من حديث السيمياء
د. محمد ربيع الغامدي
مع أننا نـعنى أشد العناية ونهتم أكبر الاهتمام باللغة بوصفها أداة الإيصال والتواصل اللفظية بين البشر, ونعتمد جميعا عليها في التعبير عن رؤانا وأفكارنا وشجوننا وهمومنا, ومع انه يخي ل إلينا انها القادرة على استيفاء أشكال التعبير عما يريد البشر التعبير عنه, فإنها في حقيقة الأمر ليست غير واحدة من عدد من أدوات التواصل بين بني النسان. ولعل وضوح أثر الألفاظ المنطوقة التي نتداولها على مجريات الأمور في حياتنا قد حجب أحيانا عن ا رؤية آثار أدوات الاتصال الأخرى التي ربما يفوق أثر بعضها ما للغة من أثر.
لقد تنبأ عالم اللغة السويسري الشهير "دي سوسير Ferdinand De Saussure" بانضواء علم "اللغة" تحت مظلة علم أعم منه وأشمل هو علم "العلامات" بحيث يكون علم اللغة جزءا منه وفرعا من فروعه. ومن قبله ذكر علماء المسلمين الأوائل, ولا سيما المناطقة واللغويون والأصوليون, لـ "الدلالة" قسمين رئيسين هما: الدلالة اللفظية وغير اللفظية. ثم قسموا كل واحد منهما إلى ثلاثة أقسام هي: الطبيعة والعقلية والوضعية. وجميع ذلك يـصن ف إلى ثلاثة أصناف هي: المطابقة والتضمن والالتزام. ولم يكن صنيع الأقدمين ولا صنيع المحدثين من جعل دلالات الكلام الذي نتبادله جزءا واحدا من كل يتضم ن أجزاء أخرى غير كلامي ة إلا إحساسا بعجز الكلمات المنطوقة على ان تكون أداة الاتصال الوحيدة بين البشر, المنفردة بتوصيل الدلالات المحتاج إلى نقلها واستقبالها. ومن آيات هذا العجز اننا حتى في أثناء استعمالها والاتكاء عليها في إيصال ما نبتغي إيصاله لا نفتأ ندعمها ونسندها بـ "علامات" أخرى غير لفظي ة, كالإشارة باليد والإيماء بالرأس ونحو ذلك, شعورا من المتكلم بعدم كفايتها. وان لتلك الاشارات المصاحبة للألفاظ من الأهمية ما يجعل تحليلنا الدلالي يقصر ويختل في حال عدم معرفتها وفي غياب الوقوف عليها. من هنا استندت المدرسة اللغوية الانجليزية بقيادة "فيرث Firth " إلى هذه الأهمية, وذهبت تنادي بتكثيف العناية بما سمي عندهم بـ "سياق الحال Context of Situation" بل حددت مجموعة من المواصفات المعتمدة في التحليل الدلالي, مجملـ تلك المواصفات يصف الأحوال المرافقة للحدث الكلامي. وهو ما يشعر بأن لا معنى لكلام لم يوقف على سياقه المقامي. ذلك السياق الذي يتمم اللغة اللفظية ويجبر نقصها. وفي ظروف مشابهة أيضا نشأ الاعتقاد القوي بوجوب "مطابقة الكلام مقتضى الحال" في ثقافتنا العربية.
ويضع السيميولوجيون "العلامات اللساني ة" في ضمن عدد من أقسام العلامات المختلفة وهي: العلامات السمعية, والعلامات البصرية, والعلامات السمعية البصرية, والعلامات الشمية, والعلامات الذوقية, والعلامات اللمسية. وذلك بالاعتداد بالحواس الخمس أساسا للتقسيم, باعتبار ان الحواس منافذ الادراك كما انها منافذ الايصال, وبهذا تنحصر العلامات المستعملة فيها. وأخذا بالاعتقاد ان العقل إنما يدرك من الموجودات ما تنقله إليه الحواس الخمس. وأضاف غير الآخذين بهذا الاعتقاد نوعا آخر من العلامات هو نوع "العلامات التخي لي ة", واعتمد بعضهم تسميتها بـ "الأيقونية". لكن كل واحد من الاتجاهين يتفق مع نظيره في رؤية مشتركة تضع النظر إلى العلامات اللفظية في ضمن نظرة أكثر شمولا للعلامات بأسرها, وتقترح رؤية لا تنفرد فيها اللغة بأشكال التعبير الإنساني. وعبر هذه الرؤية تعالقت دراسة "العلامات" بنظريات "الاتصال" الحديثة, وامتزج حديث "السيمياء" ببعض تفاصيل "الادراك" ومجاله.
وقد يكون من الضروري غير المستغنى عنه النظر إلى اللغة بصورة أكثر شمولا لها ولما يندرج معها بدلا من النظرة الجزئية التي تنحصر فيها ولا تتعداها, لأن ذلك أعون على الوقوف على حجمها الحقيقي, ولأنه مما يكفل تصو رها حلقة في السلسلة التي تنظمها هي وغيرها, فتبدو أهمية مكم لاتها بقدر ما يظهر دورها الذي تؤديه.
