد العقل بشكل مستمر (12).
لقد شك بيكون في كل ما كان يظن “أنه يقين حق” غير أن الشك عنده لم يكن هدفاً بذاته بل وسيلة لمعرفة الحقيقة؛ وأول خطوة على هذا الطريق تنظيف العقل من الأوهام الأربعة “أوهام بيكون”
أولاً: أوهــــــام القبيلة:
وهي أوهام طبيعية بالنسبة إلى البشرية عموماً، فقد زعم الإنسان باطلاً أنه مستوى الأشياء؛ والعكس هو الصحيح لأن إدراك الإنسان العقلي والحسي تصوير لنفسه وليس تصويراً للكون ، أي أنها أقرب إلى العرف والعادات الموروثة في بلادنا التي يصر الناس على أنها صحيحة رغم كل هذا التغيير من حولنا ورغم كل ما جرى لنا من كوارث وهزائم بفعل إيمان شعوبنا الأعمى بالجوانب المظلمة في تراثنا القديم.
ثانياً: أوهام الكهف :
وهي تتمثل في الأفكار التقليدية القديمة والتي تركز على الحاضر دون الميل إلى تغييره على أساس أن الأفكار السابقة ( القديمة) الدينية والاجتماعية وغيرها.. هي أفكار “لا يمكن الشك بها” كما يقول العامة؛ وفي سخريته من هذه الأفكار والمعتقدات القديمة ، يقول بيكون في كتابه الأورجانون(13) الجديد: “إن المعارف والمعتقدات القديمة المطلقة السكولائية هي حكمة مهلكة للمجتمع وشيء مفسد للأخلاق.. إنها حكمة الفئران التي لا تترك بيتاً بالتأكيد إلاَ وهو آيل للسقوط” .
ثالثاً: أوهام السوق:
وتنشأ من بعض الألفاظ التي يستخدمها الناس أثناء عملية المتاجرة، فالتخاطب هنا يتم عن طريق “لغة السوق” ووفقاً لعقلية السوق والعامة من الناس، حيث ينشأ عن سوء تكوين هذه الكلمات تعطيل شديد للعقل(14).
رابعاً: أوهام المسرح:
وهي الأوهام التي انتقلت إلينا من نظريات الفلاسفة المختلفة، وقوانين البراهين والأدلة الخاطئة؛ وهي التي يسميها بيكون “بأوهام المسرح” إذ أن جميع الأنظمة الفلسفية التي نتلقاها عن الفلاسفة من وقت لآخر ليست سوى روايات مسرحية في رأي ” بيكون ” .
إن بيكون رأى في هذه الأوهام التي يطلق عليها أحياناً “أخطاء العقل” عقبة في وجه الحقيقة وأن الوسيلة الوحيدة لتذليل هذه العقبة تكمن فقط في الأساليب الجديدة للتفكير، والوسائل الجديدة للفهم والعقل التي تستعين بالمنهج التجريبي في مواجهة المنهج الدوجمائي أو الجمود!!
إذن لقد كان بيكون “أعظم عقل في العصور الحديثة.. قام بقرع الجرس الذي جمع العقل والذكاء.. وأعلن أن أوروبا قد أقبلت على عصر جديــــد(15) .!!
- رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. )
وهو فيلسوف فرنسي وعالم رياضيات وفيزيائي وعالم فسيولوجيا؛ بعد أن أدى فترة تجنيده العسكرية ، استقر في هولندا الدولة الرأسمالية الأولى في عصره حيث كرس نفسه للبحث العلمي والفلسفي؛ وبسبب آراءه اضطهده اللاهوتيون الهولنديون مما اضطره إلى الانتقال إلى السويد عام 1649 حيث مات بعد ذلك بعام.
وترتبط فلسفة “ديكارت” بنظريته في الرياضيات وعلم نشأة الكون “الكوسموجونيا” والفيزياء؛ وهو أحد مؤسسي الهندسة التحليلية (16) .
