الفصل الأول
منطلقات تأسيسية في الاتجاه التَداوليّ
المبحث الأول – أركان الصناعة النحوية
1- السماع
2- القياس
3- الإجماع
المبحث الثاني – تقييم التراكيب النحوية
1- الشاذ
2- النادر
4- القبيح
5- الضعيف
6- الضرورة
المبحث الثالث- تأويل التراكيب النحوية
1- التأويل بالقياس
2- التأويل بالحمل على المعنى
3 -التأويل بالحمل على اللفظ
4- التأويل بالتقديم والتأخير
المبحث الرابع – التَداوليّة
الفصل الأول – منطلقات تأسيسية في الاتجاه التَداوليّ
يشتمل على عدة مباحث، وهي على النحو الآتي:
المبحث الأول – أركان الصناعة النحوية
اعتمد النحاة في الحكم على المادة اللغوية على عدة أركان: السماع، والقياس، والإجماع، واستصحاب الحال، والاستدلال*. وستقتصر الدراسة على ثلاثة أركان، وهي على النحو الآتي:
أولا – السماع
يعرّف السيوطي السماع بقوله(1): "ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته، فشمل كلام الله – تعالى- وهو القرآن، وكلام نبيه – صلى الله عليه وسلم-، وكلام العرب، قبل بعثته وفي زمنه، وبعده إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين، نظمًا ونثرًا، عن مسلم أو كافر، فهذه ثلاثة أنواع لا بدّ في كل منها من الثبوت".
* ومن الأمثلة على السماع، يقول الرضيّ في سياق حديثه عن الأفعال الناقصة(2): "..أن النهي يفيد التكرار، على ما ذهب إليه أكثر الأصوليين، فحصل من هذا كله، أن نفي النفي يكون، أيضا، دائمًا، ونفي النفي يلزم منه الإثبات، فيلزم من نفي النفي إثبات دائم، وهو المقصود. ولا يُجعل كلُّ فعل مفيد للنفي، داخل عليه النفي، بمعنى: كان دائمًا، بل ذلك موقوف على السماع، فلا يقال: ما انفصل أو ما فارق ضاربًا، ولا يقال مازلت أميرًا، ولا: ما أزول أميرًا".
-------------------
* استصحاب الحال، قال ابن الأنباري في تعريفه: "هو إبقاء حال اللفظ على ما يستحقه في الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل". انظر، السيوطي، الاقتراح في أصول النحو، ص 72. وانظر الجرجاني، شريف علي بن محمد. التعريفات. ط1. دار الكتب العلمية: بيروت،1983 ص22، في قوله: "الاستصحاب: هو الحكم الذي يثبت في الزمان الثاني بناء على الزمان الأول". و انظر درويش، شوكت. الرخصة النحوية. ط1.وزارة الثقافة:عمان،2004م، ص 50. في قوله:" أما الاستدلال فـ " يراد به البرهنة على على صحة ما ذهب إليه النحاة، إما باستصحاب الحال الذي هو: إبقاء اللفظ على ما يدل عليه، أو الجري في الاستعمال على ما هو الأصل ما دام لم يقم دليل على تغير اللفظ عن هذا الظاهر أو العدول في الاستعمال عن هذا الأصل".
1- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن. الاقتراح في علم أصول النحو، دار المعارف: سوريا، (د ت)، ص 14.
2- الأستراباذي، رضيّ الدين محمد.شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب. ط1،عالم الكتب:القاهرة،2000، 5/196.
ثانيًا- القياس
يقصد به(1) "حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه". ومن الأمثلة التي أوردها الرضيّ على القياس ما يلي:
*وفي سياق حديثه عن فاء الجزاء، يقول الرضيّ(2): "ومعنى النفي في نحو: ما تأتينا فتحدثنا: إن تأتنا تَحدّثنا، انتفى الحديث لانتفاء شرطه وهو الإتيان، كقوله تعالى(3): "لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا". هذا هو القياس، وذلك لأن فاء الجزاء، قياسه أن يُجعل الفعل المتقدّم عليه الذي هو غير موجب: موجَبًا، ويدخل عليه كلمة (إن) ويكون الفاء مع ما بعده من الفعل جزاءً، كما تقول في قوله تعالى(4): "وَ لا تَطْغَوا فِيهِ فَيَحلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي"، أي: إن تطغوا فحلول الغضب حاصل".
*وفي سياق حديثه عن معاني الأدوات الجازمة للفعل الواحد، يقول الرضيّ(5): "ثم اعلم أنّه كان القياس في أمر الفاعل المخاطب أن يكون باللام، أيضًا كالغائب، لكن لما كثر استعماله حُذِفت اللام وحرف المضارع تخفيفًا، وبُني لزوال مشابهة الاسم بزوال حرف المَضارعة، وذلك لأنه شابه الاسم بسبب عروض موازنته له عند زيادة حرف المضارعة في أوله؛ وقد جاء في الحديث أمر المخاطب باللام، نحو: "لتزرَّه، ولو بشوكة"، وفي آخر: "لتقوموا إلى مَصافّكم".
-------------------
1- السيوطي، الاقتراح في علم أصول النحو، ص 38.
2- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 5/71 -72.
3- سورة فاطر، آية: 36.
4- سورة طة، آية: 81.
5- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب5/ 90.
"وهو في الشعر أكثر(1)، قال:
لِتَقُم أنت يا ابن خيرِ قُريش فَلْتُقَضّى حوائجَ المسلمينا(2)
والذي غرّ الكوفيون حتى قالوا: إنّه مجزوم والجازم مقدر، هو القياس المذكور، وأيضًا مجيئه باللام في الشعر، وأيضًا معاملة آخره معاملة المجزوم، وأيضًا الحمل على (لاء) النهي، فإنّها تعمل في المخاطب كما تعمل في الغائب. قوله: "ولا النهي المطلوب بها الترك"، وهي تجزم بخلاف (لا) في النفي، وقد سُمع عن العرب بلا النفي، أيضًا، إذا صحَّ قبلها (كي) نحو: جئته لا يكن له عليَّ حجًّة ولا يكون، ولا مَنْع أن تجعل (لا) في مثله للنفي".
ثالثًا – الإجماع
والمراد به(3): "إجماع نحاة البلدين البصرة والكوفة ". وقال السيوطي(4): "إجماع العرب حجة، ومن صوره أن يتكلم العربيّ بشيء ويبلغهم ويسكتون عليه".
و قد خالف الرضيّ في كثير من تحليلاته إجماع النحاة، ومن ذلك، نذكر قولات للرضيّ على ذلك(5): "وقال الكوفيون: " أنْ" المفتوحة، بمعنى المكسورة الشرطية، ويجوِّزون مجيء "أنْ" المفتوحة شرطية، قالوا: القراءاتان في قوله تعالى(6): "أن تَضِل"، أي فتح الهمزة وكسرها بمعنى واحد، أي بمعنى الشرط، و "ما" عندهم عِوض من الفعل المحذوف. ولا أرى قولهم بعيدًا من الصواب، لمساعدة اللفظ والمعنى إياه".
---------------------------
1- شرح الرضيّ عل كافية ابن الحاجب 5/ 90-91.
2- البيت مجهول القائل، واستشهد الأستراباذي به على أن أمر المخاطب جاء فيه باللام، وهو في الشعر أكثر منه في النثر، أراد: قم، وكذا اللام في: "فَلْتُقضى" لأمر المخاطب، والياء لإشباع الكسرة. انظر شرح الرضيّ على الكافية، حاشية 5/90.
3- السيوطي، الاقتراح في علم أصول النحو، ص 35.
4- السابق، ص36.
5- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 2/205-206 .
6- سورة البقرة، آية:282.
المبحث الثاني – تقييم التراكيب النحوية
سيتناول هذا المبحث الحديث في تقييم المتواليات الآتية*:
أولا- الشاذ
يراد به(1): "ما فارق ما عليه بقية بابه، وانفرد عن ذلك إلى غيره". و ورد ذكره في (التعريفات) على النحو الآتي(2): "ما يكون مخالفًا للقياس من غير نظر إلى قلة وجوده وكثرته. فالشاذ على نوعين: شاذ مقبول، وشاذ مردود. أما الشاذ المقبول: هو الذي يجيء على خلاف القياس، ويُقبل عند الفصحاء والبلغاء، وأمّا الشاذ المردود هو الذي يجيء على خلاف القياس ولا يُقبل عند الفصحاء والبلغاء".
ومن الأمثلة على الشاذ في شرح الرضيّ نورد بعض القولات على ذلك:
* الظروف وشبهها
يقول الرضيّ(3): "وسمع أبو الخطاب، مَن قيل له: (إليك)، فقال: (إليًّ)، أي أتنحَّى فهو خبر شاذ، مخالف لقياس الباب، إذ قياس الظروف وشبهها أن تكون أوامر، فلا يقال: (عليَّ ودوني)، قياسا عليه".
------------------
* فتقييم التراكيب النحوية يضم القليل، والنادر، والشاذ، والضعيف، والضرورة، والقييح، ولا يقال، ولم يرد، مردود. لا يقولون، لم يقل .....................إلخ.
1- السيوطي، الاقتراح في علم أصول النحو، ص 20.
2- الجرجاني، شريف.التعريفات، ص 124.
3- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 4/32.
* الظروف المضافة إلى الجمل
يقول الرضيّ(1): "..فلا يقال: (آتيك يوم قدم زيد فيه)، لأن الربط الذي يُطلب حصوله من مثل هذا الضمير حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجَعْلِِه ظرفًا لمضمونها، فيكون كأنك قلت: (يوم قدوم زيد فيه)، أي في اليوم، وذلك غير مستعمل، قال تعالى(2): "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ"، وقد يقول العوام: (يوم تسودّ فيه الوجوه)، ونحو ذلك، وهو شاذ".
ثانيًا- النادر
يراد به(3): "ما قل وجوده وإن لم يخالف القياس". ومن الأمثلة على النادر في شرح الرضيّ نورد بعض القولات على ذلك:
* تمييز كم الاستفهامية والخبرية
يقول الرضيّ(4): "والجرُّ في مميز الخبرية بإضافتها إليه خلافًا للفراء فإنه عنده بمن مقدرة، وهذا كما قال الخليل في: (لاهِ أبوك): إنه مجرور بلام مقدرة. وإنما جوّز الفراء عمل الجارّ المقدر ههنا، وإن كان في غير هذا الموضع نادرًا، لكثرة دخول (من) على مميز الخبرية، نحو(5): "وَ كَم من مَّلَكٍ"، و "وَ كَم من قَرْيةٍ"(6) ، والشيء إذا عرف في موضع جاز تركه لقوة الدلالة عليه".
