المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين أما بعد:
لقد مر الشعر العربي في العصور الماضية ، باختلافات متعــددة ومتنوعة ، لكن العصر الحديث لم يكن هذا الاختلاف مثل ما كان ، فقد أصبح ظاهرة أدبية ، ألف فيها المؤلفات وزاد من الحراك الثقافي الأدبي بشكل عام.
ولقد كانت الحداثة بمفهومها الشمولي حديث الأدباء والشعراء والمثقفين ، وأصبحت الحداثة في كل أمر ومنهج في الحياة حتى شملت الشعر العربي ، مما أدى إلى نقلة نوعية كبيرة في الشعر العربي. ولا شك أن الحداثة في الشعر مطلب فني وقومي معا.
إن الحداثة في الشعر العربي أصبحت تنحى منحيين مختلفين , منحى الحداثة الزائفة التي تريد التغيير للتغيير فقط ، ومنحى الحداثة الرائدة المطورة للقديم والناهضة به.
لقد أصبحت الحداثة موضوعا جدليا قائما ، وانقسم المؤيدون والمعارضون وبقي المحايدون الذين يرون بأن الحداثة وما جاءت به مرجعها التدقيق والفحص ، والقبول فيها راجع للقيم والأصول.
إن الجديد الذي طرأ على الشعر العربي جدير بدراسته والبحث فيه , لأنه يخضع لتساؤلين هامين هل هذا الجديد قدم ازدهارا للشعر العربي؟
وهل أصبح الإبداع في الشعر أفضل مما كان؟
ثم ما موقف العلماء من الأنواع الجديدة التي جاءت بها الحداثة ، إن هذه التساؤلات سأجيب عنها في هذا البحث.
تعريف الحداثة:
الحداثة لغة :هي من مصدر الفعل حدث وتعني نقيض القديم والحداثة هي أول الأمر وابتداؤه أما اصطلاحا: هي اتجاه فكري في كل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات ذلك أنها تضمن كل هذه المذاهب الفكرية ، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني ،والنقد الأدبي ، ولكنها تخص الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء ،وهي بهذا المفهوم الاصطلاحي اتجاه جديد يشكل ثورة كاملة على كل ما كان و ما هو كائن في المجتمع.
ومعنى هذا أن الحديث ليس خيرا كله ،كما أن القديم ليس شرا كله ،وخير وسيلة للجمع بين محاسن القديم والحديث أن يتصف أصحاب الحديث بالأصالة ، والقوة ، والعراقة ، والابتكار وأن يتخلى أصحاب القديم عن كل ما لا يوافق روح العصر من التقاليد البالية والأساليب الجامدة.
وأن يرون أن التراث ليس مسلمات لابد من المضي عليها، أو الحداثة هي التجديد الواعي أي :أن الحداثة هي وعي في التاريخ وفي الواقع ، ويكون الفهم التأسيسي فيها جذريا مثله مثل شرط الوعي بالدور والمرحلة.
وهذا يعني أننا لا نحصر الحداثة في خطاب دون خطاب ، فالخطابات كلها تتعرض للتحديث بالضرورة
إذن نجد مصطلح الحداثة مختلفا ويمر بإشكالات متعددة ، وذكر الغذامي في كتابه (حكاية الحداثة)" أن مفهوم الحداثة يختلف من حداثتي لغيره ، كما يرجع الصراع الثقافي بين الحداثيين وغيرهم ، إلى غياب التعريف الموحد والمتفق عليه .كما أيضا نجد التعريفات الغربية تختلف عنها في المعجمات العربية والمؤلفات."¹
إن مفهوم الحداثة يشمل الجانب الاجتماعي والثقافي بل وحتى الديني ، لكننا نحن كالمسلمين نمضي وفق حدود ربانية واضحة ، فهي تسير لنا الطريق وتهذبه حتى لا نحيد عنه.
فالحداثة ليست فقط في الأدب والثقافة بل قد ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك،لذلك نرى أن المعارضين للحداثة يشنعون على مؤيدها ، قصدا منهم أنها تهدم الدين و تبعدنا عنه.
لكننا لا يمكن أن نؤمن بالحداثة في أمور الدين والعقيدة ، وهذا أكد عليه أغلب الحداثيين في الوطن العربي ، لكننا نأخذ الحداثة في أمور تعود علينا بالنفع والفائدة ، ما دامت لا تطعن في مسلمات الدين والعقيدة.