كان “ديكارت” في مبحث المعرفة مؤسس المذهب العقلاني ، هذا المذهب الذي يرتكز عنده على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي “الشك الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية” ومن سلطة السلف ، الشك الذي يؤدي إلى الحقيقة عن طريق البداهة العقلية كالحدس_ التحليل_ التركيب (17) .
لقد أقام “ديكارت” وفق أسس الشك المنهجي والبداهة العقلية؛ يقينه الأول من مبدأه البسيط الذي عرفناه من خلاله “أنا أفكر.. أنا موجود” ، هذا المبدأ الأول هو بداية كل فكر عقلاني وهو ما سنجده مضمراً وصريحاً في الفلسفة العقلانية من ديكارت إلى ماركس، إنه المبدأ الذي وضع الذات والموضوع في علاقة ضرورية عقلية ديالكتيكية، وأسس مبدأ وحدة الفكر والوجود.. لكن “ديكارت” رغم ذلك كله فصل بين العقل والطبيعة بإرجاعها إلى ماهيتين مختلفتين هما: الفكر والامتداد، ولجأ إلى الإرادة الإلهية للربط بينهما.
وفي هذا السياق يؤكد المفكر العربي “إلياس مرقص” (18) أن: شرط تأسيس العقلانية في الفكر العربي يقتضي أولاً دراسة لمقولة العقل وابراز مقولة الفكر وتوابعها ولاسيما “المفهوم” ومقولة “الشكل” ويقتضي ذلك العودة إلى المبدأ الديكارتي العقلي “أنا أفكر.. أنا موجود” الذي يؤسس العقلانية على مفهوم الإنسان الفرد و الخاص و العام أوالكلي؛ الأنا التي قوامها الفكر والعمل ويقتضي ذلك أيضاً مجاهدة النفس ونبذ أوهامها ومسبقاتها وكبح أهوائها ونزواتها وجموحها على صعيد الفرد والجماعة والطبقة والأمة والحزب.
الأفكار الأساسية في فلسفة “ديكارت” :_
ينطلق في فلسفته من أثينية DUALISM الروح والجسد، ويسلم بوجود جوهرين مستقلين هما: مادي وغير مادي، يتمتع الجوهر غير المادي بصفة أساسية هي التفكير، بينما يتميز الجوهر المادي بالامتداد ، إنه كما يقول ماركس : يفصل فصلاً تاماً بين فيزيائه وميتافيزيقاه ففي إطار الفيزياء تشكل المادة الجوهر والأساس الوحيد للوجود والوعي” (19) .
لقد بدأ “ديكارت” من “التشكيك بيقينية جميع المعارف التي كانت تعتبر حقيقة لا يرقى إليها الشك” إنه ينطلق من الشك المطلق الكلي والراديكالي لكنه لم يكن لا إدرياً AGNOSTIC (ولا ريبياً ،( إنه ينتقد المعرفة الموجودة بهدف البحث عن معرفة أكثر يقينية ) ، يدفعه في ذلك الإيمان بوجود مثل هذه المعرفة ، فالشك عنده وسيلة لامتحان معارفنا ومنهجاً للوصول إلى اليقين ، فمهما اتسعت دائرة الشكوك يبقى هناك في النشاط المعرفي شيء لا يرقى إليه الشك ( الشك ذاته ) ، وفي كل الحالات يبقى وجود الشك ذاته ، وبما أنني أشك فإنني أفكر وبما أنني أفكر إذن أنا موجود..(20).
ولكن إذا كان الشك هو الوسيلة العقلية الوحيدة التي استخدمها “ديكارت” في البرهان على التفكير ، فما هي الكيفية التي بدأ بها شكوكه ؟ يجيب “ديكارت” أن من الممكن ألاَ يكون جسمي موجوداً فمن الجائز أن تكون هناك روح خبيثة أوجدتني على حالة أظن بها أن لي جسماً ، بينما لا أملكه في الواقع ، ولكني أعلم يقيناً بأنني أنا الذات المفكرة والشاكة لست وهماً بل موجوداً أنا أفكر إذن أنا موجود..
