امــــرأة من حـديد
كانت ككلّ الفتيات في الدّنيا...تنتظر فارس أحلامها بفارغ الصّبر، لم تطمح سوى بالاستقرار في ظلّ زوجٍ مُحِبّ يحقّق لها أمنياتِها الورديّة البسيطة...كانت غارقةً في أحلامها الخياليّة حين دخلت عليها أختها الصّغيرة لتقطع عليها حُلُمَها الجميل...
- أختي...! هناك زُوّار يطلبونك، جهّزي نفسك حالاً!
ووقفت قُبالتها وهي تبتسم ابتسامة شرّيرة كُلّها شقاوة
فتحت نورة عينيها بغضب وصرخت في وجهها:
- أيتها الشّقيّة...أفسدت عليّ حُلُمي الجميل، أغربي عن وجهي حالا...
ورمتها بالوسادة لكنّ الصّغيرة تحاشت الهدف وهي تضحك وقالت ببراءة:
- يجب عليك أن تشكريني لا أن تصرخي في وجهي، لأنني جئت إليك ببشرى تحقّق لك حُلُمَكِ هذا...وغمزت بعينيها وهي تبتسم لإغاظتها، ثمّ أردفت بجدّية:
- أحمل لك رسالة من أمّي وهي تقول لك: جهّزي نفسك حالا للضّيوف...
وخرجت مُسرعة قبل أن تصبّ عليها أختها مزيدا من جام غضبها.
نظرت إليها نورة شزرًا وكادت أن تنفجر غضبًا عليها لكنّها كانت قد خرجت لا تلوي على شيء...فتمتمت:
- يا لها من ثرثارة...وجلست تفكّر في كلام أختها الصّغيرة...وفجأة!
هبّت واقفة وكأنّ أفعى لدغتها...قالت وهي تكلّم نفسها: يا إلهي...قالت بأنّ هناك ضيوفًا ينتظرونني، إذن لقد جاء أخيرا...إنّه هو...!
لقد فَهِمَت أخيرًا...ها همُ الضّيوف جاؤوا يطلبون يدها، لم تتمالك نفسها من فرط سعادتها، وانصرفت بسرعة لتجهّز نفسها...لقد تراءت لها كلّ أحلامها تتحقّق دُفعةً واحدة...نظرت إلى نفسها في المرآة وكأنّها تنظر إلى فتاةٍ أخرى ليست هي...
كانت تبدو جميلة، بل في غاية الجمال والرّوعة وكأنّها ترى نفسها لأوّل مرّة...قِوامُها الرّشيق، وبشرتها الصّافية كصفاء السّماء، وعينيها البرّاقتين، التي يخيّل لمن ينظر إليهما وكأنّهما بحر عميق يغوص في أعماقه كلّ من يتأمّلهما مسحورًا بجمالهما، ومأخوذا بحسنهما.
ابتسمت نورة حين دُقّ الباب، وما لبثت أن تغيّرت سُحنتها حين رأت أختها الصّغيرة تطلّ من الباب وهي تسترقُ النّظر خشية أن تكون أختها لها بالمرصاد...رمقتها نورة متصنّعة الغضب:
- أدخلي...ماذا جئت تقولين هذه المرّة؟
دخلت بحذر شديد وعلى وجهها ابتسامة عريضة كعادتها، وقالت بكلّ هدوء وكأنّها تنذر بقدوم عاصفة من الغضب: كنت أمزح...لم يأتِ أحد...!!!
- ماذاااااا؟؟؟!!!
حملقت في وجهها غير مصدّقة، شعرت وكأنّ صاعقة نزلت عليها، أوكأنّ الأرض قد سُحِبَت من تحت قدميها...كانت مفاجأة غير متوقّعة، ومَقلَبًا غير ظريف أبدًا من أختها، جعلتها تحمرّ خجلاً، ثمّ تثور بهياج شديد، وراحت تطارد أختها لتنتقم منها على وضعها في هذا الموقف المُحرج...أمّا العفريتة الصّغيرة فقد كانت قد خطّطت لكلّ ذلك وأدركت ردّة فعلها فراحت تنطّ هنا وهناك في محاولة للهرب من بين يديها.
دخلت الأم مهرولة لتعرف سبب كلّ هذه الجَلَبَة، ورأت المطاردة الشّرسة بين الأختين، فصرخت:
- ما كلّ هذه الضجّة يا بنات!!! ألا تخجلن وفي بيتنا ضيوف؟! ماذا لو سمعوا صراخكما؟! عيب عليكما أنتما الاثنتان...
ونظرت إلى نورة في غضب: ألم أطلب منك أن تجهّزي نفسك لتأتي وتستقبلي الضّيوف، هيّا أسرعي قبل أن ينصرفوا...
وخرجت إلى حال سبيلها، أمّا نورة فوقفت مشدوهة، وهي لا تكاد تفهم شيئا، ويدور في رأسها ألف سؤال...ولم تكد الأم تخرج حتى أمطرت عليها بوابل من التّعنيف:
- لم فعلت ما فعلت وكذبت عليّ أيّتها الشقيّة؟؟؟!!! أجيبي...
- أردت أن أضحك معك قليلاً بمقلب، لتذكريني به قبل أن ترحلي عنّا...