فالتجديد في الجانب الاجتماعي والثقافي والأدبي أمر جدلي نسبي بمعنى أنها قضية ذوقية ترجع إلى عواطف الإنسان وميوله.
والحداثة في الشعر أمر واسع ما دام أنه لا يسيء لأصول اللغة العربية ، وفنونها، بل قد تضيف شيئا جديدا.
التأريخ للحداثة:
من الصعب منطقيا الركون إلى فترة زمنية أو مساحة مكانية واعتبارها المرتكز الوحيد لانطلاق الفكر الحداثي بمفهومه الشامل ، فهذا الأخير هو حصيلة الجهد الإنساني عبر التاريخ.
لذلك لا يمكن اعتبار الحداثة ظهرت في وقت محدد، فلكل عهد حداثته ، وتجديده
والمتتبع لموضوع الحداثة يجد أنها تركزت على العقل ،فيعتبر أكبر فعالية إنسانية عبر التاريخ وقد كان دائما محور الكينونة الإنسانية وعنوان قوتها الرأس.وقد ارتبطت فكرة الحداثة بالعقلنة ارتباطا وثيقا بحيث أن التخلي عن أحدهما هو بمثابة إلغاء الآخر ، ولكن التساؤل هل يمكن اختزل الحداثة في العقلنة كما يقول تورين ؟ وهل هي تاريخ تقدم العقل ؟ أي : تاريخ يقدم الحرية والسعادة وتدمير العقائديات والانتماءات والثقافات التقليدية؟.
هل لهذا المفهوم قيمة تاريخية عامة أم أنه لا يعد كونه حالة تاريخية خاصة حتى وإن كانت عظيمة الأهمية؟.
ويجيب تورين : بأن النزعة العلمية يبدو أنها قد انتهت بعودة الأديان والقوانين ،أو قد قلت عن ذي قبل.
أما ما يختص باللغة العربية والمجتمع العربي ، فإن المتتبع للغة العربية يجد أنها اضمرت في مجتمعنا العربي الراهن وأصبحت مجرد وسيلة هزيلة للتعامل اليومي الروتيني بين الأفراد فباتت هيكلا من هياكل التخلف.
فلم تعد اللغة العربية قالبا للتعبير والتواصل الحضاري ،ولا إطار للفكر العلمي ،وهذا الانحطاط في التعبير الفكري العربي ، أقصد العجز عن استعمال لغتنا الأم استعمالا معبرا دقيقا
أدى إلى البعد عن التواصل العربي باللغة العربية ، وذلك راجع إلى الثروة العلمية الأوربية ،وتأثر العرب بهذه الثروة.
إذن فإن إحياء اللغة العربية حضاريا وردم الهوة العميقة التي تفصل العلمي والمثقف العربي عن مجتمعه هما أحد أبعاد المغزى التاريخي للتثقيف العلمي. فالتثقيف العلمي هو أولا فعل حضاري يساهم مساهمة أساسية في تحديث اللغة العربية ،ومن ثم الفكر العربي ، وإخراجهما من أزمتهما التاريخية ، وهو ثانيا : جسر يصل العلمي بواقعه ومجتمعه الظامئ إلى التقدم.
إذن يمكننا القول بأن الحداثة لا يمكن اختزالها في وقت محدد، لأنها في كل مجتمع وزمن ، حتى وإن اختلفت جزيئا في الحداثة، أقصد في بعض جوانب الحياة.
فمع مر العصور لا يمكن أن نجد اللغة العربية ساكنة لم تتغير، ولم تولد أبعادا جديدة ، بعيدا عن أصولها اللغوية ، لأن الجانب الاقتصادي والاجتماعي يتغير ويتحدث ، باختلاف الزمن،لأن البعد الاقتصادي يغير في كلية الإنسان ومشاعره وتفكيره. وهذا ما نشاهد في العصور الماضية، فمع هذا التغير نجد أن الأدب يتنوع ويتحدث، ويسير حسب العصر الذي عاش فيه ، ولا أقصد بذلك أنه مسير لا فالأدب يغير ويؤثر ، كما يتأثر أيضا.
