البَحْر في مَعَاجم اللغة - أحمَد عبد القادر صَلاحية
إن هذا البحث عصارة لغوية، ودراسة تطبيقية مختصرة شديدة الاختصار لأطروحات ونظريات استنتجها بعض علماء اللغة العربية القدامى بسبرهم الدائم لها، وينحو إلى ضرب من الفلسفة اللغوية تتمثل في محاولة اكتناه ذاتي للجذر "بحر".
لقد تتبعت جذر المادة اللغوية "بحر" في ستة عشر معجماً لغوياً تراثياً(1)، ولم أقتصر على معجم بعينه أو معجمين، لعدة أسباب أولها: أني أردت تتبع معاني هذه المادة اللغوية تتبعاً تاريخياً، وثانيها: أني كلما فتحت معجماً جديداً وجدت معاني إضافية زائدة عن سابقه، وثالثها: أني لم أقتصر على المعاجم الموسوعية كاللسان والتاج وفيهما غناء عن سواهما لتأخرهما زمنياً، وأني أردت أن أستقي المادة اللغوية من منبعها الأصيل الصافي.
1 ـ معنى البحر :
إن للجذر "بحر" دلالات كثيرة مختلفة، غير أن ما يطلق عليه اسم البحر من الجذر ذي الدلالة المائية؛ أربعة:
أ ـ الماء الكثير العذب أو المِلْح(2).
ب ـ البحيرة الكبيرة.
ج ـ الأنهار أو الأنهار العظيمة.
د ـ البحر بدلالته الحالية.
ـ أما معنى "الماء الكثير العذب أو الملح"، فقد ذكر ابن دريد أن: "العرب تسمي الماء المِلْح والعذب بحراً إذا كثر"(3)، وذكر ابن سيده أن: "البحر الماء الكثير ملحاً كَان أو عذباً وقد غلب على الملح حتى قلَّ في العذب"، وأعاد هذا الكلام كل من (ابن منظور ـ الفيروز آبادي ـ الزبيدي).
ـ وأما معنى "البحيرة الكبيرة" فهو مستمد من قول الخليل: "إذا كان البحر صغيراً قيل له بحيرة وأما البحيرة في طبرية فإنها بحر عظيم وهو نحو من عشرة أميال في ستة أميال". وأجد صدى هذا الكلام عند الأزهري وابن منظور كليهما.
ـ وأما معنى الأنهار أو الأنهار العظيمة، فقد قال الأزهري: "قال: [أي الزجاج]: وكل نهر ذي ماء فهو بحر. قلت: كل نهرٍ لا ينقطع ماؤه مثل دجلة والنيل وما أشبههما من الأنهار العذبة الكبار فهي بحار وأما البحر الكبير الذي هو مغيض هذه الأنهار الكبار فلا يكون ماؤه إلا مِلْحاً أجاجاً ولا يكون ماؤه إلا راكداً وأما هذه الأنهار العذبة فماؤها جارٍ وسميت هذه الأنهار بحاراً لأنها مشقوقة في الأرض شقَّاً".
وقال الجوهري: "وكل نهر عظيم: بحر"، ومثله ذكر الزنجاني في تهذيبه.
وعمّم ابن فارس فقال: "والأنهار كلها بحار"، ونقل ابن منظور عن الأزهري وسواه ما قالوه.
ـ وأما معنى البحر بدلالته الحالية فهو الأغلب والأشهر، وهو المعنيّ بإطلاقه، فقد ذكره أحد أصحاب المعاجم كلهم إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ولكني ـ مع هذا ـ لا أجد له تعريفاً دقيقاً في معاجم اللغة فقد اكتفى كل من ابن دريد وابن فارس والحميري بالقول: "البحر : معروف"، أو أعثر على شذرات قليلة إذ اقتصر الفارابي على قوله: "البحر نقيض البر"، ومثله الجوهري فقد قال: "البحر خلاف البر"، وكذلك فرّق الأزهري بين النهر العظيم الذي يسمى بحراً والبحر ـ الفقرة السابقة ـ.
غير أن المهم حقاً هو ذلك الرأي المتفرّد الذي ينقله الزبيدي عن شيخه أن البحر هو الأرض التي فيها الماء أو محلّ الماء وليس هو الماء نفسه، يقول: "قال شيخنا: في قوله الماء الكثير، قيل: المراد بالبحر الماء الكثير كما للمصنّف، وقيل المراد الأرض التي فيها الماء ويدلّ له قول الجوهري: لعمقه واتساعه، وجزم في القاموس بأن كلام المصنف على حذف مضاف وأن المراد محل الماء، قال: بدليل ما سيأتي من أن البر ضد البحر، ولحديث: "هو الطهور ماؤه"، يعني والشيء لا يضاف إلى نفسه، قال شيخنا: ووصفه بالعمق، والاتساع قد يشهد لكل من الطرفين".
وأما سائر أصحاب المعاجم المدروسة هنا فلا أجد لديهم أي تعريف للبحر.