واغرورقت عيناها بالدّموع فخفضت رأسها واجمة...أحسّت نورة في صوتها بنبرة حزن واضحة فتعجّبت منها، فهذه أوّل مرّة ترى فيها أختها حزينة وهادئة على غير طبيعتها المعهودة...لكنّها سرعان ما أدركت سرّ حزنها فاقتربت منها مبتسمة تمسح دموعها المنسكبة وقالت:
لا تتسرّعي يا عزيزتي...لن أرحل عنك بهذه السّهولة، من يدري ربّما ينصرفون كما انصرف غيرهم، حينها سأبقى معك فترة أطول...والتقت عيناها بعينيها!
قاطعتها الصّغيرة بحزن شديد: كلاّ...كلاّ، أمّا هذه المرّة فلا...وانحدرت من عينيها دمعتان تفطّر لها قلب نورة فضمّتها بكل حبّ وحنان ولم تتفوّه بشيء...
لأوّل مرّة أحسّت نورة بصدق مشاعرها، ورقّة قلبها، وأدركت كم هي تحبّها رغم شقاوتها...
لقد صدق حدس الصّغيرة، تمّ اختيار نورة، وهكذا اتّفقت الأسرتان. لم تصدّق نورة في بادئ الأمر، كيف جرت الأمور بكلّ هذه السّرعة... بالأمس كانت تحلم وتحلم وها هي الآن عروس!!!
بدأت مراسيم الزّفاف تجري على قدم وساق خلال سنة، مرّت وكأنّها ساعة كالحلم الجميل، قضت فيها نورة أيّامها بين الأحلام والخيال، وراحت تمنّي نفسها بالأيّام السّعيدة... ولكن في الوقت نفسه كان يتضارب في قلبها شعوران، شعور بالفرح والسّرور لمجيء فارس أحلامها المنُتظر، ودخولها القفص الذّهبي متوّجة كالأميرة، وشعور آخر يشوبه الحزن والألم يعتصران قلبها على فراق أهلها الذين عاشت معهم أجمل سنوات عمرها، خصوصا أختها الصّغيرة التي كفّت عن شقاوتها وصارت ودودة، ومطيعة لها وفي كلّ شيء.
لقد أدركت نورة مدى حبّ أهلها...فأمّها وإن كانت تُظهر الفرح والسّرور بزواجها، كانت تخفي وراءها حزنا وألما يتراءى في قسمات وجهها، وتقاطيعه الحزينة، أمّا أختها فقد لزمت الصّمت وصارت أكثر هدوءا، وكلّما اقترب يوم الزّفاف صارت نورة أكثر إحساسا بمرارة الفراق، ممّا جعلها تنسى كلّ أحلامها وسعادتها بهذا الزواج الذي سيفرّقها عن أسرتها الحبيبة.
واقترب اليوم الموعود الذي زُفّت فيه نورة إلى دار زوجها كأميرة إلى قصرها المُنيف، في يوم بهيج غنّت فيه الطّبيعة بكلّ ما فيها من طير وشجر، وأزهار وورد فرحًا بهذا العُرس السّعيد...وانبهرت العيون بجمال نورة الذي أخذ بأبصار المدعوّين، وكَثُر حولها المُتهامسون ينظرون إليها بحسد...أمّا هي فقد ظلّت شاحبة تخفّف عن نفسها بما ستلاقيه في دار زوجها من حبّ ورعاية لطالما حَلُمَت به، وعزّ واحترام ينسيها حزنها على فراق أهلها.......وهكذا ودّعت نورة أهلها بدموعها، وانطلقت بها العربة إلى حياتها الجديدة، حيث ينتظرها المستقبل المجهول!
كانت نورة كأيّ فتاة نشأت في القرية، عاشت حياة بسيطة، وتعلّمت مثل بقيّة الفتيات أمور تدبير المنزل بمهارة، وأخذت دروسا في أصول العادات والتّقاليد المتّبعة آنذاك، فحرصت منذ يومها الأوّل على أداء واجباتها المنزليّة وتحمّلت كامل المسؤوليّة، كما أخذت على عاتقها رعاية حمويها وخدمتهما تبَعًا للأعراف والتّقاليد التي تفرض رعايتهما برًّا بهما كجزء من واجبات الزّوجة، فلقيت منهم كلّ تقدير واعتزاز كما كانت تتمنّى وتشتهي، كما لقيت من زوجها كلّ الرّعاية والاهتمام الذي حَلُمَت به...لقد عاشت نورة أيّامها الأولى في سرور وحبور وكأنّها في حلم جميل لا تريد الاستيقاظ منه...لكنّ إلى متى ستبقى نورة تعيش في حُلُمها الجميل، فالأحلام لا تدوم على حال...ودوام الحال من المُحال...!
لقد دارت بها الأيّام وأرتها من ألوانها وأصنافها كلّ أنواع العذاب، وتبدّل الحال من النّعيم إلى الشّقاء...تمثّل في زوجها الذي لاحظت نورة في تصرّفاته تغيّرا مع مرور الأيّام، لقد أصبح غير الذي عرفته، صار جافًّا وقاسيا أحيانًا، ويتعامل معها ببرود.
