عبد القادر الجيلاني
بين الحقيقة التاريخية والأسطورة الأدبية
بقلم البروفسورة جاكلين شابي
ترجمة الدكتور حسن سحلول
إننا
نكاد نجهل كل شيء عن عبد القادر الجيلاني، وليس في نيتنا إذ نصرح بهذا، أن نعبث بالمفارقات ولكننا نرغب أن نكشف عن حقيقة ظهرت لنا حين بدأنا نهتم بحياة الشيخ عبد القادر التاريخية في القرن السادس الهجري. إن أي شخص درس الإسلام قد سمع ولا شك بالجيلاني، ولكن الإنسان يميل أحياناً إلى أن يعتبر من باب الحقائق البديهية وقائع لم يقم عليها البرهان بعد. ولكن من واجب المؤرخ أن يلتزم الصرامة والدقة، وأن ينظم المعلومات التاريخية حسب ترتيبها الزمني وأن يضعها في مكانها الصحيح من السياق الاجتماعي والتاريخي الذي وقعت به.
والحال أنه يظهر، فيما يتعلق بعبد القادر، أن قد حدث خلط شديد في العصور التاريخية، وأنه قد نظر بعين واحدة إلى واقع متعدد المظاهر تكونه أحداث تنتمي إلى مستويات مختلفة. فدراسة شخصية الجيلاني باعتبارها شيئاً واحداً أمر يثير مسألة معقدة. فالشيخ عبد القادر هو قبل كل شيء ذلك الفرد الذي قضى معظم حياته في بغداد عاصمة الدولة العباسية المتداعية في القرن السادس الهجري الموافق للقرن الثاني عشر الميلادي. وهو كذلك شيخ طريقة صوفية تعرف باسم القادرية، وما تزال تعيش في أيامنا هذه وتمتد من ماليزيا وحتى شمال إفريقيا.
لقد قلنا شيخ الطريقة ولم نقل مؤسسها ولهذا أهميته. ففي الحقيقة يبدو من باب الشطط، حسب معارفنا اليوم، أن نؤكد أن الجيلاني قد أسس القادرية خلال حياته. ويظهر بالأحرى أن هذه الطريقة لم تظهر إلا بعد وفاته. وسمتا شخصية الجيلاني المزدوجة هاتان، أي شخصيته التاريخية وشخصية مؤسس الطريقة تضطران الباحث الحديث إلى أن يختار بينهما وإلى أن يحدد موضوع دراسته بدقة.
إن دراسة أسطورة شيخ الطريقة من الناحية الاجتماعية والإيديولوجية أمر مشروع كما هو مشروع أن يدرس الشخص نفسه من الناحية التاريخية. وبعد أن يحدث اختيار هذه الدراسة أو تلك ينبغي لنا أن نفصل فصلاً كاملاً بين هذين النوعين قدر الإمكان. وبما أنني اخترت الحديث هنا عن شخصية الجيلاني التاريخية فسأحاول أن أطرح بعيداً كل ما يتعلق بأسطورة شيخ الطريقة، وإلا اختلطت علينا الدروب.
مسألة المراجع
إن أول القضايا وأهمها هي ولاشك تلك التي تتعلق بالمراجع التي يمكن استخدامها ضمن منظورنا، وعليه فإن أول ما نلاحظه هو أن المراجع المتوافرة لدينا هي كثيرة وشحيحة معاً. فهي كثيرة بخصوص شيخ الطريقة وشحيحة فيما يتعلق بالرجل التاريخي. ويجب أن نضيف إلى هذا أن المعطيات تختلط في أحيان عديدة حتى ليصعب أن نميز منها ما يعود لهذا الجانب أو ذاك من شخصية الجيلاني، وأن المصادر التي تضم معلومات عن شخصية الجيلاني التاريخية هي بطبيعة الحال مصادر من القرن السادس، أي إنها مصادر معاصرة ولكنها على أهميتها ضعيفة العدد.
وسنعود إلى هذه النقطة فيما بعد، وأما المصادر المتأخرة، وهي عديدة، فإنها تنتشر من القرن السابع وحتى عصرنا الحديث. ولكنها، باستثناء عدد ضئيل منها، مشبعة كل الإشباع أو بعضه بما سنسميه بالذهنية الطرقية، وهي ذهنية لا تعنى إلا قليلاً باحترام الموضوعية التاريخية كما نراها في عصرنا.
