بسم الله الرحمن الرحيم
(الشعر بين حمار الشنقيطي وفأر خالد عز الدين)
(1)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة السلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد ، وعلى اله الطيبين الطاهرين :
أما بعد
النقد مثل بقية العلوم موضوعي ، أو هكذ يجب أن يكون، وعلى الرغم من أن الذوق غجراء أصيل من إجراءات ، وان التأثر أساس عميق للذوق ، إلا أن الناقد يجب أن يكون موضوعيا ، وتلك هي المعادلة الصعبة في عالم النقد.
وهذا ما ادى إلى تعدد مناهج النقد ومدارسه تعددا جعل من المستحيل على الدراس متابعة هذا التغير السريع الحادث في عالم النقد، وليس اشبه به موضات الأزياء ، وقد حدى ذلك بالنقاد في محاولة مستميتة لتحقيق التوازن بين التذوق النقدي والمعايير النقدية.
ولذا فإننا لن نحاول استعراض مدارس النقد على سبيل التأسيس ، ويكفي أن نشير إلى أن نهج النقد الذي حاورنا الشاعرين من خلاله هو منهج تكاملي ، جمعنا فيه بين المنهج الفني ، والمنهج السسيولوجي في النقد .
والحقيقة أن هذا المنهج التكاملي يجب عن سؤالين:
• ماذا قال المبدع ؟
• وكيف قال؟
• ولم قال؟
وما دام مبدعو أمسيتنا شعراء ، فقد قالوا شعرا، وشعرهم – في الواقع – حقيق بأن يقرأ ، وحقيق بأن ينقد ، لأنه ببساطة شديدة بلغ من النضج والفني ، والكمال اللغوي ، واستيفاء عناصر الأداء ما جعله حقيقا بالنقد والقراءة.
ونحن لانزعم أننا نحاول اليوم اكتشاف هذين الشاعرين الكبيرين ، ولكنا نحاول محاولة متواضعة في محاورة الشاعرين : الحسين بن أحمد الشنقيطي ، في قصيدته (المهاجر) ، وخالد عز الدين في مسرحيته الشعرية
( القط والفأر).
ويحسن بي وبك قارئي العزيز أن أضع بين يديك بعض التصورات النقدية المتعلقة بالشعر بين يدي المقال؛ لتكون الميناء الذي نبحر منه في عالم القصيد، وليس عالم القصيد بثرائه واتساعه أقل من عالم البحار بسعته ولججه.
إذن لأعي ومعي تعي أنه:
• ليس الشعر موسيقى باردة ، ولا قوالب جامدة، ونظما رتيبا لا تملؤه العاطفة الحارة ، ولا المشاعر المثيرة المتوهجة.
• وليس الشعر عاطفة منداحة لايجمع استطراقها شاطئ، ولايشد كيانها منوال.
• وليس الشعر تصويرا فتوغرافيا أصما لواقع ميت ، ولا محاكة عمياء للمثال أو المشاعر.
• وليس الشعر مجازات عرفية، أو مصطلحات صماء تتسكع على أرصفة الموت ، وتتجمد في أطر الحود والتعريفات.
• وليس الشعر جمالا خالصا لايعرف النفع، ولا نفعا لايجد الجمال إليه سبيلا.
• وليس الشعر تجربة واهمة مفصومة عن النفس والواقع في عالم من الأحلام دون ضوابط الحدود والسدود.
• وليس الشعرتأطيرا للمشاعر الفردية في حدود شخصية المبدع ، حيث يصعب تمثلها ، وإنما هي مجيرة لصالح التجربة الإنسانية العامة، حتى إنها لتصلح أن يقول فيها كل قارئ هذا ما كنت أريد قوله.
ولله در الإمام علي رضي الله عنه حين قال:
وتزعم انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
• وليس الشعر حسدا مبعثر الأشلاء، مفكك الأعضاء دون علاقة عضوية توحده ، وتجعل منه كيانا متماسكا.
• ولكن الشعر يزحزحك –بالضرورة- للغوص في أعماق اللفظ ، ويسبر بك باطن النفس ، فالشعر فيض من المشاعر والعواطف. والشعر- كما يقول النقاد- : " عربة يجرها حصانان : المسيقى والمشاعر" .
