ثانوية محمد الخامس التأهيلية
كلـــمــيــمـــة
د. يوسف تغزاوي
مفهوم الاستلزام في الفكر اللغوي العربي القديم.
1- مـــقـــدمــــــة.
نحاول في هذا المقال أن نتتبع ظاهرة المعنى المستلزم مقامياً كما جاءت في التراث اللغوي العربي القديم خاصة في جانبها البلاغي والأصولي على وجه الخصوص، على أساس أن هناك مجموع من نقط الالتقاء بين الطرحين : نعني الطرح التداولي المعاصر والطرح اللساني العربي القديم. وهنا نتساءل كيف عالج الطرح العربي هذه الظاهرة اللغوية؟ وما هي أوجه التقارب بين الطرحين؟
لقد اهتم علماء اللغة العربية كما هو معلوم بمستويات الوصف اللغوي بما فيها التركيب والدلالة والتداولية. حيث عني النحو بالتركيب فأعطاه أهميته الخاصة، كما اهتم بالجانب المعنوي الأصيل أي الجانب الدلالي ويقوم هذا المكون بتخصيص معنى شامل لكل تركيب. أما الجانب الآخر من جوانب البحث الدلالي فيتعلق بالجانب الاصطلاحي الذي برزت أصوله في الفقه ومسائل التشريع.
كما ارتفع النحو إلى مستوى آخر وهو مستوى مواقع الخطاب اللغوي حيث تناول حقائق المقاصد والأغراض المتعددة للخطاب اللغوي ويسمى هذا الجانب بالمستوى التداولي حيث أصبح هذا الأخير يستوعب جوانب أو عناصر خارجية ترتبط أساساً بالمقام ومقتضى الحال. وقد اختص النحاة بجانب التركيب نحواً وصرفاً واهتم اللغويون بدلالة الألفاظ فألفوا في ذلك رسائل ومعاجم. أما علماء البلاغة فقد تتبعوا مسألة المعنى بالمفهوم الواسع.
والمعنى المستلزم كإشكال لساني يقع على حدود العلاقة الموجودة بين الدلالة والتداولية حيث يمكن لنا أن نفرق بين مستويين من المعنى فيما يخص أية جملة : المستوى الأول وتكون فيه الجملة مجردة عن أي سياق، ونستشف معناها مباشرة من وحدتها اللغوية فيما يرجع المستوى الثاني إلى الاستعمال ويرتبط بالسياق أو المقام وعوامل أخرى خارج لغوية والتي تلعب بدورها دوراً فعالاً في تحديد معنى الجملة.
2- مفهوم الاستلزام عند البلاغيين العرب القدماء.
لقد انتبه في الفكر اللغوي العربي القديم إلى ظاهرة الاستلزام التخاطبي وقدمت اقتراحات لوصفها في كل من علم النحو وعلم البلاغة وعلم الأصول، غير أن جل هذه الأوصاف لم تتعد مستوى ملاحظة هذه الظاهرة مع وضع مصطلحات تختلف باختلاف العلوم المعنية والأغراض التي تخرج إليها الأساليب : دلالة المفهوم، المعنى الفرعي، المعنى المقامي1. ويلاحظ أنه ثمة عدة نقط التقاء بين تحليلات اللغويين العرب القدماء واقتراحات اللغويين المعاصرين بحيث تصدى اللغويون القدماء لدراسة بعض الظواهر اللغوية كالاستلزام التخاطبي مثلاً وتصلح المقارنة في هذا المجال بين ما ورد عند البلاغيين القدماء وبعض التداوليين المعاصرين، فما هي أوجه التشابه إذن؟
لقد انطلق البلاغيون القدماء، شأنهم شأن الدارسين المعاصرين في دراستهم للغة من ربط الخصائص الصورية للغة بالأغراض والمقاصد المستهدفة إنجازها عن طريق استعمال اللغة. وذهب البلاغيون إلى أن المعتني المستلزمة لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق أو المقام الذي تنجز فيه الجملة. ومن هنا جاءت عبارتهم الشهيرة «لكل مقام مقال» و«لكل كلمة مع صاحبتها مقام». وهكذا يلعب السياق دوراً بارزاً في تحديد مغاني الجمل لأنه يأخذ اعتباره المعاني المعجمية للألفاظ من جهة ومواقف استعمالها من طرف المتكلمين من جهة أخرى.
يقول أحمد الهاشمي مبرزاً أهمية المقام في تحديد معنى الجملة : «ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازي بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً ولكل حالة من ذلك مقاماً حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات...» 2.
هكذا نستنج أن تتبع ظاهرة الاستلزام التخاطبي في منظومة الفكر اللغوي العربي القديم تقتضي الأخذ بعين الاعتبار بمجموعة من المعطيات الخارج لغوية (حالة المتكلم والمستمع، ثم الظروف الاجتماعية المحيطة بها) والعديد من العوامل الأخرى التي اصطلح عليها البلاغيون العرب القدماء بمفهوم المقام أو مقتضى الحال. يقول تمام حسان في نفس السياق : «إن المقام يضم المتكلم والسامع والظروف والعلاقات الاجتماعية والأحداث الواردة في الماضي والحاضر والتراث والفلكلور والعادات والتقاليد والمعتقدات»3.
ويرى مالينوفسكي في نفس المجال أنه ينبغي أن نربط بين دراستنا للغة ودراستنا للأنواع النشاط الاجتماعي الأخرى وأن نفسر كل لفظ أو عبارة داخل السياق الحقيقي الذي تنتسب إليه. وأن دراسة معاني الألفاظ والعبارات لا يتأتى من مجرد التأمل السلبي لهذا اللفظ والعبارة بل يجب ربط هذه الظواهر اللغوية في سياقها الثقافي والاجتماعي الذي أنجزت فيه4.
