نبذة عن نشأة علم النحو :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن علم النحو من العلوم المهمة التي لا غنى عنها وهو من أسمى العلوم قدرا و أنفعها أثرا به يتثقف أود اللسان و يسلس عنان البيان و لقد أثر عن إسحاق بن خلف البهراني أنه قال :
النحو يبسط من لسان الألكن ** و المرء تكرمه إذا لم يلحن
و إذا طلبت من العلوم أجلها ** فأجلها منها مقيم الألسن
ويقول ابن خلدون في مقدمته : (إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة )
لهذا كله كان هذا العلم مهما و معتنى به من قِبل العلماء و الدارسين و سأقدم بإذن في هذا البحث الصغير نبذة عن علم النحو تعريفه و فائدته وواضعه و أسباب وضعه و فضله و مصادره و الله ولي التوفيق .
تعريف علم النحو :
ـــــــــــــــــــــــــ
النحو في اللغة : القصد يقال نحوت نحوه أي قصدت قصده . و النحو الطريق يقال هذا نحوي أي طريقي فالمتكلم بالنحو إنما يقصد الكلام الصحيح و السير في الطريق السليم
و المراد هنا النحو بمعنى المنحو أي المقصود .
وفي الاصطلاح : هو علم يعرف أحوال أواخر الكلمات العربية إعرابا و بناء . وقيل هو قواعد تعرف بها صيغ الكلمات العربية و أحوالها حين إفرادها و تركيبها .
و النحوي هو العالم بالنحو و جمعه النحويون . و يقال له أيضا الناحي و جمعه النحاة .
سبب تسميته بعلم النحو :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العلم من وضع أهله فقد ذكر _ على ما سيأتي _ أن أبا الأسود الدؤلي بعد أن وضع شيئا في النحو و عرضه على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب _ كرم الله وجهه _
فأقره عليه و قال ما أحسن هذا النحو الذي نحوت فآثر العلماء تسمية هذا العلم باسم النحو استبقاء لكلمة الإمام علي التي كان يراد بها أحد معاني النحو اللغوية و هي الطريقة .
مباحث علم النحو : يبحث هذا العلم في الكلمات العربية من حيث ما يعرض لها من الإعراب و البناء .
مصادر النحو العربي :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
استنبط العلماء الأقدمون المسائل و القواعد النحوية اعتمادا على ما جُمع من علوم اللغة و الأدب و كان من مصادرها القرآن الكريم و قراءاته و الحديث النبوي الشريف و الشعر العربي الموثوق بصحته و عربية قائليه . كم اعتمدوا على مشافهة العرب و الرحلة إليهم حيث يقيمون في بواديهم النائية و بذلوا في تتبع النصوص المختلفة جهدا شاقا و تحملوا كثيرا من مشاق السفر و الرحلة و خشونة العيش للاختلاط بالعرب ثم أخذوا يستعرضون الجزئيات التي جمعوها و يضعون لها الكليات المناسبة و أعملوا ذهنهم في استخراج القواعد المضبوطة الجامعة . و كان العلماء يتحرزون عند جمع اللغة و يفضلون بعض القبائل على بعض و أكثر القبائل التي نقلوا عنها و أخذوا العربية الصحيحة منها ( قيس , و تميم , و أُسْد , و هذيل , و بعض قبائل كنانة و بعض الطائيين ) و استبعدوا قبائل ( حمير , و لخم , و جذام , و قضاعة , و غسان , و ثقيف , و بني حنيفة , و عبد قيس ) وذلك بسبب تسرب الخطأ إليهم لقربهم من الأعاجم و مخالطتهم لهم و قد حمل ذلك العلماء و اضطرهم إلى القياس النحوي في بعض المسائل فأصبحت القواعد التي و ضعت بعد الاستقراء و القياس الصحيح هي المقياس لعلم النحو و أهدر ما عدا ذلك من المصادر .
