يقول الجرذ : فقلت فى نفسى ما أرى التبع والأهل والإخوان إلا مع المال ولا تظهر المروءة والرأى والمودة إلا به ، فإنى وجدت من لامال له اذا أراد أن يتناول أمرا قعد به عنه العدم كالماء الذى يبقى فى الأودية عن مطر الصيف فلا هو إلى بحر ولا إلى نهر فيبقى فى مكانه لأنه لا مادة له ، ووجدت من لاإخوان لاأهل له ، ومن لا ولد له لاذكر له ، ومن لاعقل له فلا دنيا له ولا آخرة ، ومن لامال له فلا عقل له ، لأن الرجل إذا أصابه الضر والحاجة رفضه إخوانه وقطع ذو قرابتهم وده وهان عليهم ، واضطرته المعيشة وما يعالج منها لنفسه وعياله التماس الرزق فيما يغرر به بنفسه ودينه وهلاك آخرته ، فإذا هو قد خسر الدنيا والآخرة ، فلا شئ أشد من الفقر ، فإن الشجرة النابتة فى السباخ المأكولة من كل جانب أمثل حالا من الفقير الذى يحتاج إلى ما فى أيدى الناس ، فالفقر راس كل بلاء وداعية المقت الى صاحبة ، وهو مفسدة للعقل والمروءة ، ومذهبة للعلم والأدب ، ومعدن للتهمة ، ومجمعة للبلايا ، فمن نزل به الفقر لم يجد بدا من ترك الحياء وتضييعه ، ومن ذهب الحياء منه ذهب فضله ومروءته ، ومن ذهبت مروءته مقت ، ومن مقت أوذى ، ومن أوذى حزن ، ومن حزن فقد عقله واستنكر فهمه وحفظه ، ومن أصيب فى ذلك كان أكثر قولا عليه لا له ، ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمنا ، وأساء به الظن من كان يظن به حسنا ، فإن أذنب غيره كان للتهمة موضعا ، وليس من تهمة للغنى مدح إلا وهى للفقير ذم ، فإن كان جوادا سمى مفسدا ، وإن كان حليما سمى ضعيفا ، وإن كان وقورا سمى بليدا ، وإن كان لسنا سمى مهذارا ، وإن كان صموتا سمى عييا ، فالموت أهون من الفاقة التى تضطر صاحبها الى المسألة ، وتضع المرء بمواضع الهوان وتدنيه بعد ارتفاعه ، وتقصيه بعد تقربه ، وتبعده بعد توسطه وتزرى به بعد المحبة فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده فى فم التنين فيستخرج منه سما فيبتلعه كان أهون وأخف عليه من الطلب الى اللئيم ، وقد قيل : من ابتلى بمرض فى جسده لا يفارقه أو بفراق الأحبة والإخوان أو بالغربة حيث لايعرف مبيتا ولا مقيلا ولا يرجو إيابا ، أو بفاقة تضطره الى المسألة ، فالحياة له موت ، والموت له راحة وربما كره الرجل المسألة وبه حاجة فحمله ذلك على السرقة والغصب ، وهما شر من التى زاغ عنها فإنه قد كان يقال : الخرس خير من اللسن المطعم بالكذب ، والعنين خير من العاهر ، والفاقة والفقر خير من النعمة والسعة من أموال الناس والاجتهاد فى الكفاف خير من الإسراف والتبذير فيما لايحل .
من كتاب كليلة ودمنة لعبدالله بن المقفع ، تحقيق الدكتور عبدالوهاب عزام ، دار الشروق ، القاهرة ، الطبعة الخامسة 2007م ـ صـ 172 ، 174
لكم التحية ، سأوافيكم برد السلحفاة على الجرذ لاحقا

بعد أن فرغ الجرذ من مقالته ردت عليه السلحفاة ؛ فقالت : قد سمعت مقالتك فأحسن بها مقالة وأكرم بها ، واعلم أن حسن القول لايكون إلا بالعمل ، فإن المريض الذى قد علم دواءه إذا هو لم يتعالج به لم ينتفع بما سوى ذلك ، ولم يجد له راحة ولا شفاء ، فاستعمل علمك ولا تحزن لقلة مالك ، فإن الرجل ذو المروءة قد يكرم على غير مال كالأسد الذى يهاب وإن كان رابضا ، والغنى الذى لامروءة له يهان وإن كثر ماله كالكلب الذى يهان وإن طوق وخلخل ، ولا تكبرن فى نفسك اغترابك فإن العاقل لاغربة عليه ولا وحشة ، ولا يتغرب إلا ومعه ما يكتفى به من علمه ومروءته كالأسد الذى لايتقلب إلا ومعه قوته التى بها يعيش حيثما توجه ، ولتحسن تعهدك لنفسك فيما تكون به للخير أهلا ، فإنك إذا فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك ، كما يلتمس الماء المتطامن من الأرض وكما يطلب طير الماء الماء ، وإنما جعل الفضل للبصير الحازم المتتفقد ، فأما الكسلان المتردد المدافع المتواكل فإن الفضل قلما يصحبه كما لاتطيب المرأة الشابة نفسا بصحبة الشيخ الهرم ، ولا يحزنك أن تقول كنت ذا مال فأصبحت معدما ، فإن المال وسائر متاع الدنيا سريع إقباله إذا أقبل ، وشيك إدباره إذا أدبر كالكرة فإن ارتفاعها وإقبالها وإدبارها ووقوعها سريع ، وقد قالت العلماء فى أشياء لها ثبات ولا بقاء : ظل الغمام ، وصحبة الأشرار ، وعشق النساء ، والثناء الكاذب ، والمال الكثير ، فإنه ليس يفرح عاقل لكثرة ماله ولا يحزن لقلته ، ولكن الذى ينبغى أن يفرح له عقله وما قدم من صالح عمله ، لأنه واثق أنه لايسلب من عمله ، ولا يؤخذ بغيره ، وهو حقيق إلا يغفل عن أمر آخرته والتزود لها ، فإن الموت يأتى بغتة وليس بينه وبين أحد وقت معلوم ، وأنت غنى عن موعظتى وبما ينفعك بصير ، ولكن رأيت أن أقضى من حقك الذى يجب وأنت أخونا فما قبلنا لك مبذول .
تحياتى للجميع