الْمَنهَجُ فِي نقد الْعَمَل الأدَبي الْعَرَبي
معلوم أن المناهج النقدية ما هي في الأصل إلا وسائل وأدوات مساعدة على سبر أغوار أثر أو عمل أدبي معين، وليست غاية في حد ذاتها، وهي بالتالي قراءات متكاملة رأت النور بفضل الأدب وقوته الإيحائية، وحتى الآن لم يبلغ النقد اكتساب الصفة العلمية بالمعنى الصحيح والدقيق، إذ على الرغم من وجود اتجاهات نقدية جديدة، كالبنيوية والأسلوبية، فإن أي نص إبداعي يظل يحتفظ بجملة عناصر لا سبيل إلى استقرائها إلا باعتماد ذوق وحس لغوي عند الناقد.
ففي البدء كان "الخطاب الأدبي" وبعد ذلك لحقت به "الممارسة النقدية"، ثم لازمته وتطورت إلى مناهج، فأصبح النقد الأدبي لحظة وعي مسخرة لسبر غور الإنتاجات الأدبية، من خلال البحث عن مقصدية الكاتب، واستقصاء تجليات ذاته، واقتفاء تأثير خطابه، ثم ضبط الوعي في الأشياء، واستقراء الظواهر والفضاءات، وكذلك إزالة النقاب عن العلاقات الخفية في قلب الخطاب الأدبي.
ونحن من هذا المنطلق وهذا الاقتناع، نعتقد بأن اللجوء إلى فرض منهج نقدي بالقوة على أي خطاب أدبي لا يصله بسبب، هو عمل غير صائب، وخطوة لا تندرج ضمن المبادئ العلمية السليمة، خاصة وأن الأمر لم يعد، على سبيل المثال، مجرد تجريب ركَام هائل من الرؤى والأدوات النقدية، التي أفرزتها جملة من المناهج الغربية على نتاج الأدب العربي الإسلامي، قديمه وحديثه؛ بل إن كل أداة نقدية وافدة صارت توظف في غالب الأحيان اعتباطا، ودون فحص أو تمحيص.
إن هذه الظاهرة المتفشية هي من بين الأسباب الوجيهة التي من المفروض واللازم أن تنبه الناقد العربي إلى التعامل بحذر شديد مع المناهج والدراسات الغربية، عندما يقبل على نقد أي عمل أدبي عربي، لكون أكثرها رصد وخصص لدراسة الأدب الغربي، سواء على مستوى التنظير أم على مستوى الممارسة والتطبيق.
إن فرض أي منهج بالقوة على خطاب أي عمل أدبي عربي، كفيل بتكريس عملية أو معالجة نقدية منحرفة، ومن شأنه كذلك أن يسفر عن لغة واصفة عقيمة، ومن المؤكد أن أي عمل أدبي نابع من صميم البيئة العربية يظل مغتربا، بل ويتم إلغاؤه وطمس أسئلة الذات الكاتبة والمنتجة له، عندما يصير تباهي الناقد العربي بالمفاهيم والمناهج النظرية الغربية غشاوة سميكة، تحول بينه وبين الاهتمام بالعمل الإبداعي، والإنصات إلى الأصوات والأصداء المترددة فيه، مما يجعله بعيدا كل البعد عن تقديره حق قدره.
إذن فليس الأدب وثيقة ذات بعد واحد، يزج بها بعض النقاد العرب في أسر التاريخ، أو الاجتماع، أو السياسة، ويودعها البعض الآخر في دائرة الفن، أو الفلسفة، أو الدين؛ بل إن الأدب حياة متشعبة ومستقاة من واقع الإنسان.
إن الأدب العربي، وهو جزء من الأدب العالمي، ليس حرباء أدبية تتجاوب وتنسجم مع جميع المناهج النقدية الوافدة من البلاد الغربية وغيرها، علما بأن كل عمل إبداعي بوجه عام، هو كائن أدبي يأبى أن نختزله في نعته بالوثيقة التاريخية أو الاجتماعية تارة، وفي وصفه بالوثيقة السياسية تارة، وتارة أخرى في تعريفه بالصورة النفسية أو الظاهرة العقدية، فهو أدب يستجيب للدراسة النقدية، بشرط أن ننظر إليه على أنه نتاج أدبي ذو أبعاد متنوعة، ومستويات مختلفة، وخصائص مركبة لا يستغني بعضها عن بعض.
