ملخص:
ظل النحو العربي حبيس المنهج الشكلي لوقت طويل، ولم تعرف دراسة المعنى مكانًا لها
فيه إلا في قليلٍ مما كتبه النحاة. وفي بعض ما كتبه المحدثون دعوة إلى الاحتفال بالمعنى في
دراسة النحو العربي، وتأكيد على أنه قمين بالرعاية والاهتمام، وأن دراسته كفيلة بتصحيح
بعض المسارات المنهجية وبحلّ كثيرٍ من الإشكاليات على الصعيد العلمي أو التعليمي. وفي
سياق الكشف عن جوانب الأهمية في هذا النوع من الدراسة النحوية نستعرض بعض
خصائص النحو العربي في ضوء تحويل منهج الدراسة من الاحتفال بالمبنى إلى الاحتفال
بالمعنى، وفي ضوء المقاربة مع بعض النظريات اللسانية الحديثة. وقد اعتمدنا، في ذلك كله،
التي ينادي بها بعض دعاة لسانيات التلفظ « النظام المغلق والنظام المفتوح » على ثنائية
وإذ نعتمد على هذه الثنائية فإنا نراها إطارًا منهجيًا هو .Linguistique d’énonciation
من أفضل ما يمكن أن ُتدرس به ظواهر المعنى في خصائص النحو العربي، وخلفي ً ة مفاهيمي ً ة
تستند إليها دراسة حركية المعنى اللغوي، وتف سر بها تداعياته الاستعمالية بين تعبيرات المتكلم
واختياراته من جهة، وتوقعات المخاطب وتأويلاته من جهة أخرى.
تستند دراسة النظام النحوي، في أي لغة من اللغات، إلى مستويين اثنين: مستوى المعنى،
ومستوى الشكل ،Fonction ومستوى المبنى وتسميهما اللسانيات الحديثة مستوى الوظيفة
(*) قسم اللغة العربية وآدابها /جامعة عمار ثليجي بالأغواط الجزائر.
خصائص النحو العربي
من النظام المغلق إلى النظام المفتوح
أ. الطيب دَبّه(*)
أو الصورة)، ومما يلحظه المتتبع لدروس النحو العربي قديمًا وحديثًا إقبال النحاة ) Forme
واللغويين على الاهتمام بالجانب الشكلي من خلال نظرية العامل، بينما لا يوُلون دراسة
المعنى إلا لمام القول وقليل الاعتناء باستثناء ما كان من سيبويه، ومن معه من متقدمي
النحاة، وقلةٍ من النحاة المتأخرين أمثال أبي بكر بن السراج ( ٣١٦ ه)، وابن جني
٣٩٢ ه)، ومحمود بن مسعود الغزني ( ٤٣١ ه)، وعبد القاهر الجرجاني ( ٤٧١ ه)، )
والسكاكي ( ٦٢٦ ه)، وشمس الدين السخاوي ( ٩٠٢ ه)، وغيرهم ممن يرون أن وظيفة
النحو هي معرفة تأليف الكلام العربي كما نطق به الفصحاء من العرب وليس مجرد بحث
.( في أواخر الكلم( ١
وفي سنوات العقود الأخيرة من القرن العشرين ظهر اتجاه جديد في دراسة النحو العربي
على يد جماعة من اللغويين المحدثين( ٢) نذروا أقلامهم في سبيل الاحتفال بدراسة المعنى
والسعي في رد الاعتبار إليه. ومن الأسباب التي يمكن أن يوعز إليها تمسك هؤلاء اللغويين
بهذا المنزع الإبستمولوجي الجديد ما يلي:
الأهمي ُ ة التي يحظى بها المعنى في التواصل اللغوي؛ فهو الغاية التي من أجلها وضعت
اللغات، والأساس الذي ُتبنى عليه صيغ الكلام وتنتظم له عباراته.
