السيدة الفاضل : لك مقتبس من أحدى الرسائل الجامعية في الموضوع الذي طلبته:
الفصل الأوّل
أساليب التعبير عن الوجوب في الكتاب
ومعاني القرآن للفراء
كانَ من المقرّر أوّلَ الأمر أنْ يُسمّى هذا الفصل مصطلح الوجوب في الكتابين، أو ما شابه ذلك ، ولكن بعد القراءةِ الدقيقة للكتابين ظَهَرَ ما يوجب العدولَ عن ذلك إلى تسميته بالأساليب ، فان كتاب سيبويه ومعاني القرآن من أوّلهما إلى آخرهما لم ترد فيهما كلمةُ الواجبِ أو الوجوبِ بالمعنى الاصطلاحيّ المعروفِ إلا في القليلِ النادرِ وإنّما وَرَدت كلمةُ الواجبِ بمعنى ضِدّ النفيِ أي أن الواجبَ هو المُثْبَتُ وهذا ما نجده صريحاً في مواضع كثيرةٍ من الكتاب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: ((واعلم أنّ لعلَّ وكأنّ وليت يجوزُ فيهنَّ جميعُ ما جاز في إنّ إلا انه لا يُرفع بعدهن شيءٌ على الابتداء ، ومن ثَمَّ اختار الناس ليت زيداً منطلقٌ وعَمْراً ، وقبُح عندهم أن يحملوا عمراً على المضمر حتى يقولوا هو ، ولم تكن ليت واجبةً ولا لعلّ ولا كأنّ، فَصَحّ عندهم أنْ يُدخِلوا الواجب في موضعِ التمني فيَصِيروا قد ضَمُّوا إلى الأوّل ما ليس على معناه بمنزلة إنّ )) ( ) . ويعني بقوله (ولم تكن ليت واجبة) أي أنّها ليست مثبتة إذ لا يدخل الثابتُ في موضع التمني؛ لأنّ التمني لم يحدثْ بعدُ ، فيتناقض الإثبات والتمني ، ودليل هذا المعنى ما جاء بعد ذلك (( إلا أنّ معنى إنّ ولكنّ لأنّهما واجبتان كمعنى هذا عبدالله منطلقاً…..)) ( ) .
وأظهر من هذا ما جاء في الكلام على أحد وكرّاب وأشباهها إذ يقول ((وأمّا أحدٌ وكرّابٌ وإرَمٌ وكَتيعٌ وعَريبٌ وما أشبه ذلك فلا يقعْنَ واجباتٍ ولا حالاً ولا استثناءاً )) ( ) فمعنى لا يقعن واجبات أي لا يقعن إلا منفيّات فهو يقول بعد ذلك
((.. ولكنّهن يقعن في النفي مبنياً عليهنّ ومبنيةً على غيرهنّ)) ( ) ويؤكِّدُ هذا بقوله في مكانٍ آخر ((… لأنّ أحداً لا يستعملُ في الواجب)) ( ) كما يتكرّر هذا اللفظُ بهذا المعنى في باب الاستثناء كثيراً فيعلِّل مثلاً سببَ إدخال إلا بأنّك ((أدخلت إلا لتوجبَ الأفعال لهذه الأسماء ولتنفيَ ما سواها)) ( ) .
ومثل ذلك نجدُه كثيراً في الكتاب ( ) ، وهذا مع ورود الفعل (وَجَبَ) بالمعنى الذي نعنيه من اللزوم والحَتْمِيَّة ولكنْ ليس في توجيهِ حكمٍ نحويٍّ وإنّما في سرْد الكلام إذ يقول : (( وتقول زرني وأزورك ، أي أنا مِمَّن قد أوجب زيارتك على نفسه ، ولم تُرِدْ أنْ تقول لتجتمع منك الزيارةُ فزيارةٌ مني ، ولكنَّه أرادَ أنْ يقولَ: زيارتك واجبةٌ على كلّ حال فلتكن منك زيارة.))( ) ومثل ذلك ما قاله في قوله تعالى:وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ( ) إذ يقول: ((… أي هؤلاء ممن وجب هذا لهم لأنَّ هذا الكلام إنَّما يُقال لصاحب الشر والهَلَكَةُ فقيل : هؤلاء مِمَّنْ دخل في الشرِّ ووَجَبَ لهم هذا)) ( ) ومثلُ هذا ما ورد عند الفراءِ في قوله تعالى : فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ( ) إذ يقول : ((الكسر فيه أحبّ إليّ من الضمّ؛ لأنَّ الحُلول ما وقع من يحُلّ ، ويحِلُّ : يَجِبُ وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع)) ( ) أي يحُلَّ بضمِّ الحاء معناها يقع ، ويحِلُّ بكسر الحاء معناها يجب ….
ومن الجدير بالذِّكر إنّه قد ورد لفظُ الوجوبِ في الدِّلالة على الإلزام في توجيه الحُكم النحويِّ في موضعين من كتاب سيبويه أحدُهما قوله : ((….لأنّك إذا ابتدأت الاسمَ فإنّما تبتدئُه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكورٌ بعد المبتدأ لابُدَّ منه، وإلا فسَد الكلام ولم يسُغ لك ، فكأنه ذكر هو ليستدل المحدث أنّ ما بعد الاسم ما يخرجه مما وجب عليه ، وان ما بعد الاسم ليس منه )) ( ) . والموضع الآخرُ قولُهُ ((ولو سمَّيْتَ رَجُلاً (لم يُرِدْ) أو (لم يَخَفْ) لوجب أن تحكيَه ؛ لأنَّ الحرفَ العاملَ هو فيه ، ولو لم تُظهِر هذه الحروف لقلت : هذا يريدُ وهذا يخافُ .))( ) أي وجب عليك أن تبقيَهُ مجزوماً؛ لأنّ العاملَ في الفعلِ الجزمَ ملفوظٌ . وأمّا ما وردَ عند الفراء ففي كلامه على قوله تعالى :لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ( ) إذ يقول: ((يُرفع (غير) لتكون كالنعت للقاعدين…… وقد ذُكِر أنّ (غير) نزلت بعد أن ذَكر فضلَ المجاهدِ على القاعِدِ ، فكانَ الوجهُ فيه الاستثناء والنصب . إلا أنّ اقتران (غير) بالقاعدين يكاد يوجب الرفع؛ لأنّ الاستثناء ينبغي أن يكون بعد التمام.)) ( )
ومن المعلوم أنَّ هذه الاستعمالاتِ وغيرها مما هو في بطون المعاجم لهذه الكلمة وغيرها إنّما هو من سعة التعبير في ألفاظ العربية بحسب المقام والسياق، ولكنَّ أيّ علمٍ من العلوم أياً كان يحتاج إلى ألفاظ تُعَبِّرُ عن مدلولاتِه وهذه الألفاظُ غالباً ما تكون في نشأة أيّ علمٍٍ غيرَ واضحةِ المعالم ، وربَّما لا تستقرُّ بالشكل الذي تؤول إليه إلا بعد نُضجِ العلم واكتماله ، أو لِنَقُلْ اكتمال التأليفِ فيه ونضجِه. ولمَّا كان كتاب سيبويه ومعاني القرآن للفرَّاء يُعدّان من التآليف المتقدمة وجدنا ما عنيناه جليّاً في تعدُّدِ الأساليبِ في التعبيرِ عن الوجوبِ فيهما ، مع أنَّك تجدُ في التآليف اللاحقةِ مصطلح الوجوب قد اتخذَ شكلاً واضحاً فعُرِفَتْ الموضوعاتُ به ، كوجوب التقديم والتأخير ووجوب الإظهار والإضمار ووجوب الرفع والنصب وغيرها مِمَّا هو معروف في أبواب النحو .