لم تنطق...لم تشكُ...بل رجعت الأسباب إلى انشغاله الدّائم، وعمله المتواصل، والإرهاق الذي كان يشعر به حين يعود إليها نهاية اليوم...تابعت نورة حياتها ككلّ الأيّام، تنهض في الصّباح وتباشر أعمالها...لا تذوق النّوم حتّى يأتيها المساء لتجد قسطًا من الرّاحة، وتعدّ السّاعات في انتظار زوجها حتّى يغلبها النّعاس وهي لا تدري من شدّة النّصَب التّعب.
وفي أحد الأيّام...تأخّر زوجها أكثر من المعتاد، فاستبدّ بها القلق، وراحت تخطر الغرفة جَيئة وذهابا لا يقرّ لها قرار، أو يهدأ لها بال، وعيناها بين السّاعة والباب لا تفارقهما، وأخيرًا جاء الفَرَج ودُقّ الباب، فهرعت إليه تفتحه...وإذا بزوجها يدخل عليها متثاقلا غير عابئ بها، وارتمى على السّرير والعرق يتصبّب من جبينه، كان مُنهكا من شدّة التّعب.
ولأوّل مرّة تدخّلت نورة تسأل زوجها حالَه بقلق وجزع شديدين:
-ما بك؟؟؟!!! تبدو مُرهقًا، هل من خطبِ ما؟
لم يُجِب...فكرّرت السّؤال وأردفت:.....هل أحضر لك ماءً تشربه؟
فردّ عليها في سورة من الغضب والهياج الشّديدين جعلها ترتعد خوفا:
- ألا ترين أنّني مُتعب...كُفّي عن أسئلتك واغربي عن وجهي.
نظرت إليه بعينين زائغتين، وبإصرار ألحّت عليه لشدّة قلقها: ولكن...
فما كان منه إلاّ أن هوى بيده الخشنة على وجهها الغضّ، فصفعها مزمجرًا:
- قلت لك كفّي عن إزعاجي بأسئلتك وثرثرتك، أنت لا شأن لك بحالتي، هيّا اغربي عن وجهي...
المسكينة...من هول الموقف تسمّرت في مكانها ولم تتفوّه بكلمة...لم تصدّق ما حدث، لكنّها كتمت آهاتها، وحبست دموعها وآلامها في صدرها، وزحفت إلى سريرها وخَلَدت للنّوم.
وتتوالى الأيّام والشّهور، وتُرزق نورة بطفلين ملآ حياتها بالسّعادة والسّرور، جعلها تنسى معاناتها مع زوجها، بعد أن ضاقت بتصرّفات زوجها، الّذي حطّم كلّ آمالها وأحلامها، فحوّلت جُلّ اهتمامها بولديها، وعلّقت عليهما الآمال العريضة، والأحلام الكبيرة التي لم يحقّقها لها زوجها.
أمّا هو فقد صار التّأخّر ديدنه، وأهمل أسرته، فتعوّدت نورة على غيابه المتكرّر وعاشت حياتها معه وكأنّه غير موجود، فقد شغل ولداها كلّ حياتها وتفكيرها، على أنّها إذا تذكرته يوما عادت إلى حزنها ووجومها، وتنهّدت من الأعماق وأرسلت زفرة طويلة أسفا عليه وعلى حاله الذي آل إليه، ولم تجرؤ يوما أن تسأله عن سرّ تّأخّره يوميًّا حتّى صار شبه غائب عن المنزل، وكلّما أرادت مواجهته تذكّرت تلك الصّفعة التي أسكتتها، فتتراجع عن قرارها، وتعود أدراجها كسيرة القلب محطّمة.....
وهكذا لزمت نورة الصّمت سنوات وسنوات، ودفنت خلالها أحزانها في قعر الزّمن، وأخفتها عن كلّ إنسان حتّى أهلها...!
كانت في دارها ذات يوم حين فاجأتها جارتها بزيارة خاطفة كانت بدايةً لمعاناة جديدة تنتظر نورة...
حيّتها بلطف وجلست وعلامات الانزعاج والقلق بادِ على وجهها، فتوجّست نورة منها خيفة:
- خيرًا يا أمّ خالد، ماذا دهاك؟! تبدين قلقة و...
فأسرعت الجارة ورفعت إصبعها تشير إليها بالسّكوت، ممّا زادها خوفا وجزعا...وتحدّثت الجارة بصوت خافت لا يكاد يُسمع: هُس...لديّ حديث أُسِرُّ به إليك، أين زوجك؟؟؟
قالت وهي ترمقها بجزع وقد شعرت بعِظَم المصيبة التي ستخبرها:
- ...لا أدري...!!! ولكن لم تسألين؟؟؟
التفتت الجارة خلفها وهي تجول ببصرها أرجاء المنزل، وتردّدت برهة ثم قالت...وليتها لم تقل:
- زوجك.......مُدمن!!!
خرجت الكلمة من فم جارتها كقذيفة أصابت نورة بصدمة حادّة، أعجزتها عن النّطق...ربّما حاولت أن تقول شيئا لكنّها تلعثمت، ولم تُحر جوابًا، لقد خانتها العَبَرات، واختنق صوتها... وبعد جهد جهيد خرج صوتها ممزوجًا ببكاء متقطّع، وأخذت تردّد في ذهول:
- مُدمن!!!...مُدمِن؟! لا شكّ وأنّك تمزحين، لا يمكن، بل غير معقول!!! أزوجي مدمن؟!