• والقصيد كا تتفاعل فيه الأجزاء ، وإن كان ظاهر الصور والمجازات التفكك والتناقض.
• والقصيدة موضوعها الوجدان والمشاعر ، ووسيلتها الصورة والإيحاء.
إن النقد بقدر ما يقدم الشاعر للجمهور ، يعرض وجهة نظر الناقد في الشعر ، والنقد كالإبداع وجهة نظر معللة ؛ ولذا يجب ان تتسم وجهة نظر الناقد بقدر كبير من الموضوعية ، والموازاة بين تأثراته كمتذوق ، وتعليلاته كناقد وحكم على العمل الأدبي.
والناقد يبدأ بالوصف وينتهي بإطلاق الأحكام من خلال معاييره التي حددها سلفا ، أي إنه يبدأ وصفيا وينتهي معياريا.
أظن انك – الآن – مهيأ معي لنلج علم القصيد ، وأظن أنك على معرفة بأن الشعر والأدب لم يخل من استعمال الطبعيتين الحية والميتة كرموز ومعدلات موضوعية لمكنونات الشاعر النفسية(ت –إس- إليوت).
والحيوان يمثل أحد الرموز والمعادلات الموضوعية في الشعر العربي القديم والحديث .
(2)
فهذا امرئ القيس يجعل الحصان رمزا للقوة والانطلاق والحرية ، فهو لمح بصره الذي يهرب به ظلمة الحياة واليأس الذي أحاط به بعدما عجز عن عن إدراك ثأره ، فهي محاولة مستميتة في اللحاق بأمله في إدراك ثأره من قتلوا أباه ؛ فحصانه أسطوري كرمحه المسنونة كأنياب أغوال ، فرمحة :
أيقتلني والمشرفي مضاجعي** ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وحصانه:
مكر مفر مقبل مدبر معا *** كجلمود صخر حطه السيل من عل
والحصان عند عنترة رمزللوفاء والصبر في عالم احتقر آدميته، واستهان بفروسيته وشجاعته ونبله؛ فكان الحصان صديقا حميما يمتطي صهوته ليسري عن همومه، ويقهر عدوه ، ويشفي نفسه في ساح الوغى.
مازلت أرميهم بثغرة نحــــــره**ولــــــبانه حتى تسربل بالدم
فازور مـــــن وقع القنا بلبانه**وشكى إلي بعبرة وتحمحم
لو كان يدري مالمحاورة اشتكى**ولكان لو علم الكلام مكلمي
فنحن امام حوار حميم مخلص، حوار تفوح منه عبق المحبة، وطمأنينة التواصل بين عنترة وحصانه، بعدما فقد القدرة على الحوار والتفاهم مع قبيلته التي احتقرت مشاعره ، وسخرت بعواطفه النبيلة، وسحقت كرامته ، وتركته ممزقا بين قيم قبلية مشينة ، وكرامة إنسانية حلق بها عنترة في أفق إنساني عال ، صعب على أصحاب الهمم الضعيفة أن يستشرفوها حينذاك.
والبقرة المسبوعة في الشعر العربي – لدى لبيد- كانت رمزا للضعف الإنساني وانسحاقه في الصراع المميت أمام عوامل الفناء التي أحاطت بالبدوي المرتحل من ناحية ، فهو يصارع من البقاء عوامل لاتقل عتوا عن الأعاصير المدمة ، والوطافان المغرق المدمر. ويقول الدكتور محمد زكي العشماوي: " بل إننا نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن الجفاف والجدب ووعورة الحياة هي التي حددت القيم الأخلاقية عند العرب : فشعور العرب بالضعف أمام قوة الطبيعة وقسوتها هو الذي فرض عليهم تقديس القوة البسالة وهو الذي جعلهما مبدأ من مبادئ السيادة عند العربي......."ص220 النابغة الذبياني مع دراسة للقصيدة العربية في الجاهلية ثم يمضي العشماوي في تليله إلى أن يصل إلى مربط الفرسفيقول : " والذي نريد ان ننهي إليه هذا التحليل للحياة العربية من اجتماعية وفكرية هو أن ثمة وحدة تسود الشعر الذي كان أهم مظهر من مظاهر نشاطهم الفكري وحياتهم العقلية ؛ والفنية تلك الوحدة يمكنك تسميتها (وحدة الصراع من أجل الحياة. ومن ثم فمن الممكن القول بأن الشعر الجاهلي ، وأن في الشعر الجاهلي شخصية إنسانية واحدة لاتفتأ تطالعك بملامحها وقسماتها أينما وجهت بصرك" ص236.النابغة الذبياني مع دراسة للقصيدة العربية في الجاهلية.