مشكلة المنهج عند ديكارت
نستنتج مما سبق أن معيار اليقين عند ديكارت لا يوجد في الممارسة ، بل في الوعي الإنساني “الوعي بأنني أفكر.. إذن فأنا موجود” وبالرغم من أهمية هذا المعيار ، إلاَ أنه يؤشر على النزعة المثالية عند “ديكارت” التي تتعمق بالمنطلقات الدينية التي وضعها أساساً لمذهبه الفلسفي ، فالبرهان على وجود العالم يوجب أولاً البرهان على وجود اللــه ، إذ “أن فكرة الله تتميز عنده بأنها وجود كامل لامتناه ، فهو العلة الأولى وبما أننا موجودون ومعلولون للعلة الأولى التي هي الله كان الله موجوداً؛ ورغم تأكيده على عدم ارتباط الفكر بالمدركات الحسية إلاَ أنه قال بوجوب تسلح العقل بالحدس والاستنباط للوصول إلى المعرفة اليقينية ، وحدد لذلك منهجاً يستند إلى أربع قواعد (21) هي:
1. التسليم بيقينية المبادئ التي تبدو للعقل بسيطة واضحة لا تثير يقينيتها أي شك “ادراك الحقائق البديهية_ قاعدة البداهة.
2. تقسيم كل مشكلة إلى أجزائها “قاعدة التحليل عبر خبرة الحواس”
3. الانتقال المنظم من المعروف والمبرهن عليه إلى المجهول الذي يتطلب البرهان “قاعدة التركيب أو المعرفة التي تُكتَسب عن طريق الحوار مع الآخرين”
4. عدم إغفال أي من مراحل البحث المنطقية والإحصاء والاهتمام بقراءة الكتب الجيدة.
أخيراً إن المهمة الاساسية للمعرفة عند ديكارت ، هي ضمان رفاهية الانسان وسعادته عبر سيطرته على الطبيعة وتسخير قواها لصالحه ، إن فلسفته _ كما يقول ول ديورانت_ تستند في جوهرها إلى التوجه في تفسير العالم كله (ما عدا الله والنفس ) بالقوانين الآلية والرياضية؛ وفي ضوء ذلك فإن الفكر التقدمي رأى في هذا الفيلسوف مفكراً عبقرياً وعالماً مجدداً “أدخل الفلسفة الأوروبية التي كانت من قبل لاهوتاً ، في مرحلة جديدة تماماً” أعاد تأسيسها على العلم: الرياضيات والفيزياء ،هكذا ارتبط تقدم الفلسفة في أوروبا بتقدم العلم/التجربة ارتباط معلول بعلة(22).
توماس هوبز ( 1588 م. _ 1679 م. )
أحد فلاسفة القرن السابع عشر ، تأثرت فلسفته المادية بالثورة البرجوازية الإنجليزية ضد الأرستقراطية الإقطاعية في تلك المرحلة؛ رفض هوبز في مذهبه في القانون والدولة نظريات الأصل الإلهي للمجتمع ، وقدم أول محاولة في نظرية العقد الاجتماعي (23) التي أكد فيها أن النظام الملكي المطلق هو أفضل أشكال الدولة ، ولكن ” تفسيراته وتحفظاته العديدة تترك متسعاً للمبادئ الثورية ، وتتركز فكرته لا على المبدأ الملكي بما هو كذلك وإنما على الطابع غير المقيد لسلطة الدولة ( المركزي )؛ وهو يبين ” أن سلطات الدولة تتفق مع مصالح الطبقات التي قامت بالثورة البرجوازية في القرن السابع عشر ، كما تضمنت نظريته في المجتمع والدولة بذور مادية للظواهر الاجتماعية ” (24) .
تأثر هوبز بالحياة الفكرية النشطة التي عبرت عن بدايات الصراع بين الأرستقراطية والبرجوازية في أوروبا عموماً وانجلترا بوجه خاص.
وكان موقفه منحازاً ضد المفاهيم المحافظة التي تطالب بإبقاء دور الكنيسة أو اللاهوت في السلطة السياسية وأعلن أن المسألة المحورية هي التأكيد على الطبيعة الدنيوية والبشرية للسلطة السياسية ، والمصدر التعاقدي لسلطانها.