- هوّني عليك يا نورة، وهدّئي أعصابك قليلا وتماسكي...أتظنّين أنّني أمزح معك بحديث كهذا؟؟! هذا لا يُعقَل...كلاّ يا عزيزتي، إنّني محقّة وزوجي شاهد على ذلك، لأنّه رأى كلّ شيء بأمّ عينيه...
حملقت نورة بعينيها وقد تكسّرت أهدابها من كثرة البكاء وطول النّحيب، وأنصتت بكلّ جوارحها...فأكملت الجارة حديثها واسترسلت في الموضوع:
- أرسلني إليك زوجي لأخبرك بكلّ التّفاصيل...فقد شاهده آخر مرّة بالأمس مخمورًا في منتصف اللّيل، كما طُرِدَ من عمله منذ مدّة طويلة لإدمانه وإهماله الشّديد، فلم يستطع أن يسكت على ذلك، إذ لا يمكن أن نخفي عليك أمرا عظيما كهذا، وحرصا على مصلحتك أوصاني بأن أحذّرك لتتّخذي قرارك في مصيرك، وتضعي حدًّا لحياتك مع هذا المدمن...
لم تتمالك نورة نفسها من هول الصّدمة، فأنكرت هذه الحقيقة المُرّة وصرخت بجنون هائج:
- زوجي ليس مُدمنًا...هذا كذب...كذب!!! وشهقت بالبكاء حتّى سقطت مغشيًّا عليها.
كانت ترقد في سريرها وهي في حال يُرثى لها، جَحُظت عيناها، وبدا وجهها أصفر شاحبًا، كانت غائبة عن الوعي، ولم تفق إلاّ بعد ساعات... شعرت بصداع رهيب، وأخذت وقتا حتّى تذكّرت ما حدث لها، ورويدًا رويدًا...استعادت شريط ذكرياتها التي مرّت على ذهنها سريعة، لكن...الآن وبعد أن عرفت الحقيقة، أدركت سرّ تأخّر زوجها حتّى منتصف اللّيل، وتصرّفاته الغريبة، خشونته وثورة أعصابه على كلّ شيء أمامه...وتمتمت في نفسها: لم يَعُد يُطاق! لكن مالعمل؟! وبعد تفكير طويل، اهتدت إلى حلّ حاسم ونهضت مصمّمة دون النّظر في العواقب...لقد قرّرت المواجهة أخيرا...!
انتظرت الفرصة المناسبة، وسهرت حتّى ساعة متأخّرة من اللّيل بعد أن نام الأولاد...وهي ترتقب عودة زوجها...حتّى دقّت السّاعة، وفُتِحَ الباب على رجلً ثمل دخل مترنّحًا يكاد يسقط، وتفوح منه رائحة الشّراب...لقد كانت من تنتظر!!! لا تكاد تصدّق بأنّه هو...زوجها!!! اشمأزّت من منظره وهالها ما رأت بأمّ عينيها، ، وكأنّها تراه لأوّل مرّة على هذه الحال، مع أنّها لم تكن المرّة الأولى، بل تكرّرت...لكنّها كانت في غفلة عن حاله...لأوّل وهلة ارتعدت فرائصها رعبا وخوفا من مواجهته، فهيئته التي كان فيها كانت كفيلة لإخافة أيّ إنسان...لقد بدا لها وحشا كاسرا لكنّه مريض ومتعب لآخر درجة من الإنهاك...
تردّدت...ثمّ استجمعت قِواها وتقدّمت إليه...كان لا يزال واقفا كالأبله ينظر إلى اللاّشيء، وقالت:
- هل أنت بخير؟؟!
نظر إليها ببرود...وكأنّه ينظر إلى شيء آخر غير وجهها، فرّك عينيه وهمهم بكلمات لم تفهمها نورة، وبصعوبة بالغة سمعته:
- أنتِ...ماذا تفعلين هنا؟! لِمَ تقفين في طريقي هكذا؟!!!، هيّا تنحّي جانبا ودعيني أنام...وراح يهذي بأشياء غريبة في غضب ثُمَّ هَوى على السّرير، وسُرعان ما راح في سُباتٍ عميق.
ظلّت نورة واقفة لا تدرِ ماذا تفعل بعد أن تجاهلها وغطّ في النّوم، لقد كان من شدّة سكره لا يكادُ يميّز شيئا، كانت تنظر إليه وهي تكاد تنتفض من شدّة الألم والحسرة أسفا على حاله...تنهّدت بعمق وقرّرت تأجيل الحديث حتّى صباح الغد، ثمّ انزوت في حِجرها تصلّي وتتضرّع إلى الله بالدّعاء بأن يُلهِمَها الصّبر والثّبات لمواجهة زوجها المُدمن، وكلّها أمل في رجوعه إلى طريق الحقّ...ومرّت السّاعات ثقيلة وهي تدعو وتدعو في جُنح الظّلام إلى أن غلبها النّعاس فنامت.
وقبل بزوغ فجر جديد، كانت نورة لا تزال نائمة على سجادتها نومًا عميقًا لولا ثمّة ضجّة أيقظتها من النّوم ففتحت عينيها على وَجَل وراحت تبحث عن مصدر الصًوت...وفوجئت بشبحٍ أسود يتحرّك في وسط الظلام يفتّش في خزانتها...ولا إراديًّا أطلقت صيحة كادت أن تفضح اللّص لولا أنّها اكتشفت أنّه ليس بغريب عنها...يا للمفاجأة!!!
