من قصص المعاني
اجتمع الأصدقاء على مائدة الطعام في بيت الكرم، وبعد مضي جزء من اليل والانتهاء من تناول الطعام والشراب، حمد المدعوون الله وأثنوا عليه بما هو أهله، ثم اتكؤوا على النمارق وجعلوا يتبادلون أطراف الحديث، وبينما الحال على حاله، بادرهم الحكيم بقوله: إن الله خلق اللسان ليكون سعادة أو نقمة للإنسان، وجعله دليلا على الفؤاد، مفاضِلا فيصلا بين العباد، فمن صانه وحفظه غنم ولم يندم، ومن أرسله وأهمله ندم ولم يغنم، وإنه بلغني ممن أثق فيه، أن خلافا جسيما وقع بين الرأي والعقل، وإنه ليحزنني أن أسمع بمثل هذا المقال، فالكل يعلم شأن المتخالفين وطول الصحبة وشدة المحبة بينهما، وإني لأرجو أن يصلح بي الله بينهما، وها أنا ذا جلست مجلس القضاء، فمن علم منكم شيئا، فليتكلم به على رؤوس الجمع والأشهاد، ليكون القضاء في أمره بحسب ذلك، فرأي الوحيد العاقل مهما بلغ فهو ضائع لا ناصر له، فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي.
• ابتدأ الكرم بقوله: هابنا وقع الخلاف، فأطرقنا حزنا لا جزعا، فما هو إلا قضاء الله وقدره، وليس فينا من اعتراض، وأضيف في كلامي بأن أقول: نعم الرجل الرأي، خلق ودين وكياسة، ولكن هل يغني كل هذا مع المقادير شيئا، وما حصل هو نزغ شياطين، قابله طيش وغضب من الطرفين، ولولا تدخل الحاسدين والمبغضين، لانقضى الأمر في مهده، ولم يكن حديث العالمين.
• قال الحكيم: نعم الحديث حديثك، وإن كنت أرغب في الاستزادة من الآخرين ؟
• فأشار عليه الحق بقوله، اسمعوا ما لدي يا حاضرين، ألم يعلم الرأي أن السباحة مع التماسيح تغرير، وأن من استخرج سم الحية ليجربه لهْو جان على نفسه، فليس الذنب للحية، لو قابل العقل بما هو أهله وحفظ له قدره ومقدراه، لكان الحال غير الحال.
وأنت أيها العقل، أنت أنت لولا الذي بين فكيك، احذر منه !، فتسرعك سيكون سببا في مصرعك، فبتسرعك وضعت المقال في غير المقام، والرأي عند غير أهل الرأي، لو تفكرت وتمهلت، لغنمت وسلمت.
• قال الحكيم: لا فض فوك، أمن مشير آخر ؟
• فوجئ الكل بالصمت وهو يقول:
لا تعجبوا، فما كان صمتي إلا فكرا، وما كنت أديم النظر إلا عبرا، وما سأنطق به أرجو أن يكون ذكرا.
أنسيتم فن الشيطان وكيده، أنسيتم وعده قبل آلاف السنين!!؟، دعكم من القيل والقال، وكثرة الكلام والمقال، كان نقطة فكثرها الجاهلون، أطفئوا ما في القلوب بذكر الله والاستعاذة من الرجيم، وأحلوا مكان الغضب صفحا، ومكان الحقد محبة، ومكان الثأر عفوا، نالت شياطين الجن من اثنين، فأكملت شياطين الإنس المهمة، وقوع الخطأ ولا بد كائن، فكل بني آدم خطاءون، وخير الخطاءين التوابون، ولكن ماذا بعد الخطأ، أمن توبة ورجوع، وخير الكلام ما قل لفظه وحسن معناه، أظن أن ما أعنيه قد أوضحته، وعن نفسي قد طبقته، فكونوا عند حسن الظن.
صمت مهيب ساد المكان، فالصمت لم يسبق أن شارك إلا في مناسبات قليلة، ومشاركته الآن مؤثرة، فهيبة الإنسان تأتي من صمته، وكثرة الكلام دليل على النقصان.
