آليات التصنيف اللغوي بين علم اللغة المعرفي والنحو العربيّ
لطيفة إبراهيم النجار
أستاذ مساعد ، قسم اللغة العربية ، جامعة الإمارات العربية المتحدة،
العين ، ص.ب 17771
( قدم للنشر في 20/9/1423هـ ؛ وقبل للنشر في 23/3/1424هـ)
ملخص البحث. " يعدّ " التصنيف" إجراءً أساسياً في أي علم من العلوم، وهو في العلوم اللغوية من أهم الأدوات المنهجية التي يعتمدها الباحثون في وصف اللغة بمستوياتها المختلفة، ويعدّ في الوقت نفسه جزءا أساسيا من التفكير الإنساني، وله دور بارز في عمليات الإدراك، وفي فهم دلالات الأشياء والكلمات على حد سواء. وقد اهتم الدارسون بدءا بفلاسفة اليونان بوضع ضوابط تضبط آليات التصنيف بحيث تضمن صحة النتائج المتوخاة. وقد بقيت هذه الضوابط من المسلمات التي لم يلتفت إليها أحد للنظر في مدى صحتها وواقعيتها. إلا أنّ علم اللغة قدم من خلال الأبحاث والتجارب الميدانية التي تدرس آليات التفكير عند الإنسان أدلة قوية على أنّ الضوابط التي اعتمدها الدارسون في ضبط عمليات التصنيف لا تمت بصلة إلى ما يحدث واقعيا في ذهن الإنسان حين يقوم بتصنيف الأشياء، وأنّ عملية التصنيف في الذهن البشري تخضع لضوابط مختلفة تماما عن تلك التي يتمسك بها أتباع المدرسة الأرسطية.
وتأتي الضوابط التي يضعها علم اللغة المعرفي لآليات التصنيف عند الإنسان مشابهة إلى حدّ كبير ما اعتمده نحاة العربية في وصفهم الظاهرة اللغوية وتقعيد قواعدها. ولا يقول البحث بأسبقية النحاة في ذلك ولا يذهب إلى ذلك. ولكنه يقدم نتائج ما توصل إليه الباحثون في مقابل ما صرّح به نحاة العربية حينا أو صدروا عنه أحيانا كثيرة.
مقدمة
تختلف النظريات اللغوية الحديثة بعضها عن بعض فيما تقدمه من تصورات حول اللغة باختلاف أهدافها ومنطلقاتها النظريّة والمنهجيّة ، وهو أمر نستطيع أن نلحظه بسهولة من خلال قراءة تاريخ علم اللغة الحديث منذ سوسير حتى الآن .
ويأتي مفهوم "استقلالية النظام اللغوي" في مقدمة المفاهيم التي دار حولها نقاش واسع عكس اختلافا في الرؤية عند كثير من العلماء والباحثين في الدراسات اللغوية. وهو مفهوم منبثق بالدرجة الأولى من التصور العام الذي تقدمه هذه المدرسة أو تلك عن اللغة أو المعرفة اللغوية بشكل عام.
كان سوسير، رائد الدراسات البنيوية، أول من نادى باستقلالية النظام اللغوي حين جعل غاية علم اللغة أن يدرس "اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها"، وحين قدم تصوره عن اللغة بأنها نظام قائم له قوانينه الخاصة وبنيته الذاتية التي يسعى علم اللغة إلى وصفها. ولذلك كانت العناصر اللغوية (الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية ) عنده تكتسب قيمتها من خلال علاقتها بباقي العناصر في النظام اللغوي، أي من خلال موقعها في النظام. فسوسير " يجرد اللغة من واقعيتها وماديتها، يجرد اللغة من الذوات المتكلمة وشروط استعمالها ( ). ولذلك كان يؤكد مرارا على أنّنا "يجب أن نحصر اهتمامنا في ميدان اللغة فقط وأن نتخذها قاعدة للحكم على جميع مظاهر الكلام الأخرى( ).
وانطلاقا من هذه الرؤية ركزت الدراسات البنيوية وبقوّة على ضرورة الكشف عن القوانين التي تحكم النظام اللغوي ، وهي قوانين ، كما يراها أصحاب هذا الاتجاه ، داخلية ذاتية مستقلة عن أيّ مؤثر خارجي غير لغوي.
ويعدّ بلومفيلد ومن تبعه من اللغويين من أبرز من حاول التمسك بهذا المبدأ، حتى إنه كان يرى أن دراسة المعنى هي أضعف نقطة في الدراسات اللغوية؛ لأنه العنصر الذي لا يمكن وصفه ضمن نظام مغلق محكم معتمدا مبادئ النظرية السلوكية في علم النفس التي كان يتبنّاها( ).
وبقي القول باستقلالية النظام اللغوي قائما في النظرية التوليدية التحويلية، ولكنه اكتسب تصورا جديدا ؛ إذ أصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا بمستخدم اللغة غير مفصول عنه، وأصبح غاية النظرية اللغوية أن تصف القدرة اللغوية التي تمكّن ابن اللغة من فهم وإنتاج ما لا يعد من الجمل الصحيحة التي لم يسمعها من قبل. هذه القدرة اللغوية موجودة في الدماغ البشري، وعليه فإن " النظرية اللغوية نظرية ذهنية بالمعنى التقني لهذه الكلمة ، ما دامت ترتبط بالكشف عن واقع ذهني يكمن تحت السلوك الفعلي( ).
ولكن اللغة بقيت نظاما مستقلا عند تشومسكي؛ لأنه يرى القدرة اللغوية الموجودة في ذهن المتكلم تمثل مكونا من مكونات الدماغ مستقلا من المكونات الأخرى غير اللغوية التي تتحكم في الإدراك والتذكر والمعرفة، وله بنيته المميزة وقوانينه الخاصة التي تهدف النظرية اللغوية إلى الكشف عنها. فالدماغ البشري يشبه الجسم البشري الذي يتكون من مجموعة من الأجهزة تعمل وفاق نظامها الخاص ووظائفها المنوطة بها في تناغم مع بعضها البعض، فهو يتكون من مجموعة من المكونات التي على الرغم من تفاعلها مع بعضها البعض تعمل وفق آلية خاصة بها ( ).