الموقف من الحداثة:
لقد مرت الحداثة بجدل كبير بين العلماء، حيث أصبح هناك فريقان مؤيدون ومعارضون،فالكل فريق يشنع على الأخر على رأيه وقوله ، بل وصل الأمر من بعضهم إلى وصف المؤيدين بالمتحررين عن الدين ، وأطلق ذلك شموليا دون أي دليل ، أما المؤيدون فبعضهم يطلقون على المعارضين بالتقليديين وعدم مواكبة التحضر.
والحقيقة أن أي جديد يمر على المعرفة الإنسانية يكون فيه جدلا كبيرا، لأن طبيعة النفس البشرية غالبا لا تفضل التغيير ، لكن موضوع الحداثة كان الجدل فيه قويا ، وزاد من الحراك الثقافي كثيرا.
ويرجع الغذامي في كتابه : (الموقف من الحداثة) "إلى الأسباب التي دعت المعارضة للجديد أي الحداثة إلى أصول المعرفة النقدية، فعليها يتوقف مصير الرؤية النقدية صحة وخطاءا ، ويحدد ذلك في ثلاثة جوانب هي:
الأول: عدم وجود نظرية معينة محددة للنقد ، تقوم على أدلة وبراهين.
أما الجانب الثاني: فهو قصور المعرفة لدى مناوئي التجديد ، ويتجلى ذلك بعدم معرفتهم الجديد معرفة دقيقة.
أما الثالث: فيتحدث الغذامي فيه عن الحداثة في الشعر ، ويرى بأن المعارضين للحداثة لا يفهمون حقيقة وظيفة اللغة في الشعر ،فهم يعتقدون أن اللغة في الشعر مجرد نظم فني للكلمات والجمل حسب أنواع تفعيلات البحر العروضي، ولكن الحقيقة أبعد من ذلك"¹.
فالحداثة إذا أخذت من الجانب الشمولي لها ، الذي يقول بأن كل جانب من جوانب الحياة يكون مستحدثا كالجانب الثقافي والديني وغيرها،فإذا أخذت الحداثة بهذا المفهوم الشمولي ، فإننا بإمكان عد ذلك تحررا كبيرا ، إذ أن الحداثة ليست في كل ما جاءت به صحيحا، فالدين يتميز بحدود وضوابط لا يمكن الابتعاد عنها، أما الجانب الثقافي وغيره، فإننا أمام جدل واسع لا يمكن الحد منه ، لأنه يمكن أن يكون بعدا ثقافيا واسعا، وقضية نسبية غير منضبطة.
ثم لا بد لنا من التفحص والبحث في هذا الجديد ، فإذا كان يحقق لنا تقدما وتحضرا ومزيدا من الإبداع فإن الإقدام به جدير ، أما إذا كان عكس ذلك فإننا بالإمكان التوقف عنه وتركه.
لحداثة في الشعر:
إن الشعر العربي مر بمراحل عديدة في تأثره بالعصر،والوضع الاجتماعي والاقتصادي وغيره ، منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا ، فالأدب يؤثر ويتأثر بالعصر الذي عاش فيه ، فهو عملية انعكاسية للبيئة التي يعيش فيها.
ولكن هذا التأثر يختلف من وضع إلى آخر ، فمفهوم الشعر منذ العصر الجاهلي قائم على بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي ، الذي جعل للشعر حدودا إيقاعية مضبوطة ، فجعل من أتى بعده يمضي عليها .
لكن في العصر الحديث ومع تأثر العرب بغيرهم من الثقافات الغربية ، اختلفت تلك الأوزان والحدود فالشاعر استطاع أن يخرج عن هذه البحور.
والمتتبع للعصور السابقة يجد أن في العصر الأندلسي بدايات لتلك النفوذ عن حدود القصيدة المعروفة قبل ذلك ، فخروج الموشحات ، آذن بتعد عن الحدود المتعارف عليها للقصيدة العربية.
ولكن من المهم أن نقف عند أمر هام وهو أن التجديد قدرة لا رغبة ولا اشتهاء ولا تمني . بمعنى ليس كل من اشتهى أن يكون شاعرا مبدعا هو شاعر مبدع , وليس كل من أحب أن يوصف بالمجدد مجددا
إن التجديد هو فعل التجديد النابع عن الإبداع، والتجديد هو أن تعرف النخبة أننا مجددون،وأن يعترف النقد الشريف بأننا فعلا مجددون مبدعون، لا أن تكون وسيلة للتهويل أو لمجرد التجديد فقط.