----------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 4/120.
2- سورة آل عمران، آية: 106.
3- الجرجاني، شريف. التعريفات، ص 239.
4- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 4/92.
5- سورة النجم، آية:26.
6- سورة الأعراف، آية: 4.
* المؤنث الحقيقي واللفظي
يقول الرضيّ(1): "وإذا كان المؤنث اللفظي حقيقيّ التذكير، وليس بعَلَم، كشاة ذكر، جاز في ضميره، وما أشير به إليه: التذكير والتأنيث، نحو: عندي من الذكور حمامة حَسَنة وحَسَن، قال طرفة:[الطويل]
كَسامعتي شاة بحَوملَ مفردِ(2)
ولا يجوز في غير الحقيقي التذكير، نحو غرفة حسنٌ. ولا يجوز أن يقال: صاح دجاجة أنثى على أنك ألغيت تأنيث دجاجة بالتاء، لكونها للوحدة، لا للتأنيث، لأنك وإن ألغيتها، يبقى التأنيث الحقيقي فيكون كقام هند، وهو في غاية الندرة".
ثالثًا- القبيح
يراد به(3): "هو ما يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب الآجل". ومن الأمثلة على القبيح في شرح الرضيّ نورد بعض القولات على ذلك:
* شرط جمع المذكر
يقول الرضيّ(4): "ولتناسب الواوين، قبح قام رجل قاعدون غلمانه، كما قَبُحَ: يقعدون غلمانه، ولمَّا لم يكن في غير الوصف، والعَلم ما اختصَّا به من المقتضيين للتصحيح لم يجوِّزوا تصحيحه".
------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب4/301.
2- ديوان طرفة بن العبد. تحقيق فوزي عطوي، دار صعب: بيروت،1980م، ص40، والبيت من المعلقة "لخولة أطلال" ، الشطر الأول من هذا البيت: مؤلّلتان تعرق العِتقَ فيهما.
3- الجرجاني، شريف. التعريفات، ص 172.
4- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 4/ 341.
* أحكام المضارع بعد حتى
يقول الرضيّ(1): "وأما نحو سرت حتى أدخلها، فلفظ (إنما) يستعمل لمعنيين: إمّا لحصر الشيء كقولك: (إنما سرت أو قعدت)، إذا حصرت سيره؛ فيجوز الرفع على قبح، لأن الحصر كالنفي، إمّا للاقتصار على الشيء كقولك لمن ادّعى الشجاعة والكرم والعلم: (إنما أنت شجاع)، أي فيك هذه الخصلة فقط، فيجوز الرفع، إذن بلا قبح ولا يجوز: (سرت حتى تغربُ الشمس) بالرفع، لأن السير لا يكون سببًا إلى الغروب، ويجوز (ما سرت إلا يومًا حتى أدخلُها) بالرفع، و(ما سرت إلا قليلا)، لأن النفي انقضى بإلا".
رابعًا- الضعيف
يراد به(2): "هو الذي لم يصل حكمه إلى الثبوت". وقد ذكره الشريف الجرجاني في موطن آخر بأنّه(3): "ما يكون في ثبوته كلام كقرطاس بضم القاف في قرطاس بكسرها". ومن الأمثلة على الضعيف في شرح الرضيّ نورد بعض القولات على ذلك:
* حذف عامل خبر كان وشروطه
يقول الرضيّ(4): "..إذ معنى: (إن كانَ معه)، أو (في يده سيف)، و: (إن كان في عمله خير): معنى غير مقصود، لأن مراد المتكلم: (إن كان نفس عمله خيرًا)، و(إن كان ما قَتل به سيفًا)، لا: أن له أعمالا وفي تلك الأعمال خير، ولا أن في يده، أو في صحبته وقت القتل سيفًا. هذا الذي قلنا ضعف من حيث المعنى".
-----------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 5/60.
2- الجرجاني،شريف. التعريفات.ص 124.
3- السابق، ص 138.
4- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب2/203.
* فعل التعجب
يقول الرضيّ(1): "وقال الفراء، وابن درستويه: (ما استفهامية)، ما بعدها خبرها، وهو قويّ من حيث المعنى لأنه، كأنّه جهل سببه فاستفهم عنه، وقد يستفاد من الاستفهام معنى التعجب، نحو قوله تعالى(2): "وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الّدين"، و: أتدري مَن هو؟ و: لله درُّه أيَّ رجل كان؟، قال: [الطويل]
وَلِلهِ عَيْنًا حَبْتَر أَيُّمَا فَتَى (3)
قيل: مذهبه ضعيف، من حيث إنه نَقْل من معنى الاستفهام إلى معنى التعجب، فالنقل من إنشاء إلى إنشاء مما لم يثبت".
خامسًا- الضرورة
فالضرورة مشتقة من الضرر وهو النازل مما لا مدفع له(4)، و يراد بها في عرف النحاة(5): "اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف، يشبهونه بما ينصرف من الأسماء، لأنها أسماء كما أنها أسماء وحذف ما لا يحذف، يشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفًا". فالضرورة خاصة بالشعر، إذ يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره.