فالنظرية اللغوية عند تشومسكي تسعى إلى اكتشاف المبادئ العامة التي تشكل بنية النظام اللغوي ، الذي هو في النهاية نظام إدراكي خاص موجود في الدماغ ، وهذه المبادئ كما يرى تشومسكي لا يمكن تعميمها ، فهو يتساءل في هذا الشأن ثم يجيب بما يعكس القول بالاستقلالية في النظام اللغوي ، يقول " ويمكننا حينئذ أن نسأل عما إذا كان من الممكن تعميم هذه المبادئ على حالات أخرى، أو أن نسأل عما إذا كان يمكن لمدخل ما يحقق قدرا من النجاح التفسيري في حالة اللغة الإنسانية أن يفي على الأقل بالغرض ذاته بوصفه نموذجا موحيا بالنسبة لصور من البحث شبيهة في المجالات الأخرى. ولكن اعتقادي الخاص أن المبادئ لا يمكن تعميمها ، أي أنها في نواح حاسمة خاصة بملكة اللغة ، وإن كان من الممكن أن يكون المدخل موحيا في الحقيقة بالنسبة للأشياء الأخرى( ).
وهو يرى أن النظرية اللغوية تحتاج إلى نوع من الأمثلة Idealization وإسقاط العوامل غير اللغوية من عملية الوصف والتحليل للوصول إلى تلك المبادئ المضمنة في الدماغ البشري و تشكل في مجموعها القدرة اللغوية للفرد ؛ فاللغة – في واقع الاستعمال- غير نقية “impure” بمعنى أنها تتداخل مع عناصر من قدرات أخرى موجودة في الدماغ؛ فالقدرة اللغوية Linguistic Competence، في واقع الاستعمال ، تتفاعل مع نوعين آخرين: "القدرة البراغماتية" Pragmatic Competence التي تمثل معرفة الشروط الخاصة باستعمال التراكيب بحسب الغايات المختلفة ، والقدرة التصورية Conceptual Competence التي تتضمن المعرفة الإنسانية بشكلها الواسع والمعتقدات التي يحملها الفرد عن الكون والعالم( ).
علم اللغة المعرفي Cognitive Linguistics
يعد علم اللغة المعرفي من العلوم اللغوية الحديثة نسبيا ، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالدراسات النفسية التي تهتم بعمل الدماغ ومتابعة العمليات العقلية المختلفة التي تتصل بالمعرفة الإنسانية والإدراك بشكل عام.
وأصحاب هذا الاتجاه في دراسة اللغة ، على اختلاف منطلقاتهم ، لا يقبلون القول باستقلالية النظام اللغوي ؛ فهم يرون أنْ لا انفصال بين المعرفة اللغوية والتفكير بشكل عام( ). وعليه فهم يعارضون ما يذهب إليه تشومسكي وأتباعه من أن تطور اللغة عند الطفل يأتي كليا من نموذج نحوي مستقل في الدماغ يبنى بالكامل بتعليمات خاصة به( ).
فالمعرفة اللغوية ، كما يرى هؤلاء ، جزء من الإدراك العقلي الذي لا يميز بين المعلومات اللغوية والمعلومات غير اللغوية، والذي يتأثر ، وبقوة ، بمحيط الإنسان وتجاربه اليومية المختلفة؛ فالعمليات العقلية التي تتحكم في التفكير الإنساني وفي تكوين المعرفة بشكل عام هي نفسها التي تتحكم في المعرفة اللغوية وفي تشكيل البنية اللغوية العامّة بمستوياتها المختلفة. فهناك " مستوى واحد تعالج فيه المعلومات اللغوية والمعلومات الأخرى الحركية والبصرية والسمعية غير اللغوية للوصول إلى مجموعة من المعلومات لا ينبغي التمييز داخلها بين ما هو لغوي وما هو غير لغوي( ) وهو المستوى الذي يطلق عليه مستوى البنية التصورية conceptual structure ( ).
واللغة لا تنفصل عندهم عن الخبرة الإنسانية التي تشكلها التجربة والتي تؤثر في الطريقة التي ندرك بها الأشياء ونصوغ بها مفاهيمنا المختلفة . والتعبير عن الأشياء والمفاهيم، وهو بعد لغوي، يتأثر، بلا شك ، بكيفية إدراكها. فاللغة ليست مستقلة أو مغلقة على ذاتها ولا يمكن وصف نظامها الداخلي وصوغ قواعده وقوانينه بمعزل من البنية التصورية أو المعرفية التي تؤسس لمبادئ عامة في الخبرة البشرية تؤثر مباشرة في بنية المبادئ اللغوية المختلفة.
والسؤال الذي تتمركز حوله الدراسات في هذا الحقل الجديد هو : أيهما أولى بالبحث : أهو الظاهرة المدروسة ( اللغة مثلا) أم كيف يفهم العقل البشري هذه الظاهرة؟ وهل يمكن لأي ظاهرة أن تنفصل عن آليات إدراكها؟ وهل تؤثر طبيعة الشيء المُدْرَك ( لغوي ، سمعي ، بصري ، لمسي … ) في تشكيل آليات إدراك خاصة به في الدماغ البشري أم أنها آليات واحدة يطبقها الدماغ على الأشياء المدركة على اختلاف طبيعتها؟ وبعبارة أخرى هل الاختلاف في الإدراك اختلاف نوعي تفرضه طبيعة الشيء المُدْرَك أم هي آليات لا يؤثر فيها تغيير الظواهر المدركة؛ لأنها تنطلق من بنية معرفية واحدة ؟
ويخالف أصحاب هذا الاتجاه النظرة التقليدية في الدراسات اللغوية الغربية المنبثقة من الفلسفة الأرسطية التي تهمل الخيال imagination، ولا تضع له دورا أساسيا في عمليات التفكير والإدراك. فالدراسات التقليدية في اللغة والفلسفة وعلم النفس، وهي ما يطلق عليها هؤلاء مصطلح Objectivism، ترى أنّ هناك بنية موضوعية للحقيقة وللعالم الخارجي مستقلة عن معتقدات البشر ، وأنه لابد لكي نصف هذه البنية أن نستعمل التفكير الموضوعي المنطقي الذي ليس للخيال فيه أثر( ).
