النُحَاة وحُروفُ الجَرّ ـــ صلاح الدين الزعبلاوي
هذا بحث طريف، حاجة الكتَّاب إليه ماسة ملحة، وهم إذا أصابوا فيه خطأ وظفروا منه بطائل وتعلقوا بسبب وثيق، كان لهم من ذلك مادة قوية في ممارسة الكتابة وإتقانها، وعون وظهير في تصريف المعاني وتوجيه دلالاتها، وسوقها متناسقة متناظمة، دون لبس أو خلل. وقد جاء للمتقدمين وكثير من المحدثين المتأخرين من هذا النمط ما لا يدافع في حسنه. وإذا هم أخلُّوا بالأصل المعوَّل عليه في استعمال هذه الحروف وعبثوا بضوابطها فجروا على غير العرف العربي في تصريفها أسخفوا بالكتابة وانحطُّوا بها إلى ركاكة العامة، فطال الخطب في ذلك وعسر واستوسع الوهي وكثر، وكان لنا منه أمثلة غثة باردة هي أشبه شيء بالثياب المتداعية كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر.
ولابد في بلوغ الغاية في هذا المطلب من أعمال الفكر وتدقيق النظر، وبذل الطوق في تحصيل ما يتصل بجوانب البحث، إذ لا مجال لتحقيق المراد منه بأهون سعي وأقرب طلب. وليس القائل في هذا بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده.
وقد عقدت في كتابي (مسالك القول في النقد اللغوي) فصلاً سابغاً أفضت فيه بعض الإفاضة في استيفاء طرف من الأصول في هذا الباب، ورأيت أن أتدارك هنا ما جمعت يدي عليه من دقائق، فيما اتفق لي بعد ذلك من تحقيق، واعترض من تمحيص واستقراء. ولو شئت لأوردت منه شيئاً كثيراً تضيق عنه هذه الأوراق.
ضوابط في استعمال الحروف:
قال أبو نزار المعروف بملك النحاة، على ما حكاه الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر (3 / 176)، وأبو نزار هذا الإمام بارع من فقهاء الشافعية، ذو نظم ونثر، له مصنفات في النحو والصرف والقراءات والفقه والأصول وديوان شعر (مولده ببغداد ووفاته في دمشق 568 هـ) قال: (إن الفعل قد يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى اللغوي المراد من وقوع الفعل، لأن هذه المعاني كامنة في الفعل، وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر) وأردف (وذلك أنك إذا قلت خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت خرجت من الدار، فإن أردت أن تبين أن خروجك مقارن لاستعلائك قلت خرجت على الدابة، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت خرجت عن الدار، وإن أردت الصحبة قلت خرجت بسلاحي فقد وضح بهذا أنه ليس يلزم في كل ألا يتعدى إلا بحرف واحد).
فثبت بهذا أن الفعل يصرّف في وجوه عدة بقدر من حروف الجر أطرد تصريفها فيها. وقد أحاطت كتب اللغة بوجوده تصريف كل حرف فاستعمل فيها، على جهة القياس والاطراد. تقول في تصريف (أجاب): (أجبت في الكتاب، وبالكتاب، وأجبت عنك، وعلى ورقة بيضاء، ولأمر مهم، وعن الأسئلة، من أولها إلى آخرها). كما أحاطت المعجمات بتصريف الأفعال في معانيها فنصَّت على تعديتها بحروف لا يتحكم بها قياس ظاهر، كقولك (أعنتك على عدوك، وتدربت على العمل، وحزنت عليه وغضبت، وحسدتك على كذا، وتوفرت على صاحبي، وارتحت إليه، واعتذرت إليه، وأنست به ورغبت على كذا، وتوفرت على صاحبي، وارتحت إليه، واعتذرت إليه، وأنست به ورغبت فيه) وهكذا. فإذا جمعت القياس في استعمال هذه الحروف على ما نصت عليه كتب اللغة عامة، إلى السماع فيما نصت عليه المعجمات خاصة، أقول إذا ضممت يدك على هذا وذاك، كان لابد من أن تلحظ أن تصريف الفعل بحرف من الحروف إنما يفرده بمعنى لا يؤديه تصريفه حرف آخر، وإن داناه أحياناً، لأن لكل حرف وجهة اختص بها دون سواه.
