حول شعر مدرسة الإحياء و البعث
على سبيل التقديم:
• كان للشعر العربي نصيبا ً من النهضة الحضارية التي حدثت في عهد محمد علي بعد أن عانى طويلا ً من الجمود و الضعف على مدى عقود و سنوات طويلة و لكنه لم يرتق إلى مرحلة الانتعاش الكبير إلا علي يد محمود سامي البارودي رائد الشعر العربي الحديث و مضي في إثره احمد شوقي و حافظ إبراهيم و الزهاوي و حسين المرصفي من خلال مدرسة الإحياء و البعث منذ نهاية القرن التاسع عشر و التي عمل شعراؤها على بث روح التجديد في الشعر العربي استناداً على موروث أدبي ضخم كان يتمتع به شعراء هذه المدرسة حيث حرصوا على العمل من خلال منظومة تحافظ على المثل العليا في الشعرية القديمة و إخضاعها للتحديث مع مراعاة الوظيفة الاجتماعية للقصيدة . و رغم حرص الإحيائيين على التطوير و التجديد إلا أن إيمانهم بالموروث العربي القديم عمل على تقويض حرية القصيدة و تقليص مساحات الذاتية و خصوصية التعبير
ملامح شعر الإحيائيين
شعر الحادثات :
كان لتمسك الشاعر الإحيائي بالوظيفة الاجتماعية للقصيدة أثراً كبيرا ً في طبيعة إنتاجه الشعري مما أدى إلى ازدهار ما اصطلح على تسميته شعر الحادثات و الذي اعتبره بعض النقاد لا يرقي لمستوى شعر المناسبات و لكن الصحافة في عصر أحمد شوقي و حافظ إبراهيم كانت تولي اهتماما ً كبيرا ً بنشر هذا النوع من الشعر عبر صفحاتها المختلفة فنجد مثلا أحمد شوقي يكتب لزلزال وقع في اليابان عام 1925 قصيدة مطلعها :-
قف بطوكيو و طف على يوكوهامه // و سل القريتين كيف القيامة ؟
دنت الساعة التي أنذر الناس // و حلّت أشراطها و القيامة
قف تأمل مصارع القوم و انظر // هل ترى من ديار عاد دُعامة؟
خَسفت بالمساكن الأرض خسفاً // و طوى أهلها بساط الإقامة
و كذلك كتب في حريق أصاب ميت غمر 1905 قصيدة مطلعها :-
الله يحكم في المدائن و القرى// يا ميت غمر خُذي القضاء كما جرى
و هذا يعكس مدى حرص الإحيائيين على الحفاظ على المكانة العامة للشعر و الدور الاجتماعي للقصيدة .
الصنعة الشعرية و الشاعر الإحيائي :
سار الإحيائيون على نهج أسلافهم من نقاد التراث و بلاغييه باعتبار الشعر صناعة قولية تكتسب بالممارسة و الحفظ فالشاعر مثل أي صانع يجب عليه تعلم كيفية صنع الشعر عن طريق الرجوع إلى القواعد المأخوذة من تجارب السابقين و الممارسة فالشاعر صانع ينتج من أجل مستمعين و عليه أن ينمي صناعته و يتقنها و يقدم ما يرضي المستمع و القارئ. و من وجهة نظري هذا يعتبر نوعا ً من تقليص فضاءات الشاعر و مساحات انتقاله عبر مساحات الابتكار الشخصي و التجديد , فتحويل الشعر إلى مجرد صنعة يحددها موروث السابقين يعد جورا ً علي وظيفة الشعر كإبحار في ذات الشاعر و تعبيرا ً مباشراً أو غير مباشر عن مكنونات نفسه .
الإحساس باللغة:
كان لاستغراق الشاعر الإحيائي في الموروث القديم كبير الأثر على إهماله للجوانب الخلاقة في اللغة و افتقاده لإحساسه الفردي بها , فقد خلط بين الاستعمال الأدبي لها في الشعر و استعمالها في المجال العلمي و كان منفصلاً عن لغته التي لم يعالجها من حيث صلتها بمخزونه الشعري الفردي .
و ذهبوا إلى أن الفارق بين الشعر و غيره من الأنشطة اللغوية هو أن لغة الشعر تعتمد أكثر من غيرها على الزخارف و التخيلات التي تقدم المعنى للمتلقي في قالب منمق و موزون .
اعتمد الشاعر الإحيائي على الجرس اللفظي للكلمة دون المدلول النفسي الخاص بمخزونه الشعري الفردي حيث لاحظنا استخدامه لكلمات لا يمكن أن يكون لها صلة بشخصيته أو معنى حي في أعماقه . فنراه مثلاُ يستعمل كلمات تحكي بيئة مخالفة و مغايرة تماما لما يحيا .
الذات و الشاعر الإحيائي:
كنتيجة طبيعية لانخراط الشاعر الإحيائي و ذوبانه و تقوقعه في محيط أسلافه التقليديين اختفت ذاتية الشاعر تمشياً مع أهدافه الاجتماعية مما أدى إلى غلبة التعميم على شعره و تجاهل تجاربه الخاصة و مشاعره و انفعالاته فلا سبيل أمامه لتحقيق تفوق شخصي أو ابتكار ما يميزه فصارت قصائده انعكاسا لحالات الحزن العام أو الابتهاج العام في المناسبات و الحادثات المختلفة مما ينفي الطابع التخيلي الذي يقترن بالتخصيص و التجسيم و التعيين .
