التراث العربي في الشعر - وداد سكاكيني
ما كانت الآثار الدالة على حضارة العرب وتاريخهم قائمة وحدها في البناء والعمران هياكل ومساجد أو قصوراً وملاعب، وإنما كان على دوام التسلسل الإنساني في وجود العرب آثار أبقى على الزمان وأقوى على الحياة، فإن الآثار الحجرية يأتي على أكثرها الزوال والزلزال، لكن آثار الفكر والشعر تبقى أكثر تجاه وحياة في الكوارث والعدوان، وهي التي حفظت تراث الإنسانية، والحضارة وبخاصة تراث الأدب في شعر العرب ونثرهم خلال العصور، فإن سقوط بغداد بطغيان هولاكو التتري لم يستطع القضاء على التراث العربي كله، فقد ألقى في دجلة ما وصل إليه عدوانه من الوثائق والمحفوظات، على أن ما سلم منها وما توارثته الأجيال وحفظته الذخائر ورسالة العلماء في أقطار الشرق والغرب بقي ميراث العرب في حضارة الفكر والثقافة على تعاقب الزمان والأحكام.
ولست بسبيل التفضيل والتأويل لمحتوى آثارنا الخالدة، فحسبي في هذا الحديث أن أشير إلى أثر التراث في الشعر العربي نفسه أو بالأحرى أثر الشعر نفسه في التراث، فقد كان بصوره المختلفة وطوابعه العديدة سجلاً لأكثر المعالم التاريخية والمعارك الكبرى في حياة العرب وامتداد رسالتهم وتأثير أدبهم وشخصياتهم، في تطور الحضارة والثقافة والاجتماع.
وباستطاعة الباحث والدارس أن يستدل على حوادث الحكم والحياة وصور التقاليد والخصائص في أي عصر من عصورهم بشعر الشعراء الذين استمدوا الإلهام والكلام من صميم الحوادث وملابساتها وكأن القصائد بما حوت من وثائق وشواهد على الحقائق التاريخية، فمعركة "عمورية" التي ساق إليها الخليفة المعتصم أربعة جيوش بعدة لم يعرفها العرب في حرب قبله، وقد دون التاريخ أخبار هذه المعركة التي احتدمت بين العرب والروم، وتعددت المصادر التي تناولتها، ووصلت إلى أيدينا فإذا بها وفي مقدمتها التاريخ الكامل لابن الأثير، تقول في "فتح عمورية"، سطوراً موجزة لكن الشعر العربي هو الذي فصل رواية التاريخ وألقى على أخبارها النور في وصف هذه الحرب الرهيبة، فقد صورها الشاعر الخالد "أبو تمام" في قصيدته البائية الرائعة وكأنك وأنت تقرؤها تشهد المعركة والحصار، وفتح الأسوار، وما صنع المعتصم تلقاء الحوادث المزدحمة وما عرض ملك الروم من الفداء لأسرى الحرب، وكيف أخذت النار أبراج البلد، كل هذا قدمه الشعر العربي الرصين في تراثنا القديم، فمن ها هنا نجد تاريخنا في حاجة إلى روافد وشواهد مما قدم الشعر مؤيدة للحوادث والصور. وقد كان هذا الشعر على اختلاف العصور العربية مرافقاً لكل تغيير وتطور في حوادث الدنيا وأسبابها. ولم تخل العصور من شعراء وصفوا بلادهم وطبيعتها، وأشادوا بمآثرها وأطوارها، وما حل فيها من خير أو شر على أيدي ولاتها وذويها، وما طرأ عليها، وإذا اختلفت المراجع التاريخية في أمر من الأمور، فإن الشعر كثيراً ما دل على الصواب إذا تناولته دراسة تمحيص واستقصاء.
فشعراء الجاهلية ساعدوا المؤرخين في بحوثهم ودراساتهم وإن لم يقطع البحث تحقيقه في كثير من الأحداث والشؤون، ولما جاء الإسلام بدعوته ورسالته في أرجاء الجزيرة، ثم ترامى على الشرق نحو فارس وعلى الغرب نحو الديار البيزنطية، أخذ الشعر بعد زهادة فيه يؤدي مهمته الأدبية والإنسانية معاً، وإن المتتبع لتاريخ "ابن هشام"، الذي كتب السيرة المحمدية ليجد في تضاعيفها الشواهد الشعرية والقصائد الوصافة للمغازي والأحداث، وكذلك كان الشعر في حكم الراشدين ومن جاء بعدهم مصوراً للحركات الثورية واختلاف الرأي والعقيدة في الاتجاه، وقد يعد شعر الخوارج في زمن علي ومعاوية مصادر موثوقاً بها في قضايا التحكيم وغلو المتحيزين والمتمردين حتى إذا انحدرنا إلى العصور المتوالية طلعت علينا القصائد الطوال والمقطوعات والأبيات بما لم يتبسط فيه التاريخ، بل أن بطائن الروايات وخافايا الحوادث ليتعب في استجلائها الباحثون إذا لم يستعينوا بالشعر على استخلاص الحقيقة والواقع، وقد ثبت أن أكثر المؤرخين والرواة جمجموا القول والرأي في كبريات الحوادث لكن الشعر كان أوضح دليلاً وأكثر تناقلاً وأخف رواية وإن وجد في الشعراء من تنكب الطريق ومال مع الهوى.
وبعد فإني لا أخلي حديثي من مقترح في جمع الشعر العربي كمصادر تاريخية وتحقيقه في إحياء التراث، فيكون لكل عصر مراجع منه وروافد للتاريخ، وما أجدرنا اليوم، ونحن نبعث التراث باختيار المصادر والأصول التي نكتب على ضوئها دراسات جديدة لتاريخنا الكبير.