يترجرج.. يركض.. لا يهدأ.. ينشد أيام الخير في سباسب الحيرة العظمى.. تقذفه أحياء لأزقة.. راكض نحو السدرة.. يعلو دهرا.. ينـزل قهرا.. يتخبط.. شرخ يسيل قيحا وصديدا.. فراشات يقطر دمها الأزرق.. أحلام مسنونة.. يضم القلم.. يكسره.. يأكله.. يتقيأ حبرا.. بخار من ظلام في حجرة مظلمة، لا ترى ظلمتها.. تتراقص عـفاريت متراشقة.. تدمي عينيه.. يغرف من أعماق روحه سموما منتنة.. يمزق جلده الموبوء بكل تباريح التاريخ المسروق!.. أرملة.. ثكلى ( سرقوا دمعها وحزنـها ) تصرخ: " ألا تفضحهم؟!".. يقطّع أوتاره.. يشد شرايـينه بكل قوة.. يغطي الدم وجهه المثخن بالسقطات.. بالآلام.. يخرّم أمعاءه.. مِزق في وجه الشمس الشاحبة...
" لِم لا أصرخ؟!.. لم لا أفضح؟!.. لم لا أرغي؟!.."
دمدمة الرعد تحثه.. تحضنه.. يُرعد.. قرّ.. قرّ.. قرّ...!
صرخات مكبوتة.. ينـزع عنها يده بكل قوته.. تصرخ صارخة حتى تخرق جدران الصمت الميت منذ قرون.. عـناكب كثيرة تغلّف وجه الأرض بخيوطها الرمادية الباهتة...
أصرخ في وجهه دون أن أشعر:
" قطع.. لا ترحم!.. وهـل رحمونا؟!، هـل رحمونا؟!.. قتلونا.. قتلونا.. قتلونا، ونضحك في وجوههم بكـل ذلة، ونحني رؤوسنا.. ندسها في التراب، في الوحل.. كالنعام، وأدبارنا تأكل الركل أكلا!... ونستقيم، متفاخرين بخوفـنا.. بذلنا.. بوهننا.. بهواننا.. بضياعنا.."
ونتجمع.. أسمالنا بالية.. ممزقة.. وسخة.. وسخة.. وسخة.. تنفر منها الأقـذار.. نمسك بأيدي بعضنا البعض.. ونبدأ تغريبتنا ( منذ كنا نحج راجلين ) وقت الغروب.. عاصفة رملية تسرق منا الشمس، وترمي ليلنا في ليل مظلم.. تغوص أقدامنا في الرمل.. نأكل الرمل.. ونسير صوب الغروب المسروق.. صوب الليـل..
يسرقني من الجمع نور ميت هارب من شقوق باب خشبـي هرم.. أركض نحوه.. أضرب الباب بقوة الأمل المنغرس فجأة في ظلمة نفسي، فيتهاوى قطعا متفرقة:
هو؟!.. نعم، إنه هو.. جالس في كوخه.. أوراقه يزينها غبار ما بعد الموحدين.. ضوء باهت لشمعة ملّت الاحتراق(ليرقـصَ المنبوذون واللقطاء والسارقون، ويشربوا نخب جثثنا المتـفحمة)، تريد أن تحرق.. لتذيقهم ألم الاحتراق.. وتذوق لذة الإحراق..
- "ماذا تكتب أيها المعزول؟!.. انظر حولك.. تأمل نفسك.. تأمل هذا الكهف الحجري الذي تسكنه ويسكنك.. انظر إلى وجهك.. إنه خارطة ليس فيها من التضاريس إلا الصخور.. حتى عروقه غابت.. نضبت.. ما عاد الدم الحار يجري في ردهاتها.. لقد أصبح هيولى تحمل المسكنة، والخداع، والذل، والهوان.. سكبته فيك تـفاهات، وأكاذيب الشعراء، والخطباء، والقصاصين، وكل شبقي سكنته توليفة عقده منذ ميلاده.. يريد أن يعدي غيره، لألا يبقى وحيدا كالبعير الأجرب!!
ماذا تكتب؟!.. تغريبتنا بدأت منذ قرون.. أدركنا.. أطيافنا لم تغب بعد وراء الكثبان.. قم، أيها المكسور الجناح.. أيها الأعرج، الجائع، البائس!..."
يرفع رأسه ببطء شديد.. ماذا أرى؟!.. ديدان؟!.. ،نعم.. إنها ديدان لزجة كثيرة تخرج من محجريه!.. يدفعني الغثيان وظلام اليأس بقوة إلى الخارج...
