عــــن الاقتضاء التخطابي (الاستلزام الحواري)
"Conversational Implicature"
نـــــور ولـــيـــد
ماجستير في اللسانيات الحديثة
كثيرا ما اعتمد التواصل بين البشر وبشكل كبير على اللغة، وعلى الكم الهائل من المعلومات، والألفاظ التي تستوعبها، ولولا قدرتها الهائلة على الإيحاء والإيجاز، لما أمكن قول عبارات مكثفة بألفاظ يسيرة، وهذا تحديداً ما يُسمى "بالاقتضاء التخطابي" "Conversational Implicature"، وواضع هذا المفهوم هو "غرايس".
اختار البحث ترجمة Implicature الى الاقتضاء بدلاً من الاستلزام( 1)، أو التضمين(2 )، إذ تستعمل في التراث العربي نفس لفظتي الاستلزام أو اللزوم للدلالة بنوع عام على أي واحدة من عمليتي الاستدلال ، أي الاستلزام المنطقي Logical Implication الذي هو محور علم المعاني و Implicature وهو من أهم المفاهيم التداولية دون تفريق بينهما. إلا أن ثمة فوارق حاسمة دعت "غرايس" إلى اشتقاق مصطلح جديد من المصدر Implicate وتخصيص عملية الاستدلال التي تجري في التداول اللفظي باسم Implicature. وعليه أُخذ مصطلح الاقتضاء المستعمل في أصول الفقه بمعنى شبيه بمفهوم "غرايس"(3 ).
فالقول الذي لا يتجاوز ظاهر لفظه، ولا يثير أسئلة، لا يقيم علاقة حجاجية بين المتخاطبين، سواء أكان المعنى الذي يحمله خفياً أم صريحاً(4 ). فمثلاً قول الأم لابنها:
- الفطور جاهر.
فيجيب الابن:
- الدوام اليوم مبكراً على غير العادة.
فقد اعتمدت إجابة (الابن) رفض تناول الفطور بسبب تقدم موعد الدوام الذي لم يُقَدَّم سابقاً.
عدَّ "غرايس" الاقتضاء التخاطبي السابق وأمثاله ضمن تصنيف عام لبعض المعاني التي يمكن أن تستدل عليها العبارات اللغوية، فهناك معان صريحة وأخرى ضمنية. وتشمل المعاني الصريحة ما يأتي:
أ- المحتوى القضوي: المتمثل في معاني مفردات الجملة.
ب- القوة الانجازية الحرفية.
أما المعاني الضمنية فتشمل:
أ- المعانٍي العرفية المرتبطة بجملها ارتباطا يجعلها لا تتغير بتغير السياقات، وتنشطر إلى : الافتراض المسبق والاستلزام المنطقي.
ب-المعاني السياقية التخاطبية تولد حسب السياقات التي تنجز فيها الجملة وهي بذلك معانِ اقتضائية تخاطبية(5 ). وقد افترض "غرايس" مبدأ تعاونيا لرصد هذه الاقتضاءات التخاطبية التي يعدها خرقاً لمبدأ أو أكثر من المبادئ ، وسابقاً كان يتوقف تأويل الملفوظات على عاملين اثنين هما، معنى الملفوظ، والسياق المقامي لإنتاجه. وأضافت النظرية هذه عاملاً ثالثاً تمثل في مبدأ التعاون( 6).
يعد الاقتضاء عند كثير من اللغويين واحداً من المفاهيم الأساسية في التداولية. فالاقتضاء مثال حي ونابض للأكثر الذي يتم إيصاله دون قول(7 )، والذي يمكن استدلاله بقرائن الأحوال والعلاقة بين القول والسياق(8 ).
وإن من أهم مميزات الاقتضاء التخاطبي(9):
1- قابلية النسخ: فالاقتضاء القابل للنسخ هو الذي يمكن إبطاله بإضافة مقدمة أو أكثر الى المقدمات الأصلية.
2- عدم الانفكاك: ويعني استحالة انفكاك المقتضيات عن التلفظ بمجرد إبدال الألفاظ بمرادفات لها.
3- قابلية الحسبان: بالإمكان إقامة دليل أو حجة على أي مقتضى من المقتضيات.
4- اللاعرفية: أي لا يكون الاقتضاء التخاطبي جزءاً من المعنى العرفي للألفاظ.