ولأن هذه المصادر تثير مسألة عامة فإننا سنبدأ بدراستها، ولكن قبل أن نشرع بذلك، فإننا نطرح السؤال التالي: كيف تشكلت ذهنية كهذه ثم تعممت حتى أنها حرفت معطيات عصر بكامله، ولو عن طريق تجميلها؟
من السهل أن نفهم الأمر إذا عرفنا أن الحركة الصوفية قد تطورت على نحو لم يسبق له مثيل إطلاقاً في شتى أنحاء العالم الإسلامي وذلك ابتداء من النصف الثاني من القرن السادس وطوال القرنين اللاحقين. فقد ظهر في تلك الفترة عديد من الطرق الصوفية الإسلامية، ومن أقواها. وأدرك بعضها النجاح وما زال حتى مطلع عصرنا الحديث، حتى إن بعضهم قال فأصاب بأن القرن الثامن هو قرن التصوف في بلاد الإسلام. ولنقارب الصواب مقاربة أكبر نرى أنه يجب القول بأن القرن الثامن هو قرن الطرق الصوفية. وما كان لهذا التطور أن ينجز بدون أن يؤدي إلى نتائج خطيرة في الميدان الإيديولوجي. فالطريقة منظمةٌ وسائل نضالها الأساسية وسائل إيديولوجية، وهي لا تملك وسائل الإكراه المادية لفرض ذاتها، على الأقل علنا. وهكذا ندرك أن للدعاية الهادفة إلى كسب انتساب الأعضاء أو عطائهم دور أساسي في حياة منظمة من هذا الطراز. وأية وسيلة لجذب الأعضاء أو لكسب عطائهم تلجأ إليها طريقة ما أحسن من أن تتخذ لها شيخاً يبلغ من عظمة أفضاله أنها لا تصيب بعد موته مريديه وحسب وإنما تصيب كل من يتشفع به بعد موته بأن يبذل العطاء؟ وعليه فان كتّاب سيرة الجيلاني من أهل الطريقة يقولون بأن أحفاد كل من عاش بقرب الجيلاني أثناء حياته، أو قطع الطريق أمام مدرسته يذهبون مباشرة إلى الجنة، وذلك حتى الجيل السابع منهم. وهكذا فان تطور تقديس شيوخ الطريقة وإسباغ الفضائل جميعها عليهم راح يتعاظم بقدر ما كان يتعاظم عدد الطرق أو تشتد المنافسة بينها.
وإنه لمن نافل القول أن التاريخ الذي يكتب في سياق طريقة يعظم شأنها أو في وسط مشبع بروح الطرق هو تاريخ يقصد منه قبل كل شيء أن يساعد على انتشار الطريقة وينتهي به الأمر إلى أن تكون له معايير في تقييم تاريخية الأحداث بعيدة كل البعد عن معاييرنا نحن. ولكي نأخذ فكرة عن التطور الناجز، يكفي أن نقارن بين كتابين ينتميان لنوع واحد ونقصد كتابين في طبقات الحنابلة، كُتب أولهما في عصر يمكن أن نسميه عصر ما قبل الطرقية بينما أنشىء الآخر في عصرها. فلقد ألف القاضي أبو الحسين ابن أبي يعلى الحنبلي كتاب طبقات الحنابلة في بداية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي وألف ابن رجب كتاب الذيل على طبقات الحنابلة، وهو تكملة للكتاب السابق في القرن الثامن/ الرابع عشر. بيد أن الكتابين يشتركان معاً في معالجة مرحلة طولها نصف قرن تقريباً هي الأربعون سنة الأخيرة من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي والسنوات العشر الأولى من القرن السادس، وبما أن القاضي أبا الحسين يكتب عن مرحلة يعيشها وابن رجب يكتب عن المرحلة نفسها بعد قرنين من الزمان، فإن المقارنة بين الكتابين مفيدة جداً وتسمح لنا بقياس الطريق الذي قطع بينهما. فنلاحظ مثلاً أن رجلاً يعتبره أبو الحسين تقيا وحسب يصبح في كثير من الأحيان، عند ابن رجب، رجلاً صوفياً من الطبقة الأولى وصاحب كرامات وذا بركة أو يصبح واحداً من الأبدال على قمة هرم الأولياء.
