ثانوية محمد الخامس التأهيلية
كـلـمـيــمـــة
د. يوسف تغزاوي
مفهوم الصورة الشعرية من منظور البلاغة والدرس الأدبي.
يتميز الاستعمال الحديث لمصطلح الصورة بتوسيع مجالها لتشمل إلى جانب المجاز أشكالاً تعبيرية أخرى، لم يعالجها علم البيان، كالوصف الرمزي والأسطوري وغيرهما، ولا شك أن مرجع هذا التوسيع يرجع إلى ما يزخر به الشعر من صور لا تعتمد أشكال البيان المعهودة فقد يفضل الشاعر أحياناً ضرباً من القول يستغرق تجربته، فتشعر به وقد وفى وأبلغ وأمتع دونما حاجة إلى المجاز وهذا المنحى مشترك بين القدماء والمحدثين من الشعراء، وإن كان هؤلاء به أشهر.
وفي شعرنا القديم نماذج تتأرجح دلالتها بين قطبين : المعنى الظاهر المباشر والرمز الخفي كالوقوف على الأطلال والغزل والوصف الرمزيين وغيرهما، إذ تكن صورتها الظاهرة حقيقة تنضح بمشاعر عميقة وإحباطات واسعة على مستوى الذات والمجتمع معاً.
وقد ذهب كثير من الباحثين في عصرنا إلى إطلاق الصورة على كل شكل تعبيري يحفز الذهن وينشط الخال ويثيره بما يهيئ له من مقارنات بين الأشياء التي يعرضها عليه، فتجاوز صورة الإخبار إلى تحريك طاقة التخيل لدى المتلقي ودفعه إلى استعادة تجاربه وتنظيمها تنظيماً يناسب الشكل الفني الذي يعرض عليه، وهذا يستلزم أن يتسع مجال الصورة ليضم كل تعبير يخلق أجواء رحبة ويحيل على تجارب غنية واسعة يقول لويس معرفاً الصورة «إنها صورة رسمت بكلمات وربما تحدث الصورة من وصف واستعارة وتشبيه أو تقدم إلينا في تعبير أو فقرة هي حسب الظاهر وصفية خالصة للوصف، لكنها توصل إلى خيالنا شيئاً أكثر من مجرد الانعكاس الدقيق للواقع الخارجي»1.
ولا يخفى ما يمتاز به هذا التعريف من تنبيه لطبيعة الصورة لذلك جعلها نمطين : صورة مجازية مكونة من التشبيه أو الاستعارة وصورة وصفية تحفز الذهن وتذكي الخيال وتخلق أجواء نفسية وعاطفية فسيحة. وهذه الصورة الوصفية قد تطول كما هو الحال في بعض قصص الحيوان في الشعر العربي القديم حيث تصل أبياتها إلى العشرين أو أكثر مما يدفع إلى اعتبارها قصائد بإمكانها أن تستقل بنفسها عن أجزاء القصيدة، بل إن بعض الصور تحولت بالفعل إلى قصائد كصورة الثكلى في شعر ساعده وأبي ذؤيب فقد بنيت على التشبيه ثم طولت وفصلت عناصرها تفصيلاً كما سيأتي. وهكذا يشتبه مفهوم الصورة بمفهوم الشعر نفسه، فكل قصيدة إنما هي في ذاتها صورة وهذا ما دعا بعض الباحثين إلى تعريف الصورة «بأنها الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستخدماً طاقات اللغة وإمكاناتها في الدلالة والتركيب والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني، والألفاظ والعبارات هما مادتا الشاعر الأولى يصوغ بها الصورة الفنية ولذلك يتصل الحديث عن الصورة الشعرية ببناء العبارة وبعض ما عرف عن المعجم الشعري وإن تناولا الصورة أجزاء متكاملة غير منفردة»2.
وهذا التعريف ينطبق على القصيدة انطباقه على الصورة ويسلك مسالك القول جميعها دون تمييز بين حقيقة ومجاز فكلاهما يوكله أن يحدث المتعة الفنية إذا ما أحسن الشاعر استغلال إمكاناته، فعبر عن حاجات نفسه تعبيراً صادقاً، ذلك أن الشاعر يتعامل مع اللغة تعاملاً خاصاً تبعاً لتوتره وانفعاله، فسيحدث بين الألفاظ ارتباطات غير مألوفة ومقارنات غير معهودة ومن خلال هذه الارتباطات والمقارنات اللغوية الجديدة يخلق تشبيهاته واستعاراته وتشخيصاته.