إنّه زوجها!!!...تُرى عمّ يبحث في خزانتها؟!... وفي هذا الوقت بالّذات؟!!!
فَغَرت فاها من الدّهشة وهي لا تكاد تصدّق عينيها، بينما التفت إليها زوجها مُحدّقا في غضب، لقد بدا وجهه مخيفا ومُرعبا، أصفر اللّون شاحبا...أيُّ وجهٍ هذا!!! ألم يكن هو هذا فارس أحلامها الذي لطالما تمنّته؟! أليس هو الّذي رأته أوّل أيّام زواجها أميرًا من أمراء القصص والأساطير؟!، كان وسيما، بهيّ الطّلعة، يشرق وجهه بابتسامة عذبة...أيُعقَلُ أن تتغيّر ملامحه إلى كلّ هذا القُبح!!!
عادت من شرودها وخيالاتها وانتبهت إليه فإذا به يمعّن النّظر بخاتمها الذّهبي، وبلمحة خاطفة لم تشعر بها، سحب الخاتم من يدها قائلا:
- هل معك نقود؟! أين تضعينها...هاتها، أريدها حالا...وبسط كفّه أمامها!!!
- ولماذا تريد نقودًا؟؟؟!!!
- ألم أمنعك من التّدخّل فيما لا يعنيك...لا تسأليني فقط نفّذي ما أمرتك به، أم تريدين صفعة أخرى...وابتسم ابتسامة صفراء أضافت إلى قُبحه قُبحًا آخر!
لكنّ نورة بدت أكثر جرأة، ظلّت صامدة أمامه كصخرة عاتية تتلاطم عليها الأمواج فتصدّها بكلّ ما أوتيت من قوّة وشجاعة، لم تعهدها في نفسها من قبل...هزّت رأسها بالنّفي وأجابته بإصرار:
- لن أعطيك فلسًا واحدًا...يكفيك ما أنت عليه، أتريدني أن أدفع إليك بقوت أولادك لتسرفه على إدمانك وتتركنا جياعًا؟؟؟ والله لا أعطيك ولو قلبت الدّنيا على رأسي...
نظر إليها ياحتقار وازدراء وصرخ في وجهها:
- أتجرؤين على مواجهتي، وتتّهمينني بالإدمان!!! كيف سمحت لنفسك بتجاوز حدودك، الزمي حدودك وتأدّبي...وراح يضرب الأرض بقدميه، تكاد الأرض تتزلزل من تحته وتئنّ متوجّعة...!
ردّت بغيظ وحنق وهي تكاد تتميّز غيظًا وقهرًا:
- أنت من يجب أن يلزم حدوده ويتأدّب...لم تَعُد تُطاقُ أبدًا، أهملتني وأهملت أطفالك ويتّمتهم وأنت لا تزال حيًّا، والآن تمدّ إليّ يدك كالمتسوّلين وتطلب نقودًا ولا تشعر بأدنى خجل...كلاّ وألف كلاّ، لن أدفع إليك شيئا، فافعل ما بدا لك...
أمّا زوجها فقد نفد صبره، ووقف يرتجف كطير مبتلّ، بعد أن أمطرت عليه نورة وابلا من الكلمات، جعلته يرتعش من قوّة الحقيقة، وصدق زوجته...لكنّه كرجل رفض هذه الإهانة، وأخذته العزّة بالإثم، فانفجر كالبركان يصبّ عليها الحمم بعد أن أفقدته جرأتها صوابه، وانقضّ عليها كالمجنون ليشفي غليله منها...فانهال عليها يكيل إليها اللّكمات، والضّربات المبرّحة وهي تصرخ وتستنجد...!
تعالت صيحاتها المتقطّعة، حتّى تناهى إلى مسامع الطّفلين فاندفعا إلى الغرفة مذعورين، وارتميا في حضن والدتهما الملقاة أرضًا مضرّجة بدمائها...وتعلّقا بها يبكيان ويصرخان متوسّلين:
-أمّاه...أرجوك يا أبي لا تضربها...كفى، كفى...!
لكنّ أنّى للأب أن تستعطفه كلمات فلذة كبده، أو يرقّ قلبه لتوسّلاتهما، لقد فقد كلّ معنى من معاني العطف والرّحمة، ولم يعد في قلبه ذرّة من شّفقة الأبوّة...ولولا تدخّل الأهل والجيران لكان قد سحق عظامها وهشّمهما، لكنّ الله رحم...ولَطُفَ بهذه المرأة التي وقفت في وجه الباطل تدافع عن الحقّ بكل جرأة تمتلكها امرأة!
وهكذا انتشر الخبر في القرية كانتشار النّار في الهشيم حتّى وصل إلى مسامع أهلها فأسرعوا إليها وقلوبهم تتفطّر حزنًا على ابنتهم المسكينة...لم تَعُد معاناة نورة خافية على أحد، لقد انكشف سرّها الذي حاولت إخفاءه عن كلّ إنسان سنوات طويلة، متحمّلة وحدها كلّ الآلام، وصنوف أنواع العذاب، لقد أرادت أن تواجه مصيرها وحدها، لكن إلى متى...!