من كل ما تقَدَّم كان هذا الفصل تحتَ عنوان ((أساليب التعبير عن الوجوب))؛ لأنَّ الأساليب هي التي كانت غالبةً كما سيَتَبـيّن في المبحثين الآتيين إن شاء الله .
المبحث الأوّل
أساليب التعبير عن الوجوب في كتاب سيبويه
لعلَّ من أهمّ ما تَميَّز به منهجُ الكتاب هو طريقتُه في التعبيرِ عن مصطلحاتِه النحويّة، وعنواناتِ الأبوابِ كما تَقَدَّمَ ، ولَمَّا كانَ الوجوب يُعدُّ من الأحكامِ أو المصطلحاتِ النحويّةِ ؛ فلابُدَّ أنْ تظهرَ عليه تلك الصياغةُ التي طُبِع بها الكتاب من تعدُّدٍ في طريقةِ التعبيرِ عليه وعدمِ استقرارِهِ بشكلٍ مُحَدَّدٍ ، فتجدُ سيبويه قد عبَّر عن مفهوم الوجوب بأكثر من أسلوبٍ وبطرقٍ مختلفةٍ ( ) ، ورُبَّما تجدُ عِدَّةَ صياغاتٍ للفكرةِ الواحدةِ، يقول مثلاً في وجوب تأخُّر معمولِ فعلِ التعجُّبِ على (ما) التعجبية: ((هذا بابُ ما يعملُ عَمَلَ الفعل ولم يجرِ مجرى الفعل ولم يتمكّن تمكنَه وذلك قولك: ما احسنَ عبدَالله…. ولا يجوز أنْ تُقَدِّمَ (عبدَالله) وتؤخِّرَ (ما) ولا تزيلُ شيئاً عن موضعه ، ولا تقول فيه ما لا يحسُن ، ولا شيئاً مِمَّا يكون في الأفعال سوى هذا)) ( ) .
وتجده في بابٍ آخرَ يقول ((هذا بابٌ معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأوّل إلا أنّها تعطِف الاسمَ هنا على ما لا يكون بعده إلا رفعاً على كُلِّ حالٍ وذلك قولك أنت وشأنُك….)) ( ) ويسوق الأمثلةَ والشواهدَ الكثيرةَ على ذلك ليعودَ بعد ذلك مؤكِّداً وجوب الرفع بقوله: ((وأمَّا أنت وشأنُك ، وكُلُّ امرئ وضعيتُه، وأنتَ اعلمُ وربُّك وأشباه ذلك فكُلُّه رفعٌ لا يكونُ فيه النصب)) ( ) ، كما تجده يعقدُ لإضمار الفعل أبواباً بدأها بقوله: ((هذا بابُ ما ينتصب على إضمارِ الفعل المتروكِ إظهارُه..)) ( ) وتجده في كُلِّ باب من هذه الأبواب يذكر سبب اختزال الفعل مراراً فيقول في نصب أمثال قولك : جمعاً وشكراً وقولك لا كفراً وعجباً وأشباه ذلك: ((وإنَّما اختُزِلَ الفعل هاهنا لأنَّهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء)) ( ) ويعودُ لهذا المعنى كثيراً ، وتكون كالقاعدةِ المُسَلَّمَةِ أنّ كُلَّ مصدرٍ يقومُ مقامَ فعلِهِ وَجَبَ إضمارُه إذ بدأ هذه الأبوابَ بما يؤكِّدُ أنَّه يُريدُ الوجوب في هذا الإضمار فقال: ((هذا بابُ ما ينتصِبُ على إضمارِ الفعل المتروك إظهارُه استغناءً عنه وسأمثِّلُه لك مظهراً لتِعْلَمَ ما أرادوا إنْ شاء الله تعالى
هذا بابُ ما جَرَى منه على الأمرِ والتحذيرِ وذلك قولُك إذا كُنتَ تُحذِّر: إيَّاك ، كأنَّك قلت إيَّاك نحِّ وإياك باعد وإياك اتَقِِ وما أشبه ذا ، ومنه أنْ تقول : نفسَكَ يا فلان أي اتقِ نفسَك ، إلا أنّ هذا إضمارٌ لا يجوزُ إظهار ما أضمرت ولكنْ ذكرته لأُمثِّل لك ما لا يُظهر إضمارُه…)) ( ) ويُؤكِّد هذا المعنى بقوله: ((ومِمَّا جُعِلَ بدلاً من اللفظ بالفعل قولهم: الحذرَ الحذرَ والنجاءَ النجاءَ وضرباً ضرباً فإنَّما انتصب هذا على الزَمِ الحَذَرَ وعليك النّجاءَ ولكنّهم حذفوا؛ لأنّه صار بمنزلة (افْعَلْ) ودخول (الزمْ) و(عليك) على (افْعَلْ) محالٌ)) ( ) .
والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ وإنّما سُقناها هنا للإشارةِ إلى أنَّ سيبويه رُبَّما استعمل اكثر من أسلوبٍ للمسألةِ الواحدةِ للدلالةِ على معنى الوجوبِ فيها ، إذ رأينا طريقتَه في ذلك قد اتخذت أشكالاً عدة ، فتجدُه في المسألة الواحدة يعبِّرُ عن جزئيّةٍ منها بأسلوبٍ ثُمَّ يتَّخِذُ أسلوباً آخرَ في جزئيّة أخرى من المسألة نفسِها وإذا كان شَرْحُ أيِّ موضوعٍ يَتَطَلَّبُ أحياناً تكرار الفكرةِ الواحدةِ اكثر من مرَّةٍ بحسب ما يقتضيه سياقُ الشرحِ فإنَّ ذلك يكون مسوَّغاً عندما تنطوي هذه المعاني المتفرقةُ تحت عنوانٍ رئيسٍ يشمِلُ هذه الجزئيات ، أمّا أنّك لا تجدُ مصطلح الوجوب يُعَبَّرُ به في الكتاب بصيغته هذه فإنَّه يكون من اللازم استجماعُ هذه الجزئياتِ المتناثرةِ كي توضَعَ تحت البحث والدراسة ، فأساليبُ التعبير عن الوجوب في كتاب سيبويه جاءت منتشرةً في الكتاب بطريقةِ الاسترسال والسرد غالباً وليس الحصر والتحديد ، ورُبَّما يكون مَردُّ ذلك هو قِلَّةُ التأثُّرِ بالمتكلِّمين والمناطقة والفلاسفة على خلاف من جاءوا من بعده .