وهكذا نجد أن كل الدراسات التي تناولت مسألة المعنى قد أنصت على مفهوم السياق، وألحت على دور المتكلمين السامعين. ويقصد بمفهوم السياق في الدراسات الحديثة والقديمة : «الوضعية الملموسة التي توضع وتنطق من خلالها المقاصد والأغراض تخص الزمان والمكان وهوية المتكلمين وكل ما نحن في حاجة إليه من أجل فهم وتقييم ما يقال. وهنا ندرك أهمية السياق حين نحرم منه مثلاً وحين تنتقل إلينا المقاصد وفي حالة معزولة عن السياق، حيث تصبح هذه المقاصد مبهمة ودون أية قيمة». ويبقى المقام أو مقتضى الحال للمفهوم الواسع شرطاً أساسياً لا يمكن تجاوزه بشكل من الأشكال لأنه يكشف عن جملة المواقف والظروف التي ترتبط بظروف القول وتحيط بالمتكلم والمستمع. وانطلاقاً من مفهوم المقام نجد البلاغيين يميزون بين مفهومين : مقتضى الظاهر، ومقتضى الحال، فما المقصود بهذين المصطلحين؟
- مقتضى الظاهر هو المضمون الصريح الذي يفهم انطلاقاً من منطوق العبارة اللغوية المستعملة وذلك استناداً إلى مجموع معاني المفردات التي تتألف منها العبارة.
- أما مقتضى الحال، فهو ما يدعو إليه الأمر الواقع : أي ما يستلزمه مقام الكلام وأحوال المخاطبين من التكلم على وجه مخصوص ولن يطابق الحال إلا إذا كان وفق عقول المخاطبين واعتبار طبقاتهم في البلاغة وقوتهم في البيان والمنطق فعلى المتكلم ملاحظة الحــــــــال5.
ويقول تمام حسان في هذا الصدد : «إنه لا ينبغي أن ندعي الوصول إلى فهم المعنى المدلولي بمجرد النظر إلى معنى المقال دون اعتبار المقام أي الاعتماد على المعنى الدلالي للجمل دون اعتبار ظروف الاتصال».
ويرى البلاغيون أن الأصل في الكلام هو مراعاة مقتضى الحال، إلا أنه قد يرد على خلاف الأصل الظاهر، وهذا ما يسمى بالخروج على مقتضى الظاهر ويطابق هذا في اللسانيات المعاصرة : الاستلزام التخاطبي.
إن البلاغيين القدماء على هذا الأساس لا ينظرون إلى الجملة من مستوى واحد كما هو الشأن بالنسبة للنحاة وإنما الجملة في نظرهم مستويات تتفاوت فيما بينها استناداً إلى المعنى الذي يقصده المتكلم. والمعنى عند هؤلاء بصفة عامة ينقسم إلى قسمين معنى بارز أو (حرفي) وآخر مستلزم مقامياً وهذا بحكم أن كل عبارة لغوية تتضمن معنى صريحاً وآخر ضمنياً. وهذا ما أشار إليه الجرجاني في باب «اللفظ والنظم»، حيث اعتبر الكلام ضربيــــن يقــــول : «الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده وذلك إذا قصدت أن تخبر عن (زيد) مثلاً بالخروج على الحقيقة فقلت (خرج زيد) والانطلاق عن (عمرو) فقلت (عمرو منطلق) وعلى هذا القياس وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم نجد لذلك المعنى دلالة ثانية نصل بها إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل...»6.
ونجد الجرجاني في (دلائله) يميز بين معنيين :
- أولهما : «المعنى».
- وثانيهما : «معنى المعنى».
ويعني بـ«المعنى» المفهوم من ظاهر اللفظ والذي نصل إليه بغير واسطة و«معنى المعنى» وهو أن نعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بنا ذلك المعنى إلى معنى آخر، ومدار ذلك كما يقول الجرجاني على الكناية والاستعارة. ويلاحظ أن ما ورد عند الجرجاني في (دلائله) يقارب ما ورد عند اللسانيين المعاصرين فيما يخص مفهوم الاستلزام خاصة عند جرايس حين تعريفه للمضمنات الاصطلاحية والمضمنات السياقية (الحوارية)، وكذلك عند سورل حين تمييزه بين الفعل الغوي المباشر وغير المباشر حيث يقابل هذا الأخير مصطلح «معنى المعنى» كما جاء في تعريف الجرجاني.
وعلى هذا الأساس، نحاول أن ندرس الاستلزام التخاطبي انطلاقاً من الكناية باعتبارها تتجسد فيها هذه الظاهرة. والكناية في تعريف البلاغيين : «لفظ أطلق وأريد به لازم معناه». يقول مصطفى المراغي : «الكناية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، ولكن لا يكون مقصوداً بالذات بل لينتقل منه إلى لازم المقصود لما بينها من العلاقة واللزوم العرفي»7.