إذن هذا الصراع غير المتكافئ بين الإنسان والطبيعة ولد لدى العربي إحساسا بالانسحاق والضعف ، كما ولد لديه قدرة كبيرة على المغامرة والإقدام حيث تتساوى لديه كل البدائل في ظل تلك الظروف الطبيعية القاهرة. وقد انعكس ذلك على مرآة الشعر فكان خير معبر عن واقع هذا الصراع ، وذلك الانسحاق والضعف:
أفتـــلك ام وحشية مسبــــوعة **خذلت وهادية الصوار قوامـها
خنساء ضيعت الفرير فلــم يرم ** عرض الشقائق طوفها وبغامها
لمعفر قـــــهد تـنازع شلــــوه ** غبس كواسب لايمـن طعامها
صادفن منها غــــــــــــــرة فأصبنها** إن المنايا لا تطيـــش سهامها
باتت وسابل واكف مـــــــــن ديمة ** يروي الخمائل دائما تسجامها
يعلــــــو طــــريقة متنها متواتـــــر** فـــي ليلة كفر النجوم غمامها
تجتاف أصـــــــــــلا قالصا متنبذا ** بعجوب أتقاء يمـــــيل هيامها
وتضيئ في وجه الظلام منيرة ** كجمانة البحري سل نظامها
حتى إذا غنحسر الظلام وأسفرت ** بكرت تزل عن الثرى أزلامها
علهت تردد في نهاء صعائد ** سبعا تؤما كــاملا أيامها
حتــــى إذا يئست وأسحق حلق ** لـــــم يبله إرضاهعا وفطامـها
وتجست رز الأنبيس فــــــراعها **عن ظهر غيب والأنيس سقامها
فقدت كـــــلا الفرجين تحسب إنه ** مولـى المخافة خلفها وأمامها
حتـــــى إذا يئس الرماة وأرسلوا **غضفاد واجن قافــلا أعصامها
فلحق واعتكـــــرت لـــــها مدرية** كالسمهريــــــة حدها وتمامها
لتذودهن وأيقنت إن لـــــــــم تذد** أن قد احم من الحتوف حمامها
فتقدت منــــها كساب فضرجت ** بدم وغودر في المكر سخامها
فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى** واجتاب أردية السراب إكامها
أقضي اللبانة لاأفــــــــرط ريبة ** أو أن يلــــــوم بحاجة لــوامها
وقدم البحتري صورة مبهرة ومدهشة في صراعه مع الذئب تمثل – في رأي الشخصي- صراع القيم الوافدة مع القيم الإسلامية الأصيلة في العصر العباسي الثاني ، عندما استشرف الشاعر أفاق المستقبل فأحس – طبقا لسنة التداول- باقتراب دورة حضارية جديدة تتشكل خلف المراوغة الحضارية البادية ، ولاحظ اعتمال أسباب السقوط في جسد المة من ترف وتفكك سياسي ومجون وزندقة وغناء وجوار وخصيان وضياع لهيبة الخلافة ، فالذئب رمز للمراوغة والصراع الحضاري الذي يؤذن بدورة حضارية جديدة ستتاخر فيه الحضارة المسلمة عن الشهود الحضاري إلى الغياب إلى أجل غير مسمى ، والشاعر بحدسه المعرفي يستطيع أن يخلع هذا الحدس وهذه المعرفة الوجدانية على رموزه لتكشل المعادل الموضوعي لحركة وقسمات أحاسيسه ووجدانه.
