الببلاوى منقذاً .. والله أعلم
السيد إبراهيم أحمد
وذهب رضوان ، وأتى الببلاوى ، لا تملك حيالهما إلا التقدير والاحترام لغزارة علمهما ، ودمائة خلقهما ، أما رضوان فقد عقد اجتماعه الأخير مع رجال وزارته وأوصاهم بخلفه خيراً ، والببلاوى أثنى على موازنة رضوان ضمنياً حين قال : إنه لا توجد نية لإحداث تعديلات كبيرة في بنود الموازنة العامة بعد إقرارها . المشكلة تكمن حين يكون وجهى العملة صحيحاً ، وكلاهما متناقضاً ، وعليك أن تختار وجهاً واحداً .
جاء الدكتور الببلاوى تظلله سحابة من التوافقات العامة من مختلف الأطياف ، غير أنه أتى متأخراً كثيراً، لتضمه حكومة إنقاذ قصيرة المدى ، بينما تعامت أعين من شكلوا الحكومات المصرية السابقة على الثورة عن اختياره ؛ فالرجل معروف للكافة ، كتاب مفتوح لكل ذوى الرأى من أهل الاختصاص وغيره ، والرجل رغم حصوله على دكتوراه الدولة في العلوم الإقتصادية، إلا إنك تستطيع أن تحكم عليه منذ الوهلة الأولى لمطالعة الكلمات الأولى لمقالاته بل عناوينها أحياناً ، بأنه موسوعى ، موضوعى ، صريح يغلف عباراته بشىء كثير من الشياكة والأدب ، لكنه لا يتنازل عن حكمه النهائى فى نهاية مقاله الذى يبنيه على أسس علمية ، وتحليلات تاريخية وإقتصادية ، وأحياناً إحصاءات رقمية ، فيما يشبه الأكاديمية ، كما ينهى معظم مقالاته إن لم يكن كلها بتواضع العلماء ، بمقولة ( الله أعلم) .
وتبدو موسوعية الرجل فى الدراسات التى حوتها كتبه ، والمقالات المتناثرة التى لم تخل من التعرض لموضوعات تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن تخصصه واهتمامه ؛ فهو مثلاً له رأى فى نظام الانتخابات الفردية ، والانتخابات بالقائمة ، ويرى أن بلداً مثل مصر لم تعرف حياة حزبية حقيقية لما يزيد على نصف القرن لايجب أن تستبعد فيها الرموز المستقلة من الاشتراك فى الانتخابات، وهو يميل لنظام الانتخابات بالقائمة لأن خطورة تأثير المال فيه على الانتخابات تقل بالنظر إلى اتساع الدوائر الانتخابية.
كما تبدو أيضاً فى انحيازه للدولة المدنية لإنها تحمي السياسة من سيطرة رجال الدين باسم العقيدة، كما تحمي الأديان أيضاً من استغلالها لأغراض سياسية ؛ فالدولة المدنية تعني المواطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب بلا تمييز، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وأن الحقوق والحريات الأساسية لا يجوز المساس بها ولو بحكم الأغلبية.
والرجل رغم أنه لم يتوافر له أن يكون فاعلاً فى الأمور الاقتصادية للدولة داخل النسق السياسى الحاكم ، إلا أنه كانت له مشاركاته فيها قرباً وبعداً بحسب موقعه ، كما كانت عينه على أهم ما يعانيه الاقتصاد المصرى الذى يرى أن جوهر المشكلة فيه هو الفقر وضعف إنتاجية العامل المصري، وما عدا ذلك فهو مظاهر لهذه المشكلة حيث تظهر في جوانب متعددة من الحياة الاقتصادية. كذلك عارض الاقتراح بدفع رسوم مرور السفن العابرة لقناة السويس بالجنيه المصري ، لإنه لن يحقق الفائدة المدعى بها من زيادة الحصيلة الإجمالية للعملات الأجنبية، بل قد تترتب عليه أضرار على الاقتصاد برفع تكلفة الدولار على الدولة لتمويل ما تستورده من مواد تموينية أو أساسية .
