أرسل إليّ أحد أقربائي رسالة لا أدري من أين أخذ نَصّها، وفيها أنّ اللغة العربيّة ظلمت المرأة في خمسة مواضع، وهي: أنّ الرجل يوصف بالحيّ، وتوصف المرأة بالحيّة؛ ويتولّى القضاء فيدعى قاضياً، وتتولاّه فتدعى قاضية؛ وهو يوصف بالمُصيب وتوصف بالمُصيبة؛ ويدخل إلى مجلس الأمّة فيسمّى نائباً، وتدخل إليه فتسمّى نائبة؛ ويهويان شيئاً فيقال له هاوٍ، ولها هاوية؛ ويوحي صاحب النصّ أنّ الظلم كائن في أنّ الحيّة كناية عن المحتالة والخبيثة، وأنّ المُصيبة هي ما يَفْدح الناس من ضرر عظيم، وأنّ القاضية هي المُصيبة التي تقضي على الناس، وأنّ النائبة أخت المُصيبة، وأن الهاوية من أسماء جهنّم!
والحقّ أنّ اللغة العربيّة لم تظلم المرأة بل هي التي يقع عليها الظلم، ولاسيّما ظلم من أراد التفكه، فحرّف الأمور عن مواضعها، لجهله أو تجاهله قاعدةً أساسيّة، وهي أنّ العبارة، وليس الكلمة المفردة، هي التي تعيّن المعنى، وأنّ المعوّل على نيّة المستعمِل، وعلى ما يمكنه إيصاله من معنى إلى المتلقّي، فالأمر ليس مطلقاً.
فصفة «حيّة» تعنى ذات الحياة، سواء أكانت صفة لبشر أم لحيوان أم لشجر، حقيقة أم مجازاً؛ فهي لا تختصّ، إذن، بالمرأة، ولا يمكن أن تحمل معنى تلك الزاحفة المعروفة، ولو توريةً، إلاّ إذا وضُحت اسميّتها؛ فإذا قلت: هذه شجرة حيّة، فلا يمكن أن يكون قصدك أنّها من الزواحف ولا أنّها داهية؛ وقد تريد تشبيه الشجرة الملتفة الأغصان بالحيّة، فلا يكون من ذمّ؛ وإذا قلت: إنّ خولة بنت الأزور حيّة في الذاكرة الإسلاميّة، فيعني ذلك أنها حاضرة غير منسيّة؛ أمّا إذا قلت لامرأة: أنت حيّة في قلبي، وكنت جادّاً أو مريداً التحبّب والتقرّب، فذلك يعني أنّها تعيش في قلبك؛ أمّا إذا كنت متهكّماً، فإِنّك تكون قد أردت التورية والمعنى البعيد وهو أنّها كائن مؤذٍ ينخر قلبك. علماً أن للحيّة معاني مدحيّة متعدّدة، في العربيّة، تستعمل للذكور أكثر من استعمالها للإناث: فهي تعني توقّد الذهن، والشهامة، كما في قولهم:«رأسه رأس حيّة»؛ وتدلّ على الشدّة والشجاعة في قولهم:«فلانٌ حيّةٌ ذَكَر»؛ ويشبّهون كلَّ طويل العمر بالحيّة؛ وهناك قبيلة عربيّة تسمّى حيّة؛ وكُنّي عن شاعر عباسيّ بأبي حيّة النُمَري؛ واسم الحيّة، في النهاية، مشتقّ من الحياة.
أما القاضي والقاضية فقد يستعمل كلاهما في تورية يراد بها الذمّ، إذا قُدِّر فيها معنى القضاء على الناس أو غيرهم، لكن إذا قُدِّر فيها معنى الحُكم بين الناس، أو معنى الأمر، فليس من ذمّ؛ وفرْق بين أن تقول مثلاً: فلانة قاضية نزيهة، وأن تقول الآية الكريمة: يا ليتها كانت القاضية .
وكذلك الهاوي والهاوية؛ فإذا قُدِّر فيهما فعل هَوَى (بالألف المقصورة) يَهوِي (بالياء)، فذلك يفيد معنى السقوط، والمذكّر والمؤنّث في ذلك سواء؛ أمّا إذا قُدّر فعل هَوِيَ (بالياء) يَهْوَى (بالألف المقصورة) فذلك يفيد معنى التعلّق والعشق.
وقريب من ذلك كلمات داهية ومصيبة ونائبة، في المعنى الحقيقيّ أو المجازيّ. فالداهية صفة تقال للرجل والمرأة سواء بسواء، إذا أريد وصف أحدهما بشدّة الدهاء، لأنّ الهاء للمبالغة وليست للتأنيث؛ وفرق بين عبارة: فلان داهية ماكر، وعبارة: أصابتهم داهية دهياء. وفي السياق نفسه يأتي التفريق بين عبارة: فلانة مصيبة في قولها، وعبارة: فلانة مصيبة ألَمَّت بقومها؛ وكذلك بين عبارة: فلانة نائبة عن الشعب، وعبارة: نائبة نزلت بالشعب.