ودونك مقطعا من قصيدة البحتري في وصف الذئب، لن تجد صعوبة في ربطها بالصراع الحضاري بين القيم الوافدة والقيم الصيلة في العصر العباسي:
قال يصف الذئب من الطويل:
واطلس ملء العين يحمل زورة ** وأضلاعه من جانبيه شوى نـــــــهد
له ذنب مثــــــــل الرشاء يجره ** ومتن كمــتن القوس أعــــــوج منأد
طواه الطوى حتى استمر مريره ** فما فيه إلا العظم والروح والجــــــلد
يقضقض عصلا في أسرتها الردى ** كقضقضة المقرور أرعده الـــبرد
سما لي وبي من شدة الجوع ما به ** ببيداء لـم تحسس بها عيشة رغد
كلانا بها ذئب يحـــــــــــدث نفسه **بصاحبــــــــــه والجد يتعسه الجـد
عوى ثم أقعى وارتــــجزت فهجته ** فأقـــــــــــبل كالبرق يتبعه الرعـد
فأوجرته خـــــرقاء تحسب ريشها **علــــى كوكب ينقض والليل مسود
فـــــــــما ازداد إلا جرأة وصرامة ** وأيقنت أن الأمــــــر منه هو الجد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصـــــلها ** بـحيث يكون اللب والرعب والحقد
فخر وقد اورته منهل الــــــــردى ** علــــــــى ظمأ لو انـه عذب الورد
وقمت فجمعت الحصــى واشتويته ** عليـــــه وللرمضاء مـن تحته وقد
ونلت خسيسا منه ثـــــــــم تركته ** وأقلـــــــعت عنه وهو منعفر فـرد
لقد حكمت فينا الليالي بجـــــورها ** وحكم بنات الدهر ليس لـــ’ه قصد
أفي العدل أن يشقى الكريم بجورها** ويأخذ منها صفوها القعدد الوغد؟!
وأنت لن تجد صعوبة في فهم قصة البحتري مع الذئب على انها ليست إلا قصة فنية ، اخترعها خياله عن عمد من أجل ان يعبر بها عن مكنونات نفسه ، ويبث فيها أحاسيسه وانفعالاته، ويعبر من خلالها عن هذا الواقع المراوغ الذي اختلطت فيه القيم ، وغامت التصورات والمفاهيم ، حتى إن العدل لم يعد في الإمكان نشدانه ، فضلا عن تحقيقه في واقع الناس ؛ فالكرام يشقون بالتمسك بالقيم ، واللئام الأنذال يستمتعون بخيرات الأمة ، وليس أصعب على نفس الكريم من أن يشقى بمبادئه ، وأن تصبح القيم التي يؤمن بها بمثابة القيود التي تكبله وتعزله شعوريا عن مجتمعه، فيكون الاغتراب بكل مرارته وألامه.
ولم يتوقف الأمر على الترميز بالحيوانات بل كانت الطبيعة معينا للمعادلات الموضوعيةالتي طالما نهل الشعراء منها في مختلف الآداب ، فهذا ابن خفاجة الندلسي يرمز إلى القلق والحيرة والصراع الرهيب بين الأمراء من ناحية وبين نصارى الندلس من ناحية أخرى بالريح والليل والظلمة الحالكة، ويجعل الجبل رمزا للثبات المنشود والهيبة المفتقدة ، ورمزا للشيخوخة الخبيرة المحنكة التي تعلم بواطن المور.
ولم يستأثر عصر دون عصر ، ولا أدب دون ادب بهذه الحبلة الفنية الرائعة ، وإنما كانت قاسما مشتركا بين العصور وكل الآداب.
ففي عصرنا الحالي رمز الشاعر الكبير حسن عبد الله القرشي بالحصان المرتهن إلى ماساة الإنسان العربي وانهزامه أمام حضارة رعاة البقر، وجلافتهم وصلفهم وصفاقتهم بله وقاحتهم.
تساءلت فيم ارتهنتم حصاني؟!