أسباب و ضع علم النحو :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجع أسباب و ضع علم النحو إلى أسباب دينية و أسباب غير دينية
أما الأسباب الدينية فترجع إلى الحرص الشديد على أداء نصوص القرآن الكريم أداء فصيحا و خاصة بعد أن أخذ اللحن يشيع على الألسنة و كان اللحن قد أخذ في الظهور منذ عهد النبي صلى الله عليه و سلم و عصر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم فقد روي أن رجلا لحن بحضرته صلى الله عليه و سلم فقال عليه الصلاة و السلام { أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل } . و قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( لأن أقرأ فأسقط أحب إليَّ من أن أقرأ فألحن ) . و مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا إنا قوم متعلمين , فأفزعه ذلك اللحن وأعرض مغضبا و قال ( و الله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم ) . و روي أن أحد ولاة عمر رضي الله عنه كتب إليه كتابا و قد لحن فيه فكتب عمر ( أن قنِّع كاتبك سوطا ) و سمع أعرابي مؤذنا يقول أشهدُ أنَّ محمدا رسولَ الله بنصب رسول فقال له ويحك ماذا يفعل ؟ . ويحكي الجاحظ أن بشرا بن مروان قال لغلامه ادع لي صالحا فقال الغلام يا صالحا فقال بشر للغلام ألق منها ألف أي من لفظة صالح فالغلام قلد سيده في النطق و لم يفرق بين اختلاف العوامل مما أوقعه في الخطأ كما أن بشرا بن مروان أوقعه فزعه من خطأ الغلام في اللحن فأخطأ هو الآخر حيث قال ألق منها ألف و الصواب أن يقول ألفا لذلك قال عمر بن عبد العزيز و كان حاضرا و أنت زد في ألفك ألفا . و قد أخطأ معلم للقرآن القراءة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ { أن الله بريء من المشركين و رسولِه } بالكسر عطفا على المشركين مما أفسد المعنى و جعل أعرابيا يستمع إليه يتبرأ من رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فاستدعى الرجل و سأله و علم عمر السر في ذلك فقال ما هكذا تقرأ يا أعرابي و قرأ له الآية صوابا ثم أمر ألا يُقرِئ القرآن إلا عالم بالعربية . ويقرأ الوليد بن عبد الله قوله تعالى { يا ليتها كانت القاضية } برفع القاضية فقال عمر بن عبد العزيز عليك و أراحنا الله منك .
غير أن اللحن في الجاهلية و صدر الإسلام كان لا يزال قليلا بل نادرا و ذلك أن العرب كانوا ينطقون العربية النطق الصحيح بالفطرة السليمة و إذا أريد منهم غير ذلك لم يقدروا : روي أن شيخا كان يحفظ صبيا القرآن و كان يقرؤه سورة المسد قائلا له تبت يدا فيقول الصبي تبت يدان فيكرر الشيخ تبت يدا فيقول الصبي تبت يدان و هكذا حتى إذا قال الشيخ تبت يد أبي لهب و تب قال الصبي تبت يد أبي لهب و تب ونطقها صحيحة و السبب أن الوقوف على المثنى دون إضافة يكون بالنون يدان فإذا وصل و أضيف حذفت نونه للإضافة { تبت يدا أبي لهب وتب } و هكذا كانوا ينطقون اللغة فصيحة دائما و يصوغون كلامها بموجب قانون تراعيه من نفسها من غير احتياج إلى قواعد تحتذيها حتى أن تعلم النحو كان يعد عيبا يقول الشاعر :
و لست بنحويٍّ يلوك لسانه *** و لكني سليقي أقول فأعرب
فلما تقدم الزمن اتسع شيوع اللحن على الألسنة و خاصة بعد دخول غير العرب في الإسلام و رغبتهم في تعلم العربية لتأدية الصلاة و قراءة القرآن الكريم و فهم سنة النبي صلى الله عليه و سلم كل ذلك جعل الحاجة تمس إلى وضع قوانين يعرف بها الصواب من الخطأ في الكلام خشية دخول اللحن في تلاوة آيات القرآن الكريم .
أما الأسباب الأخرى فبعضها قومي عربي يرجع إلى أن العرب يعتزون بلغتهم اعتزازا شديدا جعلهم يخافون عليها من الفساد حين امتزجوا بالأعاجم فحرصوا على رسم قوانينها خوفا عليها من الامتزاج في اللغات الأجنبية .
و بعضها اجتماعي يرجع إلى أن الشعوب المستعربة أحست الحاجة لمن يرسم لها أوضاع العربية في إعرابها و تصريفها حتى تتقن نطق أساليبها نطقا سليما .
بالإضافة لرقي العقل العربي و نمو طاقته الذهنية نموا أعده للنهوض برصد الظواهر اللغوية .