وغير خاف ما تتسم به هذه الآراء من فهم دقيق ووعي جيد لطبيعة الصورة ووظائفها، فرغم ما يظهر من توسيع مجال ظهورها يظل المبدأ قائماً ينتظم أنماطها جميعاً، ويكمن في العلاقة الجدلية بين ظاهر التعبير ونفس الشاعر من جهة وبين مجموعة التعابير التي تجسد التجربة من جهة أخرى. وهذا والتعبير بالصورة قديم، نجده عند أفلاطون في محاوراته، فقد وصف عمل الشاعر والرسام بأنه لا يعدو أن يكون انعكاساً لصور الحقيقة فهو محاكاة كمحاكاة، ثم إنها يخاطبان جانب الوجدان دون العقل ومن هنا يأتي خطرهما في جمهوريته فقرر طردهما.
يقول سقراط لجلوكن مصوراً هذا الخطر : «والآن يمكننا منصفين أن نضع الشاعر بمحاذاة المصور، فهو يماثله في أمرين : الأول بعده بمراحل عن الحقيقة في مؤلفاته، والثاني اهتمامه بالجزء الأدنى قيمة من الروح، ونكون مصيبين إذا رفضنا السماح له بالبقاء في دولة منظمة تنظيماً حسناً لأنه يثير المشاعر ويغذيها ويقويها، بينما يضعف بالمقابل العقل»3.
أما تلميذه أرسطو فقد سلك مسلكاً تجريبياً في النظر إلى الشعر فعده صناعة تستلزم مجموعة من الآليات وتتطلب جهداً ومعاناة خلاف أفلاطون الذي رأى أنه إلهام علوي. وتأتي الصورة – متمثلة في التشبيه والاستعارة والمجاز عموماً – في مقدمة ما يهتم به أرسطو فيرى أن للتشبيهات فائدة في الشعر والنقر لكنها بالشعر أليق كما يبين أن الاستعارة أشد ثراءً من التشبيه، غير أنها يجب ألا تكون بعيدة المنال ولا واضحة كل الوضوح لأن الناس لا يهتمون بالاً إلى ما هو غريب بعيد المنال، وإنما يهتمون بالأفكار التي تحيط بها بمجرد سماعها وليست معروفة من ذي قبل، أو ليست حاضرة في الذهن. وتزيد الاستعارة حسناً إذا توفر فيها زيادة على ما سبق التضاد والتمثيل. والتمثيل أن يثير التشبيه المنظر العام أمام عيوننا والتضاد يضيف إلى الصورة ويساعد على الحكم بين الصورتين. وتحدث أرسطو عن المبالغات الناجحة والأمثال وعدهما من الاستعارة، بينما أعطى الألغاز قيمة المجاز.
والظاهر أن لفظ الصورة حسب ما تقدم يرادف التصوير أي إنشاء صورة ذهنية للأشياء الواقعة في الوجود بواسطة العبارة اللغوية مهما كان الشكل البلاغي المستعمل، وهذا الفهم نفسه نلاحظه في النقد العربي القديم أيضاً، فقد اهتم الجاحظ بالفكرة المصورة وذهب إلى أن جودة الشعر، إنما ترجع إلى تصوير المعنى ليس إلى المعنى نفسه، فقال يرد على أبي عمرو الشيباني استحسانه المعاني «وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيل اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء والرونق وفي صحة الطبع وجودة السك فإنما الشعر صياغة وضرب من النسيج وجنس من التصوير»4.
ولاشك في أن لفظ الصورة قد اتخذ أبعاداً وأثار مشكلات على عهد الجرجاني وفي بيئته، لذلك نراه يعد أن بين أنه معروف مشهور أتى بتعريف يرسم الحدود ويزيل الشبهات قال : «اعلم أن قولنا الصورة إنما هو قياس لما نعلم بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فكلما كانت البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان ما بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا ولا تكون في صورة ذلك... ثم وجدنا بين المعنى في أحد لبيتين وبينه بين الآخر بينونة وفرقاً عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك».
وجلي أن مصطلح الصورة حسب هذا النص يشير إلى طريفة إخراج المعنى وتشكيله لا فرق في ذلك بين استخدام المجاز وغيره من أساليب التعبير وهذا لا يمنع أن يكون للمعنى الواحد صور شتى، تحتفظ كل صورة منها بمميزاتها وخصائصها، غير أن المتتبع لتوظيف عبيد القاهر مصطلح الصورة في كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» يلاحظ تطوراً ملموساً في تفكيره، ففي مواضع جعله مرادف الإجادة، فالتصنيع، بينما عبر عن الجملة التقريرية بأنها من ساذج الكلام وإن احتوت تشبيهاً. يقول مقارناً عدة صور لمعنى واحد عام هو الشجاعة : «فإنك تقول زيد كالأسد أو سبيه بالأسد، فتجد ذلك كله تشبيها غفلا ساذجاً، ثم تقول كأن زيداً الأسد، فيكون تشبيهاً أيضاً إلا أنك ترى بينه وبين الأول بوناً بعيداً، لأنك ترى له صورة خاصة وتجدك قد فخمت المعنى وزدت فيه بأن أفدت أنه من الشجاعة وشدة البطش وأن قلبه لا يخامره الذعر، ولا يدخله الروع بحيث يتوهم أنه الأسد بعينه ثم تقول لئن لقيته ليلقينك منه الأسد فتجده قد أفاد هذه المبالغة لكن في صورة أحسن وصفة أخص وذلك أنك تجعله في «كأن» يتوهم أنه أسد، وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع، فيخرج الأمر عن حد التوهم إلى حد اليقين، ثم إذا نظرت إلى قوله :
أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحــت يداك يدي ليث فإنك غالبه (الفرزدق)
وجدته قد بدا في صورة أنق وأحسن، ثم إذا نظرت إلى قول ارتأه بن سهية
- إن تلقني - لا ترى غيري بناظرة - تنس السلام وتعرف جبهة الأســــد
وجدته قد فضل الجميع ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصور كلها»5.
