دخلت على أحد أساتذتي يوما عند أول مجيئي إلى مصر للدراسةفي دار العلوم فحدثني عن زيارته الأولى لليبيا ثم أهداني كتاباعنوانه سفر الغربة أختار اليوم لكم منه هذا المقال بعنوان
الزعيم
"المنتصر العظيم" هو لقبه الذي أطلقه على نفسه مع أنه لم يدخل في حياته معركة واحدة حتى استيلاؤه على السلطة لم يكن ثمرة معركة بل كان في صورة انتقال عادي للسلطة طبقاً لتقاليد البلدان المتخلفة: بضع دبابات تخرج من معسكرها في الليل لتحيط بمبنى الإذاعة والتليفزيون ، ويمضي بعضها في جولات حرة في الطرق والميادين ثم إعلان البيان الأول دون إطلاق رصاصة واحدة من أي سلاح ،إلا بضع رصاصات يطلقها في الهواء الزعيم المنتصر العظيم ابتهاجاً بالنصر.
كانت الثمرة إذن دانية ولو لم تمتد إليها يده لسقطت وحدها في أي يد لكن لا يجوز أن يقال ذلك ويجب أن يصور الأمر على أنه نجاح للتخطيط السياسي العسكري العبقري الذي حوّل مجرى التاريخ وغير مصير الدنيا وتواصل الأحلام رحلتها المحلقة بدءا من محاولة فهم التجربة الإنسانية في أطرها المتعددة دينياً وسياسياً واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا ونفسيا وسلوكياً ويلجأ إلى أسلوب مبتكر لا يحاول فيه أن يقرأ ولا أن يتعلم فليس ثمة وقت للقراءة ولا للتعلم ،يكفي أن يجلس بضع ساعات مع بعض المفكرين لينقلوا له رؤيتهم الخاصة فيصبح هو المحيط الأعظم ، وصولاً إلى أن من حقه أن يفكر فيما لم يفكر فيه أحد وأن يلغي ما يقرر التاريخ الإنساني كله من نظم وأساليب إنها العبقرية العظمى التي نجحت من قبل وستنتجح من بعد ، ثم يصور الأسس النظرية في فكره من نشرات ملونة ما تلبث أن تصبح كتباً مقدسة ، يتبعها بتطبيقات عملية تمس كل شيء إلا شيئا واحداً لا تستطيع أن تقترب منه ، هو سلطته الشخصية التي يتخذ بها كل القرارات باعتباره الأخ الأكبر المهيمن الذي فوضته جماهير الكادحين في العالم كله تفويضا مطلقاً من قيود الزمان والمكان وفي الوقت الذي يصبح فيه الحرمان لصيق الأرض الغنية بثرواتها الطبيعية حتى إن الكثيرين من أوساط الناس يعيشون لا يجدون ما يحملون به غير دعوة إلى زردة يتاح لهم فيها احتساء طاسة شاهي يقوم المنتصر العظيم في هذا الوقت نفسه بدعوة الآلاف من كل الأصقاع ليدرسوا كل عام مرتين أو ثلاثة إنتاجه الفكري الخلاق ، وتجربته العملية الرائدة ، وليسهموا معه بالتبشير بمستقبل جديد للإنسانية في ضوء هديه العظيم الذي يحقق للبشر ما عجزت عنه كل الأنظمة وما فشلت فيه كل الأديان.
التقيت بصديقي الذي يشغل مكانة مرموقة في علم الاجتماع السياسي حين علمت أنه تلقى دعوة شخصية من المنتصر العظيم للمشاركة في هذه المؤتمرات مع صفوة من العلماء والمتخصصين وسألته: هل ستشارك فعلاً؟ فرد متبسما: ولم لا؟ علينا أن ندرس جميع التجارب الإنسانية، وهذه تجربة حية فما الذي يحول دون مناقشتها؟ ولما عاد عدت أسأله: ماذا كانت نتيجة رحلتك ؟صمت طويلاً ثم قال: التجارب الإنسانية يجب أن تكون في إطار محدود بحيث لا تدفع الشعوب ثمناً باهظاً لها. قلت له: كأنك تتحدث عن النتائج العملية دون أن تعرض للأسس النظرية، قال ساخراً: وهل يستطيع إنسان أن يناقش نبياً، ففزعت مستفسراً فأضاف :لقد كنت أتصور أنه يفكر وأن أقصى أحلامه أن يكون فيلسوفاً ينظّر ، لكنه تجاوز هذه المرحلة يحدّق في السماء مليّا متجاهلا من حوله وما حوله، ثم يبدأ حديثاً غير محدد ،ما يلبث بعده أن يهدر دون أن يتوقف، تحيط به زمرة من الذين يزينون له أن يكون نبي عصرنا الذي يحدد مصير الكون، والمخجل أنه يصدق دون أن يخطر بباله للحظة واحدة أنه لا يفقه أي شيء فيما يقول في الفكر ولا في السياسة .
قلت أما في الفكر فنعم او أما في السياسة فلا ، فهو أطول الحكام العرب تربعاً على كرسي السلطة أو على حسب تعبير زميله في جنوب شبه الجزيرة: هو عميدهم، قال: وهذه هي الكارثة فهم جميع من نفس النمط منذ يحتل أحدهم الموقع وليس ثمة من يحاوره أو يناقشه بل يجد الجميع يمجدون آراءه ويسبحون به حتى بات كل منهم خاويا من كل شيء لا يرى إلا نفسه وحدها. ويل لأمة هؤلاء قادتها.