جاريتي جاريتي ما أنحاها!
هكذا أعلنها الخليفة الواثق مدوية في سمع الحاضرين ، بعد أن انتصرت جاريته في مسألة نحوية على اليزيدي أحد كبار النحاة في عصره .
فقد غنت الجارية في حضرة الواثق قول العرجي :
أظلوم إن مصابكم رجلا * رد السلام تحية ظلم
فاختلف الحاضرون في نصب رجل ورفعه :
رأى اليزيدي النحوي أن الصواب هو (رجلٌ) بالرفع ؛ لأنه خبر لـ(إن) .
وأصرت الجارية على النصب ، مؤكدة أن الإعراب على الرفع يُفسد المعنى المراد ، بل لا يكون للكلام معنى أصلا ، وإنما الوجه هو النصب على أنه مفعول به لـ (مصابكم) ، وخبر إنّ هو ( ظلم ) ، ولم تكتف ببيان رأيها ، بل وثقته بأنها قرأت النصب كذلك على أعلم الناس بالبصرة أبى عثمان المازني .
وأراد الواثق أن يتأكد من زعمها ، فأمر بإشخاص المازني من البصرة ؛ ليحكم في المسألة ، فلما حضر أوجب النصب ، وشرحه بأن (مصابكم) بمعنى (إصابتكم) ، و(رجلا) مفعوله ، و(ظلم) الخبر ، والمعنى لا يتم إلا بهذا التقدير ، فلما عارضه اليزيدي قال له : هو كقولك : (إن ضربك زيدا ظلم) ، فاستحسن الواثق رأيه ، وأمر له بألف دينار ، وهو يصيح بين الحاضرين : (جاريتي جاريتي ما أنحاها ! ) .
ولسان حال المازني يقول : (جاريتك جاريتك ما أحلاها ! ، تركنا لله مائة دينار فعوضنا ألفا) ، وسبب مقولته أن بعض أهل الذمة كان قد بذل له مائة دينار على أن يقرئه كتاب سيبويه ، فامتنع من ذلك مع شدة احتياجه للمال ، فلما لامه تلميذه المبرد ، أجابه بأن الكتاب مشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله تعالى، ولا ينبغي تمكين ذمي من قراءتها ، وبعد أن أخذ مكافأة الواثق ، عاد لتلميذه المبرد قائلا : تركنا لله مائة دينار فعوضنا ألفا.
وقول المازني : (مصابكم) بمعنى (إصابتكم) ، يقصد به أن اسم المصدر إذا كان مبدوءًا بميم زائدة لغير المفاعلة ، (وهو ما يسمي بالمصدر الميميّ) ، نحو : موقف - مضرب - مجلس ..... بمعنى : الوقوف ، والضرب ، والجلوس ... فإنه يعمل عمل الفعل باتفاق النحاة ، كما في قول العرجي السابق :
أظلومُ إنَّ مصابَكُمْ رجلاً .......
أما إذا ساوى اسم المصدر المصدر في الدلالة على الحدث ، ولكنه نقص عن حروف فعله ، بدون تعويض ، نحو : أعطى عطاء - تكلم كلاما - انتفع نفعا ..... فإن النحاة قد اختلفوا في إعماله :
فالبصريون يمنعون ، والكوفيون والبغداديون يجيزون بناء على شواهد كثيرة تؤيد مذهبهم ، منها قول القطاميّ :
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عنِّي ** وبعْدَ عطائِكَ المائـةَ الرِّتاعا
فـ (المائة) مفعول به ثان منصوب باسم المصدر (عطاء) المضاف إلى فاعله ، وهو ضمير المخاطبين ، والمفعول الأول محذوف تقديره : (إياي) . (الرتاع : جمع راتعة ، وهي الإبل التي تُترك كي ترعي كيف شاءت لكرامتها على أصحابها)
وقول الآخر :
قالوا كلامُك هندا وهي مصغيةٌ ** يُشْفيك قلتُ صحيحٌ ذاك لوكانا
فـ (هندا) مفعول به منصوب باسـم المصدر (كلام) المضاف إلى فاعله .