لقد كان توماس هوبز أبرز أعلام الفلسفة “الراديكالية أو اليسار الفلسفي” التي تبنت المادية الميكانيكية ودافعت عنها؛ وهو أول من حول الكوزمولوجيا الجديدة “علم بنيان العالم” بصيغتها الذرية_ إلى أونطولوجيا شمولية متماسكة تدَّعى تفسير الوجود بجميع ظواهره وتجلياته تفسيراً علمياً استنادا إلى علم الحركة أو الميكانيك متأثراً بصديقه “جاليليو” (25) .
لقد أقام هوبز ترابطاً في فلسفته بين الله أو القانون الطبيعي وبين العقل ( الحالة المدنية أو المجتمع / الدولة ) إذ أن الله عنده هو العقل الذي يسكن القانون الطبيعي ، والله بطبيعته لا يستطيع إلاَ أن يكون عقلانياً ، وهو لا يستطيع أن يحول الخطأ صواباً أو الشر خيراً، قوانين الطبيعة إذن هي قوانين العقل الأزلية الخالدة ، وتتخذ علمنة السلطة شكل نقلها من الحكم المؤسس على الحق الإلهي إلى الحكم المؤسس على العقل الإلهي ؛ فالحالة الطبيعية هي حالة ينعدم فيها العقل، والحالة السياسية المدنية هي الحالة التي يحكم العقل عملية الإنتقال إليها “(26) .
جوتفريد فيلهلم لايبنتز ( 1646م. – 1716م. )
وصل من خلال اللاهوت “Theology” إلى مبدأ الترابط المحكم (الشامل والمطلق) بين المادة والحركة”بعكس “ديكارت” الذي يقول: بجوهرين مستقلين مادي وغير مادي؛ إلتزم بمبدأ التجريبية في المعرفة التي تعتبر الأحاسيس شيئاً لا غنى عنه للمعرفة ، ويوافق على القول بأنه لا يوجد شيء في العقل إلاَ وسبق وجوده في الأحاسيس ، غير أن التجربة والأحاسيس ، بالتالي لا تستطيع أن تفسر الجوانب الأساسية في المعرفة وهذه الجوانب الأساسية تتمثل في ضرورية بعض الحقائق وكليتها فلا تعميم معطيات التجربة ولا الاستقراء يمكن أن يكون مصدراً لمثل هذه الحقائق ، كان مثالياً موضوعياً حاول الجمع بين العلم والدين أو بين المادية والمثالية.. لقد رفض الكثير مما ورد في كتاب جون لوك “محاولة في الفهم الإنساني” الذي كان أداة لنشر أفكار المادية والتجريبية المادية ودافع عن نظريته التي “تدافع عن المثالية والقبلية في نظرية المعرفة” بتأكيده على أن الحقائق الكلية ذات منشأ قبليApriori”” يعود إلى العقل ذاته، وحسب تعبيره “أن الدماغ الإنساني لا يشبه لوحاً مصقولاً بقدر ما يشبه قطعة من الرخام عليها عروق ترسم ملامح التمثال الذي سينحته الفنان فيها”.. وهذا يتناقض مع الفهم العلمي المادي للمعرفة التي تشترط انعكاس المعرفة في الذهن عبر الحواس والتجربة والممارسة.
في مؤلفه “العدالة الإلهية”.. حاول أن يبرهن فيه على أن عالمنا الذي خلقه الله هو بالرغم مما فيه من شرور ، أحسن العوالم الممكنة _عندنا في الشرق مثلاً يقال: لو اطلعتم في الغيب لاخترتم الواقع_ فما نراه من شرور هو شرط ضروري في رأيه للتناسق في العالم ككل ، في رأينا إن جوهر هذه الفلسفة هو الاستسلام للأمر الواقع ، وهو يقترب من فلسفة ” ليس في الإمكان أبدع مما كان ” .