وعلى كُلّ حالٍ فإنَّنا يُمكنُ أنْ نَحصُرَ أساليبَ التعبيرِ عن الوجوبِ في كتاب سيبويه بما يأتي :
الأول- النفي والاستثناء
بدأنا بهذا الأسلوبِ أوّلاً لأنَّه اكثرُ الأساليبِ انتشاراً في الكتاب حتى كأنّه الأصلُ في الدِّلالةِ على الوجوب في الكتاب، ورُبَّما يكونُ أدقَّ وضوحاً في الدلالةِ من غيرِه في حصْرِ الحكمِ بشكلٍ تامٍّ ، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ وقد أبرزَ سيبويه هذا الأسلوبَ من خلال تسمية أبوابٍ به من ذلك مثلاً :
((هذا بابٌ لا يكونُ فيه إلا الرفعُ)) ( )
((هذا بابُ ما لا يعمل في المعروف إلا مضمَراً)) ( )
((هذا بابٌ لا يكونُ الوصفُ المفردُ فيه إلا رفعاً)) ( )
((هذا بابٌ لا يكونُ الوصفُ فيه إلا منوَّناً)) ( )
((هذا بابٌ لا يكون المستثنى فيه إلا نصباً)) ( )
ومثل ذلك كثيرٌ في الكتاب ورُبَّما يُقدِّمُ هذا الأسلوب قبل الشروع بذكر المسألة ومن ذلك :
((ومِمَّا لا يكون إلا رفعاً قولُك : أأخواك اللذانِ رأيت..)) ( )
((ومِمَّا لا يكون فيه إلا الرفعُ قوله: أعبدالله أنت ضاربُهُ..)) ( )
((ومِمَّا لا يحسُنُ فيه إلا النصب قولُهم : سِيرَ عليه سَحَرَ..)) ( )
((ومِمَّا لا يكون الوصفُ فيه إلا مُنوَّناً قولُه : ألا ماءَ سماءٍ لك بارداً )) ( )
ويمكننا أن نحصرَ أسلوبَ النّفيِّ والاستثناء برصْدِ الأدوات التي استعملها كما يأتي :
1- لا و إلا وقد استعملها بكثرةٍ حتى أنَّك لتقفُ على أكثرَ من خمسينَ موضعاً لها ، من ذلك الأمثلة الآتية :
((و(رُبَّ) لا يكونُ ما بعدها إلا نكرة)) ( )
((يا أيُّها الرجلُ … وإنَّما صار وصفُه لا يكونُ فيه إلا الرفعُ؛ لأنَّك لا تستطيعُ أنْ تقولَ: يا أيُّ ولا يا أيُّها وتسكت)) ( ) .
((هذا بابُ النفي بـ(لا) …. فلا تعمل إلا في نكرةٍ كما أنَّ (رُبَّ) لا تعمل إلا في نكرة ، وكما أنّ (كم) لا تعملُ في الخبر والاستفهام إلا في نكرة)) ( )
((وأمَّا عبدالله أحسنُ ما يكون قائماً فلا يكون فيه إلا النصبُ)) ( )
وقد مرَّ قبلَ قليلٍ أمثلةٌ على ذلك فيها ما يُغني عن الزيادة هنا .
2- لم و إلا
يقول سيبويه: ((…انّك لو قلت: آلسوطَ ضربتَ فكانَ هذا كلاماً ، أو آلخوانَ أكلتَ لم يكن إلا نصباً ، كما أنَّك لو قلت: أزيداً مررتَ ، فكان هذا كلاماً لم يكُن إلا نصباً فاعتبرْ ما أشكلَ عليك من هذا بذا ، فإنْ قلتَ: أزيدٌ ذُهِب بِهِ أو أزيدٌ انطُلِقَ بِهِ لم يكن إلا رفعاً؛ لأنّك لو لم تقل (به) فكان كلاماً لم يكن إلا رفعاً ، كما قلت: أزيدٌ ذهبَ أخوه؛ لأنّك لو قلت : أزيدٌ ذَهَبَ ؛ لم يكن إلا رفعاً)) ( ) .
وكما هو واضحٌ في هذا النَّصِّ وُرودُ خمسةِ مواطنَ للوجوب اثنانِ منها للنصب وثلاثةٌ للرفعِ دلَّ عليها باستعمال لم وإلا .
ومنه قوله : ((… لو قلتَ: أكُلَّ يومٍ زيداً تضربُهُ لم يكن إلا نصباً؛ لأنَّه ليس
بوصف…)) ( )
وقوله : ((…. وإذا قلتَ : زيداً لم أضربْ أو زيداً لنْ أضربَ لم يَكُن فيه إلا
النصب)) ( ) .
3- ليس و لا
من ذلك قولُه في باب إضافة اسمِ الفاعلِ المعرَّف بـ(أل) إذا كان مثنى أو جَمْعاً : (( فإذا ثنَّيتَ أو جَمعْتَ فأثْبَتَّ النون فليس إلا النَّصب وذلك قولهم: ((هم الطيبون الأخيار، وهما الحسنانِ الوجوه ..)) ( ) .
ومنه أيضاً قوله: ((… فإذا قلتَ: (ما خلا) فليس فيه( ) إلا النصب..)) ( )
وقوله: ((… فإذا قال: رأيتُ زيداً قال: أيٌّ زيدٌ فليسَ فيه إلا الرفعُ، يُجريهِ على
القياس)) ( )
استعمل سيبويه كُلَّ أداةٍ مِمَّا سبَقَ كثيراً ، وقد جاءَ استعمالُ (ليس) مع (غير) مرَّةً واحدةً تأكيداً في قوله: (( …فمِمَّا لا يليهِ الفعلُ إلا مُظهراً: قد وسوف ولَمَّا ونحوهنَّ . فإنْ اضطُرَّ شاعِرٌ فَقَدَّمَ الاسمَ وقد أوقع الفعلَ على شيءٍ من سببِه لم يكن حَدُّ الإعرابِ إلا النصب ، وذلك نحو: لَمْ زيداً أضرِبْ، إذا اضْطُرَّ شاعرٌ فقدَّم، لم يكُنْ إلا النصبُ في زيدٍ ليس غير)) ( ) .
والذي يعنينا هنا هو دلالةُ سيبويه على معنى الوجوبِ إذ جاءتْ بهذا الأسلوب بطريقةٍ غيرِ مستقرَّةٍ؛ لأنَّه كان يعرِضُ لمواطنِ الوجوبِ بطريقةٍ عَفْويةٍ إلا ما كان من تصديرٍ لعددٍ من الأبوابِ بِما يَدُلُّ على الوجوب وحتى هذا لم يكن إلا بعفْويةٍ واسترسال.
الثاني- النفــي
يَعني أسلوب النّفي في الدلالةِ على الوجوب هو نفيُ أيِّ حكمٍ آخرَ قد يُتَصوّر في المسألة ، أي أنّه حصرُ حكمٍ واحدٍ عن طريق نفْيِ الأحكام التي تعتَوِرُ المسألةَ ، وهذا ما يسمَّى عند أهل الأصول بالسبر والتقسيم ( ) كما سيأتي بيانُه إن شاء الله ، وقد سمَّتْه الدكتورة خديجة الحديثي بامتناعِ الضدِّ ( ) ، وقد استعمل سيبويه هذا الأسلوب كثيراً ، والأمثلةُ الآتيةُ توضِّح ذلك :
قال سيبويه : (( فإن ابتدأتَ فقلتَ: ظنّي زيدٌ ذاهبٌ كان قبيحاً لا يجوز البتَّةَ))( ) أي أنّ إهمال الظنِّ إذا تقدَّمَ لا يجوز ، فوجب إعماله.
وقال أيضاً : ((هذا بابُ ما جرى منهُ على الأمرِ والتحذيرِ . وذلك قولُك إذا كنتَ تُحذِّرُ : إيَّاك … إلا أنَّ هذا لا يجوزُ فيه إظهارُ ما أضْمَرْتَ .. ومن ذلك أيضاً قولُك إيَّاك والأسَدَ)) ( ) ، وهذا يَدُلُّ على وجوب إضمار الفعل هنا ، وقد أكَّد هذا المعنى كثيراً إذ يقول في نهاية الموضوع : ((فاعرف فيما ذكرتُ لكَ أنّ الفعلَ يجري في الأسماءِ على ثلاثةِ مجارٍ : فعلٌ مظهرٌ لا يحسُنُ إضمارُه وفعلٌ مُضْمَرٌ مُسْتَعْمَلٌ إظهارُه، وفعلٌ مُضْمَرٌ متروكٌ إظهارُه…… وإنَّ الموضع الذي لا يُستعملُ فيه الفعل المتروك إظهاره فمن الباب الذي ذكر فيه إيَّاك..)) ( ) .