وقد ربط الرضيّ الضرورة بما يحوج إليها من سلامة الوزن والقافية، بتأكيده غير مرة أنه مع الضرورة لا يرتكب إلا قدر الحاجة، وقال في مكان آخر(6): "إذا اضطر إلى تنوين المنادى المضموم، اقتصر على القدر المضطر إليه من التنوين".
---------------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 5/250.
2- سورة الإنفطار، آية: 17.
3- ديوان الراعي النميري، تحقيق راينهرت فاييرت، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، رقم البيت(17)،ص 1، صدر البيت: فَأَوْمَأْتُ إيماءً خَفِيًا لِحَبتَرَ.من قصيدة مطلعها: عجبت من السّارين والريح قرّ إلى ضوء نار بين فردة والرّحى.
4- الجرجاني، شريف. التعريفات، ص 138.
5- سيبويه.أبو بشر بن عثمان. الكتاب. ط1. تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل: بيروت (د ت)،1/ 26.
6- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 1/350 .
"وقال: [الوافر]
سـَلامُ اللهِ يـا مَطَرٌ عـليها ولَيسَ عَليكَ يا مَطَرُ السَّلامُ(1)
وعند يونس يُنصب رجوعًا به إلى حركته الإعرابية لمّا اضطر إلى إزالة البناء بتنوين التمكن(2)" "فنصّ الرضيّ على أن يكتفي من الضرورة بما يفي باستقامة صنعة الشعر يدل على ربطه إياها بما لها من أثر في استقامة الوزن والقافية".(3) وهو عند سيبويه(4) محمول، أيضا، على الضرورة.
المبحث الثالث- تأويل التراكيب النحوية
يقال(5): "أوَّلَ الكلامَ تأويلا وتأوّله دَبَّره وقدَّره وأوَّله وتأوّله فَسَّره" بالتدبر والتقدير والتفسير، فالتفسير يقترب معناه اللغوي من التأويل ودليل ذلك" الفَسْرُ: البيان. فسر الشيءَ يفسِرُه، بالكسرة وتفسرُه بالضم، فسْرًا وفَسَّرَهُ، والتفسير مثله. و يقول ابن الأعرابي(6): التفسير والتأويل والمعنى واحد". وفي الاصطلاح(7): "إنما يسوغ التأويل إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأول".
-------------------------
1- ديوان الأحوص الأنصاري، تحقيق سعدي ضنّاوي. ط1، دار صادر: بيروت،1998م. ص 189.
2- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 1/350.
3- فلفل، محمد عبدو. اللغة الشعرية عند النحاة دراسة للشاهد الشعري والضرورة الشعرية في النحو العربيّ. ط1، دار جرير: عمان،2007م، ص 128.
4- سيبويه، الكتاب2/202.
5- ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب. ط1. تحقيق أمين عبدالوهاب ومحمد العبيديّ.دار إحياء التراث العربيّ:بيروت،1995. مادة ( أول).
6- انظر السابق مادة ( فسر)
7- السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين. المزهر في علوم اللغة وأنواعها.تحقيق محمد أحمد بك وآخرون، منشورات المكتبة العصرية: بيروت، 1986، 1/258 .
وقد ذكر محمد عيد تعريفًا آخر للتأويل بأنه(1): "صرف الكلام عن ظاهره إلى وجوه خفية تحتاج إلى تقدير وتدبر، وأنّ قد أولوا الكلام وصرفوه عن ظاهره لكي يوافق قوانين النحو وأحكامه".
"كما أنّ كلّ من يترسم آراء الخليل التي ساقها سيبويه(2) في (كتابه) يلحظ كثرة تحليل الخليل للعبارات، وكثرة تخريجه لها إذا اصطدمت بالقواعد، فكلّما اصطدم شاهدٌ نطقت به العرب بقاعدة نحوية استظهرها، عمل على أن يجد تأويلا مناسبا، بحيث لا يتعارض معها، كما عرف بفتحة الإعراب ما يمكن تسميته بالاحتمالات الإعرابية الممكنة في المقال الواحد، نحو: (مررت به المسكينَُِ)، فالجر على البدل قبله، والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، أو مبتدأ مؤخر خبره الجملة الفعلية، والنصب بإضمار فعل على معنى التوهم".
فالاحتمالات الإعرابية تعد جزءًا مهما في تأويل ما خرج على القواعد التي أصّل لها النحاة. فالتأويل – كما يرى شوكت درويش(3)- "رد الآبدة إلى أحد الأصول الثابتة بواسطة التقدير، أو التضمين، أو التفسير أو السبك، أو الفك*".
----------------------
1- عيد، محمد.أصول النحو العربيّ في نظر النحاة ورأي ابن مضاء في ضوء علم اللغة الحديث. عالم الكتب:القاهرة ، 1973، ص 185.
2- صلاح الدين، ملاّوي." قراءات على هامش النظرية الخليلية ( بحث في المقولة العاملية)". مجلة المخبر، وحدة التكوين والبحث في نظريات القراءة ومناهجها – جامعة بسكرة،العدد الأول، 2009، ص 130.
3- درويش، شوكت. الرخصة النحوية، ص52.
* فالتقدير يكون في (الحذف و الزيادة والإضمار والقلب والنقل والإعلال والإبدال والفصل والتقديم والتأخير)، والتضمين يكون بـ (الاعتداد بالمعنى دون المبنى، والتفسير)، والفك بـ (اعتبار (إذما) الشرطية مكونة من إذ الظرفية وما الزائدة للتأكيد)، والسبك يكون في (اعتبار أن والفعل في قوة المصدر، وسموها مصدرا مؤولا). للاستزادة انظر درويش شوكت، الرخصة النحوية، ص 52-53.
أولا- التأويل بالقياس
فالمواقف التي دارت بين الحضرمي والفرزدق فتحت بابًا للنحاة فيما بعد بأن يتأولوا، وتتضح هذه المواقف بالأمثلة الآتية، كما ذكرها عفيف دمشقية(1):
أ- أنشد الفرزدق قصيدته التي مطلعها: [الطويل]
عَزَفْتَ بأعشاشٍ ومَا كِدْتَ تَعْزِفُ وَأَنكَرْتَ مِنْ حَدَراءَ ما كنتَ تَعْرِفُ(2)
فلما وصل إلى البيت الذي يقول فيه: [الطويل]
وَعَضُّ زَمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لمْ يَدَعْ مِنَ المالِ إلاّ مُسَحَتا أوْ مجلفٌ(3)
اعترض عليه الحضرمي(4) بأن القياس النحوي يأبى رفع "مجلف"، وسأله منكرا: على أي شيء رفعت مجلفا؟ وأجابه الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا.
ب- وأنشد الفرزدق في مديح يزيد بن عبد الملك: [البسيط]
مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشّأمِ تَضْرِبُنا بحاصِبٍ كنَديفِ القُطنِ مَنْثُورِ(5)
عَـلـى عَمَائِمَنا يُـلْقَى، وَأَرْحُلِنَـا عَلى زَوَاحِفَ تُزجى مخها رير(6)
فقال الحضرمي: أسأت، إنما هو "مخها رير" وكذلك قياس النحو في هذا الموضع. وبناء على إلحاح الحضرمي اضطر الفرزدق إلى تغيير الشطر الثاني فأصبح: "على زواحف تزجيها محاسير".
---------------------
1- دمشقية، عفيف.تجديد النحو العربيّ. معهد الإنماء العربيّ: بيروت ، 1981، ص 120-121 .
2- ديوان الفرزدق، دار صادر: بيروت، المجلد الثاني، قصيدة ( عزفت بأعشاش)، ص 23.
3- السابق ، المجلد الثاني، ص 26. وقد ورد الشطر الثاني في الديوان على النحو الآتي: من المال إلا مسحتا أو مُجَرِّفُ
4- دمشقية، عفيف.تجديد النحو العربيّ. ص 121- 122.
5- ديوان الفرزدق، المجلد الأول، البيت الثالث، ص 213.
6- السابق نفس الصفحة، البيت الرابع. وقد ورد الشطر الثاني في الديوان على النحو الآتي: عَلى زَوَاحفَ تُزْجيها مَحَاسير.
ج- تضايق الفرزدق من تصدي الحضرمي المستمر له فهجاه في قصيدة جاء خلالها هذا البيت(1): [الطويل]
فَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللهَِ مُوْلَى هَجَوته وَلكنَّّ عَبْدَاللهِ مَوْلَى مواليا(2)
فما كاد النحوي يسمعه حتى قال: "أخطأت أخطأت، إنما هو مولى موال". وقد كان الفرزدق على حق حين قال للحضرمي "عليكم أن تتأولوا ". فالمواقف السابقة تشير إلى أن الحضرمي كان يتصدى فيها لما كان يعتبره "سقطات" لغوية من الفرزدق.
ثانيًا- التأويل بالحمل على المعنى
من أساليب العربيّة أن يحمل المتكلم بعض ألفاظه على معناها، فيعاملها بما يستحق في تلك الحال من حيث عود الضمائر والصرف وعدمه وغير ذلك.(3) يقول ابن جني في ذلك(4): "واعلم أن العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ؛ كقولك: (شكرت من أحسنوا إليّ على فعله) ولو قلت: (شكرت من أحسن إليّ على فعلهم) جاز. فلهذا ضعف عندنا أن يكون (هما) من (مصطلاهما) في قوله: [الطويل]
كُمَيْتَا الأَعَالي جَوْنَتا مُصْطَلاهُما(5)
عائدا على الأعالي في المعنى؛ إذ كانا أعليين اثنين؛ لأنه موضع قد تُرِك فيه لفظ التثنية حملا على المعنى؛ لأنه جعل كل جهة منهما أعلى، كقولهم: (شابت مفارقه)، و(هذا بعير ذو عَثَانين) ونحو ذلك، أو لأن الأعليين شيئان من شيئين. فإذا كان قد انصرف عن اللفظ إلى غيره ضعفت معاودته إياه، لأنه انتكاث وتراجع، فجرى ذلك مجرى ادّغام الملحق وتوكيد ما حُذِف".
----------------------
1- دمشقية، عفيف. تجديد النحو العربيّ، ص 122.
2- ينسب هذا البيت للفرزدق، ولم أعثر عليه في ديوانه.
3- السبيهين،محمد بن الحسن.مسائل الخلاف النحوية في ضوء الاعتراض على الدليل النقلي.ط1.جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،2005م، ، ص427 .
4- ابن جني، أبو الفتح عثمان. الخصائص. تحقيق محمد علي النجار، دار الكتاب العربيّ: بيروت، 2/420-421 .
5- ديوان الشماخ بن ضرار الذبياني، تحقيق صلاح الدين الهادي، دار المعارف: مصر، قصيدة رقم 17، البيت الثاني، ص 308. والشطر الأول من القصيدة : أَقامت على رَبْعيهما جَارَتَا صَفًا.
فالحمل على المعنى كثير في كلامهم، إذ تداوله النحاة المتقدمون والمتأخرون، ومن مسائل الحمل على المعنى، قول سيبويه(1): "قال الشاعر، وهو رجل من بني كلاب [الطويل]
وإنّ كِلابًا هذه عَشْرُ أبْطُنٍ وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِها العَشْرِ(2)
فذكّر العدد مع المعدود المذكر(3)، وكان حقّه أن يقول في العدد (عَشْرة)، ولكنّه خالف في ذلك ذهابًا إلى المعنى؛ لأنه حَمَل المعدود (أبطن) على معنى (قبائل)، وأبان عن ذلك في عجز البيت بقوله: "من قبائلها العشر". ومن ذلك - أيضا – ، قول الرضيّ(4): "وإنما جاز (مررت برجل قائم أبواه لا قاعِدَيْنِ)، وإن لم يكن في (قاعدَيْنِ) ضمير راجع إلى الموصوف، حملا على المعنى، لأن المعنى: (لا قاعد أبواه). فهو في حكم ما يثبت فيه الضمير، وذلك لأن الضمير المستكنّ المثنىّ في (قاعدين) راجع إلى المضاف مع المضاف إليه، أعني (أبواه)، والمضاف إليه ضمير راجع إلى الموصوف".
ثالثًا- التأويل بالحمل على اللفظ
من المسائل التي يجوز فيها الحمل على المعنى، و الحمل على اللفظ مسألة تنكير (كم)، من ذلك قول الرضيّ(5): "و(كم) في حالتيها، مفرد اللفظ، مذكر، قال الأندلسي، فيجوز الحمل على اللفظ، نحو: (كم رجلا جاءك) مع أن المسئول عنه مثنى أو مجموع. ويجوز الحمل على المعنى، نحو: (كم رجلا جاءاك أو جاؤوك)، وكذا الخبرية".
-------------------------
1- سيبويه،الكتاب. 3/565 .
2- قائل هذا البيت هو نواح الكلابي كما ورد في حاشية (الكتاب) لسيبويه، انظر 3/565 .
3- سيبويه، الكتاب3/ 565
4 – شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/73 .
5- السابق 4/102.
وقوله(1): "وإلحاق التاء بـ (كلا) مضافًا إلى مؤنث أفصح من تجريده، نحو: (كلا المرأتين). ويجوز الحمل على اللفظ مرة، وعلى المعنى أخرى".
رابعًا- التأويل بالتقديم والتأخير
يراد بالتقديم والتأخير أن تخالف عناصر التركيب الترتيب الأصلى في السياق فيتقدم ما الأصل فيه أن يتأخر ويتأخر ما الأصل فيه أن يتقدم. ومن ذلك قول ابن جني(2): "أما قوله: [الوافر]
أَلا يا نَخْلَةً مِنْ ذاتِ عِرْقٍ عَلَيْكِ وَرَحمةُ اللهِ السّلامُ(3)
فحملته الجماعة على هذا، حتى كأنه عندها: (عليك السلام ورحمة الله). وهذا وجه؛ إلا أن عندي فيه وجها لا تقديم فيه ولا تأخير من قِبل العطف. وهو أن يكون (رحمة الله) معطوفا على الضمير في (عليك). وذلك أن (السلام) مرفوع بالابتداء، وخبره مقدّم عليه، وهو (عليك) ففيه إذًا ضمير منه مرفوع بالظرف، فإذا عطفت (رحمة الله) عليه ذهب عنك مكروه التقديم. لكن فيه العطف على المضمر المرفوع المتصل من غير توكيد له، وهذا أسهل عندي من تقديم المعطوف على المعطوف عليه".
* أصل المبتدأ التقديم
و قد فسر الرضيّ قول ابن الحاجب(4): "وأصل المتبدأ التقديم، ومن ثمّ جاز (في داره زيد)ٌ، وامتنع
صاحبُها في الدار)". على النحو الآتي(5): "قوله: "ومِن ثَمّ" أي ومن وجهة كون أصل المبتدأ التقديم جازت هذه المسألة، يعني إنْ قيل لِمَ جازت وفيها إضمارٌ قبل الذكر؟"
----------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب1/82.
2- ابن جني، الخصائص2/386.
3- ديوان الأحوص الأنصاري، ص 189.
4- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 1/223.
5- السابق، 1/224.
ويقول الرضي(1):"قلنا: لأن أصل المبتدأ التقّديم، فالتقّدير (زيد في داره)، فالمعود إليه بعد الضّمير لفظًا وقبله تقديرًا. قوله: "وامتنع صاحبُها في الدَّار" امتناع هذه أيضًا معلَّلٌ بكون أصل المبتدأ التقّديم، فيكون الضمير في (صاحبها) راجعًا إلى الدّار المؤخر عن صاحبها لفظًا وأصلا، فيكون ضميرًا قبل الذكر فلا يجوز. ومن ثمّ جوّز: (ضَرَب غلامهُ زيدًا) ينبغي أن يجوّز هذا، لأن طلب المبتدأ لخبره كطلب الفعل للمفعول بل أشدّ".
وينتقد الرضيّ ابن الحاجب على عدم اهتمامه في ذكر المواطن التي يجوز فيها التقديم والتأخير، وتنكير المبتدأ، بقوله(2): "وكان ترتيب الكلام يقتضى أن يذكر المصنّف ههنا المواضع التي يجب فيها تقديم المبتدأ، والمواضع التي يجب فيها تأخيره، ثم يذكر المواضع التي يصح فيها تنكير المبتدأ".
فالترخص في قرينة الرتبة – كما يرى محمد حماسة – يعد ملمحا من الملامح التي سمحت به العربيّة، إذ يقول(3): "إن التقديم والتأخير ملمح من الملامح التي سمحت به، ومهدت له العلامة الإعرابية وحرية الرتبة في كثير من الأبواب النحوية، وقد اكتسبت العربيّة بالتقديم والتأخير مرونة وضربا من التوسع في الكلام، لأن في كلامهم الشعر المقفى والكلام المسجع، وهما في حاجة إلى لون من التصرف في القول يُحكم الصنعة مع الدلالة في الوقت نفسه على ضروب أُخر من المعاني لا يفيدها الترتيب المألوف".
--------------------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 1/224.
2- السابق، نفس الصفحة.
3- عبد اللطيف، محمد حماسة.العلامة الإعرابية في الجملة بين القديم والحديث. دار غريب: القاهرة،2001، ص 324.
المبحث الرابع – التَداوليّة
لقد ارتبط تحديد التعريف الاصطلاحي للتَداوليّة(1) دائما بالتمييز بينها وبين الدلالة من ناحية، والتمييز بينها وبين النحو من ناحية أخرى، وقد بدأ هذا الارتباط من البدايات الأولى التي عرض فيها موريس سنة (1938م) تعريف التَداوليّة مقارنًا بالنحو والدلالة، ثم توالت الأبحاث والدراسات التي اتخذت من تمييز موريس منطلقًا كما اتخذت من تعريفه منطلقا لبناء التعريف الاصطلاحي على هذا التمييز.
فقد ميّز بين مختلف الاختصاصات التي تعالج اللغة، وهي(2): علم التراكيب (وبالإجمال علم النحو الذي يقتصر على دراسة العلاقات بين العلامات)، وعلم الدلالة (الذي يدور على الدلالة التي تتحدد بعلاقة تعيين المعنى الحقيقي القائمة بين العلامات وما تدل عليه)، وأخيرًا التَداوليّة (تعنى بالعلاقات بين العلامات ومستخدميها).
والذي استقر في ذهن موريس(3) أنّ التَداوليّة تقتصرعلى دراسة ضمــائر المتكلم والخطاب وظرفي المكان والزمان (الآن، هنا) والتعابير التي تستقي دلالتها من معطيات تكون جزئيًا خارج اللغة نفسها، أي من المقام الذي يجري فيه التواصل.
و تذكر فرانسواز تعريفًا بدائيًا للتَداوليّة بأنّها(4): "علم يعالج علاقة العلامات بمؤولاتها". وهذا التعريف نجده متداولا عند الكثيرين.
------------------------------
1- بلبع،عيد."التَداوليّة البعد الثالث في سيميوطيقا موريس" مجلة فصول،العدد 66(2005)، ص 40.
2- السابق، نفس الصفحة.
3- روبول،آن،وجاك موشلار.التَداوليّة اليوم علم جديد في التواصل.ط1.ترجمة سيف الدين دغفوش.دار الطليعة :بيروت،2003، ص29.
4- أرمينكو، فرانسواز.المقاربة التَداوليّة. (د ط) ترجمة سعيد بحيري.مركز الإنماء القومي. (دت)، ص 29.
ومن التعريفات التي رصدها (فيليب بلانشيه) في كتابه "التَداوليّة من أوستن إلى غوفمان" ما يلي(1): ما ورد في الموسوعة الكونيةEncyclopedia Universalis) ) بـأنّ التَداوليّة: "هي مجموعة من البحوث المنطقية اللّسانية وهي كذلك الدراسة التي تعنى باستعمال اللغة، وتهتم بقضية التلاؤم بين التعابير الرمزية والسياقية والمرجعية والمقامية والحدثية البشرية"، و التعريف الذي أتى به (أ . م ديلر و ف . ريكاناتي): "أنّها تمثل دراسة تهتم باللغة في الخطاب، وتنظر في الوسميات الخاصة به، قصد تأكيد طابعه التخاطبي". وما أتى به (ف. جاك): "دراسة للغة بوصفها ظاهرة خطابية تواصلية اجتماعية، في نفس الوقت".
وأخيرًا ما أتى به (ل. سفز)(2): "هي الدراسة أو التخصص الذي يندرج ضمن اللّسانيات، ويهتمّ أكثر باستعمال اللغة في التواصل".
نلحظ من التعريفات التي رصدها بلانشيه في كتابه المشار إليه سابقًا ما يلي:
أولا- أنّ التَداوليّة معنية بدراسة اللغة في الاستعمال،
ثانيًا- تركز على دراسة اللغة في الخطاب مع مراعاة القيم التواصلية والخطابية،
ثالثًا- وتهتم بقضية التلاؤم بين التعابير الرمزية والسياقية والمرجعية والمقامية والحدثية البشرية.
ورصد محمود نحلة في كتابه "آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر" عدة تعريفات للتَداوليّة، وهي(3): "دراسة جوانب السياق Aspects of context التي تشفر شكليا في تراكيب اللغة وهي عندئذ جزء من مقدرة المستعمل" و كذلك هي: "فرع من علم اللغة يبحث في كيفية اكتشاف السامع مقاصد المتكلم أو هو دراسة معنى المتكلم".
-------------------------
1- بلانشيه،فيليب. التَداوليّة من أوستن إلى غوفمان.ط1.ترجمة صابر الحباشنة .دار الحوار:سوريا،2007.ص18-19.
2- السابق، نفس الصفحة.
3- نحلة، محمود أحمد. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر. دار المعرفة الجامعية، 2002، ص 12.
ويذكر محمود نحلة(1): "أنّ بعض الباحثين رأى أن للمعنى مستويات ثلاثة: المعنى اللغوي، وهو المعنى المأخوذ مباشرة من دلالة الكلمات والضمائر والجمل، ومعنى الكلام وهو المعنى السياقي، ثم المعنى الكامن أو الموجــود بالقوة وهو معنى المتكلم. ويعرف التَداوليّة بأنّها(2): "دراسة اللغة في الاستعمال أو فــي التواصل". لأنه يشير إلى أن المعنى ليس شيئًا متأصلا في الكلمات وحدها، ولا يرتبط بالمتكلم وحده، ولا السامع وحده، فصناعة المعنى تتمثل في تداول اللغة بين المتكلم والسامع في سياق محدد (مادي ،اجتماعي، لغوي) وصولا إلى المعنى الكامن في كلام ما".
فالتعريفات التي رصدها محمود نحلة- في كتابه السابق الذكر- تتفق في جانب منها مع التعريفات التي رصدها بلانشيه، بأنّ التَداوليّة "دراسة اللغة في الاستعمال" وهذا ما نحاول تبنيه في بحثنا من بدايته إلى نهايته، بالإضافة إلى كل من التعريف الذي رصده محمود نحلة، وهو: "فرع من علم اللغة يبحث في كيفية اكتشاف السامع مقاصد المتكلم أو هو دراسة معنى المتكلم" والتعريف الذي ذكره كل من (جيفري ليش) و(جيني توماس) بأنّها(3): "دراسة المعنى في الألفاظ اللغوية عند مستخدميها ومفسريها".
ويرى مسعود صحراوي أنّ التَداوليّة(4): "علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال، ويدمج، من ثمَّ، مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة التواصل اللغوي وتفسيره".
----------------------
1- نحله، محمود. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، ص13.
2- السابق، ص14.
3- ليش،جيفري،وجيني توماس."اللغة والمعنى والسياق:البراغماتية ( المعنى في السياق)". الموسوعة اللغوية. ج1.كلية اللغات:جامعة الملك سعود، ص 173.
4- صحراوي، مسعود. التَداوليّة عند العلماء العرب.ط1.دار الطليعة :بيروت،2005،ص16.
و يذكر استيتية تعريفًا لـ ( Stephen Levin Son )(1): "هي تلك العلاقات المقننة القائمة بين اللغة والسياقات التي تستعمل فيها، أو العلاقات التي تشير إليها التراكيب اللغوية".
فالتَداوليّة قائمة على دراسة اللغة في الاستعمال. بغض النظر عن ترجمة محمد علي(2) الذي يرى أن مصطلح (Pragmatics) ذو أصل إغريقي يعني علم الاستعمال، ولذا يمكن ترجمته حرفيًا بعلم الاستعمال، وهو يرى أن ترجمته بعلم التخاطب أكثر قبولا من علم الاستعمال مستندًا في ترجيح ترجمة (Pragmatics) بعلم التخاطب على غيره من الترجمات بتعريف بيتر فراندي له، حيث يقول: "البراغماتية دراسة اللغة المستعملة في التخاطب وأصول الاستعمال المرتبطة بها".
فمحمد علي(3)يرى أن مصطلح Pragmatics)) يطلق على الدراسة التي تعنى بالمعنى في السياقات الفعلية للكلام، وهو ما يتفق مع معناه الحرفي وهو "علم الاستعمال". فالاستعمال في التراث البلاغي والأصولي يطلق على النشاط الذي يقوم به المتكلم في عملية التخاطب.
-------------------.
1- استيتيه، سمير شريف.منازل الرؤية منهج تكاملي في قراءة النص. ط1.دار وائل للنشر:عمان،2003،ص 108.
2- يونس، محمد محمد علي."تصنيف المعنى بين ابن الحاجب وبول غرايس*"، أبحاث اليرموك، سلسلة الآداب واللغويات، ص199 من حاشية البحث.
3- يونس، محمد علي. تصنيف المعنى بين ابن الحاجب وبول غرايس، ص 199من حاشية البحث.