2 ـ سبب تسميته:
قد احتفل علماء العربية كثيراً بتبيين سبب وقوع الاسم على المسمى وقد حظي هذا المسطح المائي الذي يحيط باليابسة بتعليلات خمسة لتسميته بالبحر:
أولهما: السعة، يقول ابن فارس في المجمل: "سمّي بذلك لاتساعه"، (الحميري ـ الفيوّمي).
ثانيها: الانبساط، يقول الخليل: "سمي به لاستبحاره وهو انبساطه وسعته"، (الأزهري ـ ابن فارس في المقاييس ـ ابن منظور ـ الزبيدي).
ثالثها: العمق، يقول الجوهري: "يقال سمّي بحراً لعمقه واتساعه"، (الزنجاني ـ ابن منظور ـ الزبيدي).
رابعها: الملوحة، ينقل ابن منظور عن ابن برّي قوله: "وسمّي بحراً لملوحته"، (الزبيدي).
خامسها: الشق، يقول الأزهري: "سمي البحر بحراً لأنه شقّ في الأرض شَقَّاً، وجعل ذلك الشق لمائه قراراً، والبحر في كلام العرب الشق، ومنه قيل للناقة التي كانوا يشقُّون في أذنها شقاً بحيرة". (ابن منظور ـ الزبيدي).
هذه هي التعليلات الخمسة التي ذكرها اللغويون الأوائل ونقلها عنهم المتأخرون من دون كبير تمحيص أو تدقيق أو مراجعة سوى الفيروز آبادي الذي يتفرّد برأيه النافذ وإشارته المضيئّة فلم يذكر في القاموس المحيط سبب تسمية البحر، ولم يعلّل ذلك بل على العكس تماماً، فإنه ـ كما يتراءى لي من استقراء كلامه ـ يرى أن هذه التعليلات إن هي إلا معان مجازية مستنبطة منه طارئة عليه، وذلك فيما نقله الزبيدي في تاج العروس عن الفيروز آبادي في كتابه البصائر، يقول: "وقال المصنف في البصائر:"وأصل البحر مكان واسع جامع للماء(4)، الكثير، ثم اعتبر تارة سعته المكانية فيقال: بحرت كذا: وسَّعته سعة البحر، تشبيهاً به: ومنه: بحرت البعير: شققت أذنه شقاً واسعاً، ومنه البحيرة. وسموا كل متوسّع في شيء بحراً فالرجل المتوسّع في علمه بحر، والفرس المتوسّع في جريه بحر. واعتبر من البحر تارة ملوحته فقيل: ماء بحر، أي ملح، وقد بحر الماء".(5).
ولست أود الخوض في قضية نشوء اللغة وكيفية وقوع الدال على المدلول فلا طائل تحتها، غير أني أود القول إنه ليس ثمة من علاقة حقيقية بين الدال والمدلول كما أشار عبد القاهر الجرجاني في قوله إن "نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى.. فلو أن واضع اللغة كان قد قال ربض مكان ضرب لماكان في ذلك مايؤدي إلى فساد"(6)، وكما توصل إليه حديثاً عالم اللغة السويسري دي سوسير الذي يؤكد أن "الرابط الذي يجمع بين الدال والمدلول رابط اعتباطي"(7). وإن وجدت فهي المصادفة وإن أوجدت فهي ضرب من الفلسفة اللغوية التي تحتمل الرجحان1. وهذا المسطّح المائي يسمى في العربية بحراً وفي الإنكليزية SEA وفي الفرنسية MER.
3 ـ جمعه وتصغيره:
يجمع البحر على "أبحر وبحور وبحار"، الجوهري ـ ابن سيده ـ ابن منظور الفيومي ـ الفيروز آبادي ـ الزبيدي).
ويصغر على أُبَيْحِر" ويجوز أن يصغّر على القياس "بُحَيْر"، وإن كان قليلاً (التاج).(8).
4 ـ دراسة في معاني الجذر "بحر":
لقد لفت انتباهي في أثناء استقرائي مادة بحر في المعاجم اللغوية أن ابن فارس في معجمه مقاييس اللغة يتفرد من بين اللغويين: "إذ يرى مفردات كل مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة"(9)، وهو في الجذر "بحر"، يرجع أغلب مفرداته، المتشابهة والمجازية والمختلفة والمتناقضة أحياناً إلى أصلين هما الاتساع والداء، وهما يرجعان بمعناهما إلى البحر وصفاته.
وباستقراء جميع مفردات مادة بحر في سائر المعاجم تبدي لي أنها تنقسم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المفردات ذات الاتصال بالبحر بدلالته المشهورة:
(بحر: فزع من البحر ـ البحار ـ البحيرة ـ تاجر بحري ـ بنات بحر: السحب).
القسم الثاني: المفردات ذات الاتصال المجازي بالبحر:
(الملوحة ـ الاتساع، الاتساع في الأشياء عامة، الرجل الكريم ـ الفرس الكثير العدو).