ومنه أيضاً قوله : ((ولو قلت: ما زيدٌ على قومِنا ولا عندَنا كان النصبُ ليس غير)) ( ) أي وجب النصب لـ (عندَنا)؛ لأنَّه لا يجوزُ حملُه على (على) فـ(عندنا) لا تُستعملُ إلا ظرفاً ( ) فلا يقال (ما زيدٌ على عندَنا) .
ومنه ما قالَه في ترتيبِ جملةِ التَّعَجُّبِ إذ يقول: ((ما أحسنَ عبدَالله… ولا يجوز أن تقدِّم عبدَالله وتؤخِّر ما)) ( ) فلَمَّا لم يجُزْ تقديمُ معمولِ فعلِ التعجُّبِ على (ما) وجبَ تأخيرُه عنها.
ومنه أيضاً ما جاء في رفع الاسم على الابتداء إذا كان الفعل بعده صفةً له فيقول : (( وقال الشاعر ، الحارثُ بن كِلْدَة ( ):
فَمَا أدْرِيْ أغَـيَّرَهُم تناءٍ وطولُ العهْدِ أمْ مَالٌ أصَابُوا
يريد أصابوه ، ولا سبيلَ إلى النصب وإنْ تركت الهاء؛ لأنه وصفٌ )) ( ) أي يجب رفع (مال) على الابتداء .
ومنه ما جاء في باب الفاء وإضمار (أنْ) فيها يقول :
(( هذا بابُ الفاء … ولا يجوز إظهارُ أنْ كما لا يجوز إظهارُ المُضمرِ في لا يكون ونحوها)) ( ) أي يجب إضمارُ (أن) في مثل قولك : لا تأتيني فتحدثني بعد الفاء، ومثله قوله تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ( )
ويقول في إعراب صفة المنادى إذا كانت مضافة
(… قلت : أفرأيتَ قولَ العربِ كُلِّهم ( ):
أزَيْدُ أَخَا وَرْقَاءَ إنْ كُنْتَ ثائِراً فَقَدْ عَرَضَتْ أحْناءُ حَقٍّ فَخَاصِمِ
لأيِّ شيءٍ لَمْ يجزْ فيه الرفعُ كما جازَ في الطويلِ ( ) ، قال( ) : لأنَّ المنادى إذا وُصِفَ بالمُضافِ فهو بمنزلتِهِ إذا كان في موضعِه ، ولو جازَ هذا لقلتَ يا أخونا تريدُ أنْ تجعلَه في موضعِ المُفرد ، وهذا لحْنٌ ، فالمضاف إذا وُصفَ بِهِ المنادَى فهو بمنزلتِهِ إذا ناديتَهُ؛ لأنَّه هنا وَصْفٌ لِمنادى في موضعِ نصْب )) ( ).
فيكون قد نفى الحكم الآخر الذي يُتَصوَّرُ في تابع المنادى إذا كان مضافاً وأبقى حكماً واحداً هو النصب.
الثالث- التقريــر
استعمل سيبويه أسلوبَ التقرير فيه بشكلٍ واسعٍ ، ومعنى التقرير هو أنْ يسوقَ الحكمَ في سرْد الكلام بأشكالٍ مختلفة ؛ وكأنه يُؤصِّلُ لقاعدةٍ ملزمةٍ أحياناً وتجده أحياناً أخرى يعبِّر عن وجوب مسألةٍ ما وكأنَّها من المُسَلَّمات ورُبَّما صرَّح بلزومها بقوله: (يلزمُ كذا) وما شابه ذلك مِمَّا يتوضَّحُ فيما يأتي :
يقول سيبويه: (( كما أنّ (ما) كـ(ليس) في لغةِ أهل الحِجازِ ما دامت في معناها ، وإذا تغيرت عن ذلك أو قُـدِّم الخبرُ رَجَعَت إلى القياس …)) ( ) ، إنّ قوله (ما دامت في معناها) يدلّ على وجوب هذا الشرط عليها ومعنى هذا لزوم أنْ تكون (ما) نافيةً بقوة نفي (ليس) ( ) إشارةً إلى شرط عدمِ انتقاضِ نفيها باستثناءٍ أو استثناءِ شيءٍ من الخبر؛ لأنَّ ذلك كُلَّه يُبـيِّن معنى التغيـُّر الذي يعنيه بقوله: (وإذا تغيَّرت عن ذلك) ، ولذا زادَ بقوله: ( أو قُدِّم الخبر)؛ لأنَّ تقديم الخبر لا يقـلِّلُ من النفي وإنَّما يطعن بقوَّة العمل ( ) ، ونلاحظ أنَّه ذكر عبارة (ما دامت في معناها) في سياق الكلام على الرّغم من دِلالتِها العميقة ، وقد جاء في مكانٍ آخر قوله: (( لَم تقوَ (ما) حيث نقضْتَ معنى (ليس) كما لم تقوَ حين قَدَّمْتَ الخبر … فلم تقْوَ (ما) في باب قلْب المعنى كما لم تقوَ في تقديم الخبر)) ( ) .
ويقول في التنوين ونون المثنى والجمع عند الإضافة للضمير : ((واعلمْ أنّ حذفَ النونِ والتنوينِ لازمٌ مع علامة المضمر غير المنفصل)) ( ) أي أنَّ حذف النون والتنوين عند الإضافة للضمير المتصلِ واجبٌ مثل قولك هم ضاربوك ، وهذا حديثك…
ويقول في وجوبِ الفصل بين أفعُلِ التفضيل النكرةِ وبين التمييز: ((وتقول فيما لا يقعُ إلا منوناً عاملاً في نكرةٍ وإنّما وقع منوناً؛ لأنّه فُصِلَ فيه بين العامل والمعمول، فالفصلُ لازمٌ له أبداً مظهَراً أو مضمَراً ، وذلك قولك: هو خيرٌ منك أباً ، وهو احسنُ منك وجهاً . ولا يكونُ المعمولُ فيه إلا من سببِه، وإنْ شئتَ قلتَ : هو خيرٌ عملاً وأنتَ تنوي (منك) . )) ( ) .
فأوجب الفصل لفظاً أو تقديراً بقوله: فالفصلُ لازمٌ له أبداً ...
ومنه قوله: ((واعلم أنَّك لا تُظهِرُ علامة المضمَرينَ في (نِعْمَ) ، لا تقول نِعْمُوا رجالاً ، يكتفون بالذي يُفسِّره ، كما قالوا: مررتُ بكُلٍّ وقال الله عزَّ وجلَّ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِين ( ) ،فحذفوا علامة الإضمارِ وألزموا الحذفَ ، كما ألزموا نِعْمَ وبِئْسَ الإسكانَ، وكما ألزموا (خُذِ) الحذفَ ، ففعلوا هذا بهذه الأشياءِ لكثرةِ استعمالهم هذا في كلامهم))( ).
وقال في بناء اسم لا النافية للجنس : (( هذا بابُ النفي بـ(لا) … وتركُ التنوينِ لِما تعملُ فيهِ لازمٌ )) ( ) وذلك مثل قولك: (لا رجلَ في الدار) . فيجب بناء (رجل) ولا يجوزُ تنوينُه ، ومثله لو كان مضافاً نحْو (لا غلام رجل في الدار) .