واضع علم النحو :
ـــــــــــــــــــــــ
تجمع الروايات على أن أبا الأسود الدؤلي هو الذي وضع بذرة النحو الأولى و كتب منه شيئا لا بأس به بعيدا عن التقسيمات و التفريعات و المصطلحات التي جاءت بعد ذلك يقول ابن سلَّام كان أول من أسس العربية و فتح بابها و أنهج سبيلها و وضع قياسها أبو الأسود الدؤلي
ثم تختلف الروايات في السبب الذي جعله يكتب في علم النحو
روي أن أعرابيا قدم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال من يقرئني شيئا مما أنزل الله على محمد فأقرأ ه رجل سورة براءة فقال { أن الله بريء من المشركين و رسولِه } بالكسر عطفا على المشركين مما أفسد المعنى فقال الأعرابي أو قد برئ الله من رسوله إن يكن الله قد برئ الله من رسوله فأنا أبرأ منه فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعاه فقال يا أعرابي أتبرأ من رسول الله فقال يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة و لا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني فأقرأني فقال { أن الله بريء من المشركين و رسولِه } فقلت أو قد برئ الله من رسوله إن يكن الله قد برئ الله من رسوله فأنا أبرأ منه فقال له عمر ما هكذا يا أعرابي فقال كيف هي يا أمير المؤمنين فقال { أن الله بريء من المشركين و رسولُه } بالرفع فقال الأعرابي و أنا و الله أبرأ ممن برئ الله و رسوله منه فأمر عمر رضي الله عنه ألا يُقرئ القرآن إلا عالم باللغة العربية و أمر أبا الأسود أن يضع علم النحو .
و روي أن أبا الأسود سمع ابنته تقول ما أحسنُ السماءُ فقال لها نجومها فقالت له لم أرد أي شيء منها أحسن و إنما تعجبت من حسنها فقال لها قولي إذن ما أحسنَ السماءَ و أفزعه ذلك و كان كاتبا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله و جهه فدخل عليه و قال يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب لما خالطت الأعاجم و أوشكت إن تطاول عليها الزمن أن تضمحل فقال له الإمام علي و ما ذاك ؟ فأخبره بما كان من ابنته من لحن فأمره بإحضارصحف و أملى عليه بعض أبواب النحو و قال له انح هذا النحو ومن أجل ذلك سمي بعلم النحو .
و هكذا تجمع الروايات على أبا الأسود الدؤلي هو الذي وضع الأسس الأولى لعلم النحو وذلك بسبب اتشار اللحن و الخطا في الكلام و بخاصة القرآن الكريم ثم تختلف الروايات على من اشارعليه فبعضها يقول أشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه و بعضها يقول أشار عليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
ثمرته :
ــــــــــــ
دراسة علم لايستغني عنها متكلم بالعربية فلا غنى لطالب و لا عالم و لا أديب عن دراسته و تفهم قضاياه فبدراسته يستطيع الإنسان قراءة القرآن و سنة النبي صلى الله عليه و سلم قراءة صحيحة خالية من اللحن و الخطأ و التحريف و التبديل و أن يفهم المعاني السامية لهما و بتعلمه يستطيع الإنسان أن يصل إلى مقاصد الشريعة و مسائل الفقه.
فضل علم النحو:
ـــــــــــــــــــــــ
عنى السابقون باللغة العربية و خافوا اللحن فدعوا إلى تعلم اللغة الصحيحة كما يتضح من الآثار التي وردت عنهم و منها :
- قال النبي صلى الله عليه و سلم { أعربوا الكلام كما تعربوا القرآن }.
- و قال عليه السلام { رحم الله امرأ أصلح من لسانه } .
- و قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( لأن أقرأ فأسقط أحب إليَّ من أن أقرأ فألحن ).
- و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل و المروءة ) .
- و سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يتكلم في الطواف بالفارسية فاخذ بعضده و قال له ( ابتغ إلى العربية سبيلا ) .
- و قال أبو بكر و عمر رضوان الله عليهما ( لحفظ بعض إعراب القرآن أعجب إلينا من حفظ بعض حروفه ) .
- و قيل لعبد الملك بن مروان أسرع إليك الشيب فقال شيبني كثرة ارتقاء المنابر و مخافة اللحن .
هذا و الله أعلى و أعلم