رقدت المسكينة في غيبوبة طويلة، ولمّا فتحت عينيها وجدت عيونًا دامية، وقلوبا كسيرة تتطلّع إليها،
كان والداها يجلسان بجانبها وعيونهم حرّى، أمّا أختها الصّغيرة فقد احتضنت الصّغيرين النّائمين والدّموع تنهمر من عينيها بغزارة، وعبثًا تحاول إخفائها لكنّها فشلت... ، فوجئت نورة بوجودهم إلى جانبها، وحاولت أن تتفوّه بشيء لكنّها شعرت بآلام حادّة أعجزتها عن النّطق...لو أنّها رأت وجهها في المرآة لبَطُل العَجَب...كان جسمها مليئَا بالكدمات من كلّ لون، وتورّم وجهها منتفخًا بلون أحمر قان كالدّم، لو أنّها رأت كلّ ذلك لأطلقت صيحة ألم رهيبة لهول التّعذيب الذي لاقته من زوجها المتوحّش، كان منظرها لا يتجرّأ لرؤيته قلب واهن...
اقترب منها والدها العجوز وأمسك بيديها يبكي بحرقة:
- آه يا ابنتي، لقد جنيت عليك بهذا الزّواج...سامحيني، واغفري لي...
أمّا الأمّ فقد ارتمت عليها متوسّلة:
- ارجعي إلى بيت أبيك معزّزة مكرّمة يا ابنتي...عودي إلينا، وستلقين منّا كل العطف والحنان والرّعاية أكثر ممّا حظيت به قبل زواجك، لكن عودي...عودي يانورة أرجوك!
لكنّها شخصت ببصرها باحثة عن أختها التي كانت ترنو إليها والدّموع لم تزل في مآقيها تسيل سيلانا جارفًا...نظراتها كانت تبوح بمكنون قلبها، وكأنّها تناجيها قائلة: عودي إلينا يا أختاه!
أمّا هي فقد أطرقت ساهمة لا تجيب...تنهّدت بعمق، وأرسلت زفرة طويلة، وأنفاسا حرّى، وأخفت وجهها بين كفّيها وبكت بكاء صامتا...ولم تفلح محاولات أهلها بإقناعها في العودة، فرجعوا خائبين، مكسوري القلب، محطّمي النّفس، ولم يعلموا سرّ إصرارها على البقاء رغم ما حلّ بها...لدرجة أنّها كادت أن تصل إلى حافّة الموت!
لقد آثرت نورة البقاء في بيت زوجها، وفي قلبها شعاعٌ من الأمل يتسرّب إلى كيانها، بدّد بنوره ظلاما موحشا كاد يطغى على جنبات فؤادها...شعور غريب كان يساورها لم تدر كُنهه، فأزمعت على المواجهة حتّى النّهاية بإرادة صُلبة تفوق الحديد قوّة وبأسا...وفوّضت أمرها إلى بارئها، تناجيه في السّحر هاتفة: يا ربّ...ساعدني!
لقد صار زوجها أكثر شراسة وعُنفا، كان لا يمرّ يوم إلاّ ويدخل عليها، فينهب كلّ ما تدّخره من نقود وحليّ، ويأخذ كلّ ما تقع عليه يده من ثمين بالقوّة...فإذا أبدت مقاومة أوجعها ضربا ولكما، حتّى تستنفذ ما بقي لها من طاقة، وتخور قَواها فتسقط...ويرحل تاركا نورة بين الحياة والموت...ولكن عَجَبًا لهذه المرأة!!! تعود فتنهض من جديد بكلّ عزم وإصرار وتحدّ منقطع النّظير!
لا تكلّ ولا تملّ من مواجهته بكلّ ما أوتيت من قوّة، لا يدفعها إلى ذلك إلاّ صبرها وإيمانها، راجية من المولى صلاح زوجها...لم تيأس يوما أو تتوان، تدعو الله ليل نهار ساهرة باكية، حتّى تبلّل سجّادتها فيغلبها النّعاس وتنام قريحة العين!
ومرّت السّنون، وفقدت نورة كلّ نقودها، وأشيائها الثّمينة حتّى لم يبق عندها شيء، لقد باع زوجها كلّ مصوّغاتها الذّهبية ليصرفها على لهوه ومُجونه، تاركا أطفاله يتضوّرون جوعا...وغادر البيت بلا رجعة...ولربّما أتاهم نادرا وهم نيام فلا يحسّون به!
وبعد رحيل زوجها، صفا لها الجوّ، وبرئت جروحها فتماثلت للشّفاء بمرور الأيّام واستعادت بعض قَواها، بينما بقي قلبها ينزف دما لم تندمل جراحه بعد...لكنّها بذلت جهدا لتعود إلى نشاطها وحيويّتها، فدفنت كلّ آلامها وأحزانها، وعكفت على أعمالها لا يدفعها إلى ذلك إلا أمومة فُطِرت عليها في سبيل سعادة ولديها، اللّذين لم يبق لهما غيرها كآخر عزاء على مُصابِها الجَلَل، يواسيان من محنتها ويخفّفان عنها، فمن أجلهما فقط...ضحّت نورة بكلّ غال ونفيس، وعَمِلت كخيّاطة لأهل القرية، تعمل بكلّ عزم وجهد لتوفّر لهما حياة كريمة، وتربّيهما تربية الأبطال، ولتعلّمهما حتّى يصبحا رجالا فيكونان لها خير سند وعون بعد زوجها.