ومنه أيضاً وجوب ذكر الخبر للاسم إذا ابتدأت به إذ يقول : ((… إذا ابتدأتَ الاسمَ فإنّما تبتدِئُه لِمَا بعدَه ، فإذا ابتدأتَ فقد وجبَ عليك مذكورٌ بعد المبتدأ لابُدَّ منه وإلا فسَد الكلامُ ولم يسُغ لك )) ( ) . يعني أنّك إذا ذكرتَ اسماً وجبَ عليك أنْ تذكرَ بعده خبراً له ليستقيم الكلام فإذا قلت (زيدٌ) فلابُدَّ من خبرٍ له كأنْ تقول (نائمٌ) أو (قائمٌ) أو يقوم… وهو هنا يقـرِّرُ الوجوبَ بقوله وجبَ عليك وأعقـبَهُ بقوله ( لابُدَّ منه) توكيداً لهذا الوجوب .
ومنه قوله في توكيد الفعل المضارع بالنون : (( اعلمْ أنّ القسمَ توكيدٌ لكلامك فإذا حلفتَ على فعلٍ غيرِ منفيٍّ لم يقعْ، لَـزِمتْهُ اللام ولـزِمت اللامَ النونُ الخفيفةُ أو الثقيلةُ في آخرِ الكلمة وذلك قولك (والله لأَفْعـلَنَّ). )) ( )، وهذا ما يُعرف بوجوبِ توكيدِ الفعل المضارع بالنون في مثل هذه الحالة .
ومنه ما جاء في بابِ الممنوع من الصرف بقوله: (( وإذا سَمَّيتَ رجلاً بتفاعُلٍ نحو تضَارُبٍ ثُمَّ حَقَّـرْتَهُ فقلت : تُضَيْرِبُ لم تصرِفْهُ؛ لأنّه يصيرُ بمنزلةِ تَغلِب، ويخرج إلى ما لا ينصرفُ ، كما تخرج هندٌ في التحقير إذا قلتَ : هُنَيْدةُ إلى ما لا ينصرف البتَّةَ في جميع اللُّغات)) ( ) فقوله (لم تصرفْهُ) دلَّ على وجوب منعِهِ من الصَّرْف إذ أكَّدَ هذا بقوله : لا ينصرفُ البتَّةَ في جميع اللغات .
ورُبَّما يُعبِّر عن الواجب بقوله (وهو الوجه) من ذلك قوله: (( وإذا قلتَ (مررتُ بزيدٍ وعَمْراً مررتُ بِهِ) نصبتَ وكان الوجهُ؛ لأنّك بدأتَ بالفعل ولم تبتدئ اسماً قبلَه تبنيه عليه ولكنَّك قلتَ: (فعلت) ثُمَّ بنيتَ عليه المفعول : وإنْ كان الفعل لا يصِلُ إليه إلا بحرف الإضافة)) ( ) .
مِمَّا تقدم من الأمثلة – التي تَعَمَّدْنا الإكثارَ منها؛ لأنَّها اكثرُ التصاقاً بموضوعنا-رأينا استعمالَ سيبويه كلمةَ اللزوم ومشتقَّاتِها للتعبير عن الوجوبِ ، وتَقَدَّمَ في تعريف الوجوب أنَّ مِن معانيهِ اللُّزوم ، وهذا أكثر التصاقاً واقتراباً من الوجوب بِوصفه مصطلحاً مُستقلاً ثابتاً فيما بعد ، ورُبَّما كان من الممكن أن يسودَ اللُّزوم مصطلحاً بدَلَ الوجوب ، ولكنْ لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح ، فالمهمُّ ما يعنيه كُلٌّ منهما ، ومثلَمَا وردت في الكتاب كلمة اللزوم ، وردت عبارة (لابُدَّ) في أكثر من مناسبة للدِلالةِ على الإلزام، وهذه الألفاظُ – بلا شك – اكثر صراحةً في التعبير عن الوجوب من غيرها. كما استعمل عبارة (وهو الوجه) في مواضعَ كما مرَّ لتقرير مفهوم الوجوب .
الرابع- ما يُفهم من المعنى
لَمَّا كان مُصطَلح الوجوب لم يُحدَّد بعد ، ولم يكن له مرادف يُستعمل بدلاً عنه، إلا ما كان من اللُّزوم الذي لم يُستعمل مصطلحاً مستقِرَّاً مُتداوَلاً ، وإنَّما كان يُؤتى به في أثناء الشرحِ للدِّلالة على الإلزام . من هذا كُلِّه كانت الدلالةُ على الوجوب أو لزوم أمرٍ ما في النحو لا يُؤتى بها في ألفاظٍ مباشرةٍ قريبةِ المنالِ دائماً، فكتابُ سيبويه بما حواه من مادةٍ ضخمة لابُدَّ أن يكون صاحبُه قد استجمع مادَّةً علميةً كبيرة ، وكانت العلوم التي سبَقَتْ تأليفَه حاضِرةً ، نَتَلَّمَّسُ ذلك من آراءِ العلماء التي نجدُها مبثوثةً في الكتاب . فلَمَّا كان يشرح أيَّ مسألة تلامِسُها من جوانبها مسائلُ أُخرى ، فإنَّ الإشارةَ إلى ما يجبُ في تلك المسائلِ إنّما يأتي في السياق مختفياً خلْفَ الألفاظِ الظاهرةِ، وتحتاج إلى قليلٍ من التبصُّرِ أحياناً كي تقفَ عليها ، وقد تحتاجُ إلى إمعانِ النظر طويلاً في أحيانٍ أخرى لتقفَ على فحوى النص وما فيه من إشاراتٍ لطيفة ، رُبَّما يكون المؤلِّف تعمَّد قسماً منها ، أو جاء بعضُها نتيجةَ الثقافةِ العالية التي كان يتَّسمُ بها ، من هنا سنعرض للأمثلة الآتية مع محاولةٍ لإيضاحِ المواطنِ المقصودةِ من هذه النصوص .
قال سيبويه: (( ورُبَّما قالوا في بعضِ الكلامِ : ذهبتْ بعضُ أصابعِه ، وإنّما أنَّث البعض؛ لأنّه أضافهُ إلى مؤنَّثٍ هو منهُ ، ولو لم يكن منه لم يؤنِّثْه))( )، أي أنّه متى شاء أنْ يؤنِّـثَ الفعـلَ وجبَ أنْ يكونَ المضافُ جزءاً من المضافِ إليه، وإلا فإنَّ إثباتَ التاءِ وحذفَها جائزٌ في جميعِ ذلك ، ودَلَّ على هذا الوجـوبِ بقولهِ بعد ذلك ((.. لأنَّه لو قال ذهَبَتْ عبدُ أُمِّـك لم يحسُنْ)) ( ) ثُمّ قال: ((فإن قلت : مَنْ ضربَتْ عبدُ أُمِّـك أو هذه عبدُ زينبَ لم يَجُـزْ؛ لأنّه ليس منها ولا بها ، ولا يجوزُ أنْ تلفظَ بها وأنت تريدُ العبدَ )) ( ) .