ونحن لا نريد بمثالنا هذا أن نقول ابن رجب كان مؤرخاً بلا ذمة. ولكننا نريد القول بأنه كان متأثراً بعقلية عصره. وكذلك أبو الحسن، فإنه لم يكن بعيداً عن عقلية عصره، أو عن التدين الشعبي، أو عن الإيمان بخوارق الطبيعة الذي ملأ كل القرون الوسطى الإسلامية.
وما نعتقده، ببساطة، هو أن قفزة حقيقية قد وضعت كماً وكيفاً بين زمني الرجلين، وأن معاصري ابن رجب أميل إلى إسباغ صفات فوق إنسانية على مظاهر التقوى والورع الكبيرة، وان هذا الأمر شديد الارتباط بتطور نوع جديد من المنظمات الاجتماعية العقائدية وانتشاره، ونقصد بها الطرق الصوفية. ونحن لا نهدف هنا إلى إقامة الحجة الدامغة في ميدان ما يزال البحث فيه ناشئاً، ولكن أكثر ما نطمح إليه هو أن نظهر بعض الاتجاهات الأساسية فيه. وقد كان يبدو لنا أمراً ذا أهمية أن ندرك خطورة المسألة وقصور أدوات عملنا في هذا الميدان.
وعلينا أن نتساءل الآن كيف تجسد هذا التطور في حالة الجيلاني، وكيف انعكست العقلية الطرقية التي ألمحنا إليها على المراجع المتعلقة به. ولقد ظهر لنا أنه ينبغي أن نحدد كيف ومتى تكونت أسطورة الجيلاني شيخاً للطريقة إذا أردنا أن نحصر حقلاً من المعلومات الموثوقة نسبياً والمتعلقة بشخصية الجيلاني التاريخية.
يبدو أن عملية تقديس الجيلاني قد بدأت عقيب وفاته كما تشير إلى ذلك بعض الملاحظات التي استطعنا جمعها، ويظهر أنها انطلقت من أوساط الشافعيين المتصوفين في نهاية القرن السادس/ الثاني عشر. وقد اتهم ابن تيمية، وكان من النادرين الذين ظلوا يتمتعون ببصيرة ثاقبة بخصوص ما يجري، أوساط الشافعيين هذه بالتلفيق بخصوص ابن مرزوق معاصر الجيلاني. ويظهر أن عدداً كبيراً من أنصار الجيلاني من الجيل الثاني بعد وفاته قد سلك منعطف التصوف في النصف الأول من القرن السابع. وعليه فإنه يسعنا افتراض أن أسباغ سمة القداسة قد تقدم خطوات أكبر. ولاشك في أن المؤرخين البغداديين في ذلك العصر من أمثال ابن النجار كانوا متأثرين بعقلية زمنهم. ولكي ندرك الوضع بدقة أكبر يجب أن نضيف أن الحركة التقليدية عامة، والحنبلية منها على وجه الخصوص، كانت تتطور على نحو شديد تطوراً يشابه ما لمسناه عند أنصار الجيلاني. وهذا التطور هم تماه وتطابق متزايد مع ممارسات أوساط الصوفيين وايديولوجيتهم. ويبدو كما قلنا أن هذا التطور مرتبط بنمو الطرقية، فممارسات كانت تحرم على نحو قطعي كالرقص والسماع تُقبل الآن قليلاً قليلاً. ومقاومة هذا التطور تضعف مع مرور الأيام، ويبدو أن هذا التطور قد أنجز في القرن الثامن/ الرابع عشر. وعليه فإننا ندرك لماذا يجب أن نستخدم بحذر بالغ أقوال الكتاب المتأخرين عن عصر الجيلاني، وذلك مهما كانت ميولهم، ولقد رأينا مثلاً الهوة التي تفصل ابن رجب الحنبلي عن كاتب من القرن الخامس كابن أبي يعلى. فهو متأثر كثيراً بالأساطير الشائعة في أيامه حول حنابلة القرون الخالية إلا حين يستشهد بنقد لها عن شيوخ ثقة كابن الجوزي أو ابن تيمية. وتعتبر الفقرة التي يخصصها لموت الجيلاني نموذجاً لهذا النوع من الكتابة. فنحن نجد فيها وقائع تاريخية حقيقية مع مجموعة لا تكاد تصدق من أساطير نسجت في وقت متأخر لخدمة دعاية الطريقة القادرية.