لقد نجحت نورة في الاختبار، ورَضِيَ عنها ربّها، فكافأها وأجزل لها العطاء، ها هي الآن تتربّع على عرشها في قصرها المشيد فرحة مسرورة، تتقلّب في النّعيم، بعد مُعاناة دامت سنين!
فبعد سنوات من الكفاح والصّبر، استطاعت نورة أن توفّر مالا وبارك الله له فيها فعلّمت أبناءها، ووفّرت لهم سُبُل الرّاحة والأمان، فكبروا وغَدَوا رجالا، حملوا عن أمّهما هذا العبء الثّقيل، وارتقوا إلى مكانة بارزة في المجتمع، فعملوا بكلّ تفانٍ وإخلاص كأمّهما، لردّ جزء بسيط من الوفاء للأمّ الصّابرة...فكَثُرت أموالهم وازدهرت تجارتهم، وفاضت عليهم أموالا طائلة بنوا بها مكان كوخهم قصرا جميلا، تحفّه الأشجار في حديقة بديعة زاهرة، تغنّي في ربوعها الأطيار، وتحوم حولها الفراشات من كلّ الألوان...تزوّجوا وأنجبوا أطفالا قرّت به عين الجدّة بأحفادها الذين ملأوا بضحكاتهم فناء الدّار بعد أن ملأوا حياتها سعادة وفرحا وسرورا نسيت فيه نورة كلّ آلامها وأحزانها...
إلاّ شيئا واحدًا...كان يقضّ عليها مضجعها...!
فرغم كلّ هذه السّعادة التي رفر فت حولها بقيت نورة تخفي حزنها في ثنايا قلبها الكبير، كانت لا تزال متعلّقة بآخر أمل في عودة زوجها إليها ولو بعد حين...ولو طال بها الزّمن واندثر! لقد كان إيمانها بالله كبيرا أكبر من كلّ شيء، كانت موقنة بأنّ الله لن يضيع صبرها وجهادها...ودعواتها في جوف اللّيل ودموعها التي سكبتها حُرقةً وألمًا...وردّدت بقلبٍ مؤمن:
(( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )).
جلست يومًا في فناء قصرها، وحولها الأحفاد يلعبون ويمرحون، ويُطربون أسماعها برنين ضحكاتهم البريئة، فراحت ترقُبُهم بعينٍ ملؤها الحبّ والحنان، وبكلّ ما تحمله الأمومة من معان!
لقد تجاوزت الخمسين من عمرها، وشاب شعرها الجميل، حتّى بَدت أكبر من سنّها، كما نَحُلَ جسمها الرّشيق من طول العذاب والشّقاء، وانحنى ظهرها المستقيم، بعد أن أثقلته الهموم، وطول السّهاد...وهي التي أبهرت في شبابها قلوب الحاسدين بوسامة طلعتها، واعتدال قسماتها...لكنّها الآن تغيّرت حتى لا يكاد النّاظر يتعرّف عليها، شيئا واحدا فقط حافظت عليه لتبعث في حياتها روح الأمل المتجدّد...إنها ابتسامتها المشرقة التي بها أضاءت وجهها، فأكسبته بهاء ورونقا أنار ظلم الأيام وسواد اللّيالي، وبها تحدّت مصائبها، وقهرت الصّعاب حتّى تغلّبت عليها.
ولو اطّلع النّاس ما تخفيه وراء ابتسامتها من حزن دفين يتفجّر بين ضلوعها، وقلبها المكلوم، لَهالَهُم ما رأوا من تناقض بين ظاهر شكلها ودخائل نفسها المنطوية، لم يدرك النّاس سرّ هذا الحزن المدفون في صدرها إلاّ أخصّ المقرّبين الذين لاحظوا في عينيها الشّاردتين وهي تجول بأنظارها في أزقّة القرية باحثة عن بصيص من الأمل...وكأنّها تنتظر شخصا عزيزا يفاجئها بطلعته...أجل! إنّه زوجها!
لقد كانت عيناها تبحثان عنه، لعلّها تراه هنا أو هناك...وتارة تتنسّم الأخبار، فلعلّ أحدهم يبشّرها بقدومه...لم تزل ترتقب عودته، لم تيأس، بل ظلّت تنتظره طوال تلك السّنوات الماضية، بكل صبر وأمل كان يروادها في لُقياه...لم تعلم سرّ هذا الإحساس الغريب!!! كان حدسها أقوى من كلّ شيء...وكأنّ شيئًا ما يدفعها لهذا الانتظار الطّويل.
في ذلك اليوم، وبينما هي بين أحفادها منشغلة بمداعبتهم وملاعبتهم، لمحت ظلًّا يدخل الدّار...تناهت إلى سمعها خطوات وئيدة تقترب شيئا فشيئا...حتى أصبحت قريبة منها، انتبهت إلى هذه الخطوات الثّقيلة التي أعادتها إلى أيّامها الأولى...لم تصدّق! تكاد هي نفس الخطوات، نفس الإيقاعات...هل جاء من انتظرته؟! هل هو؟! أم أنّها واهمة...التفتت إلى الشّبح القادم الواقف أمامها، ورفعت إليه رأسها...خافت أن يخيب ظنّها فتخور قِواها، لكن...