وقد عالجنا موضوع النائبة في مقالتنا: «تذكير الصفة الدالّة على أنثى»، وأشرنا إلى محاولة فرض صيغة النائب دون النائبة، في لبنان أولاً، وفي العالم العربيّ ثانياً، وإلى إصدار مجمع اللغة العربيّة في القاهرة - في تاريخ نجهله - قراراً يمنع فيه التسوية بين المذكّر والمؤنّث «في ألقاب المناصب والأعمال، اسما كان أو صفة» غير مجيز «أن يوصف المؤنّث بالتذكير، فلا يقال: فلانة أستاذ أو عضو أو رئيس أو مدير». ونزيد الآن أنّ من الحجج التي يستند إليها من يخالفون قرار المجمع، ربّما من غير أن يطّلعوا عليه، أنّ الفرنسيّين يلجأون إلى التذكير في ألقاب المناصب الخاصّة والعامّة، مثل لقب professeur (أستاذ) وdéputé (نائب)؛ وهذا صحيح جزئيّاً، بدليل أنّهم يقولون أيضاً président و présidente (رئيس ورئيسة) و avocat و avocate (محامٍ ومحامية). أما في الإنجليزية فليس من علامات تأنيث. وعلى كل حال، فإنّ لكلّ لغة خصائصها.
لكنّ تعميم المجمع يجعله شاملاً للأسماء بصورة مطلقة، وهو أمر يحتمل النقاش، لاسيّما في شأن كلمة «عضو» المذكورة في القرار؛ ذلك لأن الوصف بالجامد المذكّر، سواء أكان الجامد مصدراً أم اسماً مشبّهاً به؛ وسواء أكان الموصوف ظاهراً أم محذوفاً قامت الصفة مقامه، فإنّ علامة التأنيث لا تلحقه، فنقول مثلاً: فلانة لسانُ قومها أو فخرُهم، بمعنى المتحدّثة باسمهم، أو بمعنى المفتخَر بها؛ وقد نكنّي عنها بلسان قومها، أو بفخر قومها، فنقول: جاءت لسان قومها وفخرُهم. ومثل ذلك كلمة عضو، فهي تطلق على الإنسان أو الحيوان تشبيهاً له بالعضو من أعضاء الجسد، ولذلك يجوز القول: فلانة عضوٌ في الجمعية، وهو الأصل؛ والقول أيضاً: فلانة عضوة في الجمعية، بحمل الجامد على معنى المشتقّ، أي بحمل عضوة على معنى منتمية، قياساً على عبْد وعبْدة، بمعنى المُستعبَد والمُستعبَدة، وعلى غلام وغُلامة، بمعنى المولى والمولاة، وطِفل وطِفلة، بمعنى الصغير والصغيرة. ومثل ذلك بعض الأسماء المعرّبة الجامدة، مثل أستاذ المئوّل بالمعلم، لاسيّما ذي المنـزلة العالية؛ ويقال إنّ أصل الكلمة فارسيّ ويعني الرئيس، ويستعمل منه في الجامعات اليوم: رتبة أستاذ، أي رتبة رئيس المدرّسين في مادة تعليميّة ما؛ والعرب قد تؤنّث الجامد في غير الوصف والتشبيه أيضاً، فتقول زوجة وذئبة وثعلبة وعقربة.
لكنّ هناك ألقاباً مذكّرة يكاد يستحيل تأنيثها، مثل لقب الإمام؛ فإذا أمّت امرأة الصلاة لا يساغ أن يقال لها إلاّ «إمام»، ويصعب أن يقال لها «إمامة»، لاسيّما أنّ ذلك يُلْبس اسم الجنس بالمصدر؛ ومثل ذلك أكثر المصادر، وما يعدّ من الأسماء الجامدة مذكّراً مجازياً، كاللسان والأنف والجبل والسيف.
وبدهيّ أنّ الأسماء المشتقة بخلاف ذلك، يؤنَّث مذكّرها بالتاء غالباً، مثل: المدرّس والمدرّسة، وتجوز التاء في المذكّر المجازيّ منها، كحاجب العين، إذا وصفت به أنثى حقيقيّة، فيقال على قلّة: حاجبة العين.
وفي النهاية، إنّ اللغة قلّما تظلم الأنثى أو تجرِّد صفاتها من العلامة، ولكنّ جاهلي اللغة، أو جاهلي قواعدها، يظلمونها ويعرّون كلماتها المؤنّثة تحذلقاً.
مصطفى عليّ الجوزو