لكل حرف وجهة خاصة:
يقول أبو البقاء الكفوي في كلياته فيما نحن بسبيله (الفعل المتعدي بالحروف المتعددة لابد من أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف. فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت فيه وعنه، وعدلت إليه وعنه، وملت إليه وعنه، وسعيت إليه وبه. وإن تقارب معاني الأدوات عسر الفرق، نحو قصدت إليه وله، وهديت إلى كذا ولكذا. فالنحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر. أما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، وهذه طريقة إمام الصناعة: سيبويه). وأبو البقاء من تعلم تبسطاً في العربية واستبحاراً وإيغالاً في البحث، وسعة إطلاع.
ويفسر ما جاء به أبو البقاء من تمايز وجهات الحروف ولو تدانى بعضها وتعاقب على معنى، قول البيضاوي في تفسير قوله تعالى )قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، قل الله يهدي للحق ـ يونس / 35(
وهدى كما يتعدى بالى لتضمينه معنى الانتهاء، يُعدَّى باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية، وأنها لم توجه نحوه على سبيل الاتفاق، ولذا عُدّي بها ما أسند إلى الله). والموضع الذي عُديت فيه الهداية باللام في التنزيل هو ما صح أن يكون المهدي إليه فيه غاية الهداية حقاً، كالإيمان، والتي هي أقوم. ونور الله، والحق، وهكذا..
اللام وإلى:
فالقريب المختار، بل الأصل على هذا، هو التفريق في الأداء بين (اللام وإلى)، وإذا كان بعض الأئمة قد قال بتعاقبهما حيناً، كما فعل الأخفش والزجاج والزمخشري وأبو حيَّان، أو ذهب إلى تعاقبهما قياساً، كما فعل الإمام المالقي فذلك لتقاربهما وتماثلهما في كثير من المواضع. قال المالقي في كتابه (رصف المباني في شرح حروف المعاني). (والموضع الخامس أن تكون اللام بمعنى إلى، وذلك قياس، لأن إلى يقرب معناها من اللام، وكذلك لفظها)، ثم استدرك فقال: (وإن كان بينهما فرق من حيث أن إلى لانتهاء الغاية، واللام عارية عنها) وأردف: (فاستعمال أحدهما في موضع الآخر جائز) وأنت تعلم أن إغناء أحد الحرفين عن الآخر لا يعني أنهما على معنى. وهذا ما حمل أبا البقاء أن يقول: (ثم أن فعل الهداية، متى عُدّي بالى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية. ومتى عُدّي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب).
القول في تعدية (اعتذر)
الاعتذار كما لا يخفى هو الإتيان بالعذر وطلب قبوله. قال صاحب المفردات: (واعتذرت إليه أتيت بعذر)، والعذر كما جاء في اللسان، (الحجة التي تعتذر بها) أي تحتج. ففي الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني (اعتذر وتعذر إذا احتج)، فإذا أنت أدليت بعذرك إلى صاحبك وطلبت قبول العذر قلت (اعتذرت إلى فلان). ولا تستطيع أن تقول (اعتذرت عن فلان) حتى يكون اعتذارك نيابة عنه. قال المرزوقي في شرح الحماسة (117): (حتى أن بعضهم اعتذر عمن مات على فراشه فقال:
بحمدٍ من سنِانِكَ لا بذمِّ
أبا قُرَّانَ مِتِّ على مِثالِ)
والمثال: الفراش.
