كلمة عن فواصل سورة (ق):
المتأمل في فواصل السورة يجد أنها لا تمد المتلقي بألوان من الإيقاع المؤثر والتطريب الأخاذ فقط ، بل تتآلف مع آياتها ، وتتناسب مع سياق نظمها ، وتؤدي دورها في إتمام المعنى بحيث لو وقع مكانها سواها لجاء قلقا مقحما :
فمثلا لا تجد كلمة أنسب ولا أوفق لمضمون آيتها وسياقها من كلمة (تحيد) في قوله : (ذلك ما كنت منه تحيد/19) حيث توقع في صدرك الرهبة والوعيد من خلال صوت الدال المسبوقة بالياء المديدة بخلاف "تبتعد" أو "تنحرف" مثلا ، كما أن التغيير في التركيب من خلال الفصل بين المتلازمين بالجار والمجرور ليس لغرض إيقاعي فقط وهو إجراء الفاصلة بالحروف المردوفة بالواو أو الياء لتتوافق مع غيرها ، وإنما أيضا لغرض بلاغي وهو الاهتمام بالجار والمجرور بإبراز ما كان يهرب منه أولا ، لان الضمير في (منه) يعود على المشار إليه وهو الموت .
وكذلك تأخير النعت وتقديم معموله عليه في قوله : (ذلك حشر علينا يسير /44) لمراعاة الفاصلة ، وأيضا لغرض بلاغي وهو الاختصاص الذي يزيد المعنى تدقيقا وتأكيدا ، أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على الله وحده .
وأيضا تقديم شبه الجملة (إلينا) وتأخير المسند إليه (المصير) في قوله : (إنا نحن نحيى ونميت وإلينا المصير/43) لإفادة الاختصاص أي : إلي الله المصير لا إلى غيره ، وهو مؤكد يضاف إلى المؤكدات الأخرى التي وردت في الآية : (إن) من (إنا) والتعبير بالجملة الاسمية والإتيان بضمير الفصل (نحن) ، وكل هذه المؤكدات لإزالة الشك والارتياب من الكافر حول إمكانية البعث .
ولم تأت (قعيد) في قوله : (عن اليمين وعن الشمال قعيد/17) لمراعاة الفاصلة فقط ، بل لأنها تناسب السياق وتوافقه ، فمثلا كلمة "جليس" قد تناسب الفاصلة لأنها مردوفة بياء ولكنها لا تناسب المعني ، لأن القعود يدل على طول الملازمة و اللبث بخلاف الجلوس ، ولهذا يقال : "قواعد البيت" وليس "جوالسه" للزومها ولبثها ، ويقال : "جليس الملك" وليس : " قعيده " ، لأن مجالس الملوك يستحب فيها التخفيف ، ولهذا استعمل (قعيد) في قوله : (مقعد صدق)]القمر/55[ للإشارة إلى أنه لا زوال له ، بخلاف : (تفسحوا في المجالس)] المجادلة/11[ لأنه يجلس فيها زمانا يسيرا ، كما أن كلمة (قعيد) تتناسب مع الكلمات القافيّة التي بنيت عليها السورة المفتتحة بالحرف (قاف) الذي كان أكثر حروف الهجاء دورانا في السورة وكان مناسبا لمعانيها بما فيه من شدة وجهر وقلقلة – وهذا من أسرار علم الحروف – نحو : القرآن والحق والإلقاء والبسوق والرزق والقوم والخلق والقرب والتلقي والرقيب والقرين والقرن والقلب والقول .... .
و(غير بعيد) في قوله : (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد/31) جاء لمراعاة الفاصلة ، وأيضا لتوكيد هذا التقريب من المتقين ، لأن نفي مضاد الشيء فيه توكيد إثباته ، كقولهم : هو عزيز غير ذليل ، وقريب غير بعيد ..
والأمثلة كثيرة مما يؤكد أن الفاصلة القرآنية لا تمد المتلقي بألوان من الإيقاع والتطريب ، بل تتآلف مع آياتها وتؤدي دورها في إتمام المعنى بحيث لو وقع مكانها سواها لجاء قلقا مقحما .