وعليه فنحن مرغمون على اللجوء في المقام الأول إلى كتّاب القرن السادس الهجري لنجد أرضاً ثابتة، وفيها يتميز ابن الجوزي الحنبلي البغدادي ممن لم يتأثروا بالعقلية الطرقية.
وقد مات ابن الجوزي بعد ربع قرن من الجيلاني، ولكن فترة ذيوع صيته تتوافق مع فترة شهرة الجيلاني ولأكثر كتبه قيمة كبيرة في دراسة المرحلة عامة والوسط الاجتماعي والإيديولوجية في بغداد على وجه الخصوص. وهو يذكر الجيلاني صراحة في تاريخه المنتظم وقد كتب رسالة هاجم فيها الجيلاني، ولكنها مفقودة على ما يبدو، بيد أن معاصري الجيلاني الآخرين لا يذكرونه باستثناء السمعاني الذي يذكر حوله أشياء لا قيمة لها. ويجب أن نفسر هذا الصمت طبعاً على أنه مؤشر إلى سمعة الجيلاني في أيامه.
وهناك معلومات أخرى يمكن الاستفادة منها كل الاستفادة وهي المتعلقة بشيوخه من الحنابلة. فأبو الحسين ابن أبي يعلى يعطي عنهم في كتاب الطبقات فكرة هي دون ما سيقال عنهم فيما بعد بكثير. بيد أن لوثائق القرن السادس على ثبوتها عيوباً كثيرة. فهي قليلة وتصدر عن عدد محدود جداً من المؤلفين. وابن الجوزي يشغل بينهم مكاناً واسعاً. وهذا يثير شيئاً من الضيق حين نذكر أن الرجل كان يجحف حق خصومه. ومع ذلك فان للمعلومات التي يقدمها ابن الجوزي، بصفته معاصراً للجيلاني، مصداقية تاريخية أكبر بكثير من تلك التي يتمتع بها الكتاب المتأخرون. وعليه فان ألجأنا ضعف المصادر المعاصرة أحياناً إلى كتاب متأخرين من عصر ابن رجب مثلاً، فان كتاب القرن السادس هم مرجعنا في فصل الخلاف.
المرحلة السابقة لظهور الطرق. القرن السادس/ الثاني عشر.
1. القاضي أبو الحسين ابن أبي يعلى، توفي عام 526/1131م، صاحب كتاب طبقات الحنابلة. عند وفاته كان الجيلاني يبلغ من العمر ستاً وخمسين سنة، وهو يقيم في بغداد منذ ثلاثين عاماً. ولكن الطبقات لا تذكره بين الشيوخ المعاصرين ولا بين تلاميذ شيوخ الجيل السابق. وهذا الصمت يؤشر إلى الصيت الذي كان الجيلاني قد بلغه آنذاك. ولكن كتاب الطبقات يفيدنا في معرفة عدد كبير ممن يُعتبرون شيوخاً للجيلاني.
2. السمعاني: وتوفي عام 562هـ/1160م في مرو. ويذكر محمد التاذفي في كتاب القلائد أن السمعاني يتحدث عن الجيلاني في كتابه ذيل تاريخ بغداد. والواقع أن ما يذكره الذيل من معلومات يطابق ما يذكره بقية الكتاب المعاصرين للجيلاني، إنه فقيه حنبلي ورجل ورع.
3. ابن الجوزي: وتوفي عام 597هـ/1200م. وهو أصغر سناً من الجيلاني بكثير. بيد أنه قد ذاع صيته كواعظ وهو حدث شاب. ويمكننا أن نعتبر أن حياة الرجلين متوازية. وليس هناك من ذكر أبداً للجيلاني في كتب ابن الجوزي العامة ككتاب تلبيس إبليس. ويرى عبد الحامد الألوسي في كتابه الصادر في بغداد عام 1965 بعنوان مؤلفات ابن الجوزي أن كتاب الرد على الجيلاني ضائع. بيد أن ابن الجوزي يذكر الجيلاني كثيراً في كتابه المنتظم. ولكن من عام 541هـ/1146م حسب رواية ابن رجب وابن خلكان مما يشير إلى أن شهرة الجيلاني قد بدأت تتسع. ونشرح صمت ابن الجوزي هذا بتحيزه ضد الجيلاني. ويتضمن المنتظم معلومات بالغة الخطورة تتعلق ببعض شيوخ الجيلاني وخصوصاً حماد الدباس الذي كان شيخه في الزهد على ما يقال. وقبل أن ننتقل للعصر التالي ينبغي أن نشير إلى أن ابن جبير، الرحالة الأندلسي الشهير، وقد كان في بغداد عام 580هـ/1186م، لا يذكر أبداً الجيلاني الذي كان قد توفي قبل عشرين عاماً تقريباً، لاشك أن المسافر العابر لا يستطيع رؤية كل شيء، ولكن ربما كان هناك قرينة يحسن بنا أن لا نغفلها.