أما إذا أردت الكشف عن سبب اعتذارك وما حملك عليه، فأنت تقول (اعتذرت إليه تقصيري) هذا هو الأصل، وعليه نص المعاجم، ولكن هل تقول (اعتذرت إليه عن تقصيري)؟ أقول ما دمت تقصد بقولك (عن تقصيري) ذكر (سبب الاعتذار وعلَّته) وما حملك عليه، فالكلام سائغ مستقيم. وقد مرّت به المعاجم وجرت عليه ألسنة الأيمة. قال الفيومي في المصباح: (واعتذار إلي: طلب قبول معذرته، واعتذر عن فعله، أظهر عذره). وجاء في الإفصاح، والإفصاح خلاصة المخصص لابن سيده وبعض المظان المعتمدة (العذر ما أدليت به من حجة لإسقاط الملامة.. عذر فلاناً فيما صنع يعذره عذراً ومعذرة، وأعذره: رفع اللوم عنه، واعتذر إليه: طلب قبوله معذرته، واعتذر عن فعله ومنه: أظهر عذره / 255).
أما استعمال الآيمة له فقول ابن جني في الخصائص (1 / 415): (ويؤكده لك أننا نعتذر لهم عن مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية على لفظ المجرور)، أي نعتذر عن فعلهم هذا. وكذلك قول المرزوقي في شرح الحماسة (126): (كالاعتذار عن الأخذ بالفضل عليهم، وترك الصفح عنهم). وما جاء في المثل السائر لنصر الله بن الأثير الجرزي (463): (فإن هذا من أحسن ما يجيء في باب الاعتذار عن الذنب). ما جاء في اللسان (في عسق): (هذا قول ابن سيده، والعجب من كونه لم يعتذر عن سائر كلماته). وقد كرر هذا فقال: (ومن الممكن أن يكون ابن سيده، رحمه الله، ترك الاعتذار عن كلماته.. وعن لفظة: شانني... واعتذر عن لفظة عَسِقني). واتفق في الأشباه والنظائر ـ 4 / 16) من كلام الإمام جمال الدين بن هشام الأنصاري ما عدَّى به (اعتذر) بـ (عن) غير مرة ونحو هذا كثير في كلامهم.
مواضع استعمال (عن):
ولكن لِمَ كان النص في المعاجم على تعدية الفعل بـ (من) غالباً دون (عن)؟ فأنت تقول (قد تسبب هذا عن هذا). قال الفيومي: (وهذا مسبب عن هذا) وقد تكرر ذلك في كلام ابن جني في الخصائص (3 / 160) ، كما تقول (اعتللت بمرضي عن غيابي، أي احتججت بهذه العلة. قال الفيومي (واعتلَّ إذا تمسك بحجة، ذكر بمعناه الفارابي). وقال ابن جني (3 / 206): (واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن).
قال الأستاذ محمد علي النجار في كتابه (لغويات / 142)، (لقد استعملت العلة أيضاً في العذر، ويعتذر به الإنسان عن لوم يوجه إليه في التقصير في بعض الأمر). وقال: (ومما يؤنس لما نحن فيه أنه ورد الاعتلال في ذكر العلة، ويقول الفارابي، على ما في المصباح: اعتلّ إذا تمسك بحجته، وقال أبو قيس بن الأسلت:
وتكرمها جاراتها فيزرنها
وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر
وليس بها أن تستهين بجارة
ولكنها منهن تحيا وتخفر
فقوله: تعتل عن إتيانهن أي تعتذر بذكر وجه تخلفها عن زيارتهن فظهر أن التعلل في معنى ذكر العلَّة، له وجهه الصحيح).
وقد ذكر النحاة من معاني (عن) المطردة: (التعليل)، قاله صاحب المغنى (1 / 127) ومثَّل له بقول تعالى )وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة ـ التوبة / 115(. وفي الهمع للسيوطي (2 / 29) ما في المغنى. وفي شروح الألفية وغيرها من الأمهات نحو من ذلك وانظر إلى ما جاء في أمالي المرتضى حول تخريج قوله تعالى )فخرعليهم السقف من فوقهم ـ النحل / 26( قال المرتضى (1 / 351): (قيل في ذلك أجوبة أولها أن يكون على معنى عن فيكون ـ فخر عنهم السقف من فوقهم ـ أي خرّ عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته، كما يقول القائل: اشتكى فلان عن دواء شربه، وعلى دواء شربه، فيكون على وعن، بمعنى من أجل الدواء)!.