ويظهر من خلال هذا التعريف أن الكناية حقيقة لا مجاز لاستعمال اللفظ فيما وضع له، وتفسير هذا أن العرب تتلفظ أحياناً بلفظ لا تريد منه معناه الذي يدل عليه بالوضع بل تريد منه ما هو لازم له في الوجود بحيث إذا تحقق الأول تحقق الثاني عرفاً. وعادة تقول فلان «صدر الرحب» ويقصد أنه حليم لما في صدره من السعة. وتقول «فلانة نؤوم الضحى» ويقصد أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها من الخدم والحشم. والكناية فن من التعبير توخاه العرب استكثاراً للألفاظ التي تؤدي ما يقصد من المعاني، وأن الكناية تتعلق باستعمال اللفظ مع إرادة معنى آخر غير معناه الأصلي. وهنا يكمن الفرق بينها وبين المجاز. فالأولى لا يمنع معها إرادة المعنى الأصلي في حين لا يجوز ذلك مع المجاز، وانطلاقاً من المثالين السالفين، يمكن أن نقول أنه واسع الصدر حقيقة، وأنها تنام إلى وقت الضحى، وقد تمنع إرادة المعنى الأصلي فيها ويصبح المعنى المستلزم أكثر احتمالاً. وهذا ما يذهب إليه تمام حسان حين يرى أن كلا من المعنى الأصلي والمعنى المستلزم وارد على اللفظ في الكناية، وعلى هذا فإن الكناية لا تحتاج إلى قرينة بالضرورة لأن القرينة تعني أحد المعنيين وذلك غير مطلوب في الكناية لأن المعنيين معاً واردان على التعبير مع اختلاف في درجة الاحتمال. وقد يكون هذا الاختلاف في درجة الاحتمال هو الوسيلة الوحيدة لأمن اللبس في الكناية. فالمعنى الأصلي لا يكون مرفوضاً تماماً ولا غير محتمل ولكن احتمال القصد للمعنى المستلزم أقوى، بحيث يصبح المعنى الحرفي قنطرة إلى المعنى المستلزم مقامياً8.
إن الكناية إذن، قد تخرج عن مقتضى الظاهر ويشتق منها معنى آخر يطابق السياق. فكما تطلق الكناية على اللفظ المستعمل مع إرادة لازم معناها الأصلي تطلق أيضاً على الكلام الذي يخرج عن معناها الحرفي إلى معنى مستلزم مقامياً.
وقد استحسن العرب هذا النوع من التعبير وتوخوه في كلامهم وهذا ما يتضح من خلال قول الجرجاني : «قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع من التصريح، وللاستعارة مزية وفضل، وأن المجاز أبلغ من الحقيقة... فإذا قلت هو طويل النجاد، وهو جم الرماد، كان أبهى لمعناك وأنبل من أن تدع الكناية وتصرح بالذي تريد»9.
ونجد في تراثنا البلاغي الكثير من التعابير التي كنى بها العرب كقولهم عن طول القامة هو «طويل النجاد» كناية عن الضيافة والكرم وكقولهم «أولئك قوم يوقنون النار في الوادي» كناية عن البخل. كما نجد في القرآن كنايات كثيرة كقوله تعالى : ﴿والسموات مطويات بيمينه﴾ كناية عن الاستيلاء وقوة التمكن وتمام القدرة الخ.
ويرى البلاغيون أن الاستلزام (المعنى الفرعي) يتحقق في الكنايات التي تتوفر على قرائن أو وسائط (كالتعريض – الإيماء – الرمز) حيث تحقق هذه الكنايات أفعالاً غير مباشرة وتأخذ بعين الاعتبار فكرة المقام وعوامل أخرى خارج لغوية.
على العموم، يمكن القول أن طرح البلاغيين القدماء لا يختلف في بعض جوانبه لما ورد عند التداوليين المعاصرين فيما يخص دراسة ظاهرة الاستلزام التخاطبي، حيث نجد اللغويين العرب بدورهم قد تفطنوا إلى الإستراتيجية التي قد ينهجها المتكلم للتعبير عن أغراضه، وأدخلوا في اعتبارهم فكرة المقام لتحديد مختلف القيم التي تأخذها الجمل كما يتبين من خلال تتبع مختلف المعاني المستلزمة عند البلاغيين القدماء أن طروحاتهم تقارب ما جاء عند سورل وجرايس حين حديثهم عن الاستلزام الحواري أو الفعل اللغوي غير المباشر، إذ أن الكناية بدورها تحقق فعلين : أحدهما مباشر، وآخر غير مباشر يستفاد من خلال السياق أو المقام الذي تنجز فيه العبارة وهذا ما نستشفه من خلال قول الجرجاني حين حدثه عن الكناية ومفهومها يقول : فصل «في اللفظ يطلق والمراد غيره» : «اعلم أن لهذا الضرب اتساعاً وتفنناً إلى غاية، إلا أنه على اتساعه يدور في الأمر الأعم على شيئين : الكناية والمجاز. والمراد بالكناية ههنا أن يريد المتكلم إثبات المعنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له. ولكن يجيء إلى معنى آخر هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه يجعله دليلاً عليه مثال ذلك قولهم : هو طويل النجاد، ويريد به طويل القامة، وكثير الرماد ويعنون كثير القرى، وفي المرأة نؤوم الضحى والمراد أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها. فقد أراد في هذا كله، كما ترى معنى، ثم لم يذكره بلفظه الخاص به ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود إذا كان...» 10.
وبهذا النص للجرجاني نكون قد أوضحنا أن الكناية أريد به لازم معناها مع جواز إرادة معناها معها أيضاً وهذا ما أشار إليه السكاكي حين يرى أن الانتقال في الكناية يكون من اللازم إلى الملزوم كالانتقال مثلاً من طول النجاد إلى طول القامة. وقد أجمع كل البلاغيين أن الكناية أبلغ من الإفصاح وأن التعريض أوقع من التصريح.
وبهذا القدر، ننهي الحديث عن الكناية، لأن هدفنا ليس هو دراسة الكناية في اللغة العربية بقدر ما نهدف إلى إبراز أن الكناية تحقق بدورها أفعالاً غير مباشرة وأن نوضح أن تصورات القدماء لبعض الظواهر اللغوية كالاستلزام التخاطبي لا تختلف عن تصورات المعاصرين إلا فيما يخص المصطلحات المستعملة للتعبير عن هذه الظواهر.