باروخ سبينوزا (1632م. – 1677م. )
وهو يهودي هولندي.. تشكل فلسفته أحد الاتجاهات الرئيسية في مادية القرن السابع عشر؛ وقد أكد على أن الفلسفة يجب أن تعزز سيطرة الإنسان على الطبيعة.. دحض سبينوزا افتراءات رجال الدين اليهود عن “قدم التوراة” وأصلها الإلهي.. فهي ، أي “التوراة” كما يقول ليست وحياً إلهياً بل مجموعة من الكتب وضعها أناس مثلنا وهي تتلاءم مع المستوى الأخلاقي للعصر الذي وضعت فيه.. وأنها “سمة لكل الأديان” حول الحكم يعتبر “سبينوزا” أن الحكم الديمقراطي هو أرفع أشكال الحكم بشرط أن يكون تنظيم الدولة موجهاً لخدمة مصالح كل الناس ، ويؤكد أن المشاركة في السلطة العليا حق من حقوق المواطن الأساسية وليست منَة من الحاكم؛ والحكم الفاضل في رأيه هو الذي يشعر فيه الناس أنهم هم الذين يسيَرون أمور الدولة وأنهم يعيشون وفقاً لإرادتهم الخالصة وفق عقلهم وتفكيرهم الخالص.
جون لــوك ( 1632م. – 1704م. )
من كبار فلاسفة المادية الإنجليزية، وقد برهن على صحة المذهب الحسي المادي الذي يرجع جميع ظروف المعرفة إلى الإدراك الحسي للعالم الخارجي.
رفض وجود أية أفكار نظرية في الذهن.. فالتجربة بالنسبة له هي المصدر الوحيد لكافة الأفكار..! وحول فلسفته يقــول ماركس :”لقد أقام لوك فلسفة العقل الإنساني السليم.. أي أنه أشار بطريقة غير مباشرة إلى أنه لا وجود لفلسفة إلاَ فلسفة البصيرة المستندة إلى الحواس السليمة”.
ومن آرائه الاجتماعية والسياسية قوله: “بأن مهمة الدولة هي صيانة الحرية والملكية الفردية، وعلى الدولة أن تسن القوانين لحماية المواطن ومعاقبة الخارجين عن القانون” وقال أيضاً ” إن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع “؛ وتتوزع السلطة عنده إلى سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية وسلطة اتحادية.. كما طالب بالفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد دعمت آراؤه التوجهات الليبرالية في بريطانيا آنذاك (27) .
التنويـــر الفرنسي والفلسفة الألمانية في القرن الثامن عشر (28) :-
أولاً : التنوير الفرنسي :
في فرنسا وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر.. تطور أسلوب الإنتاج الجديد _الرأسمالي_ في أحشاء المجتمع القديم -الإقطاعي-، وقد شهدت فرنسا قبيل الثورة البورجوازية الفرنسية (1789) بأربعة عقود حركة فكرية واسعة وقوية عرفت “بحـركة التنوير” ، وضع رجالها نصب أعينهم مهمة نقد ركائز الإيديولوجية الإقطاعية، ونقد الأوهام والمعتقدات الدينية والنضال من أجل إشاعة روح التسامح الديني وحرية الفكر والبحث العلمي والفلسفي وإعلاء شأن العقل والعلم في مواجهة الغيبية.
بالطبع لم يكن تيار التنوير الفرنسي متجانساً فإلى جانب المادية كانت المثالية وإلى جانب الإلحاد كان التيار الديني ، ولذلك فقد كان الفكر الإنجليزي أحد أهم مصادر فكر التنوير الفرنسي ، وكلاهما وجها نقداً جاداً للنظام الإقطاعي والحكم المطلق ، ومهدا الطريق من أجل هدمه وتغيره انسجاماً مع وجهة نظر المصالح البرجوازية الجديدة .
شارل مونتسكيو ( 1689م. – 1755م. )
وهو من أوائل رجال التنوير الفرنسي.. وصاحب كتاب “روح القوانين” ، وفي كتابه هذا يرى مونتسكيو أن “إمكانية وجود أشكال الحكم المختلفة لا تعود إلى الظروف الاجتماعية التاريخية بل إلى التوافق بين شكل الحكم وبين الظروف الطبيعية للبلاد وامتدادها الجغرافي ومناخها.. ثم يأتي بعد ذلك كله نمط حياة الشعب وأشغاله الرئيسية (تجارة ، زراعة ..الخ) ودرجة رخائه أو فقره أو معتقداته وأخلاقه .
