بلاغة على بَلاغَة - مُنذر شعّار[1]
في مطاوي أدبنا العربي الخصيب فن خفي ظاهر، يُلحظ ويتجاوز ويُشم أريجه ولا يؤكل نضيجه، وذلك هو ما نسميه "بلاغة على بلاغة"، وهو أن يسمع أديب قولاً لأديب، أو شعراً لشاعر، بليغاً آسراً، فيعلق عليه بقوله: من عنده، بليغ آسر، من فوره دون إبطاء، كالمرتجل غير المتلبث. فيكون من ذلك إقناع عريض، ولذة أدبية آخذة بالمجامع، وتتحصل قطعة أدبية، من نصين في عصرين، أو عصر، وقد يكون بين العصرين ذَيْن تراخ وقد يكون قرب، وهذه القطعة الأدبية المتحصلة هي هذا الفن الجديد الممتع الذي فيه إلى جانب الجمال التعبيري، والبيان المعجب، فيض الروية، وسبق البديهة، وإن المقام هنا يقتضي أن التعليق يكون موجزاً خاطفاً، لكنه فخم رائع، فهو نص كامل في الجمال والرونق والبهاء ومِلْكِ النفس، مع أنه إشارة دون الإشارة.
وهذا شيء من عبقرية هذه اللغة، وسبق هذا البيان العربي، وكفاية أدبائه حُكْماً وعلماً.
من ذلك ما روي أن سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سأل رجلاً عن أمر من الأمور فقال له:
ـ أكان كذا وكذا؟..
فقال:
ـ لا عافاك الله يا أمير المؤمنين.
فقال عمر:
ـ قد عُلِّمتم فلم تتعلموا؛ هلا قلت: لا (و) عافاك الله؟!..
هذا هو النص الأول من القطعة الفنية التي نراها من باب (بلاغة على بلاغة)، وهذه هنا هي البلاغة الأولى، وصاحبها سيدنا الفاروق رضي الله عنه، فقد لاحظ أن الرجل قال ولم يفصل بين (لا) و(عافاك) بفاصل، فتُقرأ العبارة... أو تُسمع:
لا عافاك الله يا أمير المؤمنين. فيكون المتكلم يريد الدعاء للخليفة فينقلب بالتعبير الناقص دعاءً عليه، فلم يَغفل سيدنا عمر، وهو من هو: في الصحبة والولاية والرجولية والعربية، أن يُحسّ بالخلل التعبيري، فقال:
ـ قد عُلِّمتم فلم تتعلموا. هلا قلت: لا وعافاك الله.
أي بزيادة (الواو)؛ فإن الواو هنا: تَقْطَعُ تَسَلُّط (لا) على (عافاك)، بعدها، وتستأنف كلاماً جديداً.. فيكون الكلام الآن في لفظه وتركيبه وعربيته ملائماً لنيّة المتكلم ومتسعاً لمعناه.. أي... "لا، لم يكن ما أشرت إليه يا أمير المؤمنين، ثم.. عافاك الله ورعاك".
فهذا كما قلنا هو النص الأول، وكلام عمر رضي الله عنه هنا مكين في البلاغة، دقيق الملاحظة، يدل ويشير إلى صواب التعبير في ناحية خفية لكنها خطيرة إن اختلت.
ويمر الزمن، حتى يجيء عصر الصاحب ابن عباد. عصر المتنبي، وابن العميد، وهو القرن الرابع الهجري.. فَيَعْلَمَ الصاحب بهذه البلاغة العمرية، وبروعة هذه الواو الموضوعة في محلها الدقيق، فيقول معلقاً:
ـ هذه الواو: أجمل من واوات الأصداغ، على خدود الملاح.
فكلام الصاحب بن عباد هنا، في ذاته، نص أدبي ـ على خطفه وقِصَرِه ـ رائع كامل،جميل، قال: هذه الواوات هنا أجمل من واوات الأصداغ، على خدود الملاح.
وكانت الجواري في ذلك الزمن، يَتَزّيّن لسادتهن، ولأنفسهن في محافلهن، فإنهن يُضفرن شعورهن... بحيث تنزل منه على خدودهن خصل معقوفة مدببة بشكل واوات، فيكون للمرأة منظر بهي، تَسُرُّ به مالكها أو بعلها.. ويكون محل تلك الواوات العجيبة في الأصداغ والخدد. فيقول الصاحب بن عباد ـ رحمه الله ـ إن واو عمر تلك... في إحكامها، وتمكن محلها، واستغناء واضعها بها عن كلام، وحُسْن رونقها.. لأجمل ـ والله، من واوات النساء الجميلات المزينات بشعورهن...