وأنواع الاقتضاء التخاطبي هي:
1- الاقتضاء العام Generalized Implicature، 2- الاقتضاء الخاصSpecial Implicatur، وهناك اقتضاء آخر هو الاقتضاء العرفي Conventional Implicature الذي لا ينجم عن مبادئ تداولية عليا كحكم وقواعد التخاطب، بل إنه يعود إلى المفردات المعجمية بالعرف أو بالاتفاق(10 ).
وعُدت الأفعال الكلامية غير المباشرة اقتضاءات تخاطبية(11 )، ويبدو أن هذا الرأي غير دقيق فقد يكون هناك تقارب بينهما ولكن بشكل بسيط، وهو أن معنى الجملة المراد غير ظاهر بل يُعرف من قرائن الأحوال والسياق، فمثلاً قول أب لولده:
- أعتقد أن الأذان قد حان، هل تذهب معي إلى المسجد؟
هي جملة ظاهرها استفهام، إلا أن الاستفهام ليس فعلاً كلامياً مباشراً بل غير مباشر، وهو أمر بالذهاب، أي:
اذهب معي إلى المسجد.
ومعنى الجملة الاقتضائي غير ذلك، فهي تقتضي أنَّ:
وقت الأذان قد حان فعلاً وليس اعتقاداً.
أو أنَّ الأب في مرحلة تعليم ولده الصلاة.
أو الأب متدين والابن على عكسه.
فالاقتضاء إخفاء المعنى ، إلا أن الفعل الكلامي غير المباشر لفظه موجود ، ولكننا نأخذ المعنى غير المباشر له.
الاقتضاء التخاطبي عند العلماء العرب :
اللغة كلها اقتضاء على وفق قول عبد القاهر الجرجاني: ((وأما "نظم الكلم" [فإنك] تقتضي في نظمها آثار المعاني، وتُرتبها على حسب ترتب المعاني في النفس. فهو إذن نظم يُعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو "النظم" الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء [فـ] ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها، على الوجه الذي اقتضاه العقل)) (12 ).
والاقتضاء في اللغة من قَضى(( فإنَّ كل ما أُحكمَ عمله أو أُتِمَّ أو خُتِمَ أو أُدّيَ أداءً أو أُوجبَ أو أُعلِمَ أو أُنفِذَ أو أُمضِىَ فقد قُضي))( 13)، والمقتضي نحو أخ وشريك وابن ، كلّ واحد منها إذا ذكر اقتضى غيرهُ لأن الشريك مقتض شريكاً والأخ مقتض آخر( 14)، أي: مطالبة المعنى لغيره كأنه ناطق بأنه لابُدّ منه(15 ).
وورد الاقتضاء عند النحويين نحو قولهم: ((لا يكون الاسم مجروراً إلا بالإضافة وهي المقتضية للجر، كما أن الفاعلية والمفعولية هما المقتضيان للرفع والنصب)) (16 )، وقد ربطوا الاقتضاء بنظرية العامل(17 )، وأما عند البلاغيين فقد ورد الاقتضاء، بمعنى قريب من المعنى الحديث وذلك ما يعرف بـ ((المعنى الضمني، أو المعنى غير الحرفي، أو معنى المعنى))( 18)، وهي نظرية " النظم " لعبد القاهر الجرجاني.
وقد أدرك علماء الأصول هذه الظاهرة، حين جعلوا "الفهم" صفة السامع والإفهام صفة المتكلم، وقسموا الدلالة على قسمين: لفظية وغير لفظية والثانية قد تكون وضعية أو عقلية( 19).
وقسموا الأحكام الثابتة بظاهر النص على أربعة أقسام : الثابت بعبارة النص، والثابت بإشارته، والثابت بدلالته، والثابت بمقتضاه، وهذا الأخير عبارة عن زيادة على المنصوص يشترط تقديمه ليصير المنظوم مفيداً أو موجباً للحكم وبدونه لا يمكن إعمال المنظوم فكان المقتضى مع الحكم مضافين إلى النص ثابتين(20 )، فالاقتضاء يحتاج إلى تأمل ونظر فهو إسقاط شيء من الكلام ، ولا يتم الكلام إلا به نظراً إلى العقل أو الشرع أو إليهما لا إلى اللفظ(21 ).