وأوْردَ في باب الإضمار في (ليس) ما يأتي للإشارة إلى وجوبِ تأخُّرِ معمولِ
خبرِ ليس عن اسمها : (( قال الشاعر ، وهو حًمَيْدٌ الأرْقَط ( ):
فأصْبَحُوا والنَّوى عالِي مُعَـرِّسِهِمْ وَلَيْسَ كُلَّ النَّوى تُلْقِي المَسَاكِينُ
فلو كان (كُلّ) على ليس ولا إضمارَ فيه لم يكن إلا الرفعُ في (كُلّ) ، ولكنَّه انتصبَ على (تُلقي) ولا يجوز أنْ تحملَ المساكين على ليس وقد قدَّمتَ فجعلتَ الذي يعملَ فيه الفعلُ الآخِرُ يلي الأوّلَ وهذا لا يَحسُنُ ، لو قلت: كانت زيداً الحمَّى تأخذُ، أو تأخذُ الحمَّى لم يجُزْ وكان قبيحاً )) ( ) .
أوجَبَ سيبويه هنا قاعدةً نحويّةً تقضي بوجوبِ تأخيرِ معمولِ الخَبَرِ عن العامِل الأوّل ، وهذا ما استخلصَهُ النحويّون فقالوا: لا يلي العاملَ معمولُ الخبرِ واستثنوا من ذلك الظرف والجار والمجرور، يقولُ ابن مالك( ):
ولا يَلِيْ العَامِلَ مَعْمُولُ الخَبَرْ إلا إذَا ظَرْفاً أَتَى أَوْ حَرْفَ جَرّْ
وقال في باب ما يجري من الشتْم مجرَى التعظيمِ وما أشبهه قوله
( وبلَغَنا أنَّ بعضَهُم قرأَ هذا الحرفَ نصْباً : وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ( ) لم يجعلْ الحمالةَ خبراً للمرأة ولكنَّه، كأنّه قال : اذكرُ حمَّالة الحطبِ شتماً لها، وإنْ كان فعلاً لا يُستَعْملُ إظهارُه))( ).
ويعني أنَّ عاملَ التخصيصِ في المدحِ أو الذمِّ واجبُ الحذْف .
وفي بابِ وجوب تنكيرِ الحال أوردَ سيبويه أكثرَ من نصٍّ في ذلك منها قوله:
(( وأمَّا يونس فيقول مررتُ به المسكينَ على قوله : مررتُ بِهِ مسكيناً ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّه لا ينبغي أنْ يجعلَهُ حالاً ويُدخِلُ فيه الألفَ واللامَ )) ( ) .
ويقول أيضاً : ((واعلم أنَّ ما كان صفةً للمعرفةِ لا يكونُ حالاً ينتصِبُ انتصابَ النَّكِرةِ وذلك أنَّه لا يحسُنُ لك أنْ تقولَ : هذا زيدٌ الطويلَ ولا هذا زيدٌ أخاك من قِبَلِ أنَّه من قال هذا فينبغي لهُ أنْ يجعلَه صفةً للنَّكرةِ فيقول : هذا رجلٌ أخوك…)) ( ) ، وقد صرَّحَ بذلك بقولِهِ: ((… لأنَّه لا يجوزُ أنْ تجعلَ المعرفةَ حالاً يقع فيه الشيءُ )) ( ).
إنَّ هذه النصوصَ وما بعدَها توَضِّحُ أنَّ الحالَ يجبُ تنكيرُها ، وحتى ما ورد من مجيءِ الحالِ معرفة فإنَّه يُؤَوِّلُه ففي قول لبيد ( ):
فَأرْسَلَهَا العِراكَ وَلَمْ يَذُدْهَا
يقول : ((كأنّه قال اعتراكاً))( ) ، أي أنّه يؤوِّلها بمعنى النكرة.
وفي وجوبِ اتصالِ لا النافية للجنس باسمِها يقول :
((..فَمِمَّا فُصِلَ بينَه وبينَ (لا) بحَشْوٍ قولُه جلَّ ثناؤهُ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ( )، ولا يجوزُ: (لا فيها أحدٌ) إلا ضعيفاً، ولا يحسُنُ: (لا فيك خيرٌ) فإنْ تَكَلَّمْتَ بهِ لم يكنْ إلا رفعاً؛ لأنَّ (لا) لا تعملُ إذا فُصِلَ بينَها وبينَ الاسمِ رافعةً ولا ناصِبة..))( ).
في هذا النَّصِّ يوجبُ رفعَ اسمِ (لا) إذا فُصِلَ عنها ويُفهم منه أيضاً أنَّ لا النافيةَ للجنس كي تعملَ يجبُ اتصالُها باسمِها وإلا خرجت عن معنى نفيِ الجنس .
ويقول في باب تثنية المستثنى ( ) : (( وذلك قولُك : ما أتاني إلا زيدٌ إلا عمْراً، ولا يجوُز الرفعُ في عمرٍو من قِبَل أنَّ المستثنى لا يكونُ بدلاً من المستثنى … وإنْ شِئت قلتَ : ما أتاني ألا زيداً إلا عمرٌو فتجعل الإتيان لعمرٍو ويكون زيدٌ منتصباً من حيث انتصبَ عمرٌو ، فأنْت بالخيار ، إنْ شئتَ نصبتَ الأوّل ورفعتَ الآخِر ، وإنْ شئتَ نصبتَ الآخِر ورفعتَ الأوّل)) ( ) . ثم قال بعد ذلك في قول الفرزدق( ):
مَا بِالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ دارُ الخليفةِ إلا دارُ مَرْوانَا
جعلوا غير صفةً بمنزلةِ مِثْل ، ومن جعَلَها بمنزلةِ الاستثناء لم يكن له بُدٌّ من أنْ ينصِبَ أحدَهما…)) ( ) .
وهذا يدُلُّ على أنَّ الاستثناءَ إذا تكرَّرَ مع إلا وَجَبَ نَصْبُ أحد المُسْتَثْنَيَات كما وجبَ إشغالُ الفعلِ المنفيِّ بأحدِهِما ، وهذا إذا كان الاستثناءُ مُفَرَّغَاً ( ) .
ومن ذلك قولُه في ترتيب الضمائر المتصلة : (( فأمَّا علامةُ الثاني التي لا تقع (أيّاً) موقعَها فقولُك : أعطانِيهِ وأعطانيك فهذا هكذا إذا بَدأ المتكلمُ بنفسِهِ ، فإنْ بدأ بالمخاطبِ قبل نفسِهِ فقال أعطاكَنَي، أو بَدأ بالغائبِ قبل نفسه فقال أعْطاهُونِي فهو قَبيحٌ لا تَكَلَّمُ بِهِ العربُ ولكنَّ النحويّين قاسوه)) ( ) ثمَّ يقول: (( وأما قول النحويّين: قد اعْطاهُوكَ وأعطاهونِي فإنَّما هو شيءٌ قاسوه ولم تَكَلَّمْ به العربُ ووضعوا الكلام في غير موضعِه ، وكان قياسُ هذا لو تُـكُـلِّمَ به كان هيِّـنَاً…)) ( ) وفي هذا الموضع كلامٌ طويلٌ يوحي بوجوبِ مراعاةِ التَرتيبِ في الضمائِرِ المُتَّصِلَة إذا اجتَمَعَتْ في كَلِمَةٍ واحدةٍ باعتبار المُتَكَلِّم ثُمَّ المُخاطَب ثم الغائب .
إنّ أمثلةَ هذا الأسلوب كثيرةٌ في الكتاب ولكنْ نكتفي بما ذكرناه لِما في ذلك من وشائج بفحوى ما يلحق من فصول إنْ شاء الله تعالى .