إغفال كتب النحو للمعنى وإهمالها لشأنه بتركيزها على البنية اللفظية رغم ما له من
أن الوظيفة (أن يكون لدينا شيء نقوله) تسبق الشكل (قول هذا » فضل السبق عليها، ذلك
.(٣)«( الشيء بطريقة ما
توقف النحاة في ظل اقتصارهم على المنهج التحليلي عند حدود المعاني النحوية
الجزئية (وهي معاني الأبواب) إذ لم يولَ التفاعل الحاصل فيما بينها اهتمامًا، فانصرفت الهمم
عن اكتشاف المنهج التركيبي، وقص ر النظر، في ظل الانكفاء على دراسة صور البنية
اللفظية، عن إدراك أهمية ما يحصل بسبب ذلك التفاعل من معان نحوية كلية مثل معاني
الخبر، والإنشاء، والقصر، والوصل، والفصل، والإيجاز، والإطناب، وغيرها مما عدوه
جزءًا من علم البلاغة بينما عده عبد القاهر الجرجاني من صميم علم النحو.
ونظرًا لذلك اتجهت عناية اللغويين المحدثين الذين احتفلوا بالمعنى إلى تتبع مستويات
المعنى النحوي وإلى دراسة خصائصه التركيبية بوصفه أثرًا لما يحصل في العقل من ارتباط
وتفاعل بين دلالات الألفاظ ومعاني النحو، وبوصفه جانبًا ضروريًا لا مندوحة من الاهتمام
. ١٤٠٥ ه، ص ٢٧ ٢٩ ، 1) ينظر: البحث النحوي عند الأصوليين، مصطفى جمال الدين، دار الهجرة إيراني قم، ط ٢ )
،« في النحو العربي نقد وتوجيه » ومهدي المخزومي في كتابه ،« إحياء النحو » 2) نذكر منهم : مصطفى إبراهيم في كتابه )
نظرة جديدة إلى فقه » وكتابه ،« نظرية الإمام الجرجاني اللغوية وموقعها في علم اللغة الحديث » وجعفر دك الباب في كتابه
أن يخرج، في مطلع السبعينات، ببناء منهجي « اللغة العربية معناها ومبناه ا » وتمام حسان الذي استطاع في كتابه ،« اللغة
Context of ) عند فيرث « سياق الحال » جديد لنظام النحو العربي جعل فيه المعنى غاية الدرس اللغوي، متأثرًا بنظرية
عند عبد القاهر الجرجاني. « النظم » ٢، وبنظرية (situation
. 3) علم اللغة في القرن العشرين، جورج مونان، (تر / نجيب غزاوي)، مؤسسة الوحدة سوريا، ص ٨٨ )
٢٠١
خصائص النحو العربي
U
في statique والانتقال إليه بعد دراسة المجال السكوني dynamique بمجاله الحركي
المبنى؛ ذلك أن حركية النشاط اللغوي تبرز فيما يمكن أن تبرز فيه( ١) في ظاهرة الكلام
من حيث هو مجال حيوي حركي تنفتح فيه الطاقة التعبيرية على ألوان مختلفة من الأغراض
والمعاني. لكن النحاة خاص ً ة المتأخرين منهم ركزوا على دراسة المباني، واكتفوا بتقديم
قواعد النشاط اللغوي في شكله الصور ي السكون ي المستق ر.
ومنذ منتصف القرن العشرين تتابعت جهود لفيف من اللسانين الغربيين( ٢) في سبيل بيان
أهمية الجانب الحركي المفتوح في دراسة اللغة. وذلك بعد أن أدركوا أن من أبرز أسباب
العقم في نتائج الدرس اللغوي أن تنكفئ مقدماتها على دراسة البعد السكوني في قواعد المبنى
التنظير [اللساني] لا ينبثق بوصفه إنتاجًا نهائيًا لمعطيات مكدسة، بل يجب » لا تتعداه، وأن
الانتقال، إلى مرحلة التمثيل والإجراء والحساب. ويكون الأمر أكثر وجاهة حينما نجتهد في
معالجة الظواهر المحوزة في بعدها الحركي وليس في وضعها الذي تكون فيه جاهزة
.(٣)« وتامة
١ بين النظام المغلق والنظام المفتوح:
يمكننا أن نلتمس التقابل المنهجي بين النظام المغلق والنظام المفتوح في مقولة التقابل
E.diachronique والدراسة الحركية E.synchronique المنهجي بين الدراسة السكونية
في اللسانيات الحديثة؛ ذلك أن البعد السكوني يمثله النظام المغلق، وأن البعد الحركي يمثله