لقد مر الشعر في العصر الحديث بمتغيرات كثيرة ، سواء على الصورة الشعرية ،أو الثقافية أوالفكرية وكان كل ذلك بقصد الحداثة والتجديد ، وأول ذلك وأكبره في وزن القصيدة وإيقاعها ، والخروج عن البحور القديمة السابقة التي أرساها الخليل ، حيث خرج شعر التفعيلة والمتمثل في القصيدة التي تكون على تفعيلة مفردة ، حيث تكون وحدة وزنية لها يختارها الشاعر،بخلاف بحور الخليل المتعدد التفعيلات وقد كان بدايات تلك القصيدة في عام 1938م على يد علي أحمد باكثير، ومن الأدباء من يقول أن الشاعر بدر السياب هو من سبق لتلك النوع من القصيدة ،أما الشاعرة نازك الملائكة فإنها تصر بأنها هي الأسبق لهذا النوع عبر قصيدتها الكوليرا ،وبعدها أصبح هناك لغط واسع
تجاهه تلك الجرأة على القصيدة العربية.
ثم بعد ذلك خرج ما يسمى بقصيدة النثر، والتي تكون أشبهه بكلام منثور دون وزن ولا قافية
حتى وصلنا إلى اتجاهات فكرية في مناهل الشعر والرمزية والغموض وغيرها.
أ) شعر التفعيلة:
إن شعر التفعيلة أو الشعر الحر موزون ويأخذ بنظام وحدة التفعيلة، ويقوم على ثمانية بحور من بحور الخليل ،وهي: الرجز ، والكامل ، والمتقارب ، والهزج ، والخبب ، والرمل، وكذلك السريع والوافر.
ومن أمثلة الشعر الحر قول السياب:
تثاءب الغيوم والمساء ما تزال
تسح ما تسح من دموعها الثقال
كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه التي أفاق منذ عام
فلم يجدها, ثم حين لج في السؤال
قالوا له بعد غد تعود
لابد أن تعود
وإن تهامس الرفاق: أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود
تسف من ترابها وتشرب المطر
فهذه الأبيات من بحرالرجز.
وأيضا القافية فيها من بحر الرجز.
"إن ما حققته الحداثة في الشعر يتمثل فيما يتعلق بتلك الحرية الإيقاعية التي تكفل لنا ، أي القصيدة الخروج من أقمطة الخليل كما يسميها محمد الماغوط .
ومما لا شك فيه أن ما أنجز في هذا المجال ، أي الوصول إلى مساحات من الحرية الموسيقية شيء لا يستهان به ، لكنه يظل مع ذلك خروجا محدود أو محددا.
لقد خرجت القصيدة العربية من خناديق الخليل حادة صاخبة لتدخل نهرا من موسيقى أكثر سعة و غنى وتنوعا . واستطاع شعراء الحداثة المتميزون أن يحدثوا من خلال نماذجهم الشعرية ، صدمة إيقاعية لا عهد للقصيدة بها ولا عهد للفكر النقدي بها أيضا"
لقد أخرج الواقع الموسيقي معظم البحور المركبة ، أو البحور الممزوجة كما تسميها نازك الملائكة ، من دائرة الفاعلية والتأثير بشكل يكون تاما ،واقتصر التشكيل الموسيقي في معظم الكتابات الشعرية على البحور المفردة أو ما اصطلح عليه بالبحور الصافية.
نظريا ، لم يبق إلا ثمانية بحور شعرية فقط يمكن أن تسهم في تشكيل إيقاع القصيدة العربية الحديثة، إما عمليا فإن نصف هذا العدد ، أو أقل من ذلك هو ما يؤدي دورا موسيقيا واضحا في شعرنا الحديث
إزاء هذا الواقع جرت محاولات عديدة للتغلب على هذه المعضلة الإيقاعية ، فقد جرب عدد من الشعراء المتميزين التنويع في إيقاع القصيدة وتخفيف رتابتها الناتجة عن محدودية البحور المستعملة ومع جديتها إلى أنها ظلت محدودة وعاجزة عن الوصول لنتائج.
ربما كان السياب وأدونيس أسبق من سواهم في الوقوف عمليا على ضحالة النهر ، أعني افتقار القصيدة الحديثة إلى الثراء الموسيقي والتنوع .