ففي تعبير عبد القاهر السالف يكمن فهم اللطيف لطبيعة الصورة، حيث لم يطلق المصطلح على التشبيه النمطي القليل الإثارة بينما وظفه في وصف العبارات التي أحدثت خصوصية في المعنى العام كما يتضح من التوزيع الآتي :
- التعبير الأول الخــبـــر.
- التعبير الثاني التـوهــــم.
- التعبير الثالث اليـــقــيــــن.
- التعبير الرابع الإدعـــــــاء.
- التعبير الخامس المــفــاجأة.
فيكون لفظ الصورة عنده مرادفاً للإجادة أو هو طريقة في الصياغة وتجويد وافتنان في إخراج المعنى بحيث ينفعل له المتلقي ويستجيب له استجابة فورية.
وفي أسرار البلاغة عني الجرجاني بدراسة الصور على مستوى التمثيل ، فرجع بلاغة التمثيل إلى ما يجتنيه الشاعر من الصور البديعة الناذرة كتصوير البحتري جود ممدوحه وعزنه في قوله :
دان إلى آيـدي العفـاة وشاسـع عــن كـل نـد فـي الـنـدى وضــريــب
كالبـدر أفـرط فـي العلـو وضـوؤه للعصبــة الســاريــن جـــد قـــريـــب
إذا جاء بصورة عقلية محضة رغم كون عناصرها محسوسة فالدنو والارتفاع وصفان عقليان للممدوح والبدر كليهما، غير أن مراعاة إمكان التقابل العقلي بين الأمل والفرع صوغ للبحتري الجمع بينهما، فلا يتصور كون الرجال بعيداً من حيث العزة والسلطات قريب من حيث الجود حتى يخطر ببالك وتطمع بنفسك إلى وبعد جرمه عنك وقرب نوره منك.
إن صورة البدر في حالتيه مما يمكن استحضاره ذهنياً، بعيداً عن طينته وتوظيفه في الإطار الذي نتخيله مناسباً له كما فعل البحتري، وقول الجرجاني «يخطر ببالك وتطمح بفكرك« يشير إلى دينامية الذهن في البحث عن الصور رصد أوجه التماثل والتضاد وغير ذلك من العمليات الذهنية وهذا أمر لا تنتجه صور التشبيه المبتذلة القريبة حيث التماثل واضح بين عناصرها.
وخلاصة القول، إن الصورة الفنية رغم أنها مصطلح حديث صيغ تحت وطأة التأثير بمصطلحات النقد الغربي والاجتهاد في ترجمتها، فإن الاهتمام بالمشكلات التي يثيرها المصطلح القديم يرجع إلى بدايات الوعي بالخصائص النوعية للفن الأدبي. وربما لا نجد المصطلح في النقد العربي القديم متداولاً ومنشراً بهذه الصيغة المتداولة حديثاً، غير أن ما يثيره من القضايا وما يعالجه من الإشكالات الفنية هي نفسها التي كانت مقصورة بع في التراث النقدي والبلاغي القديم وإن اختلفت طريقة التناول أو تميزت جوانب التركيز والاهتمام.
إن الصورة الفنية كما يعرفها الدكتور جابر عصفور في كتابه «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي» ص : 5، هي الجوهر الثابت في الشعر، وقد تتغير مفاهيم الشعر ونظرياته فتتغير بالتالي مفاهيم الصورة الفنية ونظرياتها ولكن الاهتمام يظل قائماً ما دام هناك شعراء يبدعون ونقاد يحاولون تحليل ما أبدعوه والحكم عليه.
الهوامش :
- الصورة والبناء الشعري، لويس، ص : 29.
2 - عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص : 435.
3 - الصورة في النقد الأوربي للرباعي.
4 - الحيوان، الجزء الثاني، ص : 131 – الجاحظ.
5 - دلائل الإعجاز، ص : 224 – 225.