النظام المفتوح؛ في الأول يكون المتكلم مجبرًا على الالتزام بقواعد المبنى اللغوي، وبما يمكن
أن تمنحه على وجه الأصل والافتراض من معان صورية ينطلق في فهمها أو الإفهام
بها على ما هي به في أبنيتها النموذجية وتواضعاتها الاجتماعية، وفي الثاني يكون مخيرًا
بحيث تنفتح طاقاته التعبيرية في ظل تنوعات سياقية داخلية وخارجية على احتمالات
معنوية متعددة، غير أن فسحة الحرية والاختيار تظل رغم الحاجة الملحة لدى المتكلمين
فالمتكلم ينشد » ، إلى هذ الانفتاح مقيدة بحدود العلاقات البنوية التي يفرضها النظام المغلق
بمستويات مختلفة لظاهرة الانفتاح في النظام اللساني نذكر منها ما يلي: ١ Aspet dynamique 1) يرتبط المظهر الحركي )
الانفتاح على مستوى الدراسة التطورية للغة، وهو انفتاح تتجلى حركيته في متابعة البعد الزمني التعاقبي لأنظمة اللغات. ٢
توجهها الأغراض énoncés actualizes إلى تعابير متحققة syntagmes virtuels الانفتاح اللغوية المفترضة
والمقاصد على مستوى إنتاج اللغة في التصور اللساني للنظرية التوليدية والتحويلية، وهو انفتاح محصور بالعمل الإجرائي
للغة في الأذهان وبالحركية الداخلية لقواعدها في ضوء ما تسمح به من إمكانات لتحويل الجمل الأساسية إلى جمل مشتقة
يستطيع بها المتكلم المثالي أن ينتج جم ً لا لا حصر لها. ٣ الانفتاح على مستوى إنتاج اللغة عند المتكلمين، وهو ما يتجلى
في تحويل التراكيب والانفعالات. وهذا المظهر الأخير هو ما تعنينا دراسته في هذا البحث.
2) أمثال: هاليدي، و أ. كيليولي، وأد .ديكرو، و إ.بنفنست. وهم الذين تصب أعمالهم في الاتجاه المسمى بلسانيات التلفظ أو )
وقد نذكر كذلك لسانيي مدرسة جنيف (ش. بالي، وأ. سيشهاي، وه. فراي) .Linguistique d’énonciation الملفوظية
الذين يعتبرون أول من فتح الباب لدراسة اللغة في جانبها الحركي لوظائف الكلام وملفوظيته إلا أن أعمالهم كانت تحسب
باعتبارهم تلاميذ دو سوسير على منهج اللسانيات البنوية، وهو المنهج الذي أوصد أبوابه دون ما يتصل بمادة اللغة أو
.ré بواقعها الخارج عن المدى اللغوي
(3) pour une linguistique de lénonciation, Antoine culioli, tol, ophrys, ¬¬¬¬ p ¬¬.
٢٠٢
أ. الطيب دَبّه
u
ممارسة حريته في التعبير عن فكرة، وقوانين اللغة المبنوية تشده إلى إسارها فلا يستطيع
.(١)« منها فكاكا
ومما يبرز به فضل التقييد في النظام المغلق أنه يعصم اللغة من أن ينفرط عقد وحداتها
فيختل فيها ميزان الوظائف، وتتحول إلى تعبير فوضوي هرائي لا صلة له بغرض الإبلاغ
والتواصل. وبين هذا التقييد وذاك الانفتاح تنتظم جمل العربية وتترتب وحدات عباراتها بين
جمود تارة ومرونة تارة أخرى، وفي هذا ما يكسبها قدرة على التوسع في المعاني بما لا نجد
له نظيرًا في أنظمة اللغات الأخرى، وبما تحصل، به، الحاجة إلى الانفتاح بنا ء على أن
المتكلم يعجز في كثير من الأحيان عن أن يجد في النظام المبنوي ما يعبر به عن كل ما في
.( نفسه من معان( ٢
ويمكننا أن نلتمس وجهًا آخر للمقابلة بين النظام المغلق والنظام المفتوح، وذلك من خلال
المقابلة بين اللغة والكلام؛ إذ يكون الانغلاق في اللغة بينما يكون الانفتاح في الكلام، وحتى
نفهم أبعاد الانفتاح ومستوياته ههنا لا بد من بيان حدود الكلام ضمن علاقته باللغة، ويعتبر
شارل بالي من أوائل من تحدث عن هذه المسألة حينما استخرج من ثنائية اللغة والكلام
