الكاتب: د. عبد النبي ذاكر
بعد كتاب: (اللسانيات: قضايا إبستيمولوجية)، صدر حديثا للساني المغربي د. حافظ إسماعيلي علوي كتاب: (اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة: دراسة تحليلية نقدية في قضايا التلقي وإشكالاته؛ دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت ـ لبنان، 2009). وبعيدا عن أي مزايدة نظرية أو صلف منهجي، انطلقت هذه الدراسة الأكاديمية ـ التي هي في الأصل أطروحة جامعية ـ من مساءلة منهجية لواقع الدرس اللساني العربي منذ مطلع ستينيات القرن العشرين.
وقد ارتهنت هذه المساءلة لدى الباحث بمعالجة صيغ وملامح تلقّي الثقافة العربية لمختلف النماذج اللسانية العربية، الشيء الذي أفضى إلى معالجة الإشكالات اللسانية العربية في ضوء واقع الثقافة العربية الحديثة وما لفها من مثبطات صورية ومادية، كانت وراء الوضع المأزوم للفكر اللساني العربي.
إن هذه الجولة ـ المراجَعة ـ التقييم تضع الأصبع على موطن الاختلال والنكوص وعدم النضج في اللسانيات العربية، كما تحاول تفسير بعض مظاهر أزمتها بربطها بشروط تلقّيها واستحضار قضاياها. ووكْدُها في ذلك الإسهام الجاد والفعال في انبثاق وعي نظري يتيح استثمارا أسلم للسانيات في الثقافة العربية في أفق تجديدها، إلى جانب الجهود الأخرى ذات المنحى النقدي والتقويمي، ككتاب د. مصطفى غلفان: (اللسانيات العربية: دراسة نقدية في المصادر والأسس النظرية والمنهجية، 1998.)
وقد أرجع الباحث حافظ إسماعيلي علوي بذور الأزمة إلى ملابسات نشأة اللسانيات في الثقافة العربية؛ لذلك صدّر دراسته بتوطئة حفرية لبوادر الحركة اللسانية في الثقافة العربية مع النهضة الفكرية العربية، ومع ما طرحته المرحلة العثمانية من مشكلات لغوية، وما أفرزته إرهاصات التغيير، وتمظهرات الإصلاح اللغوي النهضوي، وما جاءت به رياح المرحلة الاستشراقية، وسياق الإرهاصات الأولية لتشكل الخطاب اللساني الحديث باتجاهيْه: التاريخي ـ المقارن والوصفي، وكذا ظرفية الإخفاق الذي واكب تجربة التحديث في الثقافة العربية، بانشدادها إلى التراث اللغوي العربي، وتهميشها للاتجاه التاريخي ـ المقارن الذي بدت إرهاصاته جلية في كتابات رفاعة الطهطاوي وجرجي زيدان وإبراهيم مصطفى.
ولتعميق البحث في أزمة اللسانيات في الثقافة العربية، فحص الدارس خصوصيات التلقي وإشكالاته، ليشرِّح عوائقه النفسية الحضارية من خلال استقصاء صورة الغرب الفكري في المتخيل العربية، دون أن ينسى تشريح العوائق الذاتية السوسيولوجية منها والإبستيمولوجية التي جعلت اللسانيين العرب يركنون إلى تكريس الوضع القائم. كما كشفت المقاربة المجهرية لعتبات الكتابة اللسانية التمهيدية: (من عناوين ومقدمات) عن عدم التزام أغلب تلك الكتابات ـ مع استثناءات نادرة ـ بتعهداتها مع قرائها؛ فما تصرح به العناوين والمقدمات شيء، وما تقدمه المحتويات شيء آخر. ولم تخلُ "لسانيات التراث" اللاهثة وراء مسوغات القراءة: (السبق التاريخي والحضاري، العامل الديني، إلخ) من مفارقات حرّكتها أسباب نفسية بالأساس
عقدة التراث، الصراع بين الوصفية والمعيارية، تهميش اللسانيين الغربيين للتراث اللغوي العربي...)، جعلتها لا تقيم وزنا للوضع الإبستيمولوجي للقراءة، لأنها تجمع بين خطابين متباعدين منهجا وغاية. الشيء الذي أصاب القراءة بالخلل المنهجي، فجاءت النتائج المتحصلة بعيدة كل البعد عن البحث اللساني بمعناه العلمي الدقيق. إلى جانب ما سبق، وقفت العقبات السوسيولوجية والإبستيمولجية في وجه نجاح الترجمات اللسانية في الثقافة العربية. وما ترجمة كتاب فيرديناند دي سوسور إلا وجها من الأوجه العديدة لإخفاقات الترجمة اللسانية المطبوعة بالتجزيئية والارتجال والانتقاء غير الواعي للنصوص، في غياب توحيد المصطلح والاتفاق على معاجم لسانية موحدة...