كانت قصيدة السياب : ( ها هو ) محاولة مبكرة للخروج من الزجاجة ، يقول:
تنامين أنت الآن والليل مقمر
أغانيه أنسام وراعيه مزهر
وفي عالم الأحلام من كل دوحة
تلقاك معبر
وباب غفا بين الشجيرات أخضر
ومع ذلك يبقى السياب محدودا ، والسبب في ذلك يكمن في طبيعة البحور المركبة عموما فالوحدة الموسيقية فيها لا تتكون , كما في البحور المفردة.
على الشاعر إذن ، أن يستخدم الوحدة الموسيقية المركبة كاملة حتى تتنوع الموسيقى في القصيدة
إذن مع أن قصيدة التفعيلة أحدثت حرية إيقاعية ، إلا أنها أيضا تمر بإشكالات في تنوع تلك الموسيقى
كما تخرج لنا إشكالية أخرى في قصيدة التفعيلة ، وهي الثراء في التقفيات الداخلية ، وأيضا تنوع حروف القوافي في القصيدة ، وهذه الإشكالية قد مرت بجدل واسع بين الشعراء.
وهذه الإشكالات أدت إلى ظهور نوع جديد من أنواع الحداثة الشعرية في القصيدة – إن صحت التسمية_ وهي قصيدة النثر.
ب) قصيدة النثر:
ما إن استقرت قصيدة الشعر الجديد في إطارها التفعيلي ، وما إن كسبت اعتراف النقاد ومحبي ومتذوقي الشعر ، حتى خرجت علينا قصيدة النثر, بمفهومها الجديد عند أصحاب هذه المدرسة ومروجيها ، مما أدى بالتالي إلى خلط كبير بينهما وبين قصيدة التفعيلة لدى مهاجمي الشعر الجديد خاصة.
ويعود ظهورها إلى الأربعينيات حيث نشأت البواكير الأولى لها فتمثلت في محاولات عفيف وألبير أديب فأصدر الأول في الأربعينيات مجموعة من الدواوين تنتمي إلى الرومانسية المصرية التي كانت تعد مرض العصر في ذلك الوقت ثم أصدر الثاني في مطلع الخمسينيات ديوانه الشهير ( لمن؟) عن دار المعارف بمصر.
"وفي الستينيات حظيت تجربة قصيدة النثر بعدد من المبدعين الذين أخلصوا لهذا الفن وكتبوا جل كتاباتهم من خلال هذا الشكل ومنهم : أنسي الحاج ، ويوسف خال ، ومحمد الماغوط ، وكانوا ينشرون كتاباتهم في مجلتي (شعر) و (حوار) اللبنانيتين.
وترتكز قصيدة النثر في بناءها الفني على مبدأ اللا وزن واللا قافية.
فهي قريبة من الكلام المنثور ، إلا أنها تكون على شكل مقاطع أشبه بالأبيات "¹
ويقول أحمد شبلول "وعلى الرغم من أنني من المرحبين بما يسمى بقصيدة النثر إلا أنني أعتقد أن أصحابه قد أخطأوا في حق تسمية أدبهم بقصيدة النثر لأنه في أبسط الأمور هناك خلط بين مصطلح القصيدة والنثر ، فمصطلح القصيدة يطلق على قصيدة الوزن ، ومصطلح النثر يطلق على الكلام الخالي من الوزن ، وإن كنا نلاحظ أن بعض النثر يدخل فيه الوزن أو الإيقاع بطريقة عفوية تماما ، وهذا ما نلاحظه على بعض الأسماء أو على مانشيتات الصحف وغيره. إلا أن ذلك لا يمكن عده شعرا ، غير أن بعض المتشيعين لقصيدة النثر من الشعراء والمبدعين ، يعتقد أنها امتداد طبيعي لقصيدة التفعيلة والبعض يراها كشف جديد لمساحة من شعرنا المعاصر.والبعض يرفضها تماما ، ويرفض انتماءها لعالم الشعر بكل أشكاله القديمة والجديدة ، والبعض الآخر يقف موقفا وسطا ويترك الحكم على هذا اللون من الأدب للمستقبل"².
إذن يمكننا القول بأن قصيدة النثر ليست إلا شكلا من أشكال التعبير عن
صدمة الحداثة كما هو تعبير أدونيس ، وفعل الصدمة يفوت على المصدوم فرصة التأمل والفعل واضعا إياه في موضع الاستقبال لا الإرسال. ومع امتلاك الغرب لطاقات فكرية وثقافية هائلة ، لكن يقابله بؤس في الفكر النقدي العربي، وكأننا لا نتمكن من اكتشاف أداة صحو حقيقية معلقين الأمل دائما على الغرب
لقد واجهت قصيدة النثر انتقادات واسعة من قبل الشعراء والأدباء ، معللين ذلك إلى كونها تهدم كيان القصيدة العربية القائمة على الوزن والقافية ، ممثلين لها بأنها – أي القصيدة العربية- كجسد الإنسان لا يمكن استعارته وتغييره.