ولنذكر أخيراً من هذه المرحلة عبد الغني المقدسي المتوفى عام 600 هـ/1203م وموفق الدين بن قدامة المتوفى عام 620هـ/1223م. وقد عرف هذان الجيلاني قبيل موته عام 561هـ/1165م حسب رواية ابن رجب. وأن ما يذكره عنهما في كتاب الذيل وعن طريقة حياة الشيخ عبد القادر لأشياء هامة لا تتطابق وما يذكره كتاب الطريقة القادرية. ولكننا لا نجد، واأسفاه، أية إشارة واضحة للجيلاني في كتبهما.
مرحلة الطرق، القرن السابع/ الثالث عشر وحتى القرن الثامن/ الرابع عشر.
1. ابن الأثير الشافعي الأشعري: توفي عام 630هـ/1233م. يبدو مناصراً للتطور الطارىء على الصوفية ومعارضاً بحزم للحركة التقليدية. فهو يذكر في كتابه الكامل معلومات حول عدد كبير من الأشخاص تناقض ما يذكره عنها ابن الجوزي.
2. شهاب الدين السهروردي الشافعي: توفي عام 632هـ/1234م. وهو من نظر لانضمام الحركة الصوفية المنظمة في أربطة إلى حياة المجتمع الإيديولوجية الرسمية. وكان بذلك الناطق باسم الخليفة الناصر قبل أن يفقد ثقته. وكان له من العمر نحو عشرين عاماً عند وفاة الجيلاني. ونسبة إليه بدأت تظهر بعض الأساطير المتعلقة بالجيلاني. وهو يذكر الجيلاني اسماً في كتابه عوارف المعارف بخصوص زواج الزاهد.
3. ابن النجار الشافعي: توفي عام 643هـ/1245م. واحد ممن تابعوا كتاب تاريخ بغداد، ويظهر من النصوص التي نقلتها عنها كتب السير الطرقية أنه قد بدأ يخلط شخصية الجيلاني التاريخية بأسطورة شيخ الطريقة.
4. ابن عربي: المفكر الصوفي الشهير. توفي عام 643هـ/1210م. يذكر الجيلاني نصاً في كتاب الفتوحات المكية ويبدو أنه يحاول أن يشد إليه سمعة الجيلاني التي أصابته بعد وفاته بولي الإسلام. وقد اتهمه ابن تيمية صراحة بالتلفيق في كتابه بغية المرتاد.
5. نور الدين الشطنوفي: القارىء المصري الشافعي، توفي في العصر المملوكي عام 713هـ/1314م. صاحب كتاب بهجة الأسرار وهو عن حياة الجيلاني من الطراز الطرقي بكل معنى الكلمة. ولقد نقده بشدة كاتب متأخر هو ابن رجب واتهمه بالتلفيق، وكتاب التاذفي قلائد الجواهر هو تلخيص لكتاب البهجة.
6. ابن تيمية الحنبلي: مات عام 728هـ/1328م. معاد لكل ما يعتبره بدعة. وهو يذكر الجيلاني كثيراً، وبعض معاصريه من أمثال ابن مرزوق ليهاجم التزوير الذي يلجأ إليه تلامذتهم في أيامه. غير أنه متأثر بعض الشيء بالعقلية الشائعة في أيامه، فنجده مثلاً يلقب الجيلاني بولي الإسلام.
7. الذهبي: توفي عام 748هـ/1348م. وهو متأثر إلى حد كبير بالأساطير المتناقلة حول الجيلاني.
8. ابن كثير: توفي عام 774هـ/1373م وهو لا ينجو في كتابه البداية والنهاية دائماً خطا موافقاً للصوفية الطرقية، وهو يذكر الانتقاد حين يجده.
