الإتصال الجماهيري في بـلاد الرافـــــــــديــن قديماً *
الفصل الأول
يتسائل الباحث العراقي (باقر ياسين) في كتابه (تاريخ العنف الدموي في العراق – دار الكنوز الأدبية – بيروت 1999) من خلال إستعراضه لأكثر من خمسة آلاف سنة من العنف الدموي في تاريخ العراق: ( ومهما يكن فأن البدايات الأولى للتكون الحضاري والمدني في تاريخ البشرية قد تمت وأنجزت جميعاً في عهود للحضارات التي قامت في أرض الرافدين، حضارات سومر وبابل وآشور والتي أصبحت معروفة في جميع أنحاء العالم. وهنا يمكن أن يبرز أمامنا تساؤل حيوي هام: كيف يتسنى لنا على ضوء ما تقدم – وعلى الأقل من الناحية الفلسفية والأخلاقية – أن نقّيم التوازن بين كفتي هذه المعادلة المتناقضة، ونعني بذلك حالة التناقض بين السير بأسبقية تاريخية جادة في مضمار البناء والتقدم الحضاري والإنساني وبين السير بأشواط بعيدة وثابتة ومدمرة في طريق العنف الدموي والقسوة والهمجية والسلوك العدواني؟).
والحقيقة، أن تاريخ العنف هذا ما هو إلا تاريخ للدعاية وللإتصال الجماهيري وللإعلام الدولي، تاريخ للسياسة والإدارة السياسية، وللحروب وللعلوم العسكرية وعلم النفس الإجتماعي، تاريخ للتطور التقني في الأسلحة ، بل أن (فيليب تايلور)، في كتابه الآنف الذكر، يطرح سؤالاً مهما، بعد إستعراضه لدور الدعاية،(هل يعني أن التاريخ دعاية؟). ويجيب على ذلك أيضا : ( إنه كذلك إلى درجة معينة).
وفي بحثنا عن (الدعاية) و(الاتصال الجماهيري) عبر التاريخ، سنحاول أن نتوقف عند التحولات السياسية والدينية والصراعات الإجتماعية والحروب بإعتبارها المجال الذي تستعرض فيه (الدعاية) و(الإتصال الجماهيري) و(الإعلام الدولي) و(الدبلوماسية) قوتها.
ســــومـــر والبدايات الأولى
في كتابه (متون سومر - الكتاب الأول: التاريخ، المثيولوجيا، اللاهوت، الطقوس – منشورات الأهلية – عمان 1998) يكتب الباحث (خزعل الماجدي) عن (المعجزة السومرية) ما يلي
لقد كانت المعجزة السومرية لحظة نوعية لكل منجزات الإنسان منذ العصور الحجرية، وخصوصاً ذلك التسارع الحضاري الذي بدأ بلإكتشاف الزراعة في الألف التاسع او الثامن قبل الميلاد.. ثم إنفجر نوعياً في سومر عند إكتشاف الكتابة في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وأنفتحت معه آفاق عظيمة كانت أساس كل الحضارات بعد سومر.... كان المجتمع السومري مكوناً من المزارعين وأصحاب الماشية والملاحين وصيادي الأسماك والتجار والكتاب والأطباء والمهندسين والبنائين والنجارين والحدادين والصاغة والفخارين ورجال الدين والمغنين وأصحاب الحانات وصانعي الخمور..فكيف تسنى لمجتمع في الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد أن يتنوع بهذه الطريقة؟).
مع إكتشاف الكتابة بدأت أشكال جديدة أكثر تطورا من الإتصال الجماهيري والإتصال الدولي. ففي حدود 3200 ق. م ظهرت أول أشكال الكتابة التصويرية في معابد أوروك. وفي كتابه الآنف الذكر، يؤكد (خزعل الماجدي) بأن الكتابة السومرية مرت بمراحل وأطوار يصنفها هو كالتالي: الكتابة في طورها التصويري، الكتابة في طورها الرمزي، الكتابة في طورها الصوتي، وأخيرا الكتابة في طورها المقطعي. (ومن الشكل الصوري للكتابة المسمارية السومرية ظهرت الكتابة الصينية القديمة المسماة "كو- رون". وكذلك نرى أنه من إنتشار الحضارة السومرية والسومريين وكتابتهم في المرحلة الصورية غربا بإتجاه البحر المتوسط ومصر نشأت الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة . وإنتشر الخط المسماري السومري ومعه اللغة السومرية إلى منطقة (عيلام) جنوب إيران، وبدت منطقة عيلام وكأنها لإمتداد لأرض سومر، لا يفصل بينهما سوى مياه الأهوار. حيث ظهرت أواخر العصر الشبيه بالتاريخي حوالي 3000 ق. م الكتابة العيلامية الأولى، وفي مثل هذه المرحلة بدأت الحضارة والكتابة السومرية بالإنتشار بإتجاه الخليج العربي ووصلت إلى دلمون"البحرين")، كمايشير (خزعل الماجدي).