ألمح قرابيننا وأنا أهم باللحاق بـهم فأتوقف.. إنها تلوح من بعيد صائحة: إننا نعيش أزمة سكن خانقة!.. لا ترسلوا المزيد!.. أضحك.. أضحك حتى يغدو الضحك أكبر من فمي.. أسقط على ركبتي.. ثم على ظهري.. سائل حار يتدفق من عيني بقوة.. أقف.. أجد قميصي أحمر حمرة قانية.. يغمرني صمت صوفي.. أغمض عيني.. أشعر بالأرض تنفتح تحت قدمي.. أجدني أهوي في قعر عميق.. عميق.. أفتح عيني لأجد نفسي في مدينتي.. أركض كالمجنون لعلي أدركهم..
وأنا أقف أمام عمارة ضخمة جميلة تتلألأ بأضواء من كل لون، متقطع الأنفاس، وجبيني يتصبب عرقا.. آه.. أخيرا.. أدركتهم.. إنهم واقفون في طابور طويل، منكسين رؤوسهم، صامتين.. وجوههم سوداء.. يشد نظري أحدهم.. ثيابه بالية، وسخة، شعره أشعث، وجهه كوجه مغامر مضغ الصبر والصبّار ليصل إلى الكنـز، ولما عاد به.. افتكه منه القراصنة، وتركوه وحيدا في سفينته المهترئة...
أسألهم:" فيم تجمعكم؟!".. يستغربون سؤالي وعدم انضمامي إلى الطابور بنظرات متبادلة، وهمهمات تسري بينهم، ثم سرعان ما تختنق ويعودون إلى حالهم.. يخاطبني أحدهم بغضب: " اغرب عنا أيها الغريب!.. لا مكان بيننا للأموات!!".. يبدو لي كتلة من الإسمنت المسلح مغطاة بالثوب!..
وأنا أمر بالباب الذي يلجون منه غرفة تبتلعهم كبئر عميقة، يخرج رجل يحمل كيسا مملوءا بالعناكب، والثعابين، والعقارب السوداء!.. تزيد دهشتي، ولا يستطيع الخوف كبت السؤال:
- ما هذا؟!.. وما تصنع بها؟!
ترتسم ملامح دهشة أكبر على وجهه، لكنه مهذّب، عكس صاحبه الأول.. يشدني من ذراعي برفق.. أسير معه خطوات.. يتوقف.. يلتفت إلى الواقفين في الطابور كأنه يريد التأكد بأننا ابتعدنا عنهم مسافة تكفي لألا يصل أسماعهم حديثنا.. ينظر إليّ والبسمة تعلو وجهه، ثم يقول:
-" يبدو أنك غريب عن المدينة! "
- " لا!.. منذ ولدت وأنا آكل ترابـها وأستنشق عفنها.
- بل أنت غريب!.. لأنك لم تدركنا، ولم تفهمنا!.. سأشرح لك: أما العناكب، فنستخرج منها " إكسير المعرفة"!.. وأما الثعابين، فعسلها طعامنا!.. وأما العقارب السوداء، فإن في عسلها ثلاثة عشر نوعا من "الفيتامينات"، تحصننا ضد أمراض كثيرة، منها المعدي، والقاتل: كعزة النفس، والمطالبة بالحقوق، وعدم السكوت على الظلم والسرقة، وغيرها. لن أفسد عليك يومك بذكرها، أعاذنا الله وإياك منها!..
أسأله، وقد توقف عقلي عن التفكير: قل لي بربك، أين نحن؟!.. وفي أي زمن؟!..و.. أنتم.. من تكونون؟!
وهو يهم بالكلام، يهزنا صوت قوي أشبه بالهرير: " هيا.. عودوا إلى جحوركم أيها الجرذان! "
صاحب الكيس لا يجيبني.. يفر كمن يرى ملك الموت.. ألتفت.. أجد كلبا أسود ضخما!!..
* * *
تململ في فراشه حين أحس بيد تحرك جسده.. صوت مبهم يأتي من بعيد.. يقترب.. يقترب.. أصبح واضحا، إنه صوت أمه: "رشيد.. رشيد.. استيقظ.. إنها الساعة السابعة.. قم بسرعة لتصل باكرا إلى مكتب اليد العاملة.. قم وإلا ضيعت على نفسك الفرصة هذه المرة أيضا، وعدت بحجتك المكررة الواهية: كان الطابور طويلا"
فتح عينيه.. وجد نفسه يغطي وجهه بكلتا يديه!!..
نهض يترجرج.. لينشد أيام الخير في سباسب الحيرة العظمى!!.