وإذا صح هذا فلِمَ لا نقول (اعتذرت إليه لغيابي) واللام فيه للتعليل أيضاً؟ والجواب عن ذلك: نقوله، وقد أجريت اللام في مجراها ووضعت موضعها، والكلام صحيح لا شَين فيه. ففي محاضرات الأدباء للراغب (450): (المعتذر لتركه الصلاة) ومعناه (المعتذر بسبب تركه الصلاة). وقد تكرر ذلك في المحاضرات فجاء فيه (286): (المعتذر للقصر) و(الممدوح بالخفة والمعتذر للنحافة)، وعلى هذا القول (اعتذرت لغيابي يوم الجمعة). وهو مستقيم.
المانعون لقول القائل (اعتذر عن التقصير):
منع الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله في كتابه (دراسات في فلسفة النحو) قول القائل (اعتذر عن التقصير والذنب) وجعل صوابه (من التقصير والذنب)، وأتى بشواهد من نصوص المعاجم وكلام الأيمة، بمجئ التعدية بـ (من). وقال: (وإنما تستعمل عن مع اعتذر ومصدره لإفادة معنى النيابة، يقال: اعتذر زيد عن عمرو من الذنب الذي جناه أو من تقصيره..). أما ما جاء في المصباح (واعتذر عن فعله: أظهرعذره) فقد ذهب جواد إلى أنه محرّف.
أقول في الجواب عن ذلك أن صاحب المصباح لم ينفرد بهذه التعدية كما رأيت، وليس ثمة ما يوجب الارتياب بنصه، وأما قول جواد (وإنما تستعمل عن لإفادة معنى النيابة) فهو صحيح، ولكن إذا دخلت (عن) على (من وجب عليه الاعتذار) لا على (سبب الاعتذار وعلته) وهذا واضح وقد أشرنا إليه.
المجيزون لقول القائل (اعتذر عن التقصير):
جاء في المعجم الوسيط، معجم المجمع القاهري: (ويقال اعتذار من ذنبه وعن فعله)، فهل أراد أن يخص الذنب بـ (من)، والفعل بـ (عن)؟ أقول إذا أراد ذلك فلا وجه له البتة، وإذا لم يعنِ ذلك فما الذي حمله على أن يحكي بالحرف عبارة الجوهري (الاعتذار من الذنب) ويضم إليها عبارة المصباح (واعتذر عن فعله) فيجمع بينهما ويوهم أن (من) في استعمال الفعل غير (عن)؟ وقد كان الأمثل أن يطبع على غرار الإفصاح فيقول (واعتذر عن فعله ومنه) أو (واعتذر من ذنبه وعنه).
وعرض الأستاذ محمد العدناني لتعدية (اعتذر) في معجمه (الأخطاء اللغوية الشائعة) فأقر تعدية الفعل بمن وعن لذكر العلة، لكنه عطف الأمر على (إنابة حرف مكان حرف) وليس ثمة (إنابة)، وإنما أجري كل حرف من الحرفين المذكورين في مجراه ووضع موضعه. ثم أنكر قول القائل (يعذُر) بالضم كينصُر، وجعل صوابه (يعذر) بالكسر كيضرب، قال (ويقولون: يعذُر فلا صديقه فيما صنع، بالضم، والصواب يعذر صديقه بالكسر..).
أقول: جاء الفعل على (يعذر) كيضرب، وعلى (يعذُر) كينصُر. قال ابن سيده في المخصص (13 / 81): (عذرته أعذُره عذراً ومعذرة بالفتح حكاها سيبويه..) فضم الذال في (أعذُره) وكسرها: وقال ابن منظور في اللسان (وعذره يعذُره فيما صنع عذراً..) فأتت الذال في المضارع الفعل مضمومة ومكسورة أيضاً. فقول الكتاب (يعذُره) بالضم صحيح كما رأيت ولا وجه فيه للتخطئة.