فهناك بعض المسلمات المتجذرة في الفكر الإنساني وجهت الدراسات التقليدية لاطّراح كثير من العوامل التي لا تتصف بالموضوعية ولا العلمية مثل الخيال والعاطفة وغيرها، فظهر عندنا بعض الثنائيات من مثل : العقل والجسد ، التفكير والخيال ، العلم والفن ، الإدراك والعاطفة ، يتصف العنصر الأول منها بالموضوعية التي تحرص عليها الدراسات التقليدية ، ويتصف الثاني منها بالذاتية التي تسعى هذه الدراسات للتخلص منها واجتنابها قدر المستطاع( ).
ولكنّ الكثير ممن يعملون في حقل علم اللغة المعرفي يرون أننا يجب أن نتجاوز هذه الثنائيات لكي نغني البحث اللغوي والنفسي والعلمي بشكل عام ؛ فالخيال يعد قدرة إنسانية مهمة ذات أثر فاعل وعميق في تشكيل الفهم البشري وفي بناء المعرفة الإنسانية ( )؛ فهو يمثل آلية أساسية من الآليات التي يلجأ إليها العقل البشري لفهم الأشياء من حوله ، ولنقل هذا الفهم إلى الآخرين.
والاستعارة، مثلا، التي تعد في الدراسات اللغوية التقليدية ، خاصية لغوية لا تأثير لها في التفكير أو السلوك " حاضرة في كل مجالات حياتنا اليومية، فهي ليست مقتصرة على اللغة وهي ليست منبثقة من طبيعة النظام اللغوي ، بل إنها توجد في تفكيرنا وفي الأعمال التي نقوم بها أيضا، فالنسق التصوري العادي الذي يُسَيِّر تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس( ). والاستعارات اللغوية "ليست ممكنة إلا لأنّ هناك استعارات في النسق التصوري لكلّ منّا ( ).
فالاستعارات " ليست تزيينا للكلام وليست آليات اتصالية لوصف موضوعات يصعب وصفها باللغة الحرفية. ولكنها تعكس آليات عقلية يستعملها الناس لتمكنهم من تصور مجالات مجردة أو غامضة في المعرفة الإنسانية من مثل الزمن والسببية والاتجاهات المكانية والأفكار والعواطف باستخدامهم تعبيرات من مجالات معرفية محددة ومألوفة عندهم( ).
إنّ رصد العبارات اللغوية التي يتبادلها الناس في مجتمع لغوي معين يشير إلى أنساق تصورية متجذرة في أذهان هؤلاء الناس يصدرون عنها ويتحدثون بها ويفهمونها بشكل تلقائي آلي ، وهي تعكس آليات ذهنية يقوم بها الدماغ لفهم الأحداث والمواقف والأشياء التي تنقل باللغة ، وقد وجد الباحثون أنّ الاستعارة من أهم الآليات الذهنية التي تؤسس للنسق التصوري الإنساني ، ونسوق، لتوضيح هذا البعد في التحليل اللغوي – النفسي ، مثالين من أكثر الأمثلة دورانا في هذا السياق( ) :
أولاً: ما يتعلق بتصورنا عن "الجدال" وبالاستعارة التصورية "الجدال: حرب" التي ينبثق منها عبارات لغوية كثيرة نستخدمها يوميا مثل :
1- لا يمكن أن تدافع عن ادعاءاتك .
2- لقد هاجم كل نقاط القوة في استدلالي.
3- أصابت انتقاداته الهدف .
ثانيا : ما يتعلق بتصورنا عن " الوقت " وبالاستعارة التصورية "الوقت : مال" التي ينبثق عنها عبارات لغوية كثيرة نستخدمها يوميا مثل :
1- إنك تجعلني أضيّع وقتي.
2- هذه العملية ستوفر عليك الوقت.
3- كلفني إصلاح هذه العجلة ساعة كاملة.
ويتبنى هؤلاء وجهة النظر التجريبية experiential view التي تعتمد على أدلة منبثقة من التجربة والملاحظة وتبتعد عن الاعتبارات النظرية الخالصة، وتأتي هذه الأدلة في سياق العديد من الدراسات في مجالات علمية مختلفة ، لكنها تشترك جميعا باهتمامها بدراسة المعنى والتفكير.
وقد كانت هناك ظواهر وموضوعات مختلفة نالت اهتمام الباحثين في هذا المجال وكانت بمثابة تحدٍّ للفكر اللغوي التقليدي بما قدمت من أدلة تجريبية تسائل الكثير من المسلمات العلمية التي تعارف عليها الدارسون لقرون طويلة( )، من مثل التصنيف ، النظام الاستعاري في البنية التصورية، العلاقات المكانية والزمانية في اللغة وعلاقتها بالإدراك ، اكتساب اللغة ، العلاقة بين اللغة والإدراك الحسي .
التصنيف اللغوي Linguistic Categorization
يعدّ التصنيف categorization من أهم الموضوعات التي حازت على اهتمام كبير من قبل أصحاب هذا الاتجاه ؛ فهم يرون أن التصنيف ومنه التصنيف اللغوي Linguistic Categorization من الظواهر الدالّة التي تقدم للباحثين تصورات أساسية عن التفكير والمعرفة واللغة ؛ إذ إننا في حياتنا اليومية نقوم بتصنيف ما لا يعد من الأشياء والأحداث على اختلافها وتنوّعها ، وإننا حين نفعل ذلك ، نقوم ، بلا وعي ، بتطبيق مبادئ تحكي الكثير عن طبيعة إدراكنا للأشياء وتفاعلنا معها( ).