موضحًا أن actualisé والمتحقق virtuel السوسيرية ثنائية أخرى سماها الافتراضي
يجب أن يكون حتى يصبح متحّققًا ولفظًا صالحًا للتلفظ (أو التعبير) » الافتراضي
٣)، وذلك بنا ء )« محددًا بتمثيل فعلي لدى الشخص المتكلم، أي بتمثيل فردي Enonciation
هي تحويل اللغة إلى كلام، وأن آليته تشير actualization على أن وظيفة التحقيق
بطريقة بديهية، ومن منظور سكوني إلى أن اللغة يسبق وجودها وجود الكلام، وبأن الكلام
التي من دونها لا actualisateurs يفترض اللغة ما دامت هي التي تسعفه بالوحدات المحقِّقة
.( يمكن له (أي الكلام) أن يتحقق( ٤
وقد يكون هنالك وجه ثالث للمقابلة بين النظام المغلق والنظام المفتوح وذلك من خلال
فإذا كان النحو هو مجال الاختيارات المغلقة فإن المعجم هو » ؛ المقابلة بين النحو والمعجم
مجال الاختيارات المفتوحة. إن الوحدات النحوية الخالصة لا تعمل إلا داخل نظام مغلق
في اللغة الإنجليزية s وبإمكانها أن تتحدد بكيفية سلبية إلى جانب تحديدها الإيجابي: فالدال
non – كما يمكنه أن يتجدد بكونه ليس مفردًا Plriel يمكنه أن يتحدد بكونه دا ً لا على الجمع
٥) لكونها ترجع، في )« بينما لا يمكن للوحدات المعجمية أن تتحدد بطريقة سلبية ،singulier
1) نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية، مصطفى حميدة، الشركة المصرية العالمية للنشر، الجيزة مصر، )
. ٠١ ، ص ٤٩ ،١٩٩٧
(2) Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, o.Ducrotl T.Todorov, p ¬¬.
(3) la linguistique générale et la linguistique, charles bally, p ¬¬.
4) ينظر: )
ibid, p ¬¬-¬¬.
(5) La linguistique structurale c. lepschy, petite bibliotheque payot, p, 147.
٢٠٣
خصائص النحو العربي
U
وهذا أمر .réalité extra –linguistique تحديدها، إلى الواقع الخارج عن المدى اللغوي
شائع في سائر أنظمة اللغات.
ومع هذه الأهمية التي يحظى بها مبدأ المقابلة بين النظامين المغلق والمفتوح إلا أن فكرة
الفصل بين الواقع اللغوي للمبنى (وهو ما يتمثل في صورة اللغة) والواقع اللغوي للمعنى
(وهو ما يتمثل في مضمون اللغة) لا وجود لها في الواقع الاستعمالي لأنظمة اللغات؛ إذ لا
صورة (مبنى) بلا مضمون (معنى) يحققها ويجعل منها أداة للتواصل، ولا مضمون بلا
ذلك لأن الصورة هي دائمًا صورة شيء » ، صورة تكون له قانونًا ينضبط به ونموذجًا يحتذيه
ما، فلا تنفك أبدًا عن المضمون، والمضمون هو دائمًا مضمون في شيء ما، فلا ينفك أبدًا
عن الصورة، وعليه، فلا ينبغي أن نقابل بين الصورة والمضمون مقابلة تف رق كما هي مقابلة
المتناقضين، وإنما مقابلة تعلق كما هي مقابلة المتضايفين [...] كما يصح بهذا الصدد أن
نقول، على طريقة "كانط" في كلامه عن علاقة المفهوم بالحدس، بأن المضمون بغير صورة
.(١)« عماء والصورة بغير مضمون خواء
وفي ظل هذه النتيجة من التحليل يبدو سعينا لبيان التخوم الفاصلة بين المبنى والمعنى
إجرا ء منهجيًا فيه شيء من التعسف تحّتمه ضرورة التصنيف المنهجي من أجل الاستجابة
لمقتضيات الدراسة العلمية الساعية إلى وصف اللغات بما يسمح بالكشف عن خصائصها
وبيان كيفية عمل أنظمتها. وفيما يلي سنتناول بعض خصائص النحو العربي في ضوء
استحضارنا لفكرة تحول منهج الدراسة النحوية من المبنى إلى المعنى، وفي ضوء الفصل
والتفريق بين جوانب الانغلاق وجوانب الانفتاح في نظام اللغة العربية.