و يعتبر هذا سببا ً كفيلا ً أيضا ً في إغراق شعره بالمبالغات و الافتعال لأنه كان يكتب غالباً في مدح الحاكم و القوة الشعبية أو ذم الأعداء فسيضطر رغما ً عنه للمبالغة في الوصف و المدح أو سرد النواقص و الافتعال حتى يتمكن من توصيل الفكرة و تلقي الصدى الاجتماعي الذي يبتغيه.
كما تسببت محاولات الشاعر المتعددة للتفوق على سالفيه و بناء نهجاً مميزا ً له بالاعتماد على موروثة الأدبي منهم و قيامه بتوليدات الصور البلاغية من الصور البلاغية القديمة عشرات المرات أدى إلى المبالغة و النمطية .
اللفظ و المعنى في الشعر الإحيائي:
كانت رؤية الإحيائيين للفظ و المعنى تعكس ذات الرؤية النقدية و البلاغية القديمة و هي المقدمة المنطقية التي بنى عليها مفهوم الشعر بوجه عام و مفهوم التصوير بشكل خاص و ذلك من حيث الطبيعة النوعية للشعر و التصوير عندهم.
فيشير مصطلح "المعاني" في كتاباتهم إلى المقاصد أو الدلالة النثرية للأبيات مجردة من كل الحواشي و الزخارف و يعكس هذا المفهوم ثبات المعني قبل الشروع في كتابة القصيدة و بعد كتابتها.
و لا يحيد الفارق البسيط بين المعنى المتكون مسبقا ً في الذهن و المعنى بعد كتابته في القصيدة عن مجرد الكسوة اللغوية , و لذلك ذهبوا إلى أنه يمكن التعبير عن المعنى الواحد بأشكال و أساليب متعددة قد يكون لبعضها رونق و جمال ليس في غيرها , و للمعاني لديهم دلالة ثانوية فنراهم أحيانا يتحدثون عن المعنى المخترع أو النادر أو البديع أي لا يعني مجرد المقاصد أو الدلالة النثرية و لكن يعنون التشبيهات و الاستعارات و في تلك الدلالة أيضا لم يحيدوا عن الاتجاهات التقليدية لأسلافهم .
و الألفاظ عند الإحيائيين ما هي إلا إشارات ثابتة أيضا ً يختص كل منها بدلالة فردية ثابتة , يشير إليها و لا يتعداها إلا في الحالات المجازية التي هي بمنزلة انحراف في مجرى الدلالات العادية للألفاظ أو خروج على الطبيعة العادية للغة.
و إذا ما أراد الشاعر إحداث نوعا ً من الخروج عن هذا الثبات فلا يمتلك الحرية الكاملة من اجل ذلك فهو هنا أيضا لابد أن يتقيد بالحدود التي رسمها أسلافه.
جمود الصورة بين التشبيه و الكناية:
يلاحظ أن الكثير من الصور الواردة في أشعار الإحيائيين تعكس نوعاً من المحدودية و الثبات في الدلالة , فهي تمشياً مع تقليد القدماء والهدف الاجتماعي و التعليمي الإقناعي للقصيدة و الذي حافظوا عليه في قصائدهم التي كانت تقوم على أساس ثنائي مزدوج في أكثر الأحيان فكان التفكير في القصيدة يسير في خطوتين متتابعتين أو منفصلتين تتمثل الخطوة الأولى في عرض الفكر بشكل نثري بحت و تتبعها الخطوة التالية بإتيان الصور التي لا تستخدم إلا للإشارة الموضحة للمعنى النثري الذي يسبقها عادة و يجمدها في دلالة فردية ثابتة لا تتجاوز حدوده و لا تفلت من قيده فتخرج الصورة جامدة و إشارية و بالتالي غير قادرة على أن تشع في اتجاهات متعددة أو تحقق الاستجابة الوجدانية لدى القارئ.
و لتحقيق الهدف الإقناعي من القصيدة كان يلجأ الشاعر إلى :
- الشرح و التوضيح : و الصور التي تؤدي هذه الوظيفة عادة هي الصور التشبيهية فالتشبيه يستطيع الجمع بين الفكرة و مقابلها الموضح على نحو لا تستطيعه الاستعارة التي تلغي الحدود العلمية بين الأشياء و تخلط بينها , لذلك كان يهرب من غموض الاستعارة إلى وضوح التشبيهات .
- التحسين و التقبيح : و هي الخطوة الثانية في عملية الإقناع و نرى فيها الشاعر يقرن المشبه بما يحسنه أو يقبحه للترغيب فيه أو للتنفير منه في أسلوب جدلي بحت يؤكد عملية الإقناع.
- البرهنة و الإثبات : حيث يقوم الشاعر الإحيائي بذكر شواهد القضية التي شرع في تناولها و يلجا هنا إلى الاعتماد على الكناية و كذلك تشبيه التمثيل و هو أقرب إلى أن يكون نوعاً من أنواع الاستدلال أو القياس في المنطق, فالشاعر يبدأ فيه بادعاء دعوة ثم يقيم عليها الدليل بأن يسوق لها شاهداً يماثلها و مجرد لجوء الشاعر إليه و الإكثار منه يدل على أنه يفكر في قصيدته تفكيراً منطقياً.