والتصنيف في العلوم اللغوية أساسي لا غنى عنه كما يوضح لابوف قائلا:"إذا كان باستطاعتنا أن نعرّف علم اللغة فهو دراسة الأصناف Categories ، أي دراسة كيف تترجم اللغة المعاني إلى أصوات من خلال تصنيف الحقيقة إلى وحدات منفصلة أو مجموعات من الوحدات( ) لكنّ التصنيف في علم اللغة المعرفي يقوم ، على اختلاف الأنواع والأصناف ، على مبادئ جديدة ، تخالف ، في كثير من جوانبها ، المبادئ التقليدية التي كانت سائدة في الأوساط اللغوية ، والتي تعتمد الفلسفة الأرسطية منطلقا عاما لها ؛ فقد أفرزت الأبحاث والتجارب التي قام بها باحثون في مجال علم النفس نتائج تشير إلى ضعف الأسس العامة للتصنيف في النظرية اللغوية التقليدية ، وتخالف كثيرا من التصورات التي تصف طبيعة الأصناف . وهذا الأمر لم يكن إشكالية حقيقيّة في النظرية التقليدية ؛ فقد كان يُنظَر إلى الأصناف على أنها أوعية مجرّدة Abstract Containers وإلى الأشياء في الكون على أنها عناصر تقع إما داخل الصنف ( الوعاء ) أو خارجه( ).
لقد وجهت نتائج هذه الدراسات الأنظار إلى تناقض واضح بين المبادئ النظرية التي اعتمدها اللغويون والطريقة التي يصنّف بها الناس الأشياء من حولهم ؛ فقد اتّضح، من خلال تجارب مختلفة( )، أن عمليات التصنيف تخضع لمبادئ بعيدة تمام البعد عن تلك التي قعّدتها الفلسفة الأرسطية ، و نوجزها في النقاط التالية( ) :
1- تعرّف الأصناف من خلال مجموعة من الخصائص الجامعة المانعة: ويتبع هذا المبدأ أن العنصر الذي ينتمي إلى أحد الأصناف لابدّ أن تتحقق فيه كل الخصائص التي تعرّف ذلك الصنف .
2- تتّصف الخصائص ، بالنظر إلى الصنف ، بصفة الثنائيّة ( أو النقيض) : بمعنى أنّها إمّا أن تكون عنصرا في تعريف الصنف وإمّا لا ، وأنّ الأشياء إمّا أن تملك هذه الخصائص وإما لا. فليس للخصائص إلا إحدى القيمتين [+] أو [-] ، وليست هناك حالات بينَ بين( ).
3- الحدود بين الأصناف واضحة : إذ لا تداخل بينها ولا غموض ؛ فالصنف يقسم الأشياء في الكون إلى قسمين: قسم ينتمي إليه ، وقسم لا ينتمي إليه ، وليس هناك حالات غامضة أو محتملة .
4- كل العناصر التي تنتمي إلى صنف واحد لها وضع واحد : فليس هناك تدرج في الانتماء إلى الصنف ، وليس هناك عنصر أفضل تمثيلا للصنف من غيره .
ولو أردنا أن نمتحن المبادئ السابقة ببعض الأمثلة الدالّة فإننا سنكتشف أنّها ليست أكثر من افتراضات نظريّة تخالف- في كثير من الأحيان –واقع الأشياء وإدراك الإنسان لهذا الواقع وتفاعله معه ، فعملية التصنيف التي يقوم بها الذهن البشري لا تراعي مثل تلك المبادئ ولا تلتزم بها في الغالب ، وقد تعددت الأبحاث التي ركّزت على الاختلاف بين ما يعتمده الإنسان في إجرائه تصنيفا معينا لبعض الأشياء وما سبقت الإشارة إليه من مبادئ اعتُمِدت في الدراسات اللغوية والنفسية والفلسفية على حد سواء . وتعد الألوان من أكثر الحقول التي درست فأيدت نتائج الأبحاث فيها ما تذهب إليه اللسانيات المعرفية( ). ومن الأصناف التي يُسْتشهد بها في هذا الموضع "الطيور" ، فإننا لو حاولنا أن نضع خصائص جامعة مانعة تعرّف هذا الصنف فإنها – في الغالب – ستكون على النحو التالي( ) :
الخصائص أمثلة من الصنف ( الطيور )
العصفور الحمامة الببغاء النعامة
تبيض + + + + +
وجود منقار + + + + +
وجود جناحين ورجلين + + + + +/-
وجود ريش + + + + +
حجم صغير ووزن خفيف + + +/- +/- -
يستطيع الطيران + + + + -
يغرد / يغني + + + +/- -
أرجل نحيفة وقصيرة + + + +/- -
ذيل قصير + + + +/- -
ولكننا لو نظرنا إلى الكائنات الحيّة التي تنتمي إلى هذا الصنف فإننا سنلاحظ أنَّ ليس كل واحد منها تتحقق فيه كل الشروط السابقة ؛ فالنعامة لا تطير ولكنها تعد من الطيور ، والخفاش يطير ولكنه يصنّف ضمن فئة الثدييات ، وكذلك الشأن في أصناف أخرى كثيرة .
كما أن تأمل الأصناف على اختلافها يجعل الذهن – في الغالب – يتّجه نحو عناصر معيّنة لتمثيلها ؛ إذ قد يكون مستغربا أن نختار البطريق ، مثلا ، ونترك العصفور أو الحمامة للتمثيل على فئة الطيور إذا طلب منا ذلك ، أو أن نختار "الحوت" مثالا على فئة الثدييات . إنّ الموافقة على مضض التي يشعر بها أحدنا عند التمثيل بهذه الأمثلة على الفئتين السابقتين يعدّ مؤشرا يشير إلى آلية معينة يتبعها الدماغ البشري عند تصنيف الأشياء المختلفة المحيطة به .
كما دلّت الأبحاث التي قام بها بعض المهتمين بمثل هذه الدراسات على وجود ما عُرِف - فيما بعد- بالتباين asymmetry ضمن بنية الصنف الواحد ، فالعناصر التي تنتمي إلى صنف واحد ليست متماثلة في امتلاك الخصائص التي تعرّف ذلك الصنف؛ إذ يصلح بعضها أن يكون مثالا جيداً دالاًّ ، بينما يعد البعض الآخر مثالا سيئا لا يعرّف الصنف تمثيلا دقيقا.