تعدية (اعتذر) بعلى:
أقول إذا كان (اعتذر) قد جاء بمعنى (احتجَّ) كما ذكره الهمذاني في الألفاظ الكتابية فقال (اعتذر وتعذر إذا احتجّ) وكان (العذر) كـ (الحجة) على ما جاء في اللسان (العذر: الحجة التي تعتذر بها) فقد اتفق أن عدَّي (اعتذر) بـ (على) كما يُعدى (احتجّ) فأنت تقول: (اعتذرت على فلان بعذر) كما تقول (احتججت عليه بحجة) فانظر إلى قول منصور بن مشحاج:
ومختبطٍ قد جاء، أو ذي قَرابةٍ
فما اعتذرتْ إبلي عليه ولا نفسي
قال المرزوقي في شرح الحماسة (1675): (فلا نفسي احتجزت عنه بمنع ولا إبلي اعتذرت عليه بعذر، كأن عذر الإبل تأخرُها عن مباءتها، أو ذكر وقوع آفة فيها أو تسلط جدب عليها، واحتجاز النفس: بُخلها بها وإقامة المعاذير الكاذبة دونها وما يجري هذا المجرى). وأصل الاختباط في الورق تقول اختبطت الورق إذا نفضته من الشجر، وكما يستعار الورق فيُكنَّى به عن المال يستعار الخبط فيكنَّى به عن طلبه.
القول في تعديه (كشَف)
قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف..) ينتقد على كاتب بعض كلامه: (وكشف كنوزها.. ونظامها البديع، وقد أراد الكشف عن كنوزها. ومن العجب أنه قال قبيل ذلك: وكشف فيه عن سعة إطلاع، فسوَّى بين كشف عنه وكشفه).
أقول أراد الأستاذ جواد أن (كشفه) غير (كشف عنه). فالكشف إنما يكون (للساتر) وهو الغطاء أو ما يقوم مقامه ، فالغطاء هو المكشوف. أما المكشوف عنه فهو (المستور) أو ما ينوب منابه. قال (والأصل كشف الغطاء أو الستار أو الحجاب) وأردف (والجملة) الثانية ـ أي كشف عنه ـ أريد بها إزاحة ما يستُر، عن الشيء المستور حسب)، فما صواب المسألة؟
الأصل في معنى (كشف عنه):
لا خفاء بأن الأصل في الكشف هو إزاحة الغطاء أو الستار ورفعه عن المستور. تقول (كشف الخمار عن الوجه) و(كشف الغطاء عما وراءه). قال صاحب العين (الكشف رفعك عن الشيء ما يواريه ويغطيه). فتعدية الفعل إلى (الغطاء) أو (الحجاب) إنما يكون نفسه، وإلى (المستور أو المحجوب) بـ (عن).
وقد يطبق الغطاء على الإنسان فيغمره ويثقل عليه ويشتد، كالهم إذا غشي الإنسان فاحتواه، بل عظم عليه وشق، فتقول فيه: (جلوت الهمَّ عنه وسرّيته، بل كشفت عنه السوء أو الضر أو العذاب، وعلى هذا الحدآي التنزيل: )لئن كشفت عنا الرجز ـ الأعراف / 133( و)فلما كشفنا عنه ضرّه ـ يونس / 12( و)كشفنا عنهم العذاب يونس / 38(.
وقد يُلمٌ بالإنسان ما يحجب عنه النظر كشاغل من غمرة فيذهب ببصره كل مذهب، وقد فُسِّر به قوله تعالى: )لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليوم حديد ـ ق / 22(. قال الإمام البيضاوي: (الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك.. وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى كنت في غفلة من أمور الديانة، فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي القرآن، وبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون).
