عنترة ..................فارس الحب النيل
بقلم:
د. السيد عبد الله
لقد كانت الحياة في العصر الجاهلي مليئة بالحروب التي اشتهرت باسم "أيام العرب" وقد وصلت هذه الأيام إلى أكثر من ألف يوم، ومن أشهرها حرب البسوس ، وواقعة ذي قار.
وترجع كثرة الحروب في العصر الجاهلي إلى عدة أسباب منها:
- قلة موارد العيش في الصحراء ، فكانت الحروب بغرض السلب والنهب.
- عقلية الإنسان العربي كانت مهيأة دائما للحرب فإن أقل جرح لكرامة العربي أو إثارة غضبه كانت تجعله يلجأ إلى السيف للاحتكام إليه ، دفاعا عن الشرف والكرامة.
- هذه العقلية العربية البسيطة كانت تؤمن بفكرتين أساسيتين ألا وهما حب المساواة ولو كان نطاق ضيق أي في داخل القبيلة الواحدة , والفكرة الثانية هي الحرية بمعناها الفردي وليس الجماعي ولذا انتشرت الحروب من أجل الحرية والمساواة.
- كان اعتماد العرب في صحراء الجزيرة على الرعي أساسا ، وفي بعض المناطق القليلة على الزراعة حول العيون والآبار ، فكان النزاع الدائم حول مناطق الرعي ، والمناطق التي تتوفر فيها عيون وآبار الماء.
ونتيجة لذلك ظهرت الشخصيات الحربية (أبطال السير والملاحم) أو ما يطلق عليهم "الفوارس" ومن أشهرهم إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق عنترة بن شداد العبسي ، صاحب عبلة ، هذا الفارس صاحب الملحمة الشعبية "ملحمة عنترة" ، والتي عشقها الشعب العربي وتغنى بها الفنان الشعبي ، كما عشقها الأدباء والمفكرون الأكاديميون الذين اهتموا بتراث وتاريخ العرب و العربية ، كما اهتم بهم أيضا العشاق الذين قرأوا أشعارهم الغزلية الجميلة.
ورغم تنوع وتعدد المثاليات في الفروسية عند العرب في العصر الجاهلي إلا أن عنترة كان – في رأيي – أعظم من مثّلوا المثالية الفروسية من كرم وشجاعة ونبل وإجارة الجار و إكرام الضيف ، والنجدة وغيرها من مثاليات الفروسية النبيلة في العصر الجاهلي.
فعنترة ينتمي إلى طبقة الفوارس الذين يعدون من فوارس القبيلة الذين كافحوا للوصول إلى أعلى المراتب في شرف الفروسية المعروفة في ذلك العصر ، الذي يعد بحق العصر الذهبي للحماسة في تاريخ الأدب العربي.
وأحب أن أبدأ هذه الدراسة بنقل دون تصرف لترجمة عنترة بن شداد من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني:
ترجمة عنترة بن شداد كما وردت بكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني (الجزء الثامن)
ذكر عنترة ونسبه وشيء من أخباره:
نسب عنترة: أمه أمة حبشية، كان أبوه نفاه ثم ألحقه بنسبه: هو عنترة بن شداد، وقيل: ابن عمرو بن شداد، وقيل: عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة، وقيل: مخزوم بن عوف بن مالك ابن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وله لقبٌ يقال له عنترة الفلحاء، وذلك لتشقق شفتيه. وأمه أمةٌ حبشية يقال لها ربيبة، وكان لها ولدٌ عبيدٌ من غير شداد، وكانوا إخوته لأمه. وقد كان شداد نفاه مرةً ثم اعترف به فألحق بنسبه. وكانت العرب تفعل ذلك، تستعبد بني الإماء، فإن أنجب اعترفت به وإلا بقي عبداً.