ومن الأمثلة المشهورة التي أصبحت منطلقا أوليا للدراسات في هذا المجال ، وخاصة في البحث في دلالات الكلمات المثال الذي استخدمه فتغينشتاين Wittgenstein للتدليل على ضعف المبادئ الأرسطية المتبعة في عمليات التصنيف ؛ فقد ضرب مثلا بكلمة " لعبة g ame" مثل ألعاب الورق ، ألعاب الكرة ، الشطرنج ، الألعاب الأولمبية …الخ وأخذ يتساءل " ما الشيء المشترك بينها كلها ؟ … إنك إن نظرت إليها فلن تجد شيئا مشتركا بينها جميعا … هل كل الألعاب مسلية ؟ … وهل هناك رابح وخاسر دائما ؟ أو هل هناك مسابقة بين اللاعبين؟ في ألعاب الكرة هناك دائما رابح وخاسر ، ولكن عندما يلعب طفل صغير وحده بالكرة فإنّ هذه الميزة تختفي تماما … تأمّل الألعاب التي تتطلب مهارة أو تلك التي تقوم على الحظ ، وتأمل اختلاف المهارة في لعبة ولعبة التنس مثلا … وإذا مضينا قدما في تأمل كل الألعاب فإننا سنلاحظ كيف أنّ التشابهات بينها تبرز وتختفي . إننا نرى شبكة معقدة من التشابهات تتداخل وتتقاطع ، وعليه فإنّ القول بوجود خصائص جامعة مانعة تعرّف الصنف لا يصمد أمام هذا المثال( ) .
وتعدّ الأبحاث والتجارب التي قامت بها إلينور روش Eleanor Rosch من أدلّ الدراسات على وجود ظاهرة التباين ضمن الأصناف على اختلافها وتنوّعها ؛ فقد لوحظ تشابه ردود الفعل عند الأشخاص الذين أجريت عليهم الاختبارات ، فمعظمهم اختار أمثلة بعينها للدلالة على صنف ما ، ومعظمهم اشترك في ترتيب واحد للعناصر ترتيبا تنازليا من المثال الجيّد إلى المثال السيئ ، كما لوحظ أن الوقت الذي يستغرقه أحدهم في الحكم على عنصر ما أنه ينتمي إلى أحد الأصناف يقصر كلما كان هذا العنصر مثالا جيّدا ويطول كلما كان العنصر مثالا سيئا( ).
وقد أيّدت نتائج الدراسات التي أجريت في مجالات أخرى كالتعليم والتذكر ما ذهبت إليه "روش” من وجود بنية غير متماثلة للأصناف ؛ فقد اتّضح أنّ آليات التعلم والتذكر وجمع المتشابه تسجّل مستويات عالية الأداء عندما يتعامل الإنسان مع الأمثلة الجيدة ، بينما يبدأ في التباطؤ والوقوع في الخطأ عندما ننتقل إلى الأمثلة السيئة أو الغامضة( ).
وقد نتج عن القول بعدم التماثل في بنية الأصناف ( ومنها الأصناف اللغوية) اقتراح نموذج آخر بديل عن النموذج المتبنى من النظرية التقليدية ، وهو ما عُرِف فيما بعد بنظرية النماذج الأصلية Prototype Theory التي لاقت اهتماما واسعا ودعما من نتائج الأبحاث التي ذكرنا طرفا منها .
وتقوم نظرية النماذج الأصلية على تصوّر مختلف للأصناف ، إذ ترى أنّ( ):
1- بنية الأصناف قائمة على وجود عناصر مركزية أو نموذجية centeral typical members ، وعناصر أخرى هامشية marginal .
2- بنية الأصناف ليست ثابتة ولا مطلقة ، بل هي متغيرة ؛ إذ إنها تعتمد على نموذج إدراكي مخزون في الدماغ يتأثر بالبنى الثقافية والتجارب الإنسانية المختلفة( ) .
3- الحدود بين الأصناف غير واضحة أو نهائية ، بل هي حدود غائمة أو مبهمة ( fuzzy ) نوعا ما، وقد تتداخل ( كما في : الحوت ، الخفاش، البطريق . أو كما في الأسماء التي أشبهت الفعل ، أو الأفعال التي ضارعت الأسماء ) .
4- لا يشترط أن توجد جميع الخصائص المعرّفة للصنف في جميع العناصر المنتمية إليه ، فبعض العناصر قد تشترك في عدد قليل جدا من الخصائص .
إنّ هذا التصوّر يطرح الشكل القديم للأصناف الذي يضعها في أوعية مجرّدة متجاورة، بحيث لا تتداخل عناصرها ولا تتباين . فهو يقوم على تصوّر الأصناف في شكل دوائر منداحة قد تتجاور وقد تتداخل ، فتتصف العناصر في الدائرة بالتباين ، فما كان قريبا من المركز كان عنصرا مثاليا جيداً ، وما ابتعد عن المركز فقد درجة من الجودة ، وبدأ بفقد بعض خصائص الصنف الذي ينتمي إليه ، وقد يمتلك خصائص من صنف آخر إذا كان عنصرا هامشيا يقع على محيط الدائرة (انظر الشكل التالي ) .
وقد عُرِف هذا التصور بمصطلح البنية الإشعاعية للصنف radial category structure التي يمكن توضيحها من خلال القاعدة التالية( ) :
عند وجود صنف "س" ذو بنية إشعاعية ، وعنصر "أ" واقع في مركزه فإنّ هذا العنصر هو أفضل مثال يعبّر عن "س" .
ويوضح الشكل المبين أعلاه ما تقترحه البنية الإشعاعية من مبادئ تصوّر طبيعة الأصناف وطبيعة عملية التصنيف ذاتها ، وهي مبادئ متداخلة تصف آليات التصنيف وتربطها بالبنى الثقافية والتصورية بشكل عام ، وبعمليات الإدراك الحسّي التي تصوغ فهم الإنسان للأشياء من حوله ، ومن أهم هذه المبادئ المبدآن التاليان( ) :
1- المركزية Centrality : وهو منبثق من القول بالتباين في بنية الصنف الواحد الذي يفضي إلى وجود عناصر أفضل من غيرها تمثيلا للصنف، وهي ما تسمى بالعناصر المركزية.
2- التشابه العائلي Family Resemblance : وينص على أنه ليس هناك خصائص جامعة مانعة تتحقق في جميع عناصر الصنف الواحد ، بل إنّ هذه العناصر ترتبط بما يسمّى بالتشابه العائلي ؛ فكما أن أفراد العائلة الواحدة تجمعهم خصائص شتى لا تصدق عليهم جميعا ، فكذلك أفراد الصنف الواحد تجمعهم شبكة من العلاقات والخصائص تتفاوت وتتداخل، ولكنها لا يشترط فيها أن تتوحد.