فهذه بلاغة على بلاغة، وهذه قطعة أدبية ولوحة فنية تعبيرية، من نصين، في عصرين، وكون العصرين متباعدين أطرف للقطعة، وأدهش، وأمتع تحريكاً عاطفياً، والنص الأول لعمر رضي الله عنه.. بليغ جميل محكم نبيل، والنص الثاني للصاحب الوزير، مثير فني آسر بليغ، والقطعة التامة، كلها، معبرة.. عن عصريها وشؤونهما.... وتمتع ـ أيها القارئ ـ بهذه القفزة اللطيفة أو الخطوة العجيبة بين عصرين من عصورنا... وتلذذ بالفن والأدب الجم والرونق الخالص، وثناء آخر الأمة على أولها، وتعجب، أكثر شيء لهذا الإيجاز الرافع والخطف الذي هو كالنبض، في بث الأدب العالي والتعبير الآسر والكلمات الجميلة.. إن هذا الأدب ثرّ على أنه نَزر، ونصٌّ كبير ذائبٌ في النسائم والغمائم، مع أنه ـ في الحقيقة والواقع ـ أشبه بفصّ في خاتم.
وقد روي هذا الخبر... أعني الأول... بأشكال.... منها...
سأل المأمون يحيى بن المبارك عن شيء فقال: لا وجعلني أن فداءك يا أمير المؤمنين، فقال لله درك، ما وضعت واو قط وضعاً أحسن منها في هذا الموضع، ووصَلَه وحمَّله.
لكن ما سردناه هو الأصل... والرائع دوماً يتكرر، ويُدّعى ويُعاد ويستعاد(1)، ومن هذا الفن ما رواه ابن عبد ربه في عقده: أن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ كان في سفر، فسمع من قافلة مدانية صوت رجل يتغنى بأبيات طرفة بن العبد المشهورة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشرُبة
كُميت متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِد
وكَرِّي إذا نادى المضاف مُحنَّباً
كسيد الغضا ذي السَّورة المتورد
وتقصير يوم الدَّجن، والدجن مُعجب
ببهكنة تحت الطِّراف المعمَّد
وهذه الأبيات من معلقته المشهورة، وطرفة من شعراء المعلقات، ويراها بعض كبار النقدة من أنفس المعلقات وهذه الأبيات الثلاثة ـ خاصة ـ ذهبت في أجيال العرب مذهباً بعيداً في الروعة والجلال والإصابة، حتى قال النقاد إن ههنا تفصيلاً وتبييناً لمُثُلِ الجاهليين، بأبهى لفظ، وأكمل أسلوب، مع ما فيها من بلاغة المبنى إلى جانب نصاعة المعنى، وقوله: "إذا قام عُوَّدي" كناية عن موته، ومُثُل الجاهلية التي يتغنى بها ـ هنا ـ طرفة هي:
1 ـ شرب الخمر.
2 ـ وإنجاد الضيف والجار.
3 ـ والتمتع بجمال المرأة.
فيعرض طرفة ـ ذلك الشاعر العريق ـ لذلك بأسلوب الروعة فيقول إن الذي مسَّك به بالحياة ثلاثة أمور: الأول شربي الخمر الحمراء المزبدة على الماء، وإنجادي على حصان ضامر كالذئب، الضيف النازل ببيتي إذا دهمه خطر ما.. وتمتعي في يوم شاثٍ بحسناء ناعمة تحت خباء ذي أعمدة.
وههنا ملاحظة جِدُّ عظيمة... وهي أن ذلك العربي... حين عرض لمُثُل الجاهلية ولذاتها لم ينس أن يجعل فيها النجدة، وإكرام الضيف، وتعريض نفسه للخطر والقتل في سبيله. فجعل النجدة والموت في سبيل الجار لذة بين لذتين: الخمر والنساء. وهذه اللذة الوسطى لذة معنوية بين لذتين حسيتين، فيالهم من قوم، ويالوجههم من وجه.. إنهم ـ حتى في الانحدار... يرتفعون.