سلبتم عنان الحصان
وسرج الحصان
وسمرتموا برصاص الخيانة حافه في الطريق
واجبرتموني على أن أسير في جمرة القيظ وحدي
أخوض في المنحدر
حنانيكموأنا ما كنت يوما ولا ساعة
واحدا من رعاة البقر
ولم أحترف مرة أن اخبئ ظلي
وراء الشجر
واندس تحت ستار المطر
حنانيكمو
أنا ما كنت لصا لقافلة
غادرا بالرفيق
ولا سارقا حفنة من قطيع
ولا قاطعا للطريق
ولا معجبا بلصوص البشر
برغم انحسار المدى وانتحار النهار
برغم ارتهاني حصاني
سأبقى أنا
احاول أن أسترد السنا
ولكنني عدت أرجوكموا
أن تعيدوا إلىَّ حصاني
وسرج حصاني
وخلوا لديكم عناني
إذا شئتموا أن تغلوا زماني
والقصيدة كتبت في (25/8/1405) فهل كان الشاعر الكبير على علم بما سيح بالأمة على أيدي رعاة البقر من احتلال الأرض وانتهاك العرض ، ألم يرتهن الحصان العربي – الآن- رعاة البقر؟! ربما تكون القدرة على استشراف المستقبل خاصة من خصائص المبدع ، وأعظم وظيفة يخدم بها الأديب أمته هو استشراف المستقبل من خلال التحديق في أفقه البعيد، فالأدب مرآة ينعكس عليها الواقع ، ونرى من خلالها بعض مكنونات المستقبل التي يحجبها عنا الأفق.
وبعد فما قصة حمار الشنقيطي وفأر عزَ الدين؟!!
الحسين الشنقيطي مواطن عربي شادٍ في ساحة الإبداع ، يحس ألام الأمة ، ويعايش إحباطاتها ، وتملأ مسامعه صباح مساء أخبار إنكساراتها ، وانهزاماتها ، فالشاعر محبط إذا انفرد بذاته ، محبط إذا عاش في قطعان أمتنا المستأنسة ، فلا هو حقق طموحه الشخصي ، ولا يرى لأمته طموحا تسعى القطعان إلى تحقيقه، إنما – فقط – هي مسخرة مستعبدة في ظل الاستبداد السياسي الذي حبس آمال الفرد ، وصنع من الأوطان سجنا كبيرا ، ومن الشعوب قطيعا لايعرف الحرية.
إن الصورة القلمية التي رسمها الحسين بمهارة عالية تتركب من أربعة أجزاء متلاحمة ومتفاعلة، تتدفق فيها مشاعر الخوف والرهبة ، وتتبدد فيها الحلام السعيدة ، وتتضاءل مشاعر الفء أمام بردين: برد المناخ ، وبرد الاغتراب والكآبة.
فقد "قطعت الحلكة كل خيوط النور ، وتخفى المل وراء أستار الظلام وفي تلافيفه . جو يسحب من الروح أمنيات الفء، ويشعل مكانها كآبة الذكريات"1
بليل زاد بـــــــــــردا واكتئابا ** يضيع به النان فلا تراه
أجــــال الطرف حوله في اتئاد** يؤمـــــل مأمنا مما يراه
وأطـــــــرق برهة وأراد أكلا ** يخفف مــا ألم به عساه
ولكن لم يعد في الظرف شيئ ** وكد البرد جلده واحتواه
يقف الحمار منفردا وحيدا في ظلمة مضيعة ، وبرد قارس ، مولى المخافة خلفه وأمامه ، مستسلما لقيده ، خانعا بظرف الطعام المعلق في رأسه " وحده الحمار لاشيء إلا البرد والجماد ، ولا أحد إلا الصورة المهزومة المرواغة ، والمكان خال تماما حتى من الظل ، ليبقى ينفث مشاعر العزلة "2 التي لايبددها إلا الطعام الذي في الظرف.
فألقى الظرف جانبه وجالت ** شفاهه بـــاحثا عمــا ذراه
ولمــــا البحث أتعبه وكانت ** قيـــــود قبل قــد آذت يداه
تتابـــــع رفسه وأزاح غلا ** تخفف مــــا اعتـــــــراه
وجـــر الحبـل مرات توالت ** وأشرف للتخلص منه فـاه
وتابــــــــع عدوه حرا طليقا ** ييمم صوت أحباب رعـاه
هنالك كان يرجو طيب عيش ** بعيدا عن قساوة مـا رآه
وفي هذا المقطع لما نفد الطعام الذي في الظرف ، أخذ الحمار يلحس ما ذراه على الأرض أثناء الكل – وتفاصيل الصورة الشعرية لها شأو بعيد في استيعاب اللوحة الكلية- ولما أكلَّه البحث ولم يجد طعاما ثار الحمار على قيوده فيم يبدو لنا من ظاهر اللوحة الشعرية ، ميمما صوب صوت يتجاوب فيه النهيق ، وترتفع فيه أصوات الحمير ؛ ففهم الحمار – بغباء شديد- أن قطيع الحمير يعيش السعادة بكل أبعادها.