وبهذا نجد أن الاقتضاء موزع بين علوم العربية لا يوجد علم إلا ونراه فيه ، وهذا دليل واضح على أهميته وأن اللغة والتواصل لا يمكن أن يتما إلا بوجوده.
الهوامش والمصادر
(1) ينظر: الاستلزام التخاطبي بين البلاغة العربية والتداوليات الحديثة: أحمد المتوكل (بحث ضمن كتاب) التداوليات – علم استعمال اللغة_(مجموعة بحوث): إعداد وتقديم: د. حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، إربد الأردن، ط1/2011م ، ص 295.
( 2) ينظر: عندما نتواصل نغير_مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج_: د.عبد السلام عشير، أفريقيا الشرق، المغرب، (د.ط)/2006م .ص 46، والتداولية : جورج يول، ترجمة: د.قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون (نشر وطباعة)، بيروت_لبنان، ط1/2010م .ص 65.
(3) ينظر: الاقتضاء في التداول اللساني: عادل فاخوري، مجلة عالم الفكر، الكويت، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر،مج20، 3/1989م،ص 141.
( 4) ينظر: عندما نتواصل نغير، ص207.
( 5) ينظر: بين تداوليات سورل وتفكيكية دريدا: عبد الله بريعي، (بحث ضمن كتاب) التداوليات ،ص 266.
( 6) ينظر: ما التداوليات: عبد السلام إسماعيلي علوي، (بحث ضمن كتاب) التداوليات، ص21.
(7) ينظر: التداولية،ص 79.
(8) ينظر: عندما نتواصل نغير،ص 47.
(9) ينظر: الاقتضاء في التداول اللساني ،ص 157-162.
(10) ينظر: المصدر نفسه،ص 164.
(11) ينظر: الفعل اللغوي بين الفلسفة والبلاغة، عرض وتأصيل لمفهوم الفعل اللغوي لدى فلاسفة اللغة ونظرية النحو الوظيفي: يحيى بعيطيش (بحث ضمن كتاب) التداوليات،207.
(12) دلائل الإعجاز في علم المعاني:عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت470هـ)، تحقيق: د.عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت_لبنان، ط1/2001م ، ص 42 .
(13) لسان العرب : أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور (ت711هـ)، دار صادر ، بيروت، ط3/1994/ ،ص 15 /186.
(14) ينظر: الصاحبي في فقه العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها : أبو الحسين أحمد بن فارس (ت395هـ)، علق عليه ووضع حواشيه، دار الكتب العلمية ، بيروت _لبنان، ط2/ 2007م ، ص 51.
(15) ينظر: الفروق في اللغة : أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت395هـ)، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3/1979م ، ص 285.
(16) المفصل في علم العربية : أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت528هـ)، وبذيله كتاب المفصل في شرح أبيات المفصل: السيد النعساني، المكتبة العصرية، صيدا_بيروت، ط1/2006م ، ص 71.
( 17) وللاستزادة ينظر كتاب مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء : د. فخر الدين قباوة، سلسلة بحوث ودراسات في علوم اللغة والأدب (5)، المطبعة العلمية، دار الفكر، دمشق، ط1/2003م .
( 18) الألفاظ الكلامية والاستلزام الحواري بين القدماء والمحدثين : د. نادية رمضان النجار (بحث منشور على الانترنت). www.dr.nasioramadon.9f.com
( 19) ينظر/ البحر المحيط: بدر الدين محمد بن بهادر الشافعي الزركشي (ت794هـ)، حققه وخرج أحاديثه لجنة من علماء الأزهر، دار الكتب ،القاهرة، ط3/2005م ،1/2/ص 268، 269.
( 20) ينظر: أصول السرخسي : أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت490هـ)، حقق أصوله : أبو الوفاء الأفغاني، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت_لبنان، ط2/2005، 1/ص238 -255 ، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: محمد علي بن محمد (ت125هـ)، تحقيق وتعليق: د.شعبان محمد إسماعيل، دار السلام، القاهرة، ط1/1998م ، 2 /ص501 ، 677-679.
(21) ينظر: البحر المحيط: الرزكشي، 2/4/219، 220.