ولذلك فلم تسلم حكومة الدكتور عصام شرف من تقييم الدكتور الببلاوى لها ، حيث وضع يده على مكمن الداء فيها ، ووصف الدواء ، ولم يكن يعلم أنه سوف يكون ضمن الذين يجب عليهم القيام على رعاية الاقتصاد المصرى المريض حتى يتعافى ، فهو يرى أن الخطيئة الأولى لحكومة شرف هي أنها بدت كامتداد لحكومة شفيق وليس انقلاباً عليها، بعد أن كان التوقع أن يأتى تشكيلها نقلة نوعية في الحياة السياسية في مصر، لإنها إنما تشكلت بقرار من الجيش باعتباره السلطة الفعلية الجديدة بعد نجاح الثورة.
فلم تبدأ بإعطاء رؤية عن دورها، كما لم تعلن بعد تشكيلها عن برنامج عمل واضح لها. لقد ظُلمت هذه الحكومة حين وصفت بأنها "حكومة تسيير أعمال"، في حين أنها تتحمل في الواقع مسؤولية أخطر مرحلة، وهي "مرحلة الانتقال". كما ظلمت الحكومة نفسها عندما تصرفت كحكومة تسيير أعمال وكان الأولى بالحكومة - وهي حكومة مؤقتة - أن تعلن رؤيتها على الملأ، منذ البداية.
أما مكمن الداء عند الدكتور الببلاوى فهوالسؤال الذى يفرض نفسه : ما هى حدود العلاقة بين مؤسسة الجيش ومؤسسة الحكومة؟ هذا أمر يحتاج إلى وضوح حتى تتحدد المسؤوليات. هذه قضية هامة. فالمشكلة الرئيسية مع حكومة شرف هو أنها لم تعلن بوضوح عن رؤيتها لمهمتها في الفترة الإنتقالية، وما هي أولويات العمل أمامها، وما هي النتائج التي تهدف إلى تحقيقها، وأخيراً ما هي الحدود والقيود التي ترد على سلطاتها.
ومع هذا فالرجل ينصف حكومة شرف حين يرى أنها برغم قصر الفترة التي أمضتها تلك الوزارة في الحكم، فقد نجحت في تحقيق عدد من الإنجازات التي لا يمكن تجاهلها. فقد اعترفت باختلال نظام الأجور وقررت وضع حد أدنى له، ويحسب لها العودة التدريجية للشرطة، وبالمثل فإن مبدأ إعادة النظر في أسلوب اختيار المسئولين عن إدارة الكليات والجامعات بعد انتهاء فترة الامتحانات يعتبر إنجازاً هاماً. ويأتي تأكيد الحكومة على التزامها بتنفيذ حكم القضاء بإلغاء المحليات.
فهل ينجح الدكتور الببلاوى فى أن ينقذ الحكومة ، ويفك الإرتباط/الإشكالية بين المؤسستين ، هل يستطيع أن يتحكم فى المؤسسات المالية للدولة دون ضغط من أحد ، أو توجيه ، وهل سيفلح فى صب رؤاه التكنوقراطية ، على رؤوس المشاكل المتجذرة فى الواقع الاقتصادى المصرى .
وهل تستطيع تلك القامة العلمية الكبيرة أن تتحمل بعض انتقادات ميادين مصر من ثوارها الشباب سواء بحق أو دون حق ، بعلم أو دون علم ، بأدب أو تجاوز . وهل إذا اصطدم بالمجلس العسكرى أو الوزارى أو المطالب الشعبية، أن يترجل عن فرسه ، ويؤثر الانسحاب ، وأخيراً هل سيعض بنان الندم لقبوله تلك المهمة الصعبة فى مثل هذا الوقت ، ومثل هذا العمر .. تبقى الإجابات عند الدكتور الببلاوى ، وتبقى التساؤلات المشروعة فى ثنايا المستقبل الذى لا يعلمه إلا الله ، ورأى أننى أخشى على الرجل من موقفه بالقبول ، والله أعلم .
[center][b]