وظاهرة الاستلزام التخاطبي لا تظهر من خلال أسلوب الكناية فقط، وإنما هناك ظواهر أخرى في النسق اللغوي العربي تتجسد فيها هذه الظاهرة وتتجلى على وجه الخصوص على مستوى الثنائية العربية القديمة : الخبر / الإنشاء، حيث يصلح المجال في اعتقادنا للمقارنة بين الطرح اللساني العربي والطرح التداولي المعاصر وهنا نتساءل عن أوجه المقاربة بينهما؟ أشرنا في مقال الاستلزام التخاطبي في الفكر اللساني المعاصر إلى أن أوستين يميز بين الملفوظات الإنجازية والملفوظات الوصفية، هذه الثنائية تشبه إلى حد كبير ثنائية الخبر والإنشاء في البلاغة العربية القديمة وهذا ما أشار إليه المتوكل بقوله : «من المعلوم أن الفكر اللغوي العربي القديم يتضمن ثنائية الخبر الإنشاء التي تشبه إلى حد كبير الثنائية الأوستينية الوصف / الإنجاز كما يدل على ذلك تعريف القدماء في الخبر والإنشاء فالجملة الخبرية عندهم هي التي تحتمل الصدق والكذب في حين أن الجملة الإنشائية هي الجملة المتوافرة فيها خاصيتان : (أ) أنها لا تحتمل الصدق والكذب. (ب) مدلولها يتحقق بمجرد النطق بها ويصل التشابه بين الثنائية القديمة والثنائية الحديثة إلى أن اللغويين العرب القدماء اقترحوا تقليص الجمل اللغوية برد الجمل الخبرية أو الإنشائية إلى جمل خبرية أو جمل إنشائية كما فعل أوستين نفسه»11.
يتضح من خلال هذا القول التقارب الموجود بين الملفوظات الإنجازية والإنشائية كما أن مفهوم الجمل الوصفية يقارب مفهوم الجمل الخبرية. هذا التقارب يساعد على دراسة الاستلزام التخاطبي في إطار الأساليب الإنشائية. ويقسم علماء المعاني الإنشاء إلى قسمين : طلبي وغير طلبي وسنقتصر في دراستنا على الإنشاء الطلبي باعتباره حظي باهتمام البلاغيين، وتتجسد فيه بوضوح هذه الظاهرة.
والإنشاء الطلبي حسب تعريفات البلاغيين : «هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب، والإنشاء الطلبي هو ما لا يستدعي مطلوباً وقت الطلب».
ويحصر علماء المعاني الإنشاء الطلبي في خمسة أغراض : الاستفهام، الأمر، النهي، التمني، النداء، ولكل منها معانيها الأصلية ومعانيها الفرعية أو (معانيها المستلزمة) تبعاً لمقامها التلفظي. وسنقدم نموذجاً من كل هذه الأساليب حين عدولها عن مقتضى الظاهر.
2-1- الاستــفــهــام :
عولجت ظاهرة الاستفهام في الفكر اللغوي العربي القديم نحوه وبلاغته وتفسيره كما هو معلوم ونتوق إلى وصف ظاهرة الاستلزام التخاطبي في الجمل الاستفهامية خاصة كما وردت عن السكاكي باعتبار أن اقتراحاته كما يذهب إلى ذلك المتوكل تتجاوز الملاحظة الصرف وتحمل أهم بذور التحليل الملائم لهذه الظاهرة.
يحصر السكاكي معاني الطلبي الأصلية في خمسة أغراض (الاستفهام – الأمر – النهي – التمني – النداء) ويضع لكل من هذه الأغراض قواعداً أو شروطاً تعرفه وتضبط إجراءه على أصله في المناسب من المقامات. إلا أن هذه الأغراض اللاصقة بالجمل قد تتولد عنها أغراض فرعية في طبقات مقامية معينة وللتوضيح نورد الترسيمة التالية :
إن عملية الانتقال التي أوردها السكاكي في حالة خروج الكلام عن مقتضى الظاهر لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مرحلتين :
أ- يؤدي عدم التطابق المقامي إلى خرق أحد شروط إجراء المعنى الأصلي فيمتنع إجراءه.
ب- يتولد عن خرق شرط المعنى الأصلي معنى آخر مناسب للمقام.
ويستخلص من نساق شروط إجراء معاني الطلب الأصلية أن شرط إجراء الاستفهام على أصله يكمن فيما يلي :
- طلب حصول في الذهن لغير حاصل (ممكن الحصول يهم المستفهم ويعني شأنه).
- إذا استوفيت هذه الشروط كلها إنجاز جملة استفهامية أجري الاستفهام على أصله، وكان استفهاماً حقيقياً. أما إذا أنجزت الجملة في مقام غير مطابق فإن معناها الأصلي يخرج إلى معنى أخر12.
وهذه بعض الأمثلة التي أوردها السكاكي في (مفتاحه) يصف من خلالها ظاهرة الاستلزام عن طريق الجمل الاستفهامية :
* المثال الأول :
«هل لي من شفيع» في مقام لا يتسع إمكان التصديق بوجود الشفيع، امتنع إجراء الاستفهام على أصله وولد بمعونة قرائن الأحوال معنى التمني.
* المثال الثاني :
«إذا قلت لمن تراه يؤذي الأب أتفعل هذا»، امتنع توجه الاستفهام إلى فعل الأذى لعلمك لحاله وتوجه إلى ما لا تعلم مما يلابسه من نحو «أتستحسن» وولد الإنكار والزجر.