ويرى أصحاب هذا الاتّجاه أنّ ما وضعوه من مبادئ بشأن آليات التصنيف يصدق على التصنيف اللغوي والأصناف اللغوية ؛ فالبنية اللغوية ، شأنها شأن البنى التصورية والمعرفية ، تستخدم الوسائل نفسها الموجودة في الجهاز الإدراكي للإنسان ، فهي لا تستقل بنفسها ، وليست لها آليات منفصلة عن آليات الفهم والإدراك بشكل عام.
وقد أثبتت الدراسات التي اتّجهت نحو تحليل الأصناف اللغويّة أن هذه البنى تقوم على مبدأ التباين وأن عناصر الصنف الواحد يختلف بعضها عن بعض في خصائصه المعرّفة له، فالأصناف النحوية Grammatical Categories ، ومنها أقسام الكلام Part of Speech تقوم على هذا المبدأ بشكل واضح ؛ وقد بيّنت الدراسات التي قام بها جون روس على النحو الإنجليزي أنّ الأسماء مثلا تتفاوت فيما بينها في خاصيّة الاسمية ؛ فبعضها يستجيب لعدد كبير جدا من الظواهر النحوية والموقعية الخاصة بالأسماء ، وهو القسم الذي أطلق عليه روس مصطلح "أسماء اسمية" Nouny nouns ، أما القسم الثاني الذي لا يستجيب لبعض تلك الظواهر النحوية أو لكثير منها فقد أطلق عليه مصطلح "الأسماء غير الاسمية" Unnouny nouns ( ) .
ففشل بعض الصيغ في إظهار بعض خصائص الاسمية لا يمنع ، بأي حال من الأحوال ، انتماءها إلى قسم الأسماء ، ولكنه لا يعطيها الدرجة الفضلى في تمثيل الاسم ، والمبدأ نفسه يصدق على سائر الأصناف النحوية كالأفعال والصفات والظروف وغيرها.
إنّ بنية التباين المقترحة لا تلغي التعريفات التقليدية للأصناف النحوية القائمة على ضوابط دلالية في الغالب ، ولكنها ترى أنّ هذه التعريفات تصدق على العناصر المركزية للصنف . أما سائر العناصر التي يجد الباحث صعوبة في التوفيق بينها وبين الحدّ الموضوع لتعريف الصنف فإنها تقاس ، عندهم ، بعلاقتها بالعناصر المركزية وما تمتلكه من خصائص تجعلها شبيهة بها من خلال مبدأ التشابه العائلي الذي سبق أن وضحناه آنفا( ).
أقسام الكلام العربي من خلال نظرية النماذج الأصلية Prototype Theory
يعدّ موضوع أقسام الكلام العربي من الموضوعات التي نالت الكثير من الاهتمام في الدراسات النحوية القديمة والحديثة على حدٍّ سواء ، وهو موضوع كثر الخلاف فيه وتعدّدت الآراء.
وعلى الرغم من أنّ الأمر أصبح بعد كل ما كُتِبَ ورُدّد من تحصيل الحاصل ؛ فأقسام الكلام في العربية بقيت رغم تعدّد الآراء فيها في صورة شبه قارّة لا تتعدى الاسم والفعل والحرف، لكنّ الأساس الذي انطلق منه الخلاف يسوّغ إعادة النظر في الموضوع من خلال ما ذكر آنفا حول بعض مبادئ التصنيف التي أسسها علم اللغة المعرفي؛ فنظرية النماذج الأصلية والقول بالتباين في بنية الأصناف وما يدعمها من أدلة تقدم تفسيرات مقنعة لما ذهب إليه جمهور النحاة العرب من جعل أقسام الكلام في العربية ثلاثة أقسام : اسم وفعل وحرف بغضّ النظر عن الاختلاف الواضح بين عناصر كل قسم منها في تحقيق خصائصه البنيوية والنحوية المختلفة، خاصة أننا نجد في التراث النحوي ما يشير إلى تفطّن النحاة إلى ملمح عدم التماثل في بنية الأصناف اللغوية عامة( ).
فعلى الرغم من أنّ النحاة ، خاصّة في العصور المتأخرة من تاريخ النحو، كانوا يرون - متأثرين بالمنطق الأرسطي- أنّ الحدّ " قول وجيز يستغرق المحدود ويحيط به ولذلك سمّي< الجامع المانع، أرادوا بقولهم "الجامع" أنه يجمع المحدود حتى لا يشذّ منه شيء ، وأرادوا بقولهم "المانع" أنه يمنع أن يدخل في المحدود شيء ليس منه أو يخرج منه شيء هو منه( ) – فإنّ ذلك لم يمنعهم من ملاحظة عدم التماثل في بنية الصنف الواحد ، ولذلك استعانوا بالعلامات المميزة للأسماء والأفعال في بيان القسم الذي تنتمي إليه بعض الصيغ المُلْبِسَة.
وقد لاحظوا كذلك أنّ بعض الصيغ تبتعد عن أصولها الموضوعة لها فتأخذ شيئا من خصائص أقسام أخرى؛ " لأنّ الشيء ( كما يقولون ) قد يكون له أصل مُجْتَمَعٌ عليه ثمّ يخرج منه بعضه لعلّة تدخل ، فلا يكون ذلك ناقضا للباب ، بل يخرج منه ما يخرج لعلّته ويبقى الثاني على حاله( ).
كما لاحظوا أن عناصر الصنف الواحد لا تتشابه وتتفاوت فيما بينها، فها هم ، مثلا، يضعون علامة للاسم ولا يشترطون تحققها في كل الأسماء؛ إذ يقولون: " والاسم يضمر ويكنى عنه، تقول: زيد ضربته والرجل لقيته، والفعل لا يكنى عنه فتضمرَه، لا تقول يقوم ضربته ولا أقم تركته ، إلا أنّ هذه الأشياء ليس يُعْرَف بها كلُّ اسم، وإنما يُعْرَف بها الأكثر، ألا ترى أنّ المضمرات والمكنيّات أسماء ومن الأسماء ما لا يكنى عنه( ).