الفصل الثاني
أُسس الوجوب في كتاب سيبويه ومعاني الفَرَّاء
مدخل في أصول النحو
نشأت الدراساتُ الأُصوليَّةُ في النحو العربيّ مرافِقةً لنشأَةِ النحو نفسه ، فلمَّا كانت بداياتُ النحو العربيّ بداياتٍ سهلةً يسيرةً فقد رافقها في ذلك الدراساتُ الأُصوليَّة للنحو ، إذ إنَّ النحويين الأوائل كانوا يُضَمِّنون كلامهم القواعدَ والأُصولَ العامَّةَ في أثناء دراساتِهم لجزئياتِ النحوِ وفرعياتِه ، ولم يكُن هناك فصلٌ في الدرس بين النحو وأُصولِه ( ) ، ولا غرابةَ في ذاك ؛ لأنّ علومَ العربيّةِ نفسَها من نحوٍ وصرفٍ ولغةٍ كانت متداخلةً فيما كتبوا ، ولم تكن منفصلةً بَلْهَ علوم أُصول النحو ، فمن المعلوم أنّ أُصولَ أيِّ علمٍ لا تَسْتَتِبُّ علماً قائماً بذاتِه قبل أن يتِمَّ ويتكاملَ ذلك العلمُ كي تُؤصَّلَ له الأُصولُ وتوضع له خطوطُه العريضةُ ، وهذا ما كان في نحونا العربيّ ، فلا تجدُ مؤلَّفاً في القرون الأولى تناولَ أُصول النحو بوصفِه علماً مستقلاً . وليس كتاب الأُصول في النحو لابن السَّرَّاج إلا كتاباً في النحو بشكلٍ عامٍّ لا يختلف بحالٍ عن مادة كتابِ سيبويه أو المقتضب للمُبَرِّد وغيرهما إلا من النواحي الشكلية وليس فيه من الأُصول أكثر مِمَّا في الذي سبقه ، ولعلَّ تسميتَه بالأُصول كان موهِماً لكثيرٍ من الباحثين الذين يعُدُّون ابنَ السَّرَّاج أوّلَ من وضع كتاباً خاصَّاً بأُصول النحو . والغريبُ أنّ محقِّقَ الأُصول الدكتور عبدالحسين الفتليّ ينقل هذا في مقدمتِه للكتاب عن مُحقِّقي كتابِ سرِّ صناعةِ الإعراب ولا يعقِّبُ عليه . والذي يبدو أنّ كلمَةَ الأُصول عند ابن السَّرَّاج كان لها معنىً أكثرُ اتساعاً مِمَّا هي عليه الآن فهو يذكر أنّ ((غرضه في هذا الكتاب ذكرُ العلَّة التي إذا اطَّرَدَتْ وُصِلَ بها إلى كلامهم فقط وذِكْرُ الأُصول والشائع ؛ لأنّه كتاب إيجاز)) ( ) وكأنّ الأُصول عنده هي أبواب النحو عامةً .
والذي يهمُّنا من هذا كُلِّه هو الإشارةُ إلى أنّ التأليفَ في أُصولِ النحو والعِلَل النحويَّةِ ظلَّ قاصِراً عن أنْ يصلَ إلى مستوى الاستقلال في التأليف . وقد وجدنا بوادرَ من ذلك تبدأ مع قطرب ( ) (ت بعد206) الذي تذكر كتبُ التراجُمِ أنّ له كتاباً باسمِ (العلل في النحو) ومن ثَمَّ يأتي بعده أبو عثمان المازنيِّ ( ) (ت248هـ) ليضعَ كتابه علل النحو، وتطالِعُنا كُتُبٌ أخْرى في هذا المضمارِ في القرن الرابع الهجريّ كـ(الإيضاح في علل النحو) للزجاجي( ) (ت340) ، و (المجموع على العلل) لمَبْرَمَان( ) (ت345هـ)، وكتاب (عِلَلِ النحو) لأبنِ الورَّاق( ) (ت381هـ) وغيرها كثير . ومن ثَمَّ تُوِّجَتْ هذه الأعمالُ بكتابِ الخصائِصِ لابن جِنِّيّ ( ) (ت392هـ) الذي يُعدُّ بلا شكٍّ من أبرَزِ الكُتُبِ التي تناولت قضايا في أُصول النحو من علةٍ وقياسٍ وإجماعٍ وما شابه ذلك، ((فَقَدْ تَنَبَّهَ ابنُ جِنِّيٍّ إلى [كذا] ( ) ضرورةِ أنْ يكونَ للنحاةِ كُتُباً في الأُصولِ تُناظِرُ كتبَ أُصولِ الكلام والفقه ، وشَعَرَ أنّ النحاة السابقين من بصريّين وكوفيّين لم يُعْنَوا بمثلِ هذه الدراسات فعقَد العزمَ على أنْ يضع كتاباً يعالجُ فيه المباحث الأُصوليَّة في النحو على مذهبِ أُصول الكلام والفقه ، فوضعَ كتابَه الخصائِصَ الذي جاء زاخراً بالقواعدِ والأُصولِ ، وبخاصَّةٍ فيما يتعلَّقُ بالقياس والعِلّة والمبادئ العامَّةِ للعربيّة)) . ( )
وعلى الرغم من ذلك كان كتابُ الخصائِص كتاباً عامّاً شامِلاً كثيراً من أبوابِ العربيّة كالنحْوِ والصرْفِ واللُّغةِ والقياسِ والتعليلِ وما يتصلُ بالرواة وغير ذلك ، يقول ابنُ جِنِّيّ ((… فإنّ هذا الكتابَ ليس مبنيّاً على حديثِ وجوهِ الإعرابِ وإنّما هو مقامُ القولِ على أوائِلِ أُصولِ الكلامِ وكيف بُدِئ وإلام نُحِيَ . وهو كتاب يَتَسَاهَمُ ذوو النظر: من المتكلِّمين والفقهاء والمُتَفَلْسِفِينَ ، والنحاةِ ، والكُتّابِ ، والمتأدِّبينَ التأمُّلَ له والبحثَ عن مستودَعِهِ ، فقد وجب أنْ يُخاطِبَ كلَّ إنْسانٍ منهم بما يَعْتادُهُ ، ويأنسُ به ليكونَ له سهْمٌ منه ، وحِصَّةٌ فيه.)) ( ) ويقول السّيوطِيُّ(ت911هـ): ((أنّ ابن جِنِّيّ سمّاه أُصول النحو ولكنَّ أكثرَه خارجٌ عن هذا المعنى وليسَ مُرتباً)) ( ) .
لذا لم تكن هذه المؤلفاتُ سواءٌ كتبُ العِلَل أو الخصائصُ تُمثِّلُ أُصولَ النحو العربيّ وإنّما تناولت جوانبَ من هذه الأُصول ، إمّا بِتَنَاوُلِ جُزْئِيَّةٍ منها كالعِلَلِ أو دراسةِ أبوابٍ من الأُصولِ ضِمْنَ دراسةٍ عامَّةٍ شامِلَة .
وما أنْ يأتيَ القرنُ السادسُ الهجريّ حتى تجدَ ابنَ الأنْباريّ سبَّاقاً إلى هذا العلم بعقدِهِ كُتُبَاً في هذا المجال كان أوّلَها (أسرارُ العربيّة) ثُمَّ كان بعده (الإغرابُ في جَدَلِ الأعراب) و (لُمَعُ الأدلّة) اللذان يُعَدّان مع خصائِصِ ابن جِنِّيّ المادَّةَ الأساس التي بنَى السيوطيُّ عليها كتابه القيِّم (الاقتراح في أُصول النحو) فجَمَعَ في هذا الكتاب أُصولَ النحو وقسمَها على نحو تصنيف أُصول الفقه… ( ) .