* المثال الثالث :
إذا قلت لمن بعض إلى مهم وأنت تراه عندك «أما ذهبت بعد»، امتنع الذهاب عن توجه الاستفهام إليه لكونه معلوم الحال واستدعى شيئاً مجهول الحال مما يلابس الذهاب مثل : «أما تيسر لك الذهاب» وتولد منه الاستبطاء والتخصيص. يقول السكاكي : «ألا تنزل لتصيب خيراً» امتنع أن يكون المطلوب بالاستفهام التصديق بحال نزول صاحبك لكونه حاصلاً وتوجه بمعونة قرينة الحال إلى نحو ألا تحب النزول مع محبتنا إياه وولد معنى العرض. كما إذا قلت لمن تراه يؤذي الأب : أتفعل هذا؟ امتنع توجه الاستفهام إلى فعل الأذى لعلمك لحالة وتوجه إلى ما لا تعلم مما يلابسه من نحو «أتستحسن؟ وولد الإنكار والزجر...»13.
هكذا ندرك، أن الاستفهام قد يخرج عن أصله فيستفهم به عن الشيء مع العلم به لأغراض تستفاد من سياق الحديث، ودلالة الكلام، وأهم هذه الأغراض التي يخرج إليها الاستفــهــــام : (التوبيخ – التمني – النفي – التقرير – التعظيم...).
2-2- الأمــــــــــــر :
إذا انتقلنا إلى معنى آخر من معاني الطلب كالأمر، فإن صيغ الأمر قد تخرج أحياناً عن معناها الأصلي إلى معاني أخرى تستنبط من سياق الكلام. كما إذا قلت لمن يدعي أمراً ليس في وسعه «افعل» امتنع أن يكون المطلوب (الأمر) وتوجه إلى مطلوب ممكن الحصول مثل بيان عجزه. كما في قولهن تعالى : ﴿هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾، وكذلك قوله تعالى : ﴿فاتوا بسورة من مثله﴾، حيث يستفاد من نزول الآيتين التعجيز والتحدي، وهناك أغراض أخرى تخرج إليها صيغ الأمر كالتمني نحو قول عنتر بن شداد :
يا دار عبلة بالجــــواء تكلمــــي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمــــــي
كما قد يفيد التحقير والإهانة كقول أبي العلاء المعري :
أرى العنقــاء تكبـــر إذا تـصـــــادا فــعـائــــد مـن مطبـــق لــه عـنـــــادا
يتضح من هذه الأمثلة أن صيغ الأمر شأنها شأن صيغ الاستفهام تشتمل بالإضافة إلى معانيها الأصلية معاني مستلزمة تستنبط من خلال المقام أو سياق الكلام.
2-3- النــهـــــــــــي :
إن النهي كالأمر بحيث يكون استعلاءً مع الأدنى ودعاءً مع الأعلى والتماساً مع النظير كما إذا قلت لعبد لا يمتثل أمرك : لا تمتثل أمري. امتنع طلب ترك الامتثال لكونه حاصلاً وتوجه إلى حاصل مثل : لا تكترث لأمري ولا تبال به وتولد منه التهديد والزجر.
وقد تأتي صيغ النهي في بعض الحالات للالتماس كقولك : لمن يساويك : لا تتهاون في دراستك. كما تأتي للتوبيخ نحو : قول الشاعر :
لا تنــه عن خلـق وتأتـي مثلــــه عــار عليــك إذا فعلـــت عـظـيـــــــــم
2-4- الــــنــــــــــداء :
قد تخرج ألفاظ النداء إلى معاني أخرى تستفاد من السياق كما إذا قلت من لمن أقبل عليك يتمظلم يا مظلوم، امتنع توليد النداء إلى طلب الإقبال لحصوله وتوجه إلى غير حاصل مثل زيادة الشكوى بمعونة قرينة الحال وتولد منه الإغراء.
وهذا يجري أيضاً على التمني.
نستنتج مما تقدم أن السكاكي ينطلق من الثنائية الواردة في الفكر اللغوي العربي القديم بوجه عام، والتي ينقسم الكلام بمقتضاها إلى خبر وإنشاء مع اقتضاره للشق الثاني من الثنائية على (الطلب) حيث يرى أن أنواع الطلب الأصلية تخرج إذا أنجزت في مقامات تتنافى وشروط إجرائها على الأصل إلى أغراض فرعية تستفاد من دلالة الحديث. إن السكاكي كما رأينا يحلل ظاهرة الاستلزام التخاطبي على أنها تتولد عن خرق لأحد شروط إجراء معاني الطلب الخمسة على أصلها. ومبدأ الخرق باعتباره أساس عملية الاستلزام يقارب بين تحليل السكاكي واقتراحات بعض الفلاسفة واللغويين الذين تناولوا دراسة هذه الظاهرة ويظهر هذا التقارب جلياً حين نقارن تحليلات السكاكي باقتراحات جرايس المبنية – كما سبق القول في المقال المذكور – على مبدإ خرق إحدى قواعد الحوار. وظاهرة الاستلزام هذه لا تتجلى على مستوى الجملة الإنشائية فقط وإنما تظهر على مستوى الجمل الخبرية أيضاً، ذلك أن الأصل في الخبر أن يلقى في أحد الغرضين :
- إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة ويسمى ذلك فائدة الخبر لكن ربما لا يقصد من إلقاء الخبر أحد الغرضين الأصليين، فيلقى لأغراض فرعية تستفاد من سياق الكلام وتسمى هذه الحالة عند البلاغيين بالخروج عن مقتضى الحال. يقول تمام حسان : «إذا كان الأصل في الكلام مراعاة ظاهر الحال، فإن هذا الأصل يشتمل على الالتزام بظاهر الحال شكلاً ومضموناً فيكون كلامنا منسجماً مع ظاهر الحال بأن نخبر بالجملة الخبرية، ونستفهم بالجملة الاستفهامية ولكننا قد نخرج عن هذا الأصل إما بالإيجاز أو الإطناب أو تنزيل القريب منزلة البعيد وإخراج الخبر إلى الدعاء أو الاستفهام إلى الإنكار، فكل ذلك عدول عن الأصل بالنسبة إلى المعنى»14.