وهذا هو النص الأول في قطعتنا الثانية في هذا الفن الذي نتلمسه "بلاغة على بلاغة".
فهنا، حين سمع عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أبيات طرفة البليغة هذه.. علق فقال من فوره، في ارتجال كريم.. بليغ:
"وأنا لولا ثلاثٌ لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أنفر في السَّرية، وأقسم بالسوية، وأعدل بالقضية(2). فيالها من بلاغة على بلاغة. وانظر كيف علق ذلك الخليفة الملحق بالخلفاء الراشدين ـ عليهم جميعاً رضوان الله ـ على ما سمع، وكيف قابل مُثُل الجاهلية، بمثُل الإسلام، في اللفظ الرائع، والتعبير المبين، والتوازن الموسيقي العجيب، وانظر الأدب هنا بكل معانيه، فلم يهاجم عمر ـ رحمه الله ـ طرفة، ولا مُنشده، ولم يتقبح ولم يتمعر ولم يتسخط، لكن، بكل نفس كريمة، وحلمٍ زاكٍ، وجلال أولياء، قابل بهدى ضلالاً، وبحكمة غناء، وبإسلام جاهلية، فيالهم من أدباء، وياله من فن من الأدب جليل وهو صغير.
ولقد روى الجِهشياري قال:
"... أهدى زياد إلى معاوية هدايا كثيرة، وكان فيها عقد جوهر نفيس، فأعجب به معاوية، فلما رأى ذلك زياد قال له: يا أمير المؤمنين، دوخت لك العراق، وجبيت لك برها وبحرها، وغثها وسمينها، وحملت إليك لُبّها وقشورها، فقال له يزيد: لئن فعلت ذلك لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عز قريش، ومن عُبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر، وما أمكنك ما اعتدَدْت به إلا بنا، فقال له معاوية: حسبك؛ وريت بك زنادي"(3).
واضح هنا أن النص الأول من قطعة "البلاغة على البلاغة" هذه ينتهي عند قول يزيد: .... إلا بنا. والنص الثاني المعلِّق الذي يكون في العادة موجزاً وخاطفاً هو قول سيدنا معاوية رضي الله عنه: حسبك وريت بك زنادي.
أما النص الأول ـ أدبياً ـ فهو قول يزيد لزياد ـ معرِّفاً إياه الحقيقة ـ كابحاً له من تجاوزه حده: "لئن فعلت ذلك لقد...."، وكان زياد بن أبيه قد علا في الإسلام والعرب حتى استكتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحتى قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: لو كان أبو هذا الغلام من قريش لساق العرب بعصاه. فقد تبين لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ فيما بعد أن زياداً أخوه من أبيه... أبي سفيان رضي الله عنه، فادعاه وألحقه بنسبه سنة 44هـ. وكان زياد حتى ذلك الوقت مدعى لرجل ثقفي اسمه عُبيد، فلما استلحقه معاوية صار الأجلاء يسمونه: زياداً بن أبي سفيان، كما فعل ذلك مالك في الموطّأ، وكان زياد كاتباً محاسباً فولاه علي ـ رضي الله عنه ـ الإمارة ثم ثبته فيها، ورفعه أكثر أخوه معاوية... فَعَلا وعَظُمَ جاهه... وهنا.. لما عرض هداياه على معاوية رضي الله عنه، وأعجب معاوية، زها زياد وداخله الغرور... فأخذ يتباهى أمام العاهل الأكبر، وهذا لا يجوز، ومع أن زياداً من الدهاة، والحكماء، فقد زل ووقع، وهنا تصدى له يزيد، قبل أن يتفوه أبوه بكلمة، وأفهم زياداً أن مباهاته بنفسه أمام العاهل الأكبر فعل فعل غير رشيد، ولاسيما أن هذا العاهل صحابي جليل، وسيد كريم(4)، فقال تعبيره السابق البليغ المثير. وأفهم زياداً كيف فضْل آل أبي سفيان عليه...