• لي رأي بهذا الشأن - كان هذا صوت اللؤم - عظم محبتي للخير لا يخفى، فلا أجد حاجة إلى الإثبات أو الاستدلال، ولذلك اسمعوا ما سأقول وعوا.
أجدكم تلافيتم زنمة العنزة وتشاغلتم بها، وتناسيتم حلمة الضرع، وثقتي فيم تحاولون الوصول إليه، كثقة الماء في الغربال، الرأي والعقل ليسا كما تظنون للأسف، فالرأي كما سمعت وخبرت، يخفي سوء السريرة، ويظهر حسن السيرة، والعقل حسود حقود، يبحث عن العلات، ويظهر الزلات، صديقه عدوه، وعدوه صديق في ريب.
وإني قد صدقتكم الكلام، ولا خير إلا بإقصائهما، وعن مجلسنا إبعادهما.
• قال الحكيم: لا عدمنا رأيك !، ولكن يبدو أن القلوب حاضنات للأحقاد، قد يتمكن منها بمواضع موجعة، ومواقع ممكنة؛ لذا يغيب عن اللسان الإفصاح عن صدق ما في القلوب، فلا يشهد اللسان للقلب، ولا يشهد القلب للسان، وأراني كفيت مشورتك، فهل لدى الخصمين مقال ؟
• قال الرأي: أرى والناس ذو رؤى، أنني لم أخطئ، فأنا لبيب أريب، ورأيي في الغالب مصيب، أراه مهما اشتط ، فهو للحق قريب، وإن الحياة علمتني أن رب صداقة ظاهرة باطنها عداوة كامنة، فهي أشد من العداوة الظاهرة، وغاية ما سأقوله لكم، ما أفسده حلمي لا يصلحه إلا علمي، وهذا ما حصل، فابتسم اللؤم.
• قال الحكيم: ألديك ما تقول يا عقل ؟
• قال العقل: هي محن قد اجتمعت علي، ورزايا قد نزلت بي، ولكن عقلي معي، فالعاقل لا يفزعه الأمر ولا يهوله الشأن، وقد درست الأمر وقلبته، ووجدت أنني مخطئ، كما أن خصمي أخطأ، ثم أعدت النظر، فوجدت نفسي مصيبا، ووجدت خصمي هو المخطئ، ثم قلبت في الفكر واستعنت بالحكمة والصبر، فوجدت أن البلاء والمحن تنزل، والإنسان مبتلى في دينه ودنياه، فحمدت الله أن ابتلاني في غير ديني، والخصومة يا معشر الكرام، منذ نشأتها بين قابيل وهابيل لم يزاولها الفتور، قد أعي الحكماء شأنُها، ولن ينتهي أمرها، أو تخمد نار نارها، إلا إذا أردنا ذلك.
• قال الحكيم: أربعة لا يستقل قليلها ( النار والمرض والعدو والدين )، فكلما أقللت كان في ذلك الخير والعافية، ولو تعقبنا كلام الحكماء، وأضفنا الصحبة، لما كان في ذلك بأسا، فإني قد خبرت الحياة وجربتها، فوجدتها أما لبنتين، الحزن والسعادة، إحداهما تتستر بالأخرى في أحيان كثيرة.
فالوحدة والصحبة منفعة للعاقل ومضرة بالجاهل، ويزداد الأمر في زماننا، إذ لا تبقى للصحبة فضيلة تذكر، فطباع الناس تغيرت، ونفوسهم عن الخير قد ابتعدت، فالصديق الصالح أندر من مسك الغزلان، فمن حضي به، ضمن سعادة الدارين، وما دين المرء إلا على دين خليله.
وإني أرى للمتخاصمين أن ينظروا في شأن بعضهما، فمن وجد خيرا، فليصالح وليدنو ،ومن وجد سوءا فليحترس وليعدو.
انتهت بحمد الله
ابن الطيب