كان يقف أمامها...محاولا أن يتكلّف الابتسام، تعلو صفحة وجهه مسحة من الحزن المكبوت، كان شاحب اللون، مصفرّ الوجه، نحيف الجسم معتلاًّ، يعلوه اضطراب وقلق، ساهم النّظرة، تقاطيع وجهه تنمّ عن مكنونات قلبه الذي يغمره الأسى والنّدم، وملامحه تكاد تنطق بكلّ ما يجول في خاطره!
ظلّ واقفا ثمّ مدّ إليها يده، أمّأ هي فلم تحرّك ساكنًا...شكّت فيه، فأنكرته ونَفِرَت منه...همس:
- لقد عدت يا نورة...!
توقّف الزّمن بُرهة، وسكنت الأصوات فلا يُكاد يُسمع إلا دقّات قلبيهما المتسارعة، مرّت دقائق وكأنّها الدّهر...والتقت العين بالعين تنظر إلى بعضها في صمت مُطبَق، وقفا حائرين لا يدريان...
لأوّل وهلة لم تستطع نورة أن تستوعب القادم المجهول، كانت بين اليقظة والحلم...تنظر إليه في ذهول أخرس لسانها، فعجزت عن النّطق...أَتُراهُ حقيقة أم خيال؟! هل تصدّق ما تراه عيناها أم تكذّب؟! لكنّه ليس غريبا عنها، إنّه هو...بشحمه ولحمه، بكلّ ملامحه، وإن تبدّلت بمرور السّنين، كان يبدو عجوزا تجاوز السّتين من عمره، ربّما تغيّر كلّ شيء إلاّ صوته، فقد حفظته لتتعرّف عليه، وها هو ذا الآن قد أطلّ عليها، ليعيد إليها روحها الميّتة، وتهنأ بقربه وتفرح بعودته...لقد استجاب الله دعاءها وحقّق لها آخر أمنية كانت تنتظرها نورة...
انسابت همساته إلى قلبها وسكنت فؤادها، فنزلت عليها بردا وسلاما...وأطفأت لهيب الشّوق الذي اضطرم في قلبها سنينًا عديدة...كان لكلماته عميق الأثر في نفسها، ومن فرط سعادتها بهذه المفاجأة السعيدة الغير متوقّعة بكت فرحا وسرورا، وأرسلت دموعا ساخنة كانت قد جفّت منذ زمن...بكت وبكت وأطلقت لدموعها العنان وخرّت لله ساجدة شكرا على هذه النّعمة العظيمة!
وقف الزوج الشّرس كالحمل الوديع، وانحدرت من عينيه الغائرتين دمعتان ساخنتان على وجنتيه تأثّرًا...حاول أن يتحدّث ويعبّرعن شوقه وندمه لكنّه أخفق، خانته الكلمات، ربما لم يجد ما يقوله؟! وبأيّ حقّ يتحدّث وهو الذي كان سببا في شقاءه وشقاء أسرته، لكنّه عاد!...عاد ليعترف ويصحّح ما أفسده، لقد أناب إلى الله وتاب توبةً نصوحا، وعاد ليغسل أدرانه ويمحو ماضيه الحزين.
كان يقف مرتبكا...وتمنّى لو تنشقّ الأرض وتبتلعه لشدّة ما كان يشعر بالخجل من نفسه، ثمّ دفن وجهه بين كفّيه حياءً وما لبث أن انفجر باكيا، لم يستطع ان يتحمّل أكثر...كان نادما أشدّ النّدم ولم يستطع أن يعبّر عن ذلك إلا بدموعه التي هطلت بغزارة...
ولمّا تعالى صوت نحيبه...دخل ابناه وعليهما أمارات الدهشة والاستغراب...رأيا مشهدا مؤثّرًا لا يوصف! لم يتعرّفا على والدهما لطول عهدهما به...فأومأت إليه الأم تشير عليهما:
- تقدّما...إنّه أبوكما، لقد عاد تائبا، فسامحاه!
هتفا من شدّة الفرح: أبي...
لطالما اشتاقا لرؤيته وتمنّيا أن يتلذّذا بمناداته أبي...والشّوق يعتمل في صدريهما، ارتميا في حضنه يقبّلانه، فضمّهما إلى صدره وهو ينادي باسميهما، أجل لم ينس أسماءهما، لم ينس أسرته رغم كلّ هذه السّنوات الطّوال...كان يوما لا يُنسى في تاريخ هذه الأسرة السّعيدة.
تعانق الجميع...وتعالت الهتافات سرورا وابتهاجا مرحّبة بقدوم الأب الغائب، عمّت الفرحة أرجاء المنزل...وعادت الطّيور تحلّق من جديد في الفضاء لتغنّي أجمل الألحان استقبالا بالأب التّائب، والأزهار تفتّحت ولوّنت أرض الطبيعة بأجمل الألوان، لقد عادت المياه إلى مجاريها وانبعثت الحياة إليها من جديد...وأخيرا اجتمع شمل الأسرة بعد ردحٍ من الزّمن دام أكثر من 25 سنة...وعاش الجميع في سعادة وهناء ولم يفرّقهما إلا هادم اللذّات ومفرّق الجماعات.