إن الفكر اللغوي العربي القديم قد تصدى بدوره لظاهرة الاستلزام التخاطبي في إطار الأغراض الفرعية. وأبرز نموذج استدلينا به هو نموذج السكاكي الذي فسر خروج الكلام عن معناه الأصلي إلى معنى الآخر بأنها عملية تتولد عن خرق لأحد شروط معنى الطلب في مقامات غير مطابقة للمعنى الأصلي وهذا يقارب ما جاء في تحليل جرايس من خلال مقاله (المنطق والحوار) وهنا نتساءل عن المنهجية التي يعتمدها جرايس في تحديد المعنى المستلزم في الخطابات البلاغية.
إن البلاغة عند جرايس تنتمي للمقولة العامة للمضمرات. فالملفوظ الاستعاري مثلاً هو الذي بواسطته نحقق فعلاً إنجازياً غير مباشر ويؤكد جرايس أن المضمرات البلاغية تختلف عن الأنواع الأخرى في أنها تستبدل بالدلالة عوض أن تكملها15.
وفي كل الأحوال إن تأويل الخطاب ما يتطلب مجموعة من القضايا منها ما هو مطبق انطلاقاً من الجملة ومأخوذ من الدلالة. ومنها ما هو متضمن في الملفوظ ومأخوذ من التداولية. غير أن فهم التضمينات والاستنتاجات السياقية رهين بوجودين : أحدهما متصل بالمتكلم وكفاءاته الخطابية وآخر متصل بالمخاطب وكفاءاته التأويلية.
ويلاحظ مما سبق أن هناك ثلاثة مفاهيم تساهم في إنتاج الملفوظ : هناك المقال، والمقام، والغرض أو القصد. ولقد ألح جميع المفكرين الذين خاضوا في اللغة على العناصر الخارج اللغوية. كما أنص جمهور النحاة على القصد كابن هشام، وابن مالك باعتباره عنصراً يساهم بدوه في إنتاج الملفوظ وقد ألح عليه أيضاً بعض التداوليين المعاصرين أمثال سورل وجرايس حيث اعتبر هذا الأخير الدلالة هي في الأساس مرتبطة بالقصد.
ويرى مولينو وآخرون في هذا الإطار أن علم البيان يهتم بالكيفيات المختلفة للتعبير عن نفس الفكرة وأن الأمر لا يتعلق بالتقابل بين معنى حقيقي ومعنى غير مجازي كما نجد ذلك في البلاغة العربية، وإنما يتعلق الأمر بتقابلات مثل معنى مباشر / معنى غير مباشر ومعنى ظاهر / ومعنى باطن16.
3- مفهوم الاستلزام عند الأصوليين.
إن ظاهرة الاستلزام التخاطبي باعتباره ظاهرة كلية، لم تعالج فقط في إطار البلاغة العربية على مستوى الثنائية القديمة خبر / إنشاء. وإنما هي واردة أيضاً عند الأصوليين حين حديثهم عن المنطوق والمفهوم. ترى كيف عولجت هذه الظاهرة عند الأصوليين؟
يميز الأصوليون بين اللفظ الصريح وغير الصريح. فاللفظ الصريح عندهم لفظ انكشف المقصود منه في نفسه لكثرة الاستعمال حقيقة كان أو مجازاً وتقابله الكناية.
والمعنى الصريح هو المعنى الظاهر، الواضح، البين خلافاً للمعنى الضمني أو المضمر. والمعنى الصريح أيضاً هو الذي تدل عليه صيغة العبارة أو الملفوظ ويسمى هذا النوع من الدلالة بدلالة المنطوق ويقابلها عند السكاكي (المعنى الأصلي).
أما المعنى الضمني هو غير الصريح ويسمى أيضاً بدلالة المفهوم وفي البلاغة كما رأينا يسمى (بالمعنى الفرعي).
إن نصوص القرآن والسنة باللغة العربية. وفهم الأحكام منها إنما يكون فهماً صحيحاً إذا روعي فيه مقتضى الأساليب وطرق الدلالة فيها، وما تدل عليه الألفاظ مفردة ومركبة. لهذا اهتم علماء أصول الفقه الإسلامي باستقراء الأساليب العربية وعباراتها : واستمدوا من هذا الاستقرار قواعد وضوابط يتوصل بها إلى فهم الأحكام من النصوص الشرعية وقد أقر علماء الأصول أن النص الشرعي يجب العمل بما يفهم من عبارته أو إشارته أو دلالته أو اقتضائه لأن كل ما يفهم من النص بطريقة من هذه الطرق الأربع هو مدلولات النص والنص حجة عليه وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة.
والمعنى الإجمالي لهذه القاعدة أن النص الشرعي أو القانوني قد يدل على معان متعددة بطرق متعددة من طرق الدلالة17.
وهنا نتوقف إلى تبيان المراد بكل طريق من هذه الطرق الأربع للدلالة، وأمثلة من نصوص القوانين الشرعية والوضعية.
3-1- عبــارة النـــص :
والمراد بعبارة النص صيغته المكونة من مفرداته وعباراته أو جمله. والمراد بما يفهم من عبارة النص المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه. فمتى كان المعنى ظاهراً فهمه من صيغة النص، والنص سيق لبيانه وتقريره كان مدلولاً عبارة النص، ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص.