وفي جميع أشكال الحكم يدرس مونتسكيو الشروط التي تكفل له تأدية المهمة المناطة به ، مهمة ضمان حرية الفرد ، كما يبحث في الظروف التي يتحول فيها الحكم إلى طغيان ، وهو يرى أن الضمانة الأساسية للحرية في المؤسسات الدستورية التي تحد من العسف وتكبحه ، يرى في التفاني وإخلاص كل فرد وتضحيته من أجل المصلحة العامة ، القوة المحركة في النظام الديمقراطي وأساس ازدهاره .
ومن أهم آرائه ، رأيه في الحكم المطلق الذي يعتبره شكلاً مناقضاً للطبيعة الإنسانية ومناقضاً للحقوق الشخصية وحصانتها وأمنها ، وفي مجال العقوبات يضع مونتسكيو حداً فاصلاً بين الفعل وبين نمط التفكير ، فالعقاب يستحق على الأفعال التي يقترفها الإنسان لا على أفكاره أو آراءه؛ إن عقاب الإنسان على أفكاره هو امتهان فاضح للحرية ، كان أيضاً من المعادين للتعصب الديني ورفض كافة أساليب التعذيب ودافع عن الزنوج وإلغاء الرق في أميركا.
فرانسوا فولتير ( 1694م. – 1778م. )
لقد خلد تاريخ الثقافة اسم فولتير.. فهو الكاتب الكبير والعالم السيكولوجي وفيلسوف الحضارة والتاريخ؛ عاش كل حياته مناضلاً ضد الكنيسة والتعصب الديني وضد الأنظمة الملكية وطغيانها؛ وقد تعرض بسبب آراؤه للملاحقة والأضطهاد حتى أنه قضى معظم سنوات عمره بعيداً عن فرنسا في ألمانيا وسويسرا (جنيف) وكتب فيها أجمل مؤلفاته “كانديد”.
وحول موقفه من الدين رفض فولتير جميع تعاليم الديانات _الإيجابية_ في صفات الله لكونها تفتقر إلى البرهان ، ورغم ذلك فقد رفض الإلحاد لكونه يشكل خطراً على النظام الاجتماعي القائم على الملكية الخاصة ، نلاحظ هنا أن موقف فولتير الرافض للإلحاد ، ليس سوى تعبيراً عن المصالح المباشرة للبرجوازية الصاعدة .
كوندياك (1715م.- 1778 ):-
أحد أبرز عقول المنورين الفرنسيين أصالة وتنظيماً ، من أشهر مؤلفاته ” رسالة الأحاسيس ” و ” لغة الحساب”. النشاط الفكري عنده ينبع من الاحاسيس وليس فطرياً ، بل يكتسب من خلال التجربة فقط
جان جاك روسو ( 1712 – 1778 ) :-
إن أهميته ليست في أفكاره الفلسفية النظرية.. ، بل في تلك الأفكار الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والتربوية التي طرحها ، وكان أكثر وضوحاً من كل المنورين الفرنسيين في عهده، وهو من الذين نادوا بالمصالح البرجوازية ضد الإقطاع ، فقد ناضل روسو ليس فقط ضد السلطة الإقطاعية بل كان مستوعباً لتناقضات المجتمع الفرنسي أكثر من غيره؛ فقد وقف مع وجهة نظر البرجوازية الصغيرة “الراديكالية” والفلاحين والحرفيين.. وكان موقفه أكثر ديمقراطية من معاصريه.