وأمثل على قصيدة النثر في قول أنسي الحاج والتي تحت عنوان ( بحيرة) يقول:
من كان يصدق أن الفلكي هو الصحراء أكثر
من البدوي؟ رأى صديقي الأنابيب والعقاقير وأوعيه
تصعد إلى برفقة القابضين على المفاتيح خفيفة
خفة الفوز ووقف أمام خيط هام به وأقسم أنه غير
عادي ليس لعبة ليست سحابة خيط مالح يرتفع من بلعوم معبد
إن مثل هذا الكلام من أمثلة كثيرة على الاستثارة التي يلقيها أسلوب أنسي الحاج في القارئ للوهلة الأولى ، ولكن من حق القارئ والناقد أن يتساءل ويبحث عن الجمال والمتعة اللذين يمكن أن يصاحبا مثل هذا الكلام.
كما يقول أيضا أحمد سويلم : "إنني أدعو إلى ضم ما يسمى ( قصيدة النثر ) إلى فن القصة الحديثة على أن تعاد كتابته مرة أخرى في سطور متساوية وفقرات ملائمة ، أو يضم إلى ما يسمى بالنثر الفني الحديث بعد مرحلة الحريري والمنفلوطي وغيرهم من الرواد.
ونحن نقول لا لقصيدة النثر ، لأنها لا تنتمي إلى الشعر كفن ، لكننا نقول نعم، للجديد الذي يضيف للشعر أفق أرحب".
لقد واجهت قصيدة النثر ردود واسعة وقوية تجاه شعرائها ومؤيديها ، على العكس من قصيدة التفعيلة فالهجوم على قصيدة التفعيلة أقل حدة من الهجوم العنيف على قصيدة النثر ، وذلك راجع لكون قصيدة النثر متحررة من الوزن والقافية ، وهما الركيزتان للشعر العربي الأصيل ، بالإضافة إلى خوف الأدباء على مستقبل الشعر العربي ، وأضف أيضا إلى كون قصيدة النثر متأثرة تأثيرا واضحا بالحضارات الغربية ، التي تحاول هدم موروث اللغة العربية ، كما تحمل قصيدة النثر مدارس فكرية حولت مفهوم الشعر الذي يحمل رسالة نبيلة إلى المتلقي والقارئ، إلى رسائل مشتتة لا تحمل هدفا معينا ولا حتى جماليا.
إن الحداثة في الشعر العربي أحدثت حراك ثقافيا قائما ، كما أحدثت تغييرا جريئا في الأشكال الفنية للقصيدة العربية –كما أسلفنا الذكر- لكنها أيضا حملت مع هذا التغير تغييرا في المضمون والرسالة قائم على متغيرات وثقافات الحداثة ومنبعها ، كما أحدثت مدارس فكرية مختلفة وشعراء منافحون عن كل مدرسة ينتمون إليها، كما تطرقت لأسلوب جديد بعيد عن المباشرة والتقرير.
المدارس الفكرية الحداثية:
لقد تنوعت المدارس الأدبية في العصر الحديث ، وذلك راجع إلى عوامل عديدة أدت لهذا التنوع والاختلاف ، ويمكن للحداثة والتأثر بالحضارة الغربية أثر في ذلك ، كما أن هجرة الشعراء العرب للأمريكتين لها أثر بالغ في ذلك ، وسأعرض لتلك المدارس بشكل سريع وموجز
الكلاسيكية: وهي اتجاه أدبي يعتد بالجانب العقلي، ويتقيد أدباؤه بالتقاليد الفنية التي أرساها الأقدمون،وكان هذا المصطلح يطلق على الآداب الرومانية
ومن أشهر شعراءه :محمود سامي البارودي ١٩٠٤م ،ومحمود صفوت الساعاتي ،وأحمد شوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وأحمد المهدوي كما من المدارس أيضا : جماعة الديوان: ومؤسسها عبد الرحمن شكري ١٩٥٨، والعقاد، وإبراهيم المازني،وتدعو هذه الجماعة إلى الجمال في القصيدة وإلى الوحدة العضوية¹.
مدرسة المهجر : وهي تلك التي هاجر شعراؤها العرب إلي الأمريكتين الشمالية والجنوبية ، وتقوم على الرومانسية والتقليد الغربي ، وأيضا إلى الحنين للأوطان ووصف الطبيعة والتوغل فيها
ومن شعراءها : إيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة ، ورشيد أيوب .
ومن المدارس أيضا : مدرسة أبوللو: ومؤسسها: أحمد زكي أبو شادي عام ١٩٣٢م وتقوم على الرومانسية ،وحب الطبيعة ،والشعر المرسل الذي
لا يقوم على قافية محددة بل تتنوع القافية. ومن شعرائها : إبراهيم ناجي ، ومحمود حسن إسماعيل ، وأبو قاسم الشابي، وعمر أبو ريشة١٩٥٢م .
ومن المدارس أيضا المدرسة الرمزية : وهي وليدة الثقافة الغربية ، وهي تقوم على أن مفهوم الشعر يومئ ويوحي ولا يخبر ،والموسيقى هي مادة الشعر،وأهداف القصيدة عندهم اجتياز الوعي إلى ألا وعي وتمثل ظاهرة التجسيم أخص خصائص الرمزية.
وأول ظهور للرمزية كان للشاعر أديب مظهر في قصيدة (نشيد السكون) عام ١٩٢٨م بعد تأثره بالشعر الفرنسي.
ومن الشعراء : سعيد عقيل ١٩٣٣م وبشر فارس ١٩٣٤م وصلاح لبكي١٩٣٨م.
لقد أحدثت هذه المدارس ردود أفعال في العصر الحديث ، وخاصة مدرسة الرمزية التي أصبح جل الشعراء الحداثيين يتأثرون بها،فقد أصبح التغيير ليس في الخروج على الوزن والقافية فقط ،بل أيضا في انعطافة الشاعر لبلورة رؤى خاصة به ، وما يترتب على ذلك من بحث عن رموز وأساطير وأقنعة يجسد فيها ومن خلالها رؤاه الشخصية ويمنحها شكلا حيا ملموسا.
لقد أصبحت القصيدة الحديثة بدون رمز قصيدة متواضعة وليست في مضمون الجديد ، إن الجمال في القصيدة أصبح في رموز وأقنعه يغطيها الشاعر في قصيدته حتى تصبح أكثر جمالا ورونقا بمفهومهم. وليس الإبداع عندهم إلا الموسيقى الشعرية والرمز والغموض.
والرمز الشخصي هو الذي يبتكره الشاعر ابتكارا محضا أو يقتلعه من حائطه الأول ، أو منبته الأساس ليفرغه جزئيا أو كليا من شحنته الأولى أو ميراثه الأصلي من الدلالة ثم يشحنه بشحنه شخصية ذات مدلول ذاتي مستمد من تجربته الخاصة.
ولم يكن الشاعر العربي في بحثه عن رمزه الخاص أول المنقبين ، فقد كان الشاعر الايرلندي ييتس ، ذا جهد واضح في خلق أساطيره ورموزه الشخصية.¹
ومن أمثلة الرمزية في الشعر الحديث في قصيدة النهر والموت للشاعر السياب ، الذي جعل (بويب) رمزا شخصيا يتفجر رنينه الغامض والمترع بالجلال والفجيعة ، في ثنايا النص كله لقد كان ( بويب) رمزا مفتوحا حتى أقصاه يحتضن الموت والحياة ، الخصوبة والعقم ، البهجة والأسى ، والطفولة والهرم في مزيج محتدم:
وأنت يا بويب
أود لو غرقت فيك ألقط المحار
أشيد منه دار
يضيء فيها خضرة المياه والشجر
ما تـنضح النجوم والقمر
وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر
!فالموت عالم غريب يفتن الصغار
وليس فقط الرمزية شكلت منطلقا لشعراء الحداثة في ما يقدمونه من شعر ، ولكن أيضا مسألة الغموض في القصيدة وعدم وصول الهدف إلى المتلقي أمرا جدليا أيضا ، فقد طغت عليهم الموسيقى والإيقاع الشعري أكثر من الهدف الحقيقي من وراء القصيدة ، مما جعل الألفاظ الغربية في اللغة تستعمل بكثرة في قصائدهم .
ويتساءل محمود درويش ماذا جرى للشعر ؟ إن سيلا جارفا من الصبيانية يجتاح حياتنا ولا أحد يجرؤ على التساؤل هل هذا شعر ؟
نحن في حاجة للدفاع ليس فقط عن قيمنا الشعرية ، بل عن سمعة الشعر الحديث الذي انبثق من القيم ليطورها لا ليكسرها ، حتى شمل التكسير ، بدافع الإدراك أو الجهل ، اللغة ذاتها فكيف تطور الحداثة الشعر بلا لغة ، فهي حقل الشاعر وأدواته ؟
يقولون أن الإيقاع يخلق نمطا متشابها ورتيبا. إذن ما نقول عن هذه القصيدة التي نقرأها كل صباح منذ عشر سنين بمئات الأسماء؟ أليست هي نموذج النمط؟
إن صرخة محمود درويش هذه، وهو من أعمدة الحداثة، يجب أن تتابع لأن الترويج للضحالة والركاكة والعدمية والغموض والرمز، هـدم للحداثة والجميل التي جاءت به .¹
نهاية الحداثة
إن ما قدمته الحداثة من جديد في الشعر والأدب ، والجرأة التي خرجت على الأدب بشكل عام ، وأصبح هذا الجديد إبداعا وحراكا ثقافيا جديرا ، خرج له المعارضون وشنعوا عليه ، ورفضوا الحداثة بكل ما جاءت به .
فالمعارضون يقولون بأن للحداثة نهاية لأنها قائمة على باطل ، وقائمة على هدم اللغة والقصيدة العربية الأصيلة .
ولكن لا يمكن أن يكون للحداثة نهاية ، لأن الحداثة في كل عصر وزمن ، أما ما جاءت به الحداثة فإننا لا يمكن أيضا أن نصور له نهاية .
إن الذي انتهى فعليا وعمليا هو الصراع العلني المركز ضد الحداثة كمصطلح وكميدان وحيد للصراع والنقاش ، غير أن الحداثة تتفاعل بطرق وأساليب متنوعة وهي:
كان التصور العام للحداثة يركز على الحداثة الشعرية ويكاد يحصرها في ذلك ، ثم تطور ذلك حتى أصبح في النظرية النقدية .
ثم تحول إلى أعمق من ذلك ليس في الأدب والشعر فقط ، بل في اللغة والمرأة والإنسان
ثم انتشر مفهوم الحوار ، وأيضا الخطاب المفتوح والمتحرر وهو الانترنت ، الذي لا يخضع لرقيب فأصبح هناك آراء جديدة ومتغيرة .
لقد أخرجت لنا الحداثة حراكا ثقافيا كبيرا ، كما أنتجت لنا جديدا أثرى الأدب والشعر بشيء من الإبداع الإنساني الجميل ، كما أنتجت لنا الكشف والإفصاح ، والتثبت ، وأيضا الحوار الواسع ، والجدل عن المسلمات التي من الممكن مناقشتها .
الخاتمة:
ليس للحداثة تاريخ معين ، فكل عصر له حداثته وتجديده، ثم المتتبع للأدب يجد أنه يتجدد في كل عصر وبيئة ، وهذه السنة الكونية في الدنيا ، كما أن
الحداثة بمفهومها الشمولي أنتجت لنا تغيرات عديدة ومفهومات جديدة ، سواء على الصعيد الأدبي أو الثقافي، أو الاجتماعي .
لم تصبح الحداثة في موضوع معين فقط ، ولم تطغى على غيره ، بل أصبحت أكثر من ذلك وأشمل .
ولقد قدمت الحداثة للشعر تغييرات عديدة ومفهومات جديدة ، فكانت البدايات بالرفض لكنها في النهاية أصبحت واقعا ملموسا وإبداعا يشاهد وأدبا يؤثر .
لقد توصلت في نهاية هذا البحث إلى أن الحداثة ليست في مجملها سيئة ، كما أيضا ليست في مجملها حسنة .
فقد قدمت المفيد للغة والشعر ، كما قدمت مفهومات دخيلة للشعر كالرمزية والغموض وغيرها .
كما قدمت لنا مفهومات في الواقع الاجتماعي جديرة بالإشادة كالحوار والجرأة في قول الرأي ، كما قدمت لنا أن كل رأيي لابد له من تثبت ودليل على صحته .