ويشير (د. عامر سليمان) في كتابه (القانون في العراق القديم – دار الشؤون الثقافية – بغداد 1987) إلى أن الكتابة المسمارية (ظهرت كوسيلة للكتابة في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، ومرت بثلاث مراحل رئيسية هي المرحلة الصورية والرمزية والمقطعية. وتبلغ عدد العلامات المسمارية بشكلها المتطور ما يقرب من ستماية علامة. وكان لكل علامة أكثر من معنى واحد وأكثر من قيمة صوتية كما كان بالإمكان التعبير عن أي مقطع صوتي بأكثر من علامة مسمارية واحدة. ونظراً لهذا التعقيد في إسلوب إستخدام الخط المسماري، فقد إبتدع الكتبة القدماء طرقاً مختلفة لتسهيل مهمة الكاتب والقاريء معاً، منها إستخدام العلامات الدالة والنهايات الصوتية ومنها تنظيم الجداول والقوائم المفصلة بالعلامات المسمارية وقيمها الصوتية ومعانيها الرمزية.... أما اللغات العراقية القديمة التي دونت بواسطة الخط المسماري، فهي اللغة السومرية، وهي لغة الأقوام السومرية التي حكمت في مدن جنوبي العراق في عصور فجر السلالات وفي عهد سلالة "أور الثالثة"، ولا يُعرف إلى أي من العائلات اللغوية تنتمي اللغة السومرية. واللغة الأكدية، وهي لغة الأقوام السامية التي قدمت العراق منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وأسست أول دولة لها في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وهي لغة سامية قريبة من اللغة العربية والعبرية وغيرها من اللغات السامية، وقد إستخدمت الخط المسماري في كتابتها مما أثر على كثير من أساليب نطقها ولفظها. وقد إستخدمت اللغة السومرية إلى جانب اللغة الأكدية في العهود الأولى ثم ما لبثت أن طغت اللغة الأكدية على النصوص المختلفة. ومع هذا، ظلت اللغة السومرية مستخدمة في بعض النصوص حتى عهود متأخرة).
لكن الإنتشار الحقيقي، الواسع والكبير، للكتابة المسمارية حصل مع ظهور الأكاديين، وبسبب إستعمالهم الكتابة المسمارية واللغة السومرية في كل ما له علاقة بحياتهم الروحية الدينية إلى جانب الأكادية لتدوين كل ما له علاقة بحياتهم اليومية. وهذا ما دفع بالباحث (د. نائل حنون) إلى التشكيك بحقيقة وجود الشعب السومري أصلاً، وذلك في كتابه (حقيقة السومريين – دار الزمان – دمشق 2007).
يؤكد (د. نائل حنون) في كتابه (حقيقة السومريين) حقيقة التطور الحضاري في مجال الكتابة المسمارية في اللغتين السومرية والأكادية فيقول: ( من المثير للإعجاب أن نعرف الإهتمام بإعداد الكشوف الخاصة بالنصوص الأدبية القديمة لم يكن من الإفرازات الحضارية لعصرنا الحديث، وإنما سبقنا إليه مبدعون من الحضارة القديمة نفسها التي أنتجت، قبل آلآف السنين. فقد قام كتبة ٌ قدماء في بلاد الرافدين بإعداد قوائم على ألواح الطين بعناوين النصوص الأدبـية. ووصلنا إثنان من الرُقم الطينية التي تحمل مثل تلك القوائم).
ويصنف (د.نائل حنون) ابواب الأدب السومري- الأكادي إلى تسعة أبواب رئيسة وهي كالتالي:
1. الأدب الروائي: ويتضمن الأساطير والملاحم والسير الأسطورية، ويوجد منها، كما يؤكد (د. نائل حنون)، (80) نصا.
2. التراتيل: وبضمنها الترانيم والإبتهالات والأدعية، يوجد منها (63) نصا.
3. المراثي: يوجد منها (16) نصا.
4. الرسائل الأدبية: يوجد منها مجموعتان و(14) نصا.
5. المناظرات والحوارات: يوجد منها (24) نصا.
6. أدب الحكمة : يوجد منه (18) نصا و(5) مجموعات.
7. أدب السحر: يوجد منه (31) نصا ومجموعات متعددة.
8. الأدب الساخر والهجاء والدعاية : وجد منه (7) نصوص.
9. نصوص أدبية متفرقة : يوجد منها (22) نصا ومجموعة واحدة.
ويشير الباحثون، صموئيل كريمر، رينيه لابات، طه باقر، فاضل عبد الحق وغيرهم، إلى أن الأدب كان يحتل جانباً مرموقا من الموروث الحضاري الذي كان يتداول شفاهاً عن طريق الكهنة والمنشدين ضمن ممارسات الشعب السومري وطقوسه. ولهذا نجد أن الشعراء والأدباء الذين قطعوا شوطاً من التعليم خلفوا لنا مجموعة من الأساطير تتسم بالأصالة والخيال والخصب. ولهذا كان مدونو الأساطير السومرية الورثة المباشرين لمغني الأزمان الأولى ومنشديها الذين كانوا يجهلون القراءة والكتابة. ويشير(هاري ساكز) في كتابه (عظمة بابل – ت. عامر سليمان – الموصل 1979) عن الأدب السومري في العصور التي سبقت تدوينه: ( إن الأدب القديم كان شيئا يُقص ولم يكن شيئاً يُقرأ بصمت، فقد كان له وجود حقيقي فقط عندما كان يُقص – ربما بمصاحبة ممثل – أمام الجمهور.. وانه طالما كانت الحضارة السومرية حيّة تماماً فأن أدبها كان يُنقل شفاهاً من راوية مقتدر- ربما يعمل في البلاط أو المعبد – إلى تلاميذه، ولم يكن هناك حاجة لتدوين مثل تلك التآليف).
ويجمع الباحثون في تاريخ العراق القديم إلى أن الأساطير كانت تتصدر أهم النصوص الأدبية التي وصلتنا، فقد عرف لحد الآن أكثر من عشرين إسطورة سومرية، وكذلك الملاحم التي وصلت إلينا وأشهرها (ملحمة كلكامش) و(قصة الطوفان) التي تُعد أبرز النصوص الأدبية التي فاضت بها قرائح الشعراء والأدباء في العراق القدي
*************************
ان من اجمل الهندسة ..........ان نبني جسرا من الامل ...فوق نهر من اليأس