حرشت عليه امرأة أبيه فضربه أبوه فكفته عنه فقال فيها شعراً: فأخبرني علي بن سليمان النحوي الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عن محمد بن حبيب، قال أبو سعيد وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني، قالا: كان عنترة قبل أن يدعيه أبوه حرشت عليه امرأة أبيه وقالت: إنه يراودني عن نفسي، فغضب من ذلك شداد غضباً شديداً وضربه ضرباً مبرحاً وضربه بالسيف، فوقعت عليه امرأة أبيه وكفته عنه. فلما رأت ما به من الجراح بكت - وكان اسمها سمية وقيل: سهية - فقال عنترة:
صوت
أمن سمية دمع الـعـين مـذروف لو أن ذا منك قبل اليوم معـروف
كأنها يوم صدت ما تـكـلـمـنـي ظبيٌ بعسفان ساجي العين مطروف
تجللتنى إذ أهوى العصـا قـبـلـي كأنها صنمٌ يعـتـاد مـعـكـوف
العبد عبدكـم والـمـال مـالـكـم فهل عذابك عني اليوم مصـروف
تنسى بلائي إذا ما غارةٌ لـحـقـت تخرج منها الطوالات السراعـيف
يخرجن منها وقد بلت رحـائلـهـا بالماء تركضها الشم الغـطـاريف
قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرضٍ تصفر كف أخيها وهو مـنـزوف
غنى في البيت الأول والثاني علوية، ولحنه من الثقيل الأول مطلق في مجرى البنصر، وقيل: إنه لإبراهيم. وفيهما رملٌ بالوسطى يقال: إن لابن سريج، وهو من منحول ابن المكي.
قوله مذروف: من ذرفت عينه، يقال: ذرفت تذرف ذريفاً وذرفاً، وهو قطرٌ يكاد يتصل.
وقوله: لو أن ذامنك قيل اليوم معروف. أي قد أنكرت هذا الحنو والإشفاق منك، لأنه لو كان معروفاً قبل ذلك لم ينكره. ساجي العين. ساكنها. والساجي: الساكن من كل شيء.
مطروف: أصابت عينه طرفةٌ، وإذا كان كذلك فهو أسكن لعينه. تجللتني: ألقت نفسها علي. وأهوى: اعتمد. صنم يعتاد أي يؤتى مرةً بعد مرة. ومعكوف: يعكف عليه.
والسراعيف: السراع، واحدتها سرعوفة. والطوالات: الخيل. والرحائل: السروج.
والشمم: ارتفاع في الأنف. والغطاريف: الكرام والسادة أيضاً. والغطرفة: ضرب من السير والمشيء يختال فيه. والنجلاء: الواسعة. يقال: سنانٌ منجلٌ: واسع الطعنة: عن عرض أي عن شقٍّ وحرف. وقال غيره: أعترضه اعتراضاً حين أقاتله.
سبب ادعاء أبيه إياه: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن ابن الكلبي، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن الكلبي: شدادٌ جد عنترة غلب على نسبه، وهو عنترة بن شداد، وقد سمعت من يقول: إنما شداداً عمه، كان نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه. قال: وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر، وذلك لأن أمه كانت أمةً سوداء يقال لها ربيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولدٌ من أمةٍ استعبدوه. وكان لعنترة إخوةٌ من أمة عبيدٌ. وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم واستاقوا إبلاً، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة يومئذٍ فيهم، فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وهو يقول:
أنا الهجين عـنـتـره كل امرىء يحمي حره
أسـوده وأحـمــره والشعرات المشعـره
الواردات مشـفـره
وقاتل يومئذ قتالاً حسناً، فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه.
وحكى غير ابن الكلبي أن السبب في هذا أن عبساً أغاروا على طيىء، فأصابوا نعماً، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيباً مثل أنصبائنا لأنك عبد. فلما طال الخطب بينهم كرت عليهم طيىء، فاعتزلهم عنترة وقال: دونكم القوم، فإنكم عددهم.
واستنقذت طيىء الإبل. فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال: أو يحسن العبد الكر! فقال له أبوه: فاعترف به، فكر واستنقذ النعم. وجعل يقول:
أنا الهجين عـنـتـره كل امرىء يحمي حره
الأبيات.