ولكـــــن صدمة ألقت بعيدا ** رؤاه ، ثم أصبح ما بناه
ركامــا ليس ينفعه تصبر** من المقدور عدّ لـه لقاه
رأى أصحابه سيقوا جميعا ** إلى جبل تصدع ما حواه
لنقل نؤونة أو شد حبل ** تثبت صخرة في منتهاه
فشاك مرغما وازداد هما** وما كانت بعالية منـاه
أصيب الحمار بدمة شديدة من هول ما رأى ، لقد تحول الحلم الذي عاشه إلى ركام غير نافع ، واستسلم لقدره المحتوم ، وكابد الشقاء في حمل المؤن والأثقال ، وإمعانا في إذلال الحمير فإن الصخرة تثبت في نهاية الحبل ‘ ثم يجرها الحمار ليصد بها في قمة الجبل ، فإذا ما سقطت على السفح هبط مرة أخرى ليجرها إلى أعلى قمة الجبل ، والشاعر يشير يستثمر في هذا الجزء من الصورة الشعرية أسطورة سزيف التي ترمز إلى العمل العبثي الذي لايقصد منه إلا الإمعان في التعذيب ، ولم يجد الحمار طريقا للخلاص أو الثورة أو – حتى-
الفرار من نير التعذيب والاستعباد.
كذلك يأخي من فـــــي غمار** البــــــــــحث أنهـــــكه أذاه
يغادر متعبا في كــــــــل يوم** يؤمــــل مطمحا في مستواه
ويمنى بالخسارة حين يغدو ** كلمس النجم مبلغ ما اشتهاه
رجوتك قل لمن يسعى كهذا ** لــــبرقا خلــــــبا كانت رؤاه
ثم يأتي الشاعربرابط رائع هو (كذلك) ولكن على قدر روعة الرابط وقدرته على نقل القارئ في يسر وتلقائية إلى نهاية القصيدة ، إلا أن الشاعر قد أخفق عندما جعل الباحث العاجز عن تحقيق غاياته أيا كانت العقابيل مثل الحمار هذا ، لأنه أوقف تنامي الصورة الشعرية وما تحمله من دفقة شعورية ملؤها المرارة والألم ، وأقفنا مجبرين عند حود التشبيه ، وقد يحملنا ذلك على على تفهم مشاعر الخرية والحنق اللذان يملآن جوانحه إزاءموقف أمتنا من الباحثين والموهوبين ، فأمتنا تركت البحث العلمي للمبادرات الفردية، وحولت مؤسسات البحث العلمي إلى جمعيات خيرية تعتمد على الهبات والعطايا، وأسرفت في الإنفاق على مواطن الفجور وتوافه الأمور، وألقت عصا الترحال في سبيل العلم ، ولو لم يؤطر الشاعر الصورة في حدود مشكلته الذاتية ، ولو تمكن من تحويل هذه التجربة الذاتية إلى تجربة إنسانية عامة لعددت القصيدة من عيون الشعر العربي المعاصر ، ولكان للصورة أبعاد أخرى أشرت إليها في بداية تفسينا للصورة الشعرية ، وحسب الحسين أنه تحدث إلى نفسه بصوت مرتفع وحرية تامة ، وأشار بشكل خفي إلى بلادة الإنسان العربي التي غلبت بلادة الحمير.
وأظن أن الشاعر يتساءل: لقد ثار الحمار على جوعه وقيده ، فهل يثور العربي على قيوده وألامه وأسره ؟! أم أن العصفور إذا ألف القفص يحن إليه ، ولايضيق بفقدان الحرية كلما رأى أسراب الطيور تتغنى بها في أجواز الفضاء فيعود إلى القفص بمحضإرادته؟!! كما ضاق الحمار بفقد حريته وتمنى لو عاد إلى القيد مرة أخرى.