بعدما تقدم نرى أنّ ظهور العِلَلِ والأُسُسِ التي كانت في كتابِ سيبويه ومعاني القرآن للفراء لم تكنْ بمصطلحاتِ هذا العلم غالباً كما هي عندَ ابنِ الأنْباريّ والسُّيوطِيّ. فهي تناسبُ تلك المرحلةَ المبكرةَ في التأليف . فنجدُ في الكتاب تعليلَ المسائِلِ النحويَّةِ بأشكالٍ شَتّى ، وقد صَرَّحَ مؤلِّفُه في أكثر من موضع بلفظِ العِلَّةِ من مثل قوله: ((وعِلَّتُه..كذا وكذا)) ( ) ، ومثلُه الفرَّاءُ في ذلك فقد ((عُنِيَ بالتعليلِ ولم تكن عِلَلُه تخلو من الطابع الفلسفيّ وإنْ لجأ في بعضِها إلى السُّهولَةِ والوضوح)) ( ).
ومعلومٌ أنّ ظهورَ التعليلِ في الكتابِ بهذا الشكلِ يعودُ فضلُه كثيراً إلى شيخِ سيبويه وهو الخليلُ بن أحمد الذي يُعَدُّ ((أوّلَ من بَسَطَ القولَ في العِلَلِ النحويّة بّسْطاً أذهَلَ معاصريه وحيَّرَهُم، وأدّى بهم إلى التساؤُل عن هذه العِلَلِ التي يُعَلِّلُ بها وعن مصدرِها ؛ أأخَذَها عن العربِ أم أنّه جاء بها من عنده…)) ( )
ولا نريدُ الاستطرادَ أكثرَ من ذلك في موضوعِ العِلَّةِ ومدى ظهورها عند النحويين الأوائِلِ ، ولكنْ نَوَدُّ الإشارةَ إلى أنّ العِلَلَ في موضوعِ الوجوبِ تكون حُجَجاً؛ لأنّ الحُجَجَ النحويةَ على قسمين: ((منها ما يكون أساساً في وضع قاعدةٍ نحويةٍ أو استنباطِ حُكمٍ نحويّ ومنها ما يكون في تفسيرِ ظاهرةٍ نحويّة)) ( ) .وإنّ الوجوب بِعَدِّهِ حكماً نحويّاً لابُدَّ أنْ يستندَ إلى أساسٍ يُقَرَّرُ به ، بل إنّه أولى من غيرِه بالحُجَّة الدامغة، فالنحويُّ إذ يُقَرِّر وجوبَ أمرٍ ما أولى به أنْ يُثبت ذلك؛ لأنّه سيضعُ حدوداً يُلزمُ المُتَكَلِّمَ بها ويَعُدُّ من يخالفَه شاذّاً أو خارجاً عن سمت كلام العرب فلابُدَّ من دليلٍ يستندُ إليه، فإذا كان السَّماع يكفي للحُكْمِ بجوازِ مسألةٍ ما بالاعتماد على ذلك السَّماع فإنّ الإلزام لا يكفيه القول بالسَّماع إذا لم يَثْبُت ما يَعْدِمُ ورود نقيضه بكثرَةٍ ممّن لا يُرَدُّ عليهم قولهم . أي أنْ يثبت ذلك الإلزام بدليلٍ قطعيِّ الثبوتِ والدِّلالة، ولا مجال للاحتمال هنا إذ إنّ الدليل إذا طَرَأَ عليه الاحتمالُ بطَلَ به الاستدلالُ كما هو معروف عند الأُصوليين ، ورُبَّما يصدقُ هذا الكلام على الوجوب الذي يثبت عند عامّةِ النحويِّين ولا تجدُ مخالفاً يُذكرُ لذلك ؛ كرفعِ المبتدأ والفاعلِ ونصبِ المفعولِ بهِ وجرِّ المجرورِ بحرفِ الجرِّ وما إلى ذلك من مسائلَ تناقلتْها الأجيالُ وجاء بها القرآن والحديثُ والشعرُ العربيُّ والأمثالُ وغيرُها ، فهذه مسائلُ أوجبها إجماعُ العربِ وإجماعُ النحويين ، ومثلُه القياسُ المُطَّرِدُ في سائِرِ المواضِع المشابهةِ لِمَا ورد …
أمّا مواطن الوجوب الأخرى مِمَّا لم تَتَمَكَّنْ هذا التمَكُّنَ والثبوتَ فتغلِبُ عليه النسبيَّة ، أي أنّ لكلِّ نحويٍّ ما ثَبَتَ عنده من أدلّة توجب مسألةً ما ، وقد تتوافرُ هذه الأدلّةُ عند غيرِه وقد لا تتوافر. فالوجوبُ عند النحوي هو ما ثَبَتَ بدليلٍ قطعيٍّ عقلاً أو نقلاً . أمّا استقرارُ مسائلِ الوجوبِ عند النحويين المتأخرين كابن مالك(672هـ) وأبو حيان (745هـ) وابن هشام (761هـ) والسّيوطيّ (911هـ) وغيرِهم ، فإنّما جاء عن استقراءٍ وتَتَبُّعٍ لأدلّة كلِّ نحويٍّ فيما استند إليه ، فَمَا كان موافقاً لرأيِ هذا النحوي أو ذاك ومخالفاً رأيَ نحويٍّ آخر ، فإنّما ثبَتَ لثبوتِ دليلِ الأوّل وظنِّيةِ الثاني أو ضعفِه أو بُطلانِه . وأمّا ما اتفق عليه سائرُ النحويين فلِعَدم ورودِ ما يجّوز سواه.
لذا سَنَجِدُ مواطنَ عند الفراءِ وافَقَ فيها سيبويه ومواطنَ أخرى خالَفَه فيها بحسبِ ما عنَّ لِكُلٍّ منهما من دليل .
وجديرٌ بالذكرِ أنّ الوجوبَ يُمْكِنُ تصنيفُه مِمّا تَقَدَّمَ على اكثر من تقسيم :
الأوّل- الوجوب بحسب أراء العلماء :
1-الوجوب المُتَّفَق عليه : وهو ما اتَّفَقَ على وجوبِه علماءُ النحو عامَّةً .
2-الوجوب النسبيّ : وهو ما ارتآه عالمٌ أو اكثر بحسبِ توافرِ الأدلّةِ عندهم ، وخالَفَهم فيه آخرون .
الثاني-الوجوب (كُنْهُه) :
1-وجوبٌ مطلقٌ : وهو ما يورِدُه النَّحويّ بلا تقييدِ معنىً أو مكانٍ ؛ كأنْ يقول
(يجب تقديم فعل الشرط على معموله)).
2-وجوبٌ مُقَيَّدٌ (مشروطٌ) : وهو ما يورده النحويُّ ويقيِّدُه بقيدٍ أو أكثر ، فمن أمثلة تقييده بمكان : وجوبُ عَمَلِ ما الحجازية ، وجوازُ إهمالها عند غيرهم ، وأمّا تقييدُه بالمعنى فكقولِك (ما أشد الحرّ) ، فّرَفْعُ الحَرِّ ونَصْبُه وجَرُّه يتبعُ المعنى، فالتعجُّبُ يوجِبُ النصبَ والنفيُ يوجبُ الرفعَ والاستفهامُ يوجبُ الجرَّ ….