ومن ثم فإن المبدأ الأدبي سيظل مدخلاً طبيعياً لنقد أي إبداع أدبي، ذلك لأن المادة الأدبية هي البوابة الرئيسة الخاصة بالعبور إلى فضاءات الإنتاج الأدبي، والعنصر الأساس المساعد لنا على كشف ما يزخر به هذا الإنتاج من عمق فكري و فني وروحي، وبالتالي الوقوف على أبعاده ومدى قوته التواصلية.
أمام تنوع المناهج النقدية المعتمدة من طرف النقاد والباحثين، نرى أن الحسم في مسألة اختيار المنهج المناسب لنقد أي أثر إبداعي، يقتضي العودة إلى ما يشتمل عليه هذا الأثر من خطاب، وذلك لضبط أهم مرتكزاته، وهذه العودة من شأنها أن تساعد ناقد الأدب على تحديد دعائم المنهج النقدي الملائم، الذي بإمكانه أن يفي بممارسة نقدية علمية، مستوحاة أصلا من طبيعة العمل الأدبي المنقود، بناء على نهج هذه السيرة، نظن أنه من الراجح والأجدر أن يستقر الرأي بالناقد على توظيف منهج نقدي مركب ومتكامل، بشرط أن يرتكز على وسائل متعددة ويقصد إلى هدف واحد، وبشرط أن يكون الناقد مؤمنا بضرورة الاستفادة من المناهج النقدية المختلفة في نقد عمل أدبي معين، لأن الاكتفاء بمنهج واحد لن يفضي بالناقد إلى الغاية المنشودة، ولا شك أن منطلق النقد الأدبي العلمي هو محاولة إنجاز قراءة دقيقة، يطرح الناقد في مختلف أطوارها أسئلة جد مركزة، بقصد أن يصل إلى إجابات وافية محددة، وبهدف أن يفتح بها آفاقا جديدة وفضاءات مغمورة في أجواء العمل الأدبي المنقود، مستعينا في سبيل ذلك بخلاصة ما انتهى إليه من قراءات منهجية.
فالمنهج النقدي مثل الأدب، يرتكز بدوره على خبرات مكتسبة، وقد تحدث عدد من النقاد والباحثين كثيراً عن المنهج التكاملي، ونذكر من بينهم على سبيل المثال: سيد قطب، وأحمد كمال زكي، وشكري فيصل، وشوقي ضيف، وعبد المنعم خفاجي، وجورج طرابيشي، ويوسف الشاروني، وعمر محمد الطالب، ولا شك أن المنهج التكاملي، يمثل أداة تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة، تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، والدينية وغيرها، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج النقدي، فهو الارتكاز على رؤية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية، وهذا الخيار سيسمح للناقد بممارسة وتوظيف قراءة نقدية عميقة، دون إغفال، أو إقصاء، أو تجاهل للمكونات التالية:
- أولاً: الذات الكاتبة والذاكرة المكتوبة.
- ثانياً: القيم التعبيرية والشعورية (الخطاب).
- ثالثاً: الظرف التاريخي.
- رابعاً: الآثار البيئية، والوراثية، والدينية، والسياسية، والاجتماعية، والنفسية وغيرها...
- خامساً: الذات القارئة المتلقية.
لاشك أن الكلمة الفصل في موضوع المنهج النقدي، والتي تبدو راجحة، هي أن الأعمال الأدبية تمثل أولا وأخيرا النبع الذي تنبجس منه مناهج نقدها، والبوابة التي تمكن من النفاذ إلى جوهرها، وحسب ما نرى لن يستطيع أي منهج نقدي بمفرده أن يوفي أي عمل إبداعي حقه من النقد السليم، لأن الناقد سينظر من خلاله إلى الأثر الأدبي المنقود نظرة جزئية، في حين سيهمل الجوانب الأخرى، خاصة إذا استحضرنا في الأذهان ما لكل عمل إبداعي من امتداد في الزمن، وسعة في المكان، وواقع في اللغة.
إن منتهى القصد في هذا الباب، هو أن الأصل في مهمة الناقد كامن في اجتهاده ما وسعه الاجتهاد في نقد العمل الأدبي بأقصى ما يمكن من الإحاطة العميقة دون الاستسلام للسطحية، وذلك باعتماد الإفادة مما في مختلف المناهج من تكامل على مستوى الأدوات الإجرائية، وعلى مستوى ما انتهت إليه من نتائج علمية، وما بلغته من عصارة وحقائق من جهة ثانية.
عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
السندباد