9. ابن رجب: توفي عام 795هـ/1392م مؤلف كتاب ذيل على طبقات الحنابلة، ويمكن الاستفادة بشكل عام من كتابه، بيد أنه متأثر بالأساطير الشائعة حول هذا الشخص أو ذاك والتي كان يعتبرها عصره من الوقائع الثابتة. وما يذكره عن حياة الحنابلة اعتباراً من القرن الخامس وحتى منتصف القرن الثامن هو من أهم ما يتوافر لدينا عن تلك المرحلة، ولكن يجب مقارنته دائماً بمصادر أقدم منه.
إن المصادر المتأخرة من هذه الفترة وفيرة، ولكن شخصية الجيلاني التاريخية تختفي فيها خلف شخصية شيخ الطريقة. فهي إذن من مراجع البحث حول الطريقة القادرية وشيخها، ولاتهم الدراسة التي نباشرها هنا.
عبد القادر الجيلاني شخصية تاريخية
بعد أن حاولنا تقييم وسائل البحث ودرجة مصداقيتها، سنحاول الآن أن نحصر شخصية عبد القادر التاريخية. وسيدور البحث بصورة أساسية حول المرحلة البغدادية من حياته. فليس بوسعنا أن نحلم بدراسة المرحلة السابقة لأن مصادر البحث غير موجودة تقريباً، وعليه ستكون ملاحظاتنا إذن سريعة حول هذه الحقبة.
الجيلاني إذن فارسي الأصل حسب جميع المصادر، باستثناء واحد منها يجعله من بلاد ما بين النهرين. من بلاد جيلان على ضفاف نهر الخزر، ونسبته، ونجد فيها اسماً فارسياً، تعارض الرواية التي تجعله من بلاد ما بين النهرين. ويبدو أنه من أسرة حديثة العهد بالإسلام، إن أخذنا بنسبه كما يذكره ابن رجب. فاسم عبد الله الذي يذكر لأول مرة عند الجد السادس كان يمنح عادة للمسلم الجديد. وهكذا فان النسب العلوي مرفوض كذلك. ولم يصلنا شيء موثوق عن طفولة الجيلاني، ويبدو أنه قدم بغداد في نهاية سن المراهقة. وقد كان في بغداد قبل عام 500هـ/1106م بدون شك، لأن جعفر السراج الذي يذكر ابن رجب أنه كان شيخ الجيلاني في الحديث قد توفي في هذه السنة. وربما كان له من العمر آنذاك نحو الثلاثين عاماً لأن ابن الجوزي يذكر أنه ولد عام 470هـ/1077م.
الوسط البغدادي
كانت بغداد عاصمة الدولة العباسية حين وصلها الجيلاني ما تزال تحت سيطرة السلاجقة، وكانت قد اختلفت عليها أيام الهدوء وأيام الاضطراب. ولكن سياسة الأمر الواقع كانت تسود بين الخليفة صاحب السلطة النظرية والسلطان صاحب السلطة الفعلية منذ تولى الخليفة المستظهر الأمر عام 487هـ/1094م ووقوع الخلاف في أوساط الأسرة السلطانية (النزاع بين برقيروق ومحمد بن ملك شاه). ولم يكن الأمر كذلك في الميدان الإيديولوجي حيث كان الاضطراب كبيراً. فقد كان النزاع يشق صفوف السنة منذ قرن من الزمان تقريباً بين الأوساط التقليدية من جهة والحركة الأشعرية الناهضة من جهة أخرى. وكانت الأوساط التقليدية تشمل الحنابلة خصوصاً وبعض ممثلي المذاهب الأخرى، بينما كان الحركة الأشعرية تعتمد على قاعدة محلية وأخرى خارج بغداد، فقد كان عدد من الأشاعرة قد جاء بغداد بصحبة وزير السلطان نظام الملك ثم استمرت حركة الهدرة من المدن الخرسانية إلى عاصمة الخلافة طوال المرحلة التي تهمنا هنا. وكان الفقهاء وخصوصاً الشافعيين منهم، والمتصوفون الأشاعرة أو الوعاظ (وكان هؤلاء ذوي ثقافة محدودة) يجدون في بغداد من يعملون في خدمته. فقد كان من عادة كل حزب سياسي أن يلجأ إلى وسائل النضال الإيديولوجي حين لا يلجأ إلى الوسائل الأخرى. وكان كل