فدلالة العبارة هي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها المقصود من سياقه سواء كان مقصوداً من سياقها أصالة أو مقصوداً تبعاً.
وأمثلة هذا لا تحصى لأن كل نص قانوني إنما ساقه الشارع بحكم خاص تشريعه به وصاغ ألفاظه وعبارته لتدل دلالة واضحة عليه، وأن كل نص شرعي أو وضعي له معنى تدل عليه عبارته. إلا أنه قد يكون له مع هذا المعنى، معنى آخر يدل عليه بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء ولا حاجة إلى ذكر أمثلة مما يدل عليه النص بعبارته وإنما نقتصر على بعض الأمثلة التي يتبين منها الفرق بين المقصود من السياق أصالة والمقصود منها تبعاً.
قال تعالى : ﴿أحل الله البيع وحرم الربا﴾ هذا النص تدل صيغته دلالته ظاهرة على معنيين كل منهما مقصود من سياقه. أحدها أن البيع ليس مثل الربا. وثانيهما أن حكم البيع الإحلال وحكم الربا التحريم فهما معنيان ومفهومان من عبارة النص ومقصوداً من سياقه ولكن الأول مقصود من السياق أصالة لأن الآية سيقت للرد على الذين قالوا إنما البيع مثل الربا. والثاني مقصود من السياق تبعاً لأن نفي المماثلة استتبع ببيان حكم كل منهما حتى يؤخذ من اختلاف الحكميين أنهما ليس مثلين.
وقال تعالى أيضاً : ﴿وإن خفتم في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة﴾.
ويفهم من عبارة النص ثلاثة معان : وإباحة ما طاب من النساء وتحديد أقصى عدد الزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف الجور وكلها مقصودة من سياقه. لأن هذه المعاني يدل عليها النص دلالة واضحة وظاهرة.
3-2- إشـــارة النـــــص :
المراد بها يفهم من إشارة النص المعنى الذي يتبادر فهمه من ألفاظه ولا يقصد من سياقه، ولكنه معنى لازم للمعنى المتبادر من ألفاظه. وإنه مدلول اللفظ بطريق الإلزام. ولكنه معنى إلزامياً وغير مقصود من السياق كانت دلالة النص عليه بالإشارة لا بالعبارة وقد يكون وحي التلازم ظاهراً. وقد يكون خفياً، ومثال هذا قول تعالى : ﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً﴾.
يفهم من عبارة هذا النص المعنى الظاهر، وهو استحقاق هؤلاء الفقراء المهاجرين نصيب من الشيء. ويفهم من إشارته أن هؤلاء المهاجرين زال ملكهم عن أموالهم التي تركوها حين أخرجوا من ديارهم لأن النص وصفهم بالفقراء. وهذا حكم لازم لمعنى لفظ النص أو عبارته غير مقصود من سياق النص.
3-3- دلالـــــة النــــــــــــص :
المراد بها ليفهم دلالة النص المعنى الذي يفهم من روحه ومعقوله، فإذا كان النص تدل عبارته على حكم في واقعة لعلة نبني عليها الحكم ووجدت واقعة أخرى تساوي هذه الواقعة في علة الحكم أو هي أولى منها وهذه المساواة أو الأولوية تتبادر إلى الفهم بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى اجتهاد أو قياس. فإن حكمه الثابت لمنطوقه يثبت لمفهومه المرافق له في العلة.
3-4- اقــتــضـــاء النــــــص :
المراد بما يفهم من اقتضاء النص المعنى الذي لا يستقيم الكلام إلا بتقديره. فصيغة النص ليس فيها لفظ يدل عليه ولكن صحتها واستقامة معناها تقتضيه أو صدقها ومطابقتها للواقع تقتضيه. ومثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكره عليه»، هذه العبارة يدل ظاهرها على رفع الفعل إذا وقع خطأ أو نسياناً أو مكرهاً عليه وهذا معنى غير مطابق للواقع لأن الفعل إذا وقع لا يرفع وصحة معنى هذه العبارة تقدير ما تصح به فيقدر هنا : رفع عن أمتي إثم الخطأ، فالإثم محذوف ويعتبر من مدلولات النص اقتضاءً18. يلاحظ أن النص الشرعي يشتمل على معنيين أحدهما صريح تدل عليه صيغة العبارة والآخر غير صريح يدل عليه النص إما بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء، ويسمى المعنى الأول بالمنطوق ويعني هذا الأخير عند الأصوليين : المعنى الذي قصده المتكلم باللفظ أصالة أي بالذات من اللفظ ومقابله هو المفهوم أي غير الصريح وسمي كذلك لأن دلالته لا بصريح صيغته ووضعه.
فالصريح كما تقدم هو المعنى الأصلي (الحرفي) للمدلول عليه بصيغة النص وغير الصريح (المفهوم) هو الأقسام الثلاثة المتقدمة أي دلالة النص وإشارته واقتضائه وعلى المكلف أن يعمل بكل ما يدل عليه النص الشرعي أو القانوني بأي طريق من طرق الدلالة. ولهذا قال الأصوليون : «يجب العمل بما تدل عليه عبارة النص وما تدل عليه روحه ومعقوله وهذه الطرق بعضها أقوى دلالة من بعض ويظهر هذا التفاوت عند التعارض. نستنتج مما تقدم أن ظاهرة الاستلزام التخاطبي كما وردت عند التداوليين المعاصرين والبلاغيين العرب، تختلف من تصوراته الأصوليين لها إلا فيما يخص المصطلحات المستعملة في التعبير عن هذه الظاهرة كما أشرت إلى ذلك سابقاً، حيث إن المصطلح «دلالة المفهوم» كما وردت في تعريفاته الأصوليين يقابل مفهوم الاستلزام التخاطبي».