ولعل القارئ يتساءل عن الموقع الإعرابي لكلمة (يداه) في البيت السادس ، وأظن أن شاعرنا (الحسين) سيجيب بالشاهد النحوي :
إن أباها وأبا أباها قد ** بلغا في المجد غايتاها
إشارة للهجة العربية التي تلزم المثنى الألف رفعا ونصبا وجرا.
وغنه ليحسن بنا أن نختم إبحارنا في قصيد الحسين ببضعة أبيات للبلاغي الكبير أبي هلال العسكري ؛ ليجد فيها الحسين عزاءه وسلواه:
إذا كان مالــــــــي مــــن يلقط العجم **وحالي فيكم حال من حاك أو حجم
فأين انتفاعي بالأصالـــــــة والحجى ** ومــا ربحت كفي من العلم والقلم
ومن ذا الذي في الناس يبصر حاتي ** ولا يلعن القرطاس والحبر والقلم
ويقول أيضا :
جلوسي في سوق أبيع وأشتري ** دليل على أن الأنام قرود
ولا خيـــــر في قوم يذل كرامهم ** ويعظم فيـهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عنــــي رثاثة كسوتي ** هجاء قبيحا ما عليه مزيد
فهون عليك يا شنقيطي ، فليس حال علمائنا الرواد بأحسن مما عليه حالنا ، ونتمنى لك فتحا مبينا في عوامل الشعر _- إن شاء الله – فأنت في بداية الطريق ، وفي مقتبل العمر، ودونك مستقبلا رحبا وطريقا لاحبة ، فحث المسير، وطريق الألف ميل - كما يقولون – يبدأ بخطوة
مع خالص الدعوات
جمعة سعد الشربيني
جدة21/4/ 2004م
أما صاحب الفأر فويل له من ، وويل لي منه، وويل لقطه وفأره – على رأي طه حسين عندما كان يتوعد كلا من الرافعي والعقاد، ولكن قبل أن نبدأ الإبحارمعا في لجج هذه المسرحية الشعرية سنحاول قراءتها سويا :
مسرحية شعرية
(القط والفأر)
القط قال مرة ** للفأر يكفي ما جرى
حرب تدار بيننا ** صارت مثالا للورى
هلا عقدنا صفقة** انظر وقل لي ما ترى
ندع الخلاف فإنني** أراك فأرا نيرا
والفأر ينظر خائفا ** ولا يصدق ما يرى
القط كان ببيته** بعض الطعام فأحضرا
وجاء للفأربه** جبنا ونبتا مثمرا
والفأر من فرط العجب**يراه جن وما درى
الدق زاد برأسه**لكنما صوت سرى
ويقول جرب لاتخف** أراك لا لن تخسرا
فقال يشهد عهدنا** جمع يقر بما يرى
هذا ويعلم أمرنا** حتى البوادي والقرى
فقال أبشر يافتى**لك ما تريد وما ترى
ساد الهدوء ساعة**والقط قام مشمرا
وقال هيا يأخي** سأريك شيئا مبهرا
هيا نقوم برحلة** فالنهر أبهى منظرا
فهوا الربيع نسيمه**جعل الهواء معطرا
إن الربيع حياتنا**فخذ الربيع الأنورا
إن الحياة قصيرة** فهل نسير القهقرى
فقال حقا صاحبي**إني أراك مفكرا
في قارب متمايل**رأيا جمالا ساحرا
القط صار مجدفا** والفأرداعبه الكرى
القط جاع من التعب**فصار ينظر حائرا
فكيف يأكل فأرنا** ولا يلام يا ترى
الفأر يلعب هانئا** والقط صاح مزمجرا
عكرت جو الرحلة** صارالهواء مغبرا
الفأرقال بدهشة** أترى الغبارتناثرا
في الماء نحن يأخي**ههيهات أن تتغيرا
هذا الربيع نسيمه**جعل الهواء معطرا
هو للحياة حياتها** فلا نسير القهقرى
القط قال هكذا**أراك مني ساخرا
ولقد جرحت كرامتي**جرحا عميقا غائرا
لابد من قتل الذي**داس الكرامة جائرا
هي حكمة مكتوبة**صارت مثالا سائرا
لاتصحبن غادرا**أو خائنا متآمرا