قال ابن الكلبي: وعنترة أحد أغربه العرب، وهم ثلاثة: عنترة وأمه ربيبة، وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة، والسليك بن عمير السعدي وأمه السلكة، وإليهن ينسبون. وفي ذلك يقول عنترة:
إني امرؤٌ من خير عبسٍ منصبـاً شطري وأحمي سائري بالمنصل
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظـت ألفيت خيراً من معمٍّ مـخـول
يقول: إن أبي من أكرم عبس بشطري، والشطر الآخر ينوب عن كرم أمي فيه ضربي بالسيف، فأنا خيرٌ في قومي، ممن عمه وخاله منهم وهو لا يغني غنائي. وأحسب أن في القصيدة هي التي يضاف إليها البيتان اللذان يغنى فيهما، وهذه الأبيات قالها في حرب داحس والغبراء.
حامى عن بني عبس حين انهزمت أمام تميم، فسبه قيس بن زهير فهجاه: قال أبو عمرو الشيباني: غزت بنو عبس بني تميم وعليهم قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس وطلبتهم بنو تميم، فوقف لهم عنترة، ولحقتهم كبكبةٌ من الخيل، فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبرٌ. وكان قيس بن زهير سيدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ، فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء. وكان قيس أكولا. فبلغ عنترة ما قال، فقال يعرض به قصيدته التي يقول فيها:
صوت
بكرت تخوفني الحتـوف كـأنـنـي أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل
فأجبتهـا أن الـمـنـية مـنـهـلٌ لا بد أن أسقى بكأس الـمـنـهـل
فاقنى حياءك لا أبالـك واعـلـمـي أني امرؤ سأمـوت إن لـم أقـتـل
إن المنية لـو تـمـثـل مـثـلـث مثلي إذا نزلوا بضنـك الـمـنـزل
إني امرؤ من خير عبسٍ منـصـبـاً شطري وأحمي سائري بالمنـصـل
وإذا الكتيبة أحجمت وتـلاحـظـت ألفيت خيراً مـن مـعـمٍّ مـخـول
والخيل تعلم والفوارس أنـنـي فرقت جمعهم بصربة فيصـل
إذا لا أبادر في المضيق فوارسي أو لا أوكل بـالـرعـيل الأول
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحمـوا أشدد وإن يلفوا بضنـكٍ أنـزل
حين النزول يكون غاية مثلـنـا ويفر كل مضللٍ مسـتـوهـل
والخيل ساهمة الوجوه كأنـمـا تسقى فوارسها نقيع الحنـظـل
ولقد أبيت على الطوى وأظلـه حتى أنال به كريم الـمـأكـل
عروضه من الكامل. غنت في الأربعة الأبيات الأول والبيت الثاني عريب خفيف رمل بالبنصر من رواية الهشامي وابن المعتز وأبي العبيس.
الحتوف: ما عرض للإنسان من المكاره والمتالف. عن عرض أي ما يعرف منها. بمعزل أي في ناحية معتزلة عن ذلك. ومنهل: مورد. وقوله: فاقني حياءك. أي احفظيه ولا تضيعيه. والضنك: الضيق. يقول: إن المنية لو خلقت مثالاً لكانت في مثل صورتي. والمنصب: الأصل. والمنصل: السيف، ويقال منصل أيضاً بفتح الصاد. وأحجمت: كعت. والكتيبة: الجماعة إذا اجتمعت ولم تنتشر. وتلاحظت: نظرت من يقدم على العدو. وأصل التلاحظ النظر من القوم بعضهم إلى بعض بمؤخر العين. والفيصل: الذي يفصل بين الناس. وقوله: لا أبادر في المضيق فوارسي أي لا أكون أول منهزم ولكني أكون حاميتهم. والرعيل: القطعة من كل شيء. ويستلحموا: يدركوا. والمستلحم: المدرك، وأنشد الأصمعي:
نجى علاجاً وبشراً كل سلـهـبةٍ واستلحم الموت أصحاب البراذين
وساهمة: ضامرة متغيرة، قد كلح فوارسها لشدة الحرب وهولها. وقوله: ولقد أبيت على الطوى وأظله. قال الأصمعي: أبيت بالليل على الطوى وأظل بالنهار كذلك حتى أنال به كريم المأكل أي ما لا عيب فيه علي، ومثله قوله: إنه ليأتي علي اليومان لا أذوقهما طعاماً ولا شراباً أي لا أذوق فيهما. والطوى: خمص البطن، يقال: رجل طيان وطاوي البطن.
أنشد النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً من شعره فود لو رآه: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكـل
فقال صلى الله عليه وسلم: ما وصف لي أعرابيٌّ قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.
كيف ألحق أخوته لأمه بنسب قومه: أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة: أن عنترة كان له إخوة من أمه، فأحب عنترة أن يدعيهم أقومه، فأمر أخاً له كان خيرهم في نفسه يقال له حنبل، فقال له: أرو مهرك من اللبن ثم مر به علي عشاءً. فإذا قلت لكم: ما شأن مهركم متخدداً مهزولاً ضامراً، فاضرب بطنه بالسيف كأنك تريهم أنك قد غضبت مما قلت: فمر عليهم، فقال له: يا حنبل، ما شأن مهركم متخدداً أعجر من اللبن؟ فأهوى أخوه بالسيف إلى بطن مهره فضربه فظهر اللبن. فقال في ذلك عنترة:
أبني زبيبة ما لمهركم متخدداً وبطونكم عجر
ألكم بإيغال الوليد على أثر الشياه بشدةٍ خبـر
وهي قصيدة. قال: فاستلاظه نفرٌ من قومه ونفاه آخرون. ففي ذلك يقول عنترة:
ألا يا دار عبلة بـالـطـوي كرجع الوشم في كف الهدي
وهي طويلة يعدد فيها بلاءه وآثاره عند قومه.
جوابه حين سئل أنت أشجع العرب: أخبرني عمي قال أخبرني الكراني عن النضر بن عمرو عن الهيثم بن عدي قال: قيل لعنترة: أنت أشجع العرب وأشدها؟ قال لا. قيل: فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزماً، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزماً، ولا أدخل إلا موضعاً أرى لي منه مخرجاً، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله.
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال:
قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازمٍ. قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا وكان حازماً فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره، فكنا كما وصفت لك. فقال عمر: صدقت.
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري قال قال محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل عن أبي عبيدة وابن الكلبي قالا: موته واختلاف الروايات في سببه: أغار عنترة على بني نبهان من طيىء فطرد لهم طريدةً وهو شيخ كبير، فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول:
آثار ظلمانٍ بقاعٍ محرب
قال: وكان زر بن جابر النبهاني في فتوة، فرماه وقال: خذها وأنا ابن سلمى، فقطع مطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله، فقال وهو مجروح:
وإن ابن سلمى عنده فاعلمـوه دمـي وهيهات لا يرجى ابن سلمى ولا دمي
يحل بأكناف الشـعـاب وينـتـمـي مكان الثريا ليس بالـمـتـهـضـم
رماني ولم يدهـش بـأزرق لـهـذمٍ عشية حلوا بين نـعـفٍ ومـخـرم
قال ابن الكلبي: وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص. وأما أبو عمرو الشيباني فذكر أنه غزا طيئاً مع قومه، فانهزمت عبس، فخر عن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلاً، وأبصره ربيئة طيىء فنزل إليه، وهاب أن يأخذه أسيراً فرماه وقتله.
وذكر أبو عبيدة أنه كان قد أسن واحتاج وعجر بكبر سنه عن الغارات. وكان له على رجل من غطفان بكرٌ، فخرج يتقاضاه إياه، فهاجت عليه ريح ٌ من صيف وهو بين شرجٍ وناظرة، فأصابته فقتلته.
كان أحد الذين يباليهم عمرو بن معد يكرب قال أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان عمرو بن معد يكرب يقول: ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حراها وهجيناها. يعني بالحرين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وبالعبدين عنترة والسليك بن السلكة.
هذه أخبار عنترة قد ذكرت فيها ما حضر.
عنترة فارس من فرسان الجاهلية من قبيلة بني عبس وهو فارس لايشق له غبار رفع من شأن قومه كثيرا من خلال معاركه وبرزت فروسيته في بني عبس وهو الذي جعل قبيلته قوية بسبب فروسيته وشجاعته فمن من القبائل لا يعرف عنترة بن شداد ........
اسمه:
اشتقاق اسم عنترة من ضرب من الذباب يقال له العنتر وإن كانت النون فيه زائدة فهو من العَتْرِ والعَتْرُ الذبح والعنترة أيضاً هو السلوك في الشدائد والشجاعة في الحرب. وإن كان الأقدمون لا يعرفون بأيهما كان يدعى: بعنتر أم بعنترة فقد اختلفوا أيضاً في كونه اسماً له أو لقباً. كان عنترة يلقب بالفلحاء ـ من الفلح ـ أي شق في شفته السفلى وكان يكنى بأبي الفوارس لفروسيتة و يكنى بأبي المعايش وأبي أوفى وأبي المغلس لجرأته في الغلس أو لسواده الذي هو كالغلس، وقد ورث ذاك السواد من أمه زبيبة، إذ كانت أمه حبشية وبسبب هذا السواد عدة القدماء من أغرب العرب.
نسبه:
في نسب عنترة روايات متعددة أبرزها :
* عنترة بن شداد بن معاويه بن ذهل بن قراد بن مخزوم بن ربيعه بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس
* عنترة بن شداد بن معاوية بن قراد أحد بني مخزوم بن عوذ بن غالب
* عنترة بن عمرو بن شداد بن قراد بن مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض
وغيرها من الروايات التي تبقي نسب عنترة مضطربا ذلك أنه نشأ عبدا ً مغمورا ً لم يعترف به أبوه إلا متأخرا.
مولده :
من السائد لدى المؤرخين أن حرب داحس والغبراء قد انتهت قبل الإسلام بقليل أي قرابة سنة 600 للميلاد وكانت هذه الحرب قد استغرقت أربعين سنة ، لذلك نستطيع أن نتوقع ولادة عنترة بحدود سنة 530 م لأنه شهد بدء هذه الحرب واشترك فيها حتى نهايتها ، وقد تم هذا التوقع لمولده لأنه ينسجم مع نصوص عديدة وردت عن اجتماع عنترة بعمرو بن معد بن يكرب ومعاصرته لعروة بن الورد وغيره من شعراء تلك الفترة.
نشأته :
يروى أن أباه قد وقع على أمة حبشية يقال لها زبيبة فأولدها عنترة ، وكان العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبده ، وقد ظلت عبودية عنترة فترة من الزمن لان أباه حرره بعد الكبر ولهذه الحرية قصة يذكرها الباحثون إن أمه الحبشية أتت به إلى والده فقال لأولاده ((إن هدا الغلام ولدي )) قالوا كذبت أنت شيخ وقد خرفت تدعي أولاد الناس فلما شب قالوا له : أذهب فارع الغنم ، فانطلق يرعى وباع منها واشترى سيفا ورمحا وترسا ودرعا ودفنها في الرمل . ولئن كان هذا الخبر أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع فانه يؤكد حرص عنترة على تعلم الفروسية وفنون القتال منذ صغره ، وهو الذي كان يشعر بدافع من لونه أن أفعاله وبطولته وشجاعته أمور لا ترتبط بالنشأة قدر ارتباطها بالنفس وسموها..
فروسيته :
كانت حروب داحس والغبراء الميدان الفسيح الذي ظهرت فيه فروسية عنترة وشجاعته ، وأخبار هذه الحرب تقترن مع الكثير من المواقع والأيام ومنها يوم ((الفروق)) حيث اصدمت عبس بتميم ودارت رحى الحرب بينهما فأقدم عنترة في هذه المعركة وقتل معاوية بن نزال وافتخر بقومه حين قال (كنا مائة لم نكثر فنتكل ولم نقل فنذل )). ومنها أيضا معركة ((ذات الجراجر )) بين ذبيان وحليفاتها من جهة وبين بني عبس من جهة أخرى ودام القتال يومين وقد أظهر عنترة في هذه الحرب شجاعة لا توصف . ثم أرادت عبس النزول على بني سليم فوقعت معركة ضارية انهزم فيها بنو عبس وفروا ولكن عنترة ظل واقفا ً دون النساء يدافع عنهن حتى عادت الخيل واحتدمت المعركة من جيد وكان الفوز لابني عبس والأخبار عن فروسية عنترة وشجاعته كثيرة ونكتفي منها بهذا الخبر البارز حين قيل لعنترة : أنت أشجع الناس وأشدها
فقال : لا ، قيل : فبم إذا ًشاع لك هذا في الناس ؟ قال :
((كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما ً ولا أدخل موضعا ً لا أرى لي منه مخرجا ، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله)).
حياته:
وهو أشهر فرسان العرب وأشعرهم وشاعر المعلقات والمعروف بشعره الجميل وغزله العفيف بعبلة.
اشتهر عنترة بالفروسية والشعر والخلق السمح. ومما يروى أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة فيهم فقال له أبوه: كر يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلب والصر، فقال كر وأنت حر، فكر وأبلى بلاء حسناً يومئذ فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه، وقد بلغ الأمر بهذا الفارس الذي نال حريته بشجاعته أنه دوخ أعداء عبس في حرب داحس والغبراء الأمر الذي دعا الأصمعي إلى القول بأن عنترة قد أخذ الحرب كلها في شعره وبأنه من أشعر الفرسان.
وفاته :
اختلف الرواة في نهاية عنترة كما في سائر أخباره ، فتعددت الروايات ومنها أن عنترة (( خرج فهاجت رائحة من صيف وهبت نافخة فأصابت الشيخ فوجدوه ميتا بينهم )) وكان عنترة قد كبر وعجز كما يبدو من الرواية ومنها أيضا (( أنه أغر على بني نبهان من طيء فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول :
آثار ظلمان ٍ بقاع ٍ مجدب
قال : وكان وزر بن جابر النبهاني في فتوة فرماه وقال خذها وأنا ابن سلمى فقطع مطاه ، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله وهو مجروح)).
ومن أخبار وفاته ((أنه غزا طيء مع قومه فانهزمت عبس فخر عن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب فدخل دغلا ً وأبصره ربيئة طيء فنزل إليه وهاب أن يأخذه أسيراً فرماه وقتله )).
ويزعمون أن الذي قتله يلقب بالاسد الرهيص وهو القائل :
أنا الاسد الرهيص قتلت عمرا ً وعنترة الفوارس قد قتلت
ويلاحظ المؤرخ فيليب حتي «تاريخ العرب» - في حرب البسوس، وهي أقدم الحروب وأشهرها، وقد شبه المؤرخ عنترة - شاعرًا ومحاربًا - بأخيل، كرمز لعصر البطولة العربية.
أخلاق الفرسان:
اشتهر عنترة بقصة حبه لابنة عمه عبلة، بنت مالك، وكانت من أجمل نساء قومها في نضارة الصبا وشرف الأرومة، بينما كان عنترة بن عمرو بن شداد العبسي ابن جارية فلحاء، أسود البشرة، وقد ولد في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وذاق في صباه ذل العبودية، والحرمان وشظف العيش والمهانة، لأن أباه لم يستلحقه بنسبه، فتاقت روحه إلى الحرية والانعتاق. غير أن ابن الفلحاء، عرف كيف يكون من صناديد الحرب والهيجاء، يذود عن الأرض، ويحمي العرض، ويعف عن المغنم. يقول عنترة:
ينبئك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وعنترة (كمثال لأخلاقية الحرب والنبل والشهامة والحميّة)، استحق تنويه النبي محمد عندما تُلي أمامه قول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه حتى أنال به كريم المأكلِ
يقول صاحب الأغاني: «قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: كيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا، وكان حازمًا فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره... إلخ». ولعل في هذا المثل السالف آية وعلامة على «فن الحرب» الذي كان يعتمد في العصور القديمة على الرأي والاستراتيجية والقيادة الحكيمة، والشعر (التعبئة) والقوة القائمة على العنف والغلبة.
وهذه الآراء تؤكد اقتران الحيلة والحنكة في فن الحرب عند عنترة وأقرانه في عصر السيف والرمح والفروسية. لا مراء في أن عنترة كان أشهر فرسان العرب في الجاهلية، وأبعدهم صيتًا، وأسيرهم ذكرًا وشيمة، وعزة نفس، ووفاء للعهد، وإنجازًا للوعد وهي الأخلاقية المثلى في قديم الزمان وحديثه.
بالرغم من هذا، فقد خرج عنترة في كنف أب من أشراف القوم وأعلاهم نسبًا، ولكن محنته جاءته من ناحية أمه «الأَمَة» ولم يكن ابن الأمة يلحقه بنسب أبيه إلا إذا برز وأظهر جدارته واستحقاقه للحرية والعتق، والشرف الرفيع، وهذا ما حصل في حال عنترة الذي اشترى حريته بسيفه وترسه ويراعه (لسانه) الشعري، وأثبت أن الإنسان صانع نفسه، وصاحب مصيره، بغض النظر عن أصله وفصله، وجنسه، ولونه وشكله.
يقول عنترة:
لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظَلِ
ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم *** وجهنم بالعزِّ أطيب منزل
وقد كانت عبلة وظلت الأثيرة في حياته وحتى مماته. وقد انتهت حياة البطل عنترة بعد أن بلغ من العمر عتيًا، ويشبه مماته ميتة أخيل، كفارس يقاتل في التسعين من عمره، في كبره، ومات مقتولاً إثر رمية سهم، وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص من قبيلة طيء. وكان لامارتين الشاعر الفرنسي معجبًا بميتة عنترة الذي ما إن أصيب بالسهم المسموم وأحسّ أنه ميت لا محالة، حتى اتخذ خطة المناضل - حتى بعد مماته - فظل ممتطيًا صهوة جواده، مرتكزًا على رمحه السمهري، وأمر الجيش بأن يتراجع القهقرى وينجو من بأس الأعداء، وظل في وقفته تلك حاميًا ظهر الجيش والعدو يبصر الجيش الهارب، ولكنه لا يستطيع اللحاق به لاستبسال قائده البطل في الذود عنه ووقوفه دونه، حتى نجا الجيش وأسلم عنترة الروح، باقيًا في مكانه، متكئًا على الرمح فوق جواده الأبجر.
لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ
ومن يكنْ عبد قومٍ لا يخالفهمْ إذا جفوهُ ويسترضى إذا عتبوا
قدْ كُنْتُ فِيما مَضَى أَرْعَى جِمَالَهُمُ واليَوْمَ أَحْمي حِمَاهُمْ كلَّما نُكِبُوا
لله دَرُّ بَني عَبْسٍ لَقَدْ نَسَلُوا منَ الأكارمِ ما قد تنسلُ الـعربُ
لئنْ يعيبوا سوادي فهوَ لي نسبٌ يَوْمَ النِّزَالِ إذا مَا فَاتَني النَسبُ
إن كنت تعلمُ يا نعمانُ أن يدي قصيرةٌ عنك فالأيام تنقلب
أليوم تعلم, يانعمان, اي فتىً يلقى أخاك ألذي غرّه ألعصبُ
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها الــعطبُ
فَتًى يَخُوضُ غِمَارَ الحرْبِ مُبْتَسِماً وَيَنْثَنِي وَسِنَانُ الـرُّمْحِ مُخْتَضِبُ
إنْ سلَّ صارمهُ سالتَ مضاربهُ وأَشْرَقَ الجَوُّ وانْشَقَّتْ لَهُ الحُجُـبُ
والخَيْلُ تَشْهَدُ لي أَنِّي أُكَفْكِفُهَا والطّعن مثلُ شرارِ النَّار يلتهبُ
إذا التقيتُ الأعادي يومَ معركة تَركْتُ جَمْعَهُمُ المَغْرُور يُنْتَهَبُ
لي النفوسُ وللطّيرِاللحومُ ولل ـوحْشِ العِظَامُ وَلِلخَيَّالَة ِالسَّـلَبُ
لا أبعدَ الله عن عيني غطارفة إنْساً إذَا نَزَلُوا جِنَّا إذَا رَكِبُوا
أسودُ غابٍ ولكنْ لا نيوبَ لهم إلاَّ الأَسِنَّة ُ والهِنْدِيَّة ُالقُضْبُ
تعدو بهمْ أعوجيِّاتٌ مضَّمرة ٌمِثْلُ السَّرَاحِينِ في أعناقها القَببُ
ما زلْتُ ألقى صُدُورَ الخَيْلِ منْدَفِقاً بالطَّعن حتى يضجَّ السَّرجُ واللَّببُ
فا لعميْ لو كانَ في أجفانهمْ نظروا والخُرْسُ لوْ كَانَ في أَفْوَاهِهمْ خَطَبُوا
والنَّقْعُ يَوْمَ طِرَادِ الخَيْل يشْهَدُ لي والضَّرْبُ والطَّعْنُ والأَقْلامُ والكُتُـبُ
لقد كان عنترة منذ صباه يطمح إلى أن يصبح فارس الشعر أو شاعر الفرسان فقد قال وهو مما أنشده في صباه:
ما ساءني لوني و اسم زبيبة إن قصرت همتي أعدائي
فلئن بقيت لأصنعن عجائبا ولأبكمن بلاغة الفصحاءِ
وزبيبة هي أمه الأمة السوداء التي أنجبته من شداد بن قراد العبسي ، وقد ورث عنترة عن أمه سواد بشرته فلذا أنكره والده ، وجعله عبدا له ، ومن هنا بدأت معارك عنترة ، وكانت معركته الأولى من أجل التحرر من نير العبودية والثورة على التفرقة العنصرية القائمة على اللون ، إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح في ذلك العصر – ويعبر عنترة عن ذلك بقوله:
لئن أكُ أسوداً فالمسكُ لوني ومَا لِسوادِ جِلدي منْ دواء
وَلَكِنْ تَبْعُدُ الفَحْشاءُ عَني كَبُعْدِ الأَرْضِ عَنْ جوِّ السَّماء
فهو لا ينكر سواد لونه ولا يخجل منه ، ولكنه وإن كان أسود اللون فإن أخلاقه كريمة ، فهو لا يقبل الفحشاء وإنما هي بعيدة كل البعد عنه ، بعد الأرض عن جو السماء ، ونراه يكرر ذلك في أكثر من قصيدة ، كلما عيّر بسواد لونه ، وهو هنا يدعو عدم اتخاذ لون البشرة كمقياس للبشر ، فالعنصرية القائمة على اللون غير طبيعية ومرفوضة في معتقد عنترة الفارس النيل فالنبل عنده في الأخلاق ، وليس في اللون ، فها هو يقول ، وهو مما قاله في صباه:
ما زِلتُ مُرتَقِياً إِلى العَلياءِ حَتّى بَلَغتُ إِلى ذُرى الجَوزاءِ
فَهُنَاكَ لا أَلْوِي عَلى مَنْ لاَمَنِي خوْفَ المَمَاتِ وَفُرْقَة ِ الأَحْياءِ
فلأغضبنَّ عواذلي وحواسدي ولأَصْبِرَنَّ عَلى قِلًى وَجَوَاءِ
ولأَجهَدَنَّ عَلى اللِّقَاءِ لِكَيْ أَرَى ما أرتجيهِ أو يحينَ قضائيِ
ولأَحْمِيَنَّ النَّفْسَ عَنْ شهَوَاتِهَا حَتَّى أَرَى ذَا ذِمَّة ٍ وَوَفاءِ
منْ كانَ يجحدني فقدْ برحَ الخفا ما كنتُ أكتمهُ عن الرُّقباءِ
ما ساءني لوني وإسمُ زبيبة ٍ إنْ قَصَّرَتْ عَنْ هِمَّتي أعدَائي
فَلِئنْ بَقيتُ لأَصْنَعَنَّ عَجَائِباً ولأُبْكمنَنَّ بَلاَغَة َ الفُصحَاءِ