ومما قيل على حد (كشف الغطاء) قول أبي علي المرزوقي في شرح الحماسة (1060): (ثم كشفت الغمة وأثبتَّ الحجة بكلام فصيح لا يلتبس) أي رفعت الغمة عنه وأزحتها) وقوله (1091): (فتركت بعدها دواهي وخطوباً عظيمة هي في أغطيتها لم تظهر ولم يكشف عنها)، أي لم يكشف عنها غطاؤها، وقوله (1093): (فتذكر معايبهم وتكشف عن مستور مخازيهم ومجهول مقابحهم ومساويهم) أي تكشف عنها ما كان يحجبها، وقوله (760): (تندمٌ على ما قصَّر فيه من النظر والفحص والكشف عن عقبى الأمر). وقول الخفاجي صاحب سرّ الفصاحة (31): (وذلك أليق بالمتكلمين الذين هم أصحاب التحقيق، والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء) أي كشف الغطاء عما طُوي عن فهم الناس.
الأصل في معنى (كشفه):
أقول إذا اتفق قول صاحب العين (الكشف رفعك عن الشيء ما يواريه ويغطيه) كما حكاه ابن سيده في المخصص (13 / 144)، فقد أردف: (وكشفت الأمر أكشفه كشفاً: أظهرته). وحكى ابن سيده عن أبي زيد أيضاً (جلوت الأمر وجلَّيته وجلَّيت عنه: كشفته وأظهرته، وقد انجلى وتجلَّى). وقال ابن منظور في اللسان: (وكشف الأمر يكشفه كشفاً: أظهره).
وهذا يعني أن للفعل منحى آخر يتعدى فيه بنفسه إلى (المجهول أو المخفي)، تقول: (كشفت الأمر إذا جلوته وأظهرته). فإذا كان (كشفت الغطاء عن المجهول) هو الأصل، فكيف تفرُع عليه هذا؟.
أقول: الأصل قولك (كشفت الحجاب عن المجهول)، ولك أن تقول: (كشفت حجاب المجهول)، فإذا عرفت أن (الحجاب) يلازم (المجهول)، واعتذرت بهذا فاستغنيت عنه بذكر (المجهول) حذفت المضاف فقلت (كشفت المجهول إذا أظهرته. وأكثر ما يكون الاستغناء عن (الحجاب) أي المضاف ها هنا، إذا كان الحاجب دون المجهول هو الغموض والخفاء والجهل والضياع، فيكون معنى كشف المجهول هو الاهتداء إليه وإظهاره. وحذف المضاف في القرآن والشعر، وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة، أستغفر الله وربما حذفت العرب المضاف بعد المضاف مكرراً أنساً بالحال ودلالة على موضوع الكلام، كما قال أبو الفتح (المحتسب ـ 1 / 188) فعلى هذا القول ابن جني في المحتسب (1 / 239): (وكشفت هذا الموضع يوماً لبعض ما كان له مذهب في المشاغبة). وقول جُرَيبة الفقعسي:
هم كشفوا عيبَة العائبين
من العار أوجُههم كالحُمم
قال المرزوقي في شرح الحماسة (774): (وقولهم هم كشفوا عيبة العائبين... أي أظهروا من عيب من كان يطلب عيبهم، ما كان خافياً.. فكأنهم كشفوا عيابهم المنطوية على عيوبهم فأسودّت وجوههم بما غشيها من العار، حتى صارت كالحُمم).
والعيبة هنا موطن العيوب ومودعه. وانظر إلى قول أبي الحجناء: (شرح الحماسة / 923)
وجرَّبتُ ما جربت منه فسّرني
ولا يكشف الفتيان غير التجارب
أي يكشف دخيلتهم.
وهذا قول المرزوقي (520): (وهذا المعنى قد كشَف غيرهُ) أي أظهره وجلاه. وقول الخفاجي صاحب سر الفصاحة (30): (ويكشف هذا المعنى للمتأمل أن العرب) وقوله (وكشف هذا.. ما أريد) وقوله (71): (فالعلم بها واضح وكشفهاجلي). فلا بأس بعد هذا بأن تقول: (كشفت كنوزها.. ونظامها البديع) إذا اهتديت إلى هذه الكنوز فأظهرتها، وإلى هذا النظام فجلوته؟ ولا وجه لطعن جوادٍ على قائله بأن الغطاء هو المكشوف، وأن المستور هو المكشوف عنه. ذلك بأن قول الأيمة صريح بأن كشف الأمر: إظهاره وجلاؤه، وإذا ذهبت تخرِّجه على الأصل قلت: إن الكنوز ها هنا هي المجهول، وأنت تكشف حجاب المجهول، على الأصل، وتكشف المجهول أي الكنوز على حذف المضاف كما مر بك.
