قراءة في «ديوان كوكب الربيع»
للشاعر لحسن عايــــــــــي.
د. يوسف تغزاوي
الثانوية التأهيلية محمد الخامس كلميمة

يضعنا العنوان «كوكب الربيع» في مهاوي دلالية وتأويلية عميقة وشاسعة تتحرك في اتجاهات متباينة. وهذه الشساعة هي في واقع الأمر جزء من طبيعته البنائية التي توضح مقصدية الشاعر من حيث هي ممارسة وموقف ومجال وبعد زمني.
تعد إشكالية العنوان من الإشكاليات الهامة في أي عمل أدبي أو نقدي إذ من خلاله يمكن قراءة حيثيات النص، والركون إلى المعنى الذي يريده القارئ. عندما يتناول القارئ كتاباً ما، فإن أول ما يشده هو العنوان، لأنه البوابة التي يدخل منها إلى متن النص، ويدفعه إلى الكشف عن مفاتنه وثناياه، والتبحر في طياته ودلالته، وإن كان العنوان غير لافت للنظر، فيحجم القارئ عنه. وغالباً ما يحمل العنوان دلالات وتفسيرات وتأويلات عديدة إذ يمكن قراءة مرحلة ما، أو ظاهرة أدبية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، أو حتى نفسية من خلال العناوين، وكأنها دعوة للباحث إلى سبر أغوار النص وملابساته.
وكما أسلفنا في البداية فإن كوكب الربيع يستوقفنا من أكثر من جانب، لهذا فإن بنية العنوان النحوية – التركيبية والدلالية والتداولية تفرض نفسها، دون أن يكون ذلك تقييداً للدرس النقدي حول العنوان.
* البنية النحوية – التركيبية :
عنوان ديوان «لحسن عايي» «كوكب الربيع» جاء عبارة عن جملة اسمية بسيطة. والمبتدأ عنصر استغني عنه لسهولة تقديره (هذا) وتضطلع كلمة «كوكب» بوظيفة الخبر المتمم لمعنى المبتدأ والمفصحة عن الجهة النحوية المستفيدة من المحتوى القضوي للخبر. وقد اسند الخبر بوصف «الربيع» مع تخصيص في الموضوع والزمن «كوكب الربيع» والعلاقة النحوية الرابطة بين مكونات العنوان علاقة إضافة، وهو ما يدرج الملتقى ضمن المحتوى القضوي للعنوان.

* البنية الدلالية :
تقضي كل كلمة من كلمات العنوان تحديداً دلالياً حتى يستقر المعنى ضمن تصورات المتلقي، وكما أشرنا، في المستهل فإن عنوان الديوان يتكون من كلمتين أساسيتين، تستقل كل واحدة منها بدلالة. وإذا ما ضمت لغيرها أمكننا الوصول إلى الدلالة العامة التي يحفل بها العنوان على أنه يضعنا في كل حال في مدارين دلاليين كبيرين.
- يتصل أولهما بما يؤدي معنى الكوكب في علم الفلك، وهو جرم سماوي يدور حول الشمس ويستضيء بضوئها، أو بريق من الحديد أو الحصى، ويدل أيضاً على الحسن والبياض والنور والمنبع.
- أما الثاني فيرتبط بأحد فصول السنة الأربعة بين الشتاء والصيف، ومن ثمة يستغرق دلالات ووقائع عشوائية تتأرجح بين الصدفة والضرورة، والإمكان والاستحالة، من حيث إن الربيع يحتمل معنى النهر الصغير الأخضر من النبات، وكل ما ينبت في الربيع من الأعشاب، كما يوحي أيضاً على المطر.