وتكمن قيمة هذه الدراسة أيضا في تتبعها لخصوصيات تلقي اللسانيات الوصفية على المستوى النظري والإجرائي، وتقييم تجربة إبراهيم أنيس وعبد الرحمن أيوب وتمام حسان، التي لم تبتعد عن حدود الأفكار التي صاحبت حركية الإحياء والتيسير في الثقافة العربية. صحيح أن أصحابها انبهروا بالمنهج الحديث، وسعوا إلى تطبيقه على معطيات اللغة العربية، غير أنهم لم يستطيعوا الفكاك من تحليلات النحاة.
وبدورها خضعت اللسانيات التوليدية في الثقافة العربية: (مع أعلامها كداود عبده وميشال زكريا ومحمد علي الخولي ومازن الوعر وعبد القادر الفاسي الفهري) لأسئلة حارقة من قبيل: هل الكتابة التوليدية العربية تراكم أم طفرة؟ وهل هي تكامل أم تجزيء؟ ليخلص إلى نتيجة مفادها أن التوليديين العرب يسلكون طرائق قددا في تحليلاتهم وطروحاتهم وآليات استدلالهم الموظفة في القضية الواحدة، فتحسّ وكأنك أمام توليديات لا أمام توليدية واحدة، مما يطرح أكثر من إشكال بالنسبة إلى نظرية تتوق إلى تحقيق الكلية والصورنة والتجريد...
وبعد الاتجاه الوصفي والاتجاه التوليدي، توقف الباحث حافظ إسماعيلي علوي عند ثالثة الأثافي في البحث اللساني المعاصر، ويتعلق الأمر بالاتجاه الوظيفي الذي يعتبر أحمد المتوكل من أهم أعلامه، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن رغبة الوظيفيين في بلوغ "النموذج الحاسوبي" يتعارض كليا مع منطلقاتهم، لأن ذلك يمكن أن ينجم عنه:
ـ عزل اللغة عن السياقات الفعلية التي تُستخدم فيها اللغة.
ـ إضفاء طابع مثالي على اللغة بتجاهل قضايا اللبس والخروج على المواضعات اللغوية.
ـ تجاهل الأصول التخاطبية المفسرة لمقاصد المتكلمين.
وبناء عليه تساءل الباحث بكل جرأة: كيف يمكن للسانيات الوظيفية أن تربط ربطا محكما بين موضوع اللغة الذي هو "القدرة التواصلية" وبين "الحوسبة والصورنة"؟
ويبقى هذا الكتاب دراسة جادة اعتبرها د. مصطفى غلفان "أهم ما أُنجز في رصد الحركة اللسانية بما لها وما عليها في الثقافة العربية الحديثة"؛ لأنها حسب د. نهاد الموسى صدرت عن "بصيرة معرفية هادية إلى مرجع معرفي مشترك أو منسجم في استثمارنا للكليات اللسانية أو محاورتها أو الإسهام فيها أو الإضافة إليها أو تجديدها"، كما أنها حسب د. حمزة بن قبلان المزيني محاولة جريئة في تدارك "غياب الرصد التاريخي لما أنجزه الباحثون السابقون...وكانت اللسانيات..ضحية لغياب مثل هذا الرصد". ويبدو أن الوعي النقدي الذي صدرت عنه الدراسة، لا يبخس المراجعة النقدية والتقييمية دورها في إرساء دعائم فكر لساني حديث يستطيع الانخراط في المشاكل والصعوبات التي تتخبط فيها الثقافة العربية انخراطا واعيا يجيب على الكثير من الأسئلة والإشكالات العالقة طوال ردح من الزمن.
منقول بتصرف بسيط من مجلة فوانيس للكاتب د.عبد النبي ذاكر .