وقد سار النحاة على هذا الأصل ، فكانوا يقبلون أنْ تغيب بعض خصائص الاسميّة وأن تظهر بعض خصائص الفعليّة في عدد من الأسماء، والعكس أيضا مقبول عندهم، وكانوا يضعون لمثل هذه الظاهرة أصولا عامّة، يتّكئون فيها على تفسيرات ترصد خصائص الكلمات وتتابع حركتها وتغيّراتها في فضاء التركيب، وتتّخذ هذا كلّه أساساً في التصنيف ووضع بنية للأصناف اللغويّة تتجاوب مع ما تفرزه طبيعة الأشياء وخصائصها الملاحظة( )، فلا تهمل الاختلاف والتباين في حدود الصنف الواحد، ولا تسقط التشابه والالتقاء في حدود الأصناف المختلفة.
ولعلّ مبدأ المشابهة الذي أصلّه سيبويه في كتابه( ) يقترب من مفهوم "البنية الإشعاعية" الذي بيّناه آنفا؛ فالأصل في الأسماء الإعراب والتنوين؛ لتمكّنها. ولكن هذا التمكّن درجات، فهناك المتمكن الأمكن الذي جاء على أصله ولم يبتعد عنه بمشابهة غيره من الأقسام الأخرى. وهناك المتمكّن ، وهو ما مُنِعَ الجر والتنوين لابتعاده عن أصله وأخذه من الأفعال، فهو يشابه الفعل في بعض صفاته، ولذلك فقد شيئا من خصائصه الذاتيّة واكتسب شيئا من خصائص ما شابهه . وهناك غير المتمكّن الذي ابتعد كثيرا عن أصله واقترب من خصائص الحروف أو بعض الأفعال ( سواء كانت خصائص بنيوية أو موقعية) ولذلك فَقَدَ الإعراب تماما واكتسب البناء الذي هو أصل في الحروف والأفعال. وعليه يقول سيبويه : "وأما الفتح والكسر والضم والوقف فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنى ليس غير نحو سوف وقد, وللأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة, وللحروف التي ليست بأسماء ولا أفعال ولم تجئ إلا لمعنى( )
والأفعال، أيضًا، تتدرج في الفعليّة، فالأمر أكثرها تأصّلاً، ولذلك بُنِي على السكون، وهي الحركة التي لا تدخل الأسماء، إلا في حالة البناء ، ولم تُبن أفعال الأمر على حركة لأنها "لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة, فبعدت من المضارعة بعد كم وإذ من المتمكنة. وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه افعل( ). ثمّ يأتي الماضي الذي بُنِي ولكن على حركة الفتح ؛ لأنّه يقترب من الأسماء لمشابهته المضارع في وقوعه موقع الصفة، ثمّ تأتي الأفعال المضارعة الذي اكتسبت الإعراب لشدّة قربها من الأسماء ووقوعها موقعها ؛ فقد ضارعت أسماء الفاعلين ؛ إذ إنك تقول" إن عبد الله ليفعل, فيوافق قولك:لفاعل, حتى كأنك قلت: إن زيداً لفاعل فيما تريد من المعنى. وتلحقه هذه اللام كما لحقت الاسم, ولا تلحق فَعَلَ اللام. وتقول: سيفعل ذلك وسوف يفعل ذلك فتُلحقها هذين الحرفين لمعنى كما تلحق الألف واللام للمعرفة( ).
وعلى الرغم من أنّ هذا التفسير الذي يعتمد مبدأ المشابهة بين العناصر المختلفة مسوّغا للتداخل بينها وأخذ بعضها من بعض قد لقي كثيرا من الاعتراضات والرفض من قبل عدد من الباحثين العرب المحدثين إلا أنّه يبقى مؤشرًا يوجّه البحث اللغوي إلى قبول التفاوت بين عناصر الفئة الواحدة وقبول التداخل بين عناصر الفئات المنفصلة .
لقد كان المأخذ الأساسي الذي أخذه المحدثون على نحاة العربية أنهم وضعوا في القسم الواحد من الكلم كلمات كثيرة لا يصحّ أن توضع فيه لأنها لا تستجيب لخصائص ذلك القسم مما أدّى إلى "اضطراب النحاة القدماء في وضع مفهوم محدّد للاسم والفعل( )؛ فهم ، أي القدماء ، عندما حاولوا ، مثلا، أن يضعوا حدًَّا للاسم " شقّ الأمر عليهم ، ووجدوا تعريف الاسم لا يكاد ينطبق على كل الأسماء، كما وجدوا أن من الأسماء ما ينطبق عليه تعريفهم للأفعال( ).
وهم يرون ، كذلك ، أنّ قول النحاة في الاسم الموصول إنّه " لا يُنعَت، ولا يُؤكَد، ولا يُعطَف عليه، ولا يستثنى منه إلا بعد تمام صلته …( ) كاف لإخراج الاسم الموصول من الأسماء؛ لأنّ الاختلاف بينه وبين الأسماء واضح( ) .
إنّ الهاجس المُلِحّ الذي شغل النحاة قديما وحديثا في مسألة أقسام الكلام في العربية هو ضرورة التجانس التام بين أفراد القسم الواحد بحيث لا يشذّ فرد منها عمّا وضع له من علامات وخصائص ، ولذلك اجتهد المحدثون في تقديم تقسيمات جديدة للكلام وصلت في بعضها إلى سبعة أقسام في محاولة منهم للحفاظ على التماثل والتجانس بين عناصر القسم الواحد( ).
ولكنّ النتائج التي توصل إليها الباحثون في الدراسات المعرفية ، اللغوية والنفسية ، تشير إلى أنّ الآلية التي يتبعها البشر في تصنيف الأشياء لا تشترط مثل هذا التماثل ، وهذا في حدّ ذاته مدعاة إلى استثمار مثل هذه المبادئ الجديدة في دعم ما نصّ عليه قدماؤنا في تقسيم الكلم إلى ثلاثة أقسام يجري بينها تداخل وتشابه نتيجة لما تظهره الكلمات من خصائص لغوية مختلفة يقبلها العقل ولا يضيق بها .
