وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة، ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.
تفسير هذا أنه ليس إذا راقك التنكير في "سؤدد" من قوله: "تنقل في خلقي سؤدد"، و"في دهر" من قوله: "فلو إذ نبا دهر" فإنه يجب أن يروقك أبداً وفي كل شيء. ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله: "وأنكر صاحب"، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك ههنا. بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد، والغرض الذي تؤم، وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش. فكما أنك ترى الرجل قد تهدّى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يتهد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب. كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو، ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم.
واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تُكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحِذق والأستاذية، وسَعة الذَّرع، وشدة المُنّة حتى تستوفي القطعة، وتأتي على عدة أبيات، وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري. ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنة وطول الباع وحتى تعلم -إن لم تعلم القائل- أنه من قِبل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع. وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا هذا! وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البزل، ثم المطبوعين الذي يلهمون القول إلهاماً. ثم إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد، بل أن تفلي ديواناً من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات، وذلك ما كان مثل قول الأول ، وتمثل به أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم، من الوافر:
تمنانا ليلـقـانـا بـقـوم *** تخالُ بياضَ لأْمِهِم السَّرابا
فقد لاقيتَنا فرأيتَ حـربـاً *** عواناً تمنع الشيخَ الشرابا
انظر إلى موضع الفاء في قوله:
فقد لاقيتنا فرأيت حرباً
ومثل قول العباس بن الأحنف، من البسيط:
قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول، فقد جئنا خراسـانـا
انظر إلى موضع الفاء وثم قبلها ***ومثل قول ابن الدمينة، من الطويل:
أبيني أفي يُمنى يديك جعلتِـنـي *** فأفرحَ؟ أم صيرتِني في شمالك؟
أبِيتُ كأني بين شقين من عصـا *** حذارَ الردى أو خيفةً من زِيالِك
تعالَلتِ كي أشجى وما بك عـلّة *** تريدين قتلي قد ظـفرت بـذلك
مناقشة
يرى عبد القاهر أن الألفاظ ليس لها مزية في ذاتها، بل تبدو أهميتها في موضعها، وفي ما يراد منها في سياق ما، والظاهر أن هذه الفكرة تندرج في نظريته البنيوية للنص؟ وضح ملامح هذه النظريّة، وبيّن أهميتها في النقد.