ففي كتابه “العقد الاجتماعي” يحاول روسو البرهنة على أن الوسيلة الوحيدة لتصحيح التفاوت الاجتماعي هي في ضمان الحرية والمساواة المطلقة أمام القانون؛ وهذه الفكرة لقيت ترحيباً فيما بعد عند رجال الثورة الفرنسية لاسيما اليعاقبه طرح روسو في العقد الاجتماعي نظام الجمهورية البرجوازي الذي أكد فيه أن الحياة السياسية يجب أن تقوم على سيادة الشعب المطلقة ، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعية وتنفيذية واقترح بدلاً منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسية الهامة؛ ساهم “روسو” في الإعداد الفكري للثورة البرجوازية الفرنسية بشكل فعال ، وكان متقدماً في أفكاره ، فهو يرى أن أصل الشرور والتفاوت بين البشر يعود إلى الملكية الخاصة باعتبارها سبب العداء والأنانية بين البشر .
ديني ديدرو ( 1713 - 1784 ):
من أبرز وجوه الماديين الفرنسيين على الإطلاق.. ينطلق في أفكاره من القول بأزلية الطبيعة وخلودها فليست الطبيعة مخلوقة لأحد ولا يوجد سواها أو خارجها شيء مطلق؛ وقف ضد التفسير المثالي اللاهوتي للتاريخ الإنساني ليؤكد مع زملائه الماديين الفرنسيين أن العقل الإنساني وتقدم العلم والثقافة هي القوة المحركة لتاريخ البشرية.
يرى أن الطريق إلى الخلاص من عيوب أشكال الحكم القائم لا يمر عبر الثورة بل من خلال إشاعة التنوير في المجتمع.
كان “ديدرو” الزعيم الحقيقي للاتجاه المادي، وقد آمن دوماً بحتمية الانتصار النهائي للحقيقة والتنوير، وقد برز دوره الكبير لتحقيق هذا الهدف في مشروعه العظيم “الإنسكلوبيديا” الذي شاركه فيه (دالامبير وفولتير وروسو) ، وقد انسحب الجميع من المشروع وبقي “ديدرو” ثابتاً حتى أنجز الموسوعة المكونة من سبعة عشر مجلًداً… ! ظهر أولها في عام 1751 ، وآخرها في 1772 .. وقد كان الهدف العظيم وراء إنجاز “الأنسكلوبيديا” يكمن في أن تصبح هذه الموسوعة أداة هامة لترويج الأفكار المادية الفلسفية والتنوير؛ كما تضمنت الحديث عن كل جوانب المعرفة الإنسانية في ميادين العلم والأدب والفن.. بل وفي التكنيك والإنتاج الصناعي والحرفي؛ وإلى جانب ذلك نشر الأفكار التقدمية .كان على الموسوعة أن تحارب الآراء الروتينية والأباطيل والخرافات والأوهام والعقائد المسيطرة.
تمثل المادية الفرنسية قمة الفكر الفلسفي المادي في القرن الثامن عشر ولقد كان عصرها هو عصر الإعداد للثورة البرجوازية الفرنسية.
لقد بذل أعداء الديمقراطية كل ما في وسعهم لـ “دحـض” المادية وتقويضها والافتراء عليها لكنها في النهاية استطاعت الانتصار على مفاهيم ورواسب العصور الوسطى كلها في المؤسسات والأفكار؛لأنها الفلسفة الوحيدة المنسجمة إلى النهاية الأمينة لجميع معطيات العلوم الطبيعية المعادية للأوهام والخرافات والنفاق.
ثانياً : الفلسفة الألمانية :
عمانويل كانت ( 1724 - 1804 ):-
لم يكن فيلسوفاً فحسب.. بل كان عالماً طبيعياً كبيراً أيضاً في مجالات الأنثروبولوجيا ، والجغرافية الفيزيائية والكسموجونيا (29) كما كان يحاضر في عدد من العلوم والرياضيات والميكانيكا والفيزياء والتاريخ الطبيعي العام.
في فلسفته يؤكد على ضرورة فصل ظواهر الأشياء ، كما هي موجودة بذاتها عن “الأشياء في ذاتها” ، ويقول بأن: “الأشياء في ذاتها لا يمكن أن تعطى لنا من خلال التجربة”.. أي أنه يحاول البرهنة على أن الأشياء في ذاتها مستعصية على المعرفة وأننا لا نستطيع معرفة سوى “الظواهر” .