وقد بسط ـ الدكتور جواد رأيه الذي ذكرنا، في كتاب آخر له، هو (قل ولا تقل) فمنع قول القائل (كشفت الأمر الخفي) أول الأمر. ثم عدل عن التلحين إلى الإيثار فقال: (فالفصيح أن يقال الكشف عن الأمر الخفي) وكان قد بدأ قوله (قل كشفت عن الأمر الخفي خفاءه، ولا تقل: كشفت الأمر الخفي). أقول لا وجه، بل لا مساغ البتة لما ذهب إليه الأستاذ، وإلا فما معنى قول الأيمة بل إطباقهم على أنك (إذا كشفت الأمر) فقد أظهرته، أو يخرج الأمر عن أن يكون (أمراً) إذا كان خفياً؟ وإذا كان لا يصح أن يكون المكشوف غير غطاء وحجاب أو خفاء أو قناع، كما ذهب إليه جواد، فكيف أطرد عن الفصحاء الأثبات قولهم (كشف فلان عورة جاره)؟ فانظر إلى قول الجاحظ في كتابه (حجج النبوة): (ولو كان كل كشف هتكاً، وكل امتحان تجسساً، لكان القاضي أهتك الناس لسرٍ وأشد الناس كشفاً لعورة)، وقوله: (لا من طريق الاعتساف، ولا من طريق كشف العورة) فليس المكشوف فيه كما رأيت، غطاء، أو ما يشاكله أو يغني مُغناة.
فرق ما بين كشفه وكشف عنه:
أقول لا شك أن استعمال (عن) على الأصل أدل على أبرز ما قام دون (المجهول) من حجاب حائل، واتفق من غطاء ساتر، كما هو حال (الكنوز) حين تخفى وتخبأ وتطوى، لذا كان قولك (كشفت عن الكنوز) أليق بالمراد. وهذا ما أوحى به المرزوقي حين قال: (فتذكر معايبهم وتكشف عن مستور مخازيهم ومجهول مقابحهم ومساويهم)، وما أراده إذ قال: (من النظر والفحص والكشف عن عقبى الأمر) فمهَّد للكشف بالنظر والفحص وما أفصح عنه بقوله ( 1136): " وما يظهر من معادن الذهب صبيحة مطرة تكشف عن عروق الذهب". بل هذا ما قصده الخفاجي بقوله (وذلك أليق بالمتكلمين أصحاب التحقيق والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء، إذ لو لم يكن هؤلاء أصحاب تدبر وتأمل وتحقيق ما ظفروا بالكشف عن هذه الأسرار والغوامض.
خلاصة القول في تعدية (كشف):
والخلاصة أنك تقول على الأصل كشفت الغطاء عن المستور، فإذا حذفت المفعول لظهوره قلت كشفت عن المستور، ويغلب هذا حين يكون المستور خفياً. كما تقول كشفت غطاء المستور فإذا حذفت المضاف قلت كشفت المستور، ولا يشترط في هذا أن يكون المستور خفياً. ولكن هل تقول كشفت عن الغطاء وتريد أنك كشفت عن الغطاء ما واراه، أي انصرفت عنه إلى ما وراءه؟ أقول الأصل أن تقول مثلاً: كشفت المرأة وجهها، فإذا اعتادت أن تخفيه قلت كشفت المرأة عن وجهها وتقول كشفت المرأة قناعها عن وجه مضيء، على الأصل، وكشفت عن قناعها وجهاً مضيئاً إذا أظهرت وجهها المضيء، فتكون (عن) هنا (للمجاوزة)، أي كشفت الوجه المضيء منصرفة عن القناع إلى ما واراه أو ما وراءه. وقد جاء في رسائل الجاحظ (رسالته في الشارب والمشروب، ورسالته في بني أمية):
(كشفت عن القناع). وفي مقدمة المرزوقي في شرح الحماسة قوله (والكشف عن قناع المعنى بلفظ هو في الاختيار أولى / 6).