القول بالأصل في النحو العربي ونظريّة النماذج الأصلية Prototype Theory
لا تقتصر المبادئ التي أسستها نظرية النماذج الأصلية في التصنيف على الكلمات والأشياء المادية أو المعنوية التي تحيط بنا ؛ إذ يرى أصحاب هذه النظرية أنّ الأمر يرتبط بآلية يتبعها الدماغ في تصنيف أي شيء دون أن يختص بأمر دون آخر ، ولذلك فإنّ مثل تلك المبادئ تصدق عندهم على اللغة بمستوياتها المختلفة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية.
وتأتي مقولة الأصل في النظرية النحوية لتؤسس لمبادئ قريبة جدا مما تقترحه نظرية النماذج الأصلية في التصنيف ؛ فمعلوم أنّ النحاة أقاموا نظريتهم على القول بالعمل النحوي ، وقدموا تصنيفا للعوامل في العربية ينطلق من مقولة إن الأصل في العمل للفعل ، أما سائر العوامل فتصنّف عندهم ضمن ترتيب تنازلي حسب درجة الشبه بينها وبين الفعل؛ فكلما زادت درجة المشابهة زادت قوّة العامل وكلما قلّت درجة المشابهة ضعف العامل وقُيّد عمله بقيود كثيرة( ).
وكذلك الأمر في الحديث عن الوظائف النحوية على اختلافها ، فقد وضعوا لكل باب أصولا عامّة ، بنيوية وإعرابية وموقعية ودلالية ، ثم لاحظوا كيف تخرج بعض الكلمات عن هذه الأصول بفقدها بعض خصائص الوظيفة فعدوا ذلك استثناء على الأصل ، ولذلك نراهم يجوّزون تعدد الإعراب في الكلمات التي لم تأتِ على أصولها ، أو في الكلمات التي أخذت بطرف من باب نحوي آخر ، أي شابهته في شيء من خصائصه. بل إنّ الأمر، لشدّة الإلف به، ليبدو من تحصيل الحاصل عندنا ، فنحن عندما يستوقفنا إعراب كلمة نبدأ في محاولة البحث عن أوجه الشبه بين ما تحقق فيها من شروط وخصائص الباب النحوي الذي تشبهه، أي أننا نحاول أن نصنف هذه الكلمة فنضعها في خانة المفعول له أو المفعول المطلق أو الحال … الخ اعتمادا على الشبه بينها وبين شروط الباب( ) .
فإذا أردنا أن نوضح ذلك من خلال أحد الأبواب النحوية التي تكثر فيه الأصول والاستثناءات على الأصول ، كباب الحال مثلا نجد أنّ :
1- الأصل في الحال أن تكون مشتقة ( مركز) وقد تأتي جامدة ( هامش ).
2- الأصل في الحال أن تكون نكرة ( مركز ) وقد تأتي معرفة ( هامش )
3- الأصل في الحال إن تكون مؤسسة ( مركز ) وقد تأتي مؤكدة (هامش)
4- الأصل في صاحب الحال أن يكون معرفة ( مركز ) وقد يأتي نكرة (هامش ).
والكلمات في تمثيلها للوظائف النحوية تتفاوت في مركزيتها أو هامشيتها حسب ما يتحقق فيها من خصائص تقربها أو تبعدها عن مركز الوظيفة النحوية حسب ما أفرزته أصول التحليل النحوي عند النحاة القدماء .
وحقًّا أنّ النحاة لم ينطلقوا في تأسيسهم لمبدأ المشابهة والقول بالأصل النحوي من المنطلقات التي اعتمدها علم اللغة المعرفي ، ولم يبحثوا في آليات الإدراك في العقل البشري وعلاقتها بالظاهرة اللغوية على اختلاف مستوياتها ، ولكنّهم عرفوا المبدأ في ذاته من خلال بعد لغوي خالص يمتحن العلاقات بين العناصر اللغوية ويسبر تداخلاتها ونقاط التقاطع فيها ، فيجعل خصائص العناصر اللغوية التي تبرز بالملاحظة والتفطّن والمقارنة مبادئ تفسير عامّة يُتكأ عليها في وصف الظاهرة اللغوية وتأصيل أصولها ، ولذلك يقول سيبويه في مبدأ المشابهة " وقد يشبهون الشيء بالشيء وليس مثله في جميع أحواله(53) .
فإذا كان علم اللغة الحديث يعطينا ما يدعم نظرة النحاة ومنهجهم في التناول من خلال قاعدة معرفية جديدة، ومن خلال مبادئ تلتقي مع بعض ضوابط نظرية النحو العربي فإنّ هذه الضوابط جديرة بإعادة البحث فيها وتسليط الضوء عليها من خلال نتائج الأبحاث في العلوم اللغوية الحديثة ، ولا يعني ذلك تناقضا في المنهج ولا تضاربا في التناول فإنّ وحدة الظاهرة كفيلة بتحقيق الاستفادة من بناء تصوّر جديد يخدم العربيّة ويجدد الإحساس بها .
Mechanism of Linguistic Categorization between Cognitive Linguistics and Arabic Grammar
Latifa Alnajjar
Dept. of Arabic Language, U.A.E University- Alain
(Received20/9/1423 H.; accepted for publication 23/3/1424H.)
Abstract. Categorization can be considered a basic procedure for every branch of knowledge, particularly in linguistics. It is the most important systematic device used by researchers in language description at different levels. Categorization is considered, at the same time, a fundamental component of the human thinking, it plays a major role in the process of reasoning and in understanding the meaning of things and words as well.
Scholars, and to begin with the Greek philosophers, began to initiate rules to canonize the mechanism of categorization that insure the validity and required results. These standards remained axioms whose validity and applicability ware never questioned.
However, linguistics, through researches and field studies which study mechanism of human reasoning, offered very strong evidence that the standards adopted by scholars to control the process of categorization has no relation to what occurs in the human mind while it starts to categorize things. On the contrary, the process of categorization in the human mind is subject to norms, which completely differ from what Aristotelian school followers’ adapt.
The standards of cognitive linguistics categorization in human mind are very similar to what Arab grammarians have adopted in description and canonizing the linguistic phenomenon.
This research does not claim that the Arab grammarians were the first to establish such norms, rather it discusses the findings of the researchers in this field and compares them to statements made by Arab grammarians on the topic.