إن ما يـستثمر من "العلامات" غير اللفظية في التواصل الانساني إنما يكون بإحداث علاقة بين ذلك النوع من العلامات والعلامات اللفظية "أي: اللغة", وبما يشبه الترجمة من نوع واحد من العلامات إلى نوع آخر منها, وذلك بإحلال العلامة غير اللغوية محل العلامة اللغوية. فاللون الأحمر جـعل في "الاشارة المرورية" نائبا عن لفظة "قف", والأخضر ناب عن "سر", وهكذا. وسرى مفهوم "اعتباطية العلامة" على العلامات غير اللغوية بنفس طريقة ما جرى على العلامة اللغوية. وبذلك اصطلحت الثقافات المختلفة على دلالات اجتماعية ونفسية معينة للألوان ولبعض الأشكال والصور. واستفيد من ذلك كله في التوصل إلى علامات ثابتة معبرة كما هو الحال في الشعارات والشارات الدولية المتعارف عليها.
غير ان المتأمل في نيابة العلامة غير اللغوية مناب اللغوية يلحظ ان علامة واحدة غير لفظية قد تنوب أحيانا مناب علامات لفظي ة كثيرة. ذلك لأن العلامة غير اللفظية تتحر ر من قيود الأعراف المحدودة بحدود الألفاظ اللغوية, وتنفك من رباط الصلة الدلالية العرفية التي تربط اللفظ بمعناه. إذ لا بد للألفاظ ـ مهما اتسعت فضاءات دلالاتها ـ ان تنتهي عند حدود معينة, أما الإشارة فإنها تستدعي من الألفاظ قدرا يختلف في القل ة والكثرة بحسب الأشخاص المشار لهم وما يحمله كل واحد منهم في الموضوع المشار إليه. ولهذا قالت العرب في المأثور عنها: "رـب إشارة أبلغ من عبارة".
وانطلاقا من هذا القول المأثور, وبالتأمل في بعض الاشارات التي أـريد لها ان تكون أبلغ من العبارات, نلحظ ان أنواعا من "الإشارة" استطاعت ان تحقق دلالي ا ما أخفقت في تحقيقه "العبارة". بل نلحظ أيضا ان الأولى نجحت في القفز على كثير من المصاعب التي لم تنجح الأخيرة في القفز عليها, فعجزت هذه عن الوصول إلى ما وصلت إليه تلك. ونلحظ فوق هذا وذاك ما تتمتع به العلامات غير اللفظية من تخط لحواجز التعدد اللغوي واللهجي, وتجاوز عن الفوق الثقافية, وما تحظى به من المرونة والقابلية لفهمها بوجوه متعد دة,.. إلى غير ذلك مما يطول تعداده من المزايا والخصائص.
يكفي رسم "كاريكاتيري" أحيانا عن مجل دات ضخمة في موضوعه الذي يشير إليه, وقد لا تفلح تلك المجل دات في التعبير بصدق عما يعب ر عنه الرسم. ويمر بنا من رسوم الكاريكاتير المصاحبة لمقالات سياسية واجتماعية تنشرها الصحف اليومية ماهو أبلغ تعبيرا بمراحل من المقالات نفسها. وقد نرى منها ما يتغلغل في تناول المسكوت عنه أو غير المسموح به لفظيا. وأعرف شخصيا ممن يمتهن الرسم الكاريكاتيري من إذا تكل م أوجز, وإذا سـئل رد باقتضاب, حتى عـرف بين المقربين منه واشتهر بالصمت. لكنه حين ينطلق معبرا برسومه فإنه يتحو ل إلى متكلم قادر مفو ه, لا يمكن لخطيب مهما أوتي من الفصاحة والبلاغة ان يؤثر في سامعيه قدر ما يؤثر هذا في قارئي رسومه.
وربما استطاع شخص ما بتصرف عابر في مناسبة ما, عامدا أو غير عامد, ان يكو ن صورة عن المجتمع الذي ينتمي إليه ـ إن سلبا وان ايجابا ـ تعجز عن تصويرها صفحات كثيرة مكتوبة أو خطب طويلة مسموعة. وما الصور النمطي ة المحفوظة لأفراد الشعوب عند الشعوب الأخرى إلا رسائل غير لفظية بعثها أولئك الأفراد عبر سلوكهم وتصرفاتهم إلى شعوب الأرض ونشروها بينهم, لا بتحديث الناس عن أنفسهم, بل من خلال ما يتراءى لهم انه لا يـعل م أحدا ولا يكشف سترا, وهو في حقيقته خير متحدث عنهم وأبلغ متكلم في وصف أحوالهم. وينطبق هذا الحال أيضا على ما يمكن تسميته بـ "النماذج البشرية" المتعددة في داخل المجتمع الواحد. تلك النماذج التي يعكس كل نموذج منها صنفا من أصناف الناس ذا خصائص ثقافية وذوقية مميزة تجمع أفراده, فيعدون شريحة من شرائح ذلك المجتمع, لم يكن إدخالهم في ذلك الصنف إلا من خلال الرسائل الإشارية غير اللفظية التي تعكسها تصرفاتهم الظاهرة.
وربما عجزت أيضا مئات الألفاظ, بل الآلاف منها, في وصف شيء غائب عن الأنظار, فلا يـدرك على حقيقته حتى تقع عليه الأبصار. ومئات الألوف منها أيضا يقف عاجزا عن ان يصف طعم شيء أو رائحته, مهما أوتي الواصف من البيان. وصدق من قال: "وليس راء كمن سمعا".
الرياض نت الخميس 04 ربيع الثاني 1421 العدد 11700 السنة 37