القول في تعدية (قسم)
أخذ الدكتور مصطفى جواد على الشيخ رؤوف جمال الدين قوله: (الفعل ينقسم إلى قسمين متعدٍ ولازم)، وجعل صوابه (ينقسم على قسمين..) فقال في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف..): (فمن استعمل من النحويين ـ قسم إلى كذا ـ بدلاً من ـ قسم على كذا ـ فهو محجوج بما ذكره هو نفسه من معاني إلى، وبما استعمله الفصحاء كالجاحظ وغيره). وقد استظهر الأستاذ بعبارة الجاحظ في كتابه (الحيوان): (وبعض الناس يقسم الجن على قسمين)، وقول ابن حزم الأندلسي في نسب الأنصار (زيد بطن ضخم ينقسم على بطون)، ووقل أبي علي الأنصاري في بعض كتبه (كنفس قُسِّمت على جسمين).
أقول لم يزد الأستاذ فيما قرر وجزم، على أن سَرد ما سرد، ولم يورد على قوله البيِّنه ليكون رأيه هو الأسدّ وحكمه هو الأحجى. بل لم يفصح عما ذكر النحاة من معاني (إلى). ولك ما عمد إليه أنه حكى ما اتفق للجاحظ وابن حزم وأبي علي الأنصاري أن قالوه فأجروا فيه تعدية الفعل بـ (على). ونحن لو حكينا من كلام الأيمة الفحول ما عدّوا فيه الفعل بـ (إلى) لما أقنعه سفر بجملته، فما صواب المسألة ووجه الكلام فيما نزع إليه الأستاذ؟.
تعدية (قسم) وما اشتق منه بعدّة من حروف الجر، منها على وإلى:
قال ابن منظور في اللسان: (القسم مصدر قسم الشيء يقسمه قَسماً فانقسم.. وقسَّمه جزّأه، وهي القسمة. والقسم بالكسر النصيب والحظ والجمع الأقسام).
وقال (والقسام بالتشديد الذي يقسِّم الدور والأرض بين الشركاء فيها)، وقال: (والقسامة بالضم الصدَقة لأنها تقسم على الضعفاء).
وقال الراغب في مفرداته: (القسم الإفراز يقال قسمته كذا قسماً وقِسمة، وقسمةُ الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما).
والذي يتبين من هذا أنك إذا أردت أن (تقسم) المال مثلاً على جماعة فتجعل لكل فرد نصيباً قلت: (قسمت المال بين هؤلاء) أو (قسمت المال على هؤلاء). أي فرّقته بينهم. قال الجاحظ في كتابه (حجج النبوّة): (يجعل فضله مقسَّماً بين جميع الأولياء). وقال في كتابه (التربيع والتدوير): (أو الدول بينهما مقسومة وعليهما موقوفة). وقال فيه: (وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان) وقد تقول (قسَّمته فيهم). ففي محاضرات الأدباء للراغب (3 / 294):
لو قسَّم الله جزءاً من محاسنه
في الناس طُراًُ لتمَّ الحسن في الناس).
وقال عروة بن الورد:
أقسِّم جسمي في جسومٍ كثيرة
وأحسو قَراح الماء والماء بارد
قال ابن السكيت: (قوله: أقسَّم جسمي، الجسم ها هنا طعامه، يقول أقسم ما أريد أن أطعمه في محاويج قومي، ومن يلزمني حقه والضيفان. وأحسو قراح الماء، والماء القَراح الذي لا يخالطه لبن ولا غيره، والماء البارد أي في الشتاء / 52).