ونختم حديثنا عن الاستلزام بهذا النص للإمام الشاطبي في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة» : «اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان : أحدهما من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة وهي الدلالة الأصلية. والثاني من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة وهي الدلالة التابعة. فالجهة الأولى هي التي تشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ولا تختص بها أمة دون أخرى. فإنه مثلاً إذا حصل في الوجود لزيد القيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتي له من غير كلفة ذلك الإخبار. فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أموراً خادمة تدلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ونفس الإخبار. في الحال والسياق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك»19.
خــاتــمة.
نتوق من خلال هذه الخاتمة تسجيل بعض النقاط الأساسية في فهم ظاهرة الاستلزام التخاطبي وأهم هذه النقط ما يلي :
لقد تبين من خلال دراستنا لظاهرة الاستلزام في إطار الفكر اللغوي العربي القديم تلك العلاقة القائمة بين الدلالة والتداولية بحيث يصبح من الصعب وضع حد بين المعنى الدلالي المعتبر كخاصية مجردة لجمل اللغة وبين المعنى التداولي المعتبر كوظيفة لمقام اللغة. كما أن الفكر اللغوي العربي – في إطار المعاني الفرعية – قد وظف بعض المفاهيم الخطابية أثناء عملية التحليل لمسألة العدول عن مقتضى الظاهر كالارتكاز على قرائن الاستدلال وعلاقة المتكلم والمخاطب المتضمنة لدلالات خارج مقامية.
ويستنتج من خلال تتبعنا لظاهرة الاستلزام التخاطبي في (الإطار البلاغي والأصولي) أن الإقرار بوجود استلزام تخاطبي : يستدعي تحديد الصيغة الأصلية التي تفرز عن المعنى الدلالي حسب مقتضى الظاهر. ثم اشتقاق المعنى التداولي الذي يقتضيه السياق. كما يلاحظ أن هناك عدة نقط التقاء بين تحليلات اللغويين العرب القدماء واقتراحات التداوليين المعاصرين وفلاسفة اللغة العادية. وعليه يشكل هذا الفكر مرحلة هامة من مراحل تطور الدرس اللساني وأنه لا يعقل إغفال ما ورد في هذا الفكر من اقتراحات وتحليلات لمختلف الظواهر اللغوية.
إن البلاغيين العرب القدماء قد تصدوا لوصف ظاهرة المعنى المستلزم مقامياً في إطار الأغراض الفرعية وصفاً وافياً ويمتاز وصفهم لما ورد عند النحاة بميزتين أساسيتين : أي اعتبار الانتقال من معنى إلى معنى آخر ظاهرة تشمل جميع الأساليب إلى أسلوب الاستفهام وحده كما أن عملية الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المستلزم هي وليدة المقام. إن الخطاب اللغوي القائم بين المتكلم والمخاطب إذا كان مشحوناً بدلالات ضمنية لا يستدعي الالتزام بمبدإ معين.
الـــهـــــــوامـــــــــــــــش
1 – أحمد المتوكل، "دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي"، ص : 96.
2 – أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة، ص : 39.
3 – تمام حسان، اللغة العربية : معناها ومبناها، ص : 352.
4 – مجلة الفكر المعاصر، عدد 76، 1971.
5 – أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة، ص : 32.
6 – عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص : 262.
7 – مصطفى المراغي، علوم البلاغة، ص : 279.
8 – تمام حسان، الأصول (دراسة بستمولوجية لأصول الفكر اللغوي العربي)، ص : 375.
9 – عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص : 70.
10 – نـــــفــــــس الــــمــــرجــــــع، ص : 66.
11 – أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، ص : 37.
12 – أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، ص : 98.
13 – السكاكي، مفتاح العلوم، ص : 304 – 305.
14 – تمام حسان، الأصول، دراسة ابستمولوجية لأصول الفكر اللغوي العربي، ص : 347.
15 – Paul Grice, Logique et conversation, communication, n° 30, 1979.
16 – محمد غاليم، التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم، ص : 65.
17 – عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، ص : 143.
18 – نـــــفـــــس الــمــرجــــع، ص : 145.
19 – الموافقات في أصول الشريعة، الجزء الثاني، ص : 66- 67.
المصادر والمراجع المعتمدة :
1 – أحمد المتوكل، "دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي"، دار الثقافة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء.
2 – أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، الطبعة الثانية، وزارة التربية والتعليم، المغرب.
3 – تمام حسان، اللغة العربية : معناها ومبناها، دار الثقافة، الدار البيضاء.
4 – عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، 1989، تعليق محمود محمد شاكر مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية القاهرة.
5 – مصطفى المراغي، علوم البلاغة، المعاني، البيان، البديع، دار القلم، بيروت، لبنان.
6 – تمام حسان، 1981، الأصول (دراسة بستمولوجية لأصول الفكر اللغوي العربي)، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى.
7 – أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، 1989، مدخل نظري منشورات عكاظ، الرباط.
8 – السكاكي، مفتاح العلوم، 1983، ضبط وشرح الأستاذ نعيم زرزور، دار الكتاب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان.
9 – محمد غاليم، التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء.
10 – عبد الوهاب خلاف، 1972، علم أصول الفقه، الناشر للطباعة والنشر، الكويت، الطبعة العاشرة.
11 – الشاطبي أبو إسحاق 1967، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية.[left]