حزب ينشر دعواه سواء في أماكن التدريس أو في بيوت الخاصة أو في الأمكنة العامة، ولم يكن النشر يتم دائماً عن طريق الفقه أو الكلام- فقد كان هذان الميدانان يحتاجان إلى دراسة واختصاص- وإنما كان يتم كذلك عن طريق الوعظ. وكان هذا الشكل من التعبير الشفهي يتلقى أي مضمون باسم الدين. ولم يكن يستخدم لنقل الفكر وحسب وإنما كان يستخدم على نطاق واسع لبث دعاية مختلف الأحزاب القائمة، والأحزاب في ذلك العصر أحزاب سياسية دينية. ويدين كثير من الأشخاص بشهرتهم للوعظ. ومن هؤلاء الجيلاني كما سنرى، وقد تطورت كثيراً أشكال مكافأة حملة الإيديولوجية هؤلاء. وهذا يستحق وقفة وخصوصاً أن الجيلاني قد استفاد منها كثيراً. فبالإضافة إلى الإثابة بالنقود أو بالأعطيات ظهر ما يمكن أن نسميه بمفرداتنا الحديثة بمراكز الاستقبال، وهي المدارس بالنسبة للفقهاء والأربطة بالنسبة لأشخاص كثيرين لم يكونوا كلهم آذان متصوفة. فتخصص أربطة بغداد باستقبال المتصوفين المعروفين بذلك ظهر فيما بعد في نهاية القرن السادس/ الثاني عشر. ولم تكن بغداد أول مدينة تظهر فيها مؤسسات من هذا القبيل، فنحن نراها في مدن أخرى منذ وقت سابق. ولكن ما يثير الاهتمام هو الطابع العام الذي تكتسبه هذه المؤسسات قليلاً قليلاً في بغداد. فلقد صار من الذائع أن يكافأ واحد من حملة الإيديولوجية بأن تعهد إليه مدرسة أن كان له نصيب من الفقه وإلا فرباط حتى لو كان مجرد واعظ. وكانت هذه المؤسسات كوقف حقاً لا يجوز التصرف به من بيع أو شراء نظرياً. وبطبيعة الحال، فان هذه القاعدة لم تكن مرعية دائماً. ومع ذلك فان اضطراب شؤون المدرسة النظامية الدائم كان هو الاستثناء كما يبرهن على ذلك جورج مقدسي. فكان القائم على هذه المؤسسات وأفراد أسرته في مأمن من تقلبات الزمان وغوائل الحاجة، ولم يكن ذلك أمراً هيناً في تلك الأيام. وكذلك فان استقلال هذه المؤسسات الاقتصادي نسبياً كان يوفر للقائمين عليها إمكانيات للنضال لا تقارن مع ما كانوا عليه قبل ذلك. وكان الأمر يبلغ أحياناً أنهم يصبحون مجموعات ضغط ومراكز قوى. وهكذا فنحن ندرك كيف أن بغداد لم يكن يؤمها طلاب العلم وحسب وإنما أشخاص يبحثون عن الشهرة وذيوع الصيت.
عبد القادر ومرحلته البغدادية
على الأغلب، ومهما يكن الأمر، فان الجيلاني قد جاء بغداد طالباً للعلم على ما يظهر. وقاسى فيها شظف العيش كما تخبر المصادر الطرقية التي تصفه لنا وهو يأكل الأعشاب البرية. وما تقدمه هذه المصادر على أنه مران صوفي يجب أن يفهم بالأحرى على أنه ضرورة الحاجة. ويتضح من لائحة شيوخه الذين يذكرهم ابن الجوزي وابن رجب أن الجيلاني كان حنبلياً. وإذن فلم يكن له أن ينعم بما كانت المدارس والأربطة تقدمه لنزلائها، فقد كانت جميع هذه المؤسسات قد أنشأها في ذلك الوقت أعوان السلطان، وكانوا خصوماً للحنابلة، ويظهر إذن أن الجيلاني قد عاش حياة طالب فقير، ودرس الحديث والفقه حتى التقى، في تاريخ لا نستطيع تحديده برجل يعتبر شيخه الأكبر في الفقه هو أبو سعد المخرمي الحنبلي المتوفى عام 513هـ/1119م. فكان لقاء حاسماً. فالمخرمي هذا يعرف بأنه حنبلي أنشأ مدرسة. ومدرسة الفقه هذه كانت تتضمن ككل المؤسسات المماثلة غرفاً يقيم بها الطلبة وكانت تمنحهم معاشاً. وقد أقيمت هذه المدرسة في باب الزج بعد أن عين المخرمي كقاض في هذا الحي عام 494هـ/1100م. ونحن نجهل أأقام الجيلاني في مدرسة شيخه هذه أم لا؟