هذا الفهم الفلسفي أدى بـ “كانت” إلى القول : بأننا لا نستطيع إطلاقا البرهنة على وجود الله “شيء في ذاته”.. ومع ذلك فقد اعتبر “كانت” أن الإيمان بوجود الله ضروري لأنه بدون الإيمان لا يمكن التوفيق بين متطلبات الوعي الأخلاقي وبين وجود الشر في عالمنا.
صاغ “كانت” فلسفته في مؤلفات عدة أبرزها:
1. نقد العقل المحض
2. نقد العقل العملي
في مؤلفاته انطلق من نظريته عن “الأشياء في ذاتها” والظواهر؛ إلى القول: أن هناك عالم مستقل عن الوعي (الحواس ، الفكر) ، وهو عالم الأشياء التي يسميها “الأشياء في ذاتها” والعالم المستقل عن الوعي هو العالم الموضوعي ، وهو هنا قريب من الماديين باعتبار أن الأولوية لأشياء العالم المادي وليست للوعي أو الحواس لكنه سرعان ما يبتعد في تفسيره لـ “الأشياء في ذاتها” عن الفهم المادي ويقترب كثيراً ليصبح مثالياً؛ إنه يؤكد على أننا مهما توصلنا إلى حقائق العلم أو الرياضيات فان هذه المعرفة ليست “معرفة الأشياء في ذاتها” لأن الأشياء في ذاتها كما يقول مستعصية على المعرفة وما يمكننا معرفته هو “الظــواهر” وحدها.
هكذا يخلص “كانت” إلى القول بأنه ليست صور ذهننا هي التي تتوافق مع أشياء الطبيعة بل بالعكس أشياء الطبيعة هي التي تتوافق مع صور الذهن.. إذن فان ذهننا لا يجد ولا يستطيع أن يجد في الطبيعة إلاَ ما سبق له أن أودع فيها قبل التجربة وبصورة مستقلة عنها بواسطة صوره الخاصة.
آراؤه الاجتماعية والسياسية :
يرى “كانت” أن التناقض بين الضرورة والحرية ليس تناقضاً حقيقياً، فالإنسان حر في بعض تصرفاته ومقيد في بعضها الأخر.. الإنسان مقيد لأنه عبر أفكاره وحواسه ورغباته ظاهرة بين ظواهر الطبيعة الأخرى ، يخضع لأحكام الضرورة المسيطرة في عالم الظواهر.
عارض مزاعم الإقطاع الألماني في “أن الشعب لم ينضج بعد للحرية؛ مبيناً أن التسليم بصحة هذا المبدأ يعني أن الحرية لن تأتي في يوم من الأيام.
إن “كانط” يفهم الحرية المدنية على أنها حق الفرد في عدم الامتثال إلاَ للقوانين التي وافق عليها مسبقاً واعترف بمساواة جميع المواطنين أمام القانون ، ولكنه – للأسف – قسم الناس إلى نوعين :
الأول: مواطنين وهم من المالكين لوسائل الإنتاج.
والثاني: أطلق عليهم “حاملي الجنسية” وهؤلاء ليسوا مواطنين ( ليسوا مالكين لوسائل الانتاج .. إنهم الكادحين والعمال والجماهير المستغلة.
يعتبر “كانت” رائد الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ومن الأركان الأساسية لأفكاره أنه “اعتبر التاريخ تطوراً للحرية البشرية وبلوغاً لحالة قائمة على العقل بالرغم من أنه وقف نصيراً لحق التملك للأشياء وللناس أيضاً.. هذه المفارقات المتناقضة حول الحرية ، هي سمة أساسية للتفكير الرأسمالي الذي يتحدث عن الحرية أو الليبرالية والمساواة للمؤسسة الحاكمة دون أي تطبيق لهذه المفاهيم بين المواطنين جميعاً ، وهذه القاعدة هي جوهر الممارسة الرأسمالية المشوهة ، المطبقة بصورة فجة ومتوحشة في العالم الثالث عموماً ، وفي بلادنا بوجه خاص .