إذ نقلوه من ولاء ثقيف إلى عِز قريش، فأين الولاء من العز وأين ثقيف من قريش، وبيّن يزيد أن النقل أيضاً كان من يكون أبو زياد عبيداً الثقفي.. ومَنْ عبيد؟! إلى أن يكون أبوه أبا سفيان، الوجيه في جاهلية وإسلام، والذي طالما تألفه رسول الله r ثم بيّن يزيد شيئاً تمسك به النقدة اليوم والمؤرخون وأهل الاجتماع وهو أن يزيد قال: ".... من القلم إلى المنابر..."، يريد، من أن تكون يا زياد كاتباً في ديوان محاسباً، إلى أن تكون أميراً قائداً والياً.. فكنى بالقلم عن أعمال موظفي الديوان: الكتبة والمحاسبين.. وبالمنابر عن الأمارة والسيادة... وهذا النص ليزيد.. بليغ كما يلاحظ في معانيه وتقاسيمه وشبوب عاطفته، وإصابته الأهداف... ثم يجيء النص الخاطف البليغ على ذلك النص البليغ وهو قول أبيه: حسبك... وريت بك زنادي".
أي : أحسنت وكفيت وكنت لي أحسن العدة والبلاغة كلها هنا في قول معاوية رضي الله عنه: "وريت بك زنادي"، تعبير فخم، بليغ، كان خير التعليق على خير التعبير، وكانت القطعة كلها فناً جميلاً وأدباً زكياً. من هذا الذي نسميه: بلاغة على بلاغة.
وجاء في البيان والتبيين للجاحظ أنه قيل للفرزدق:
ـ أحسن الكميت في مدائحه سلك الهاشميات. فقال:
ـ وجد آجراً وجِصاً فبنى(5).
النص الأول هنا: ملحوظ وغير موجود. وهو قصائد الكميت الهاشمية كلها، فيستحضرها القارئ، وينشر جوها، وينغمر فيه، فيحسن البلاغة الضافية، وإنها أي الهاشميات كلها، ولاسيما البائية المذهبة:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
وفي هذا الفراغ إذن من هذا الفن الأدبي مشاركة القارئ وفاعليته وإيجابيته، فلا يكتفي بأن يتلقى، ولكن كأنه ـ هنا ـ يُتلقى عنه، بهذه المشاركة، وهذه خصيصة ـ كما يبدو ـ في هذا الفن يتجه شعاعها إلى أهل الأدب والاطلاع، فتحصل لهم لذة بإثارة المعلوم السابق وبناء جمال جديد عليه، وإن في قول القائل للفرزدق ـ يومئذٍ ـ تعريضاً وإثارة نِفاس(6)، فقد كان الفرزدق يومئذٍ ـ كما هو معروف ـ أمير الشعر وسيده الضَخم، مع جرير ثم الأخطل، وكان الكميت مُطفأةً سُرجه عنهم، وعن الفرزدق بالذات، مقصراً به لا يُرى على صفهم، فحين قيل للفرزدق أن ذلك الكميت قد برع وأحسن في هاشمياته (وهي قصائده في مدح آل النبي r كان كأنه يعرّض بالفرزدق: أن منافساً قوياً قد برز، وسيشاركه في مجده ولن يُكتفى منذ اليوم بمجد الفرزدق، ولن يُلتفت ـ فقط ـ إلى روائعه، فأسرع الفرزدق يقول من فوره هذه الجملة الرائعة الفريدة، البليغة:
ـ وجد آجراً وجصاً فبنى.
أي:
ـ لا غرابة، أبداً، أليس الكميت يمدح في هاشمياته بني هاشم، وهم رهط النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسيبرع حتماً ويفوق قطعاً... لأنه وجد مادة النبوغ ولبس بُرد المجد ومَثَلُه كمثل إنسان يريد بناء بيت وكانت تعجزه مادة البناء، فلما وجدها وهي الآجر والجص فماذا يمنعه من أن يبني؟ لقد كان الفرزدق ضافي البلاغة في هذا التعليق الجميل، من طرفيها: المعنوي والتركيبي. فأما من حيث المعنى فحسن هنا جداً إسراع الفرزدق إلى الإقرار بأولية الكميت إذ هو مدح آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإعلائه الإنصاف، ولم يجحد ولم يكابر، وأما من حيث التركيب فانظر كيف أدى معناه بهذه الصورة البارعة.. حتى لفظتا الجص والآجر وهما سوقيتان شبه عاميتين بدتا في مساق تعبير الشاعر الضخم متألقتين كالدرتين، لقد كانت بلاغة ضافية ـ حقاً على بلاغة ضافية، وكان لاشتراك القارئ ـ كما قلنا ـ متاع خاص، ولكون النص الأول من القطعة ملحوظاً لمع جديد.