، وأن الخبر الموثوق الوحيد الذي وصلنا عن تلك المرحلة نقله ابن رجب بخصوص ابن المندى الأصفهاني. فهو يروى أن الجيلاني قد استمع إلى الدروس التي ألقاها ابن المندى هذا حين مر ببغداد في بداية القرن السادس/ الثاني عشر. وكل هذا مألوف. ويظهر أن سمعة الجيلاني وله من العمر ثلاثون عاماً كانت معدومة تماماً. ولنذكر مثلاً أن أبا الحسين لا يذكره بين تلاميذ المخرمي في كتابه طبقات الحنابلة وأن الروايات التي تجعل المخرمي ينقل إلى الجيلاني خرقة التصوف أوهام وأباطيل. فالمخرمي. حسب معاصريه حنبلي ككثيرين غيره وليس ها هنا بنقل الخرقة. ومات المخرمي عام 513هـ/1120، وكان قد عزل من الإفتاء قبل عامين من ذلك. واتهم بأنه اختلس شيئاً من أموال تعود لأوقاف الأضرحة، وغرم بها. ونحن نجهل ما آلت إليه المدرسة بعد موت صاحبها. ويقول ابن الجوزي بأن إدارتها قد عهدت للجيلاني، ولكنه لا يذكر تاريخاً. وهذا أمر ثابت، فمدرسة شيخه ستصبح له ولأحفاده. ولكنه يبدو مستبعداً أن تعهد إليه في ذلك العهد وهو مغمور الشان تماماً أو يكاد. ويبدو أقرب إلى العقل أن نلتزم هنا بما يذكره مؤرخوه الطرقيون نقلاً عن ابنه عبد الوهاب. وهو يذكر أن أباه لم يدرس الفقه إلا اعتباراً من 528هـ/1133م أي بعد بضعة سنين من اشتهاره كواعظ. وتبقى السنوات التي تفصل بين موت المخرمي وظهور الجيلاني كواعظ عام 521هـ/1127م سنوات يحيطها الغموض ولا يسعنا إلا أن ننشئ فرضيات بخصوصها. والجيلاني لا يفقد أكبر شيوخه في الفقه، وربما عونه على الحياة المخرمي وحسب وإنما اثنين من شيوخه الحنابلة الخطرين ونقصد أبا الخطاب الكلوذاني وتوفي عام 510هـ/1116م. وأما الثاني فهو الشيخ الرهيب ابن عقيل الذي مات عام 513هـ/1119م. لقد أذنت لحظة التحول في تاريخ الجيلاني ولاشك، ونرى أن علاقاته المحتملة مع حماد الدباس البغدادي المعروف والمشهور بالمعجزات قد نشأت خلال هذه السنوات. وحجتنا أن ابن الجوزي حين يهاجم حماداً بقوة وشراسة فانه يستند إلى ابن عقيل. ويبدو من المستبعد أن يخالط الجيلاني، وهو تلميذ ابن عقيل، إن صح أنه طلب العلم على يديه، شخصاً كحماد دون أن يثير غضب شيخه عليه. والمصادر الطرقية، من جهة أخرى، تعزز من هذه الفرضية حين تذكر أن أتباع الدباس قالوا له حين انضم إليهم: ماذا تفعل هنا يا فقيه؟ والإشارة صائبة. فكثير من متصوفي ذلك العصر كانوا يجهلون الفقه تماماً. وكان الدباس واعظاً وصانع أعاجيب ومبرىء أمراض ومفسر أحلام معاً. وكان ذا صيت واسع يجعله مصدر رزق لعدد كبير من أعوانه كما يذكر ابن الجوزي. وإذن يعقل أن نفترض أن الجيلاني قد تقرب من الدباس بعد أن أمن غضب شيوخه واستنكارهم. وحماد الدباس الذي يترزق بسمعته كصاحب أعاجيب يمثل في تاريخ التصوف الحلقة التي تتوسط بين الزاهد المنعزل الذي يعيش بفضل سمعته كناسك ولكنه بدون أتباع وبين رجل الطريقة المنخرط في رباط. بيد أنه لو قبلنا بأن علاقات قد قامت بين الدباس والجيلاني، فنحن لا نقبل بطبيعة الحال الأساطير الكثيرة الخارقة للطبيعة التي نسجت حول هذه العلاقات.