وفي اعتبارنا أن البعد الدلالي للعنوان يختزن طاقات هذين الجذرين المدارين وتلاوينهما المتعددة بمعنى أنه يحمل بعضاً من قيمته المعرفي الشعرية من حضورهما المباغت والدائم، فهو يستقطب حركة الذات بما يجسد معاناتها وأحلامها وعشقها وهواجسها أفق محمل بأبعاد رؤية شمولية تتصارع حقائقها ووقائعها وتختلط فيها الأشياء وتتعب الذات في مناخاتها وهي تبحث عن لحظة الخلاص أو اليقين. وفي هذا المستوى يخترق العنوان تضاريس المزج بين الذاتي والموضوعي، والكائن والمحتمل والمطلق والنسبي، ويلح على وجوده المتلون الغامض والهرمسي تموجات القصائد التي يؤويها. وصيغة الاختراق لها مؤشراتها المرئية الدالة والفعلية إذ أنه يختزل ويجتذب عناوين فرعية من مجموع القصائد فثمة على الأقل تسعة وعشرون قصيدة، ومن بينها قصيدة واحدة تتقاطع وتتماشى مع دلالته هي : كوكب الربيع (ص : 61)، ولعل هذا المعنى يتخلل امتدادات القصائد في دوراتها وتجانساتها وتناصاتها المختلفة مما يؤهله لاحتواء أفقها الشمولي. غير أنه علمياً لا تتيسر قراءة هذا العنوان معزولاً عن سياق تطور تجربة الشاعر لحسن عايي، بما تستوجبه من تكامل وتلاحم وتماسك وانسجام. لذلك تجدر الإشارة إلى أن طبيعة العنوان مرتبطة ومشدودة إلى عناوين سابقة، وتختبئ في إشعاعاته بهذا القدر أو ذاك. فكوكب الربيع يتقاطع ويتداخل عبر حلقات ودوائر عديدة مع عنوان المجموعة الأولى للشاعر التي صدرت سنة 2001 (سحر) الامتداد. وتتيح لنا هذه المعطيات في النهاية الوقوف على حافة التداخل أو التآلف والتماسك والتكامل الذي تتحرك تجربة عايي على إيقاعها، وسيرورتها التي تتغذى من أعراض التجانس ولغة الانسجام بين مستوياتها، دون أن يلغي هذا البعد عناصر التوتر أو التباين التي تفرض وقعها في كل مرة، وتشغل منطق القصيدة.
وإذا جاز لنا أن نستجمع كل المسيرات الدلالية والتأويلية لكل عناوين الديوان في بؤرة واحدة على حد تعبير اللسانيات الوظيفية أو خندق واحد، فإن كوكب الربيع ملاك قابع يسبب للشاعر التيه والجنون، ويتجاذب صيغته عاملان أساسيان هما التيه المرتبط بالحبيبة والجنون المتعلق بالحقيقة وبالتالي استدعاء مناخ التجربة والاحتماء بمكوناته، واختراق نسيجه الكلي وفي ضوئه تهطل التداعيات لتمنح رقعته صيغة علاقاتها وعناصر انسجامها وخصوصياتها.
ونلاحظ من خلال اشتغالنا على الديوان، أن في القصائد تعبير عن مشاعر ذاتية تؤرق الشاعر، مثل : الحزن والكآبة (هكذا أراك) والحسرة والإحباط والعزلة واليأس (وردة ذابلة)، وتكبد الآلام والجراح (أجنحة الجراح)، ومعانات العشق العذري الصوفي (على الرصيف، نخيل يسمو وتسقط العصافير...) وهذه دلالة قاطعة على أن الشاعر ينتمي من خلال الديوان إلى الاتجاه الرومانسي فإذا أخذنا مثلاً مقطعاً شعرياً من قصيدتي (وردة ذابلة) وأطفال تحت النجوم، فإننا سنسجل تأرجحاً بين الإحباط واليـأس :
- تتحول الجبال
إلى جداويل من الرمال
رؤاي ضباب يتأول قلبي شلال
الورد منكمش
أتقلص كالظلال
عزلي خيمة (ص : 40).
ومع أن لفظة الأمل تتراجع في هذا السياق لتمجيد العمل والصمود والإيباء في وجه متاعب الحياة وهذا ما يتبدى من خلال قصيدة أطفال تحت النجوم : أملي أعمل، أسهر الليالي، عملي طموحي ثابر، قاوم الآلام.
إلا أن سياق تقاطعها مع الهواجس واللواعج، قد يغني بمعنى ما عن تصريفها أو استثمارها باستمرار وبذلك يضل صداها الدلالي يفيض على امتدادات أو ضلال أو إحالات تجد حيزاً لها في دائرة التمرد (قصيدة هكذا أراك) والتعبير عن الآلام الذاتية (أجنحة الجراح) وارتباط الشاعر بقضايا الوطن وهموم الناس (لا تغادر) أو ما يرتبط بمجراهم الدلالي.
غير أن الحفر في هذا الاتجاه لا يسمح لنا بالبحث عن مظهر سافر للتطابق أو تبعية دلالة العنوان لفضاء القصائد أو التجربة برمتها، لأن هذا المظهر قد يلقي بنا في دوامة الوقوف على السطح دون التوغل والنفاد إلى جوهر العلاقات المتواربة الخفية التي تصهر حضور العنوان في قرارات القصائد وأعماقها وفق تجليات لا نهائية وسلسلة من التحولات في حركة العلاقات الداخلية لدلالاتها وهي لا ترتكز على عناصر التجسيد الشائع أو التقريرية المباشرة ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الإحساس بالعزلة في حضن الطبيعة (رسالة عارية) والأنشودة التي تخترق كقوة جسد الأميرة المشاغبة قصد ترويضها.
كما يؤوي عنوان قصيدة عش في الفضاء أحد الاستهلالات التي تضع سياجاً زمنياً كخلاص للعبادة أو بتعبير آخر المحراب ضمن حيز ليلي في الفضاء وهو مدى يحاصر الأفق الدلالي لها ويجعل الشاعر أسير تاريخ – زمن يستدرجه وقد لا يستطيع الانفلات من قبضته، على اعتبار أن هذا النسيج الزمني يفرض سلطته ومرجعيته، ولو أن القصائد جميعها لا تحمل أو تحيل على تاريخ أو زمن كتابتها، لكنها بالضرورة تمتلك سلطة انتمائها وحقها في الارتباط بهذا المدى الزمني.
ومؤدى هذا الكلام ومغزاه لو استبقنا الأبعاد الدلالية لمجموع هذه القصائد لوجدنا أن تفاصيل هذا المدى الزمني وانشغالاته لا تكف عن الحضور المشع في امتداداتها وتقف في مهبها بلغاتها وإنجازاتها، وبمعنى أكثر وضوحاً فإن هذه التفاصيل تسم حياتها وتملأ أرجاءها طبقاً للمثل القائل إن استطلاعات الزمن الشعري تستدعي بالضرورة الما قبل والما بعد، وتربط سيرورته بمسافات ومساحات شاسعة لا نهائية مثل الاهتمام بقضايا الإنسان والمتجسدة في قيم الحق والحرية.
وبزوغ فجر وغد أفضل تسوده القيم والأخلاق (مرثية محمود درويش) وكذلك تداعي كثير من القيم والمثل المتوهجة التي زلزلت كيان العالم واهتزت لها أرجاؤه، مما أثار موجات متصاعدة كالأمل والحلم والحب (املشيل) وتمجيد البطولة والتصوف والنخوة والجمال من خلال قصيدة (أنت موطن يسكنني).
من الوجهة التشكيلية أو الشكلية كل القصائد قصائد مقطعية، عدا واحدة «كوكب الربيع» ويختلف عدد المقاطع من قصيدة إلى أخرى وليس ثمة ما يشير إلى أية معايير تبرر هذا التفاوت في التشكيل غير بناء القصيدة ذاتها وطبيعة تضاريسها وفضاءاتها الخاصة أي أن عملية الاتساع هنا مرتبطة بسياق بنائي يتعلق بحركة النسيج العام للقصيدة، وحركة إيقاعها الكلي، وليست مشروطة بنظام أو ترتيب خاص، وبهذا تؤسس كل قصيدة شكلها وتتعدد ملامحها انطلاقاً من إمكاناتها وانشغالاتها الخاصة التي تهيئ لها قدرها الشكلي المحتوم، وأهمية التشكيل المقطعي تنبع أساساً من كونه يفسح المجال أمام إيقاعات القصائد وتقابلاتها لتشق طريقها ودفعها إلى الأمام في محاولة لاستيعاب تطوراتها الدلالية. ثم إنه يحرر القصائد من نوبة الانغلاق أو الرتابة ويسمو بها نحو التصعيد والنمو ويخلق مجالاً خاصاً أو يؤسس بناء خاصاً لكل مقطع على حدة ويوجه حركته وأسلوبه. ثم هو يصون موسيقى القصائد من الانكسار ويوفر لها إمكانات إيقاعية جديدة، ويمكنها من الفكاك من القافية الموحدة حيث تسهم القوافي المتغيرة أو الموحدة أحياناً في إبراز عناصر وتجليات الإيقاع بشكل أكثر اختلافاً وتبايناً. ومن خلاله يتم التعبير غالباً في كل مقطع عن فكرة واحدة يتولى المقطع الشعري الموالي تطويرها أو تجاوزها أو الانتقال بها إلى مسويات أخرى.
وفي ظل هذا الوضع التشكيلي تصبح القصيدة معتركاً أو ملتقى لمشاهد يمثل كل مقطع مشهداً قائماً بذاته في الوقت الذي يمهد فيه للمشهد الذي يليه. ولا تستوفي القصائد طاقاتها إلا عبر استيفاء تفاعلات هذه المشاهد جميعها حتى لا تكاد تمثل في نهاية المطاف مجموعة من القصائد المتعانقة والمتشابكة تتجمع تفاصلها على ضفافها.
وعلى العموم يسوغ القول إن تقنية التشكيل تسير وفق حركتي المد والجزر. حيث تتفاوت مظاهر ومراحل استغراق البياض للسواد من قصيدة لأخرى، ومن مقطع لآخر كما تتفاوت تموقعات كل منهما على أديم الصفحة، وتتنوع علاقات التجاذب التي تعضد وجودهما معاً.
وأغلب القصائد على الرغم من تشكيلاتها المقطعية تتعلق أو تتحصن بعنوان رئيسي واحد، حيث إن توزيع المقاطع لا يتم إلا عن طريق ترتيبها التصاعدي بطبيعة الحال، وهذا المنحى يؤكد إلى درجة ما الهيمنة الكلية أو المطلقة للعنوان الرئيسي واختراقه المفترض لحركة امتدادات القصائد وتطورها الدلالي. وهذا مؤشر إلى أن حركة الدلالة تصاعدية تتجه من السفح إلى الذروة ومن البسيط إلى المركب وتتأسس على اهتزازات متباينة تتجمع كروافد تضع ثقلها في النهاية في بؤرة العنوان.
من الناحية التركيبية يمكن توزيع صيغة بنية العناوين إلى مستويين اثنين :
- العناوين المفردة وهي (صوت، أدريتي، لا تغادر، سنبلة، أنشودة).
- العناوين المركبة وهي عناوين إما في صيغة جمل أو مركبات وصفية أو مركبات إضافية (هكذا أراك، إميلشيل... الأيام، أنت موطن يسكنني، مرثية محمود درويش، قبضة هواء، لعلك القمر، عش في الفضاء، لهيب تحت المطر، ليلة على طبق من حجر، أطفال تحت النجوم...).
ويمكن القول إن الحقل الدلالي الذي يستقطب اتجاهات العناوين على وجه العموم هو الحقل الصوفي حيث تتسع ذاكرة كل عنوان لتلتقط من مداه بعضاً من تجلياتها، والاتكاء على طبيعة التأويل الصوفي يمنح الدلالة عبر العنوان والقصائد معاً نبضاً خاصاً مسكوناً بالدهشة، وفاعلية إخصاب متجددة تحمل اللغة على تجاوز ذاتها وتفجير علاقاتها في كل اتجاه. وهذا ما يمكن أن يشير إليه المعجم الموظف في النص، ويوحي إلى مجالات الحب والطبيعة والمجتمع الذي يقتطف ألفاظه وعباراته من محيط المولود الجديد عايــي وتتجســد في الحقول المعجمية التالية :
الصحراء، النخيل، الواحة، الرمل، الشمس، الصخر، إميلشيل والنخيل، وهذه هي السمة الكبرى التي تحكم القصيدة العربية الحديثة كما هو معروف.
أستر عايي في كوكب الربيع الاشتغال المتميز للتشبيه التام والبليغ وفي تقديري إن الشاعر لحسن عايي يحاكي